الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ابن طفيل: الدين في حدود العقل وحده

هاني عبد الفتاح

2021 / 2 / 13
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


في واحدة من أجرأ الأعمال الإبداعية في التراث الإسلامي، ترك لنا الفيلسوف الأندلسي ابن طفيل ]500 هـ - 581هـ[ قصة فلسفية تحمل عنوان "حي بن يقظان"، ومن الوهلة الأولى نجد أن اسم القصة يحمل دلالة تشير إلى معان هامة في السياق المعرفي المُرمى إليه في فحوى البنية الكلية للقصة، فـ(حي) من الحياة، أي السعي والنماء، و(يقظان) صيغة مبالغة من "اليقظة" والذي يعني المبالغة في الانتباه والصحو. وربما هذه أبسط دلالة تحملها رمزية القصة، فإذا اتجهنا نحو بقية الدلالات الأخرى ربما انكشف لنا كيف يمكن للدين في رأي ابن طفيل أن يكون في حدود العقل وحده.
ويبدو أن من الصعوبة بمكان اختصار القصة اختصارا غير مخل، لما يحتوي عليه كل سطر منها من دلالات هامة وخطيرة. لكنني أستميح القارئ بإطلالة سريعة على فحوى القصة حتى يتمكن من بناء تصور ولو بسيط لأحداث تلك القصة. فيروي لنا ابن طفيل إنه قد نشأ في جزيرة نائية طفلٌ صغير اسمه (حي). وفي أحدى روايته؛ يذكر أنه قد تولّد هذا الطفل من تخمر في طين الأرض مع اتفاق مناخ معتدل وجغرافيا هيأت له تلك النشأة (كإشارة إلى التطور لا نظرية الخلق الدينية)، فلقيته ظبية، فحنت عليه وألقمته ثديها، فأخذ يرضع منها حتى كبر. ارتبط هذا الطفل بتلك الظبية، وأخذ يحاكي سلوكها وسلوك باقي حيوانات الجزيرة التي عاش فيها حتى بلغ فيها من العمر ما بلغ. ثم بدأ ينظر للطبيعة والعالم من حوله، فتعرف على ظواهر الطبيعة كالنار والهواء والماء والدخان والبخار، والحرارة والبرودة، والحركة والسكون. وكان يلجأ إلى التجربة ليتحقق من صدق أحكامه على الظواهر والأشياء. وبعد فترة من التأمل الطويل، ومع ما أوتي (حيّ) من خيال خصب وقوة ناطقة؛ أخذ يرتقي من المعرفة الحسية إلى المعرفة العقلية فأدرك أن لكل ظاهرة سبب ولكل علة لها معلول، فاهتدى إلى قانون السببية، ثم منه إلى النظر في الكون والآفاق بنظرة أوسع، ومن عالم الكون والفساد إلى العالم العلوي، فأخذ يتصفح الموجودات بأسرها في سلم الموجودات من المحسوس إلى المعقول حتى اهتدى إلى العلة الأولى أو علة العلل التي لا يمكن أن يُتصور أكمل منها، فوصفها بأنها "مصدر الحسن والكمال والبهاء والكرم والرحمة".
ثم أخذ يتساءل: بأي قوة أدرك هذا الموجود الأكمل، أو بتعبيره (الموجود الواجب الوجود)؟ فاستنتج بأن له نفسا (ذاتا) متميزة عن الجسم، وهي الجانب اللا مرئي منه، إذ إنها أدركت حقائق ليست مادية وغير محسوسة، استنتج بعدها أن مصير النفس لا يمكن أن يكون مثل مصير البدن فاهتدى إلى الحكم بخلود النفس لإدراكها واجب الوجود، فأدرك أن سعادة النفس تكون بدوام تأملها (ومشاهدتها) لهذا الموجود الأكمل لما عليه من الحسن والجمال والبهاء.
ثم يدخل في القصة شخصيتان جدليتان، هما (اسال) و (سلامان)، كلاهما من جزيرة قريبة قد اتفق أن نقلت إليها ملة من الملل الصحيحة التى أخذت عن أحد الأنبياء، بيد أن الأول يمثل من يبحث عن باطن الشرع، والأخير إلى سلفي يأخذ بظاهر الشرع، وتشاء الأقدار أن يلتقي (اسال) بـ(حي) فيكتشف كلا منهما أن ما أتى به الآخر لا يخالف في جوهره ما عنده، وأن ما عند (اسال) الذي جاء من طريق الوحي من الحقائق الأساسية، هو في حقيقته ما توصل إليه (حي) بفطرته وتأمله وبمجهوده العقلي، فتطابق المعقول مع المنقول.
وبالرغم من تلك المفارقة؛ إلا إن (حي) كان يستغرب ويتعجب من أمرين في الشريعة النبوية: أولهما ضرب الأمثال للناس في الكتب المقدسة حتى وقع الناس في أمر عظيم من التجسيم لواجب الوجود الذي من المفترض أن تكون صورة تامة التجريد كما هي عنده. والثاني: اقتصار الشرع على هذه الفرائض والعبادات وإباحته اقتناء الأموال والتوسع في أعراض الحياة فيما يزيد عن الحاجة. فلما اشتد إشفاقه على الناس (الذين هم من المفترض أنهم أصحاب شرائع) حاول تعليم تجربته لهم ولكنه فشل ، فلما يأس منهم ، اعتذر لهم، وأخذ صاحبه (أسال) وعاد إلى الجزيرة مرة أخرى، فكان (حي) معلما و(اسال) مقتديا به، على نحو تجربته العقلية، وعبدا الله على معا كلا من حي واسال حتى آتاهما اليقين.
ولستُ في حاجة إلى قوة بلاغة حتى أؤكد على أن عبقرية القصة تتجلى في تلويحه المستتر لمحاولة استبعاد النبوة في نسقه الفلسفي بل من المجال العام. فالدلالات الثاوية في القصة تشير وبقوة بشكل عام؛ إلى أن الإنسان بفضل ما أوتي من قوة ناطقة، وعقل ساع، ونزعة فضولية لمحاولة كشف ما هو مجهول؛ قادر على وأن يصل إلى ما مثل ما يأتي به الوحي.
ومن خلال ما بين أيدينا من نصوص من التراث الفلسفي الإسلامي؛ يمكن أن نقول إن ابن طفيل هو الفيلسوف المسلم الوحيد الذي كان عنده الجرأة على أن يضع العقل بديلا عن النبوة، ويرى أن العقل وحده مستقلا مساوق يأتي به الوحي. فجل الفلاسفة المسلمين تكمن محاولاتهم في التوفيق بين العقل والوحي، بداية من الكندي مرورا بالفارابي وابن سينا وابن رشد الذي قال أن "الحكمة صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة لها"، أحيانا تكون الأولية للعقل على حساب النقل والحكمة على حساب الشريعة كما عند ابن رشد والفارابي، وأحيانا تكون الأولوية للنقل على حساب العقل كما عند الكندي والغزالي. لكن مع ذلك لم يُقدم أحد منهم على تجاوز تلك الثنائية ويقول بأحقية العقل في الاستقلال المعرفي غير ابن طفيل.
وإذا حاولنا رصد وتحليل مضامين القصة واستعرنا تقسيم الأصوليين لموضوعات الدين كما يقسموها إلى ثلاثة أقسام: عقيدة وشريعة وأخلاق، لنرى كيف كانت صورة الدين التي رسمها ابن طفيل في قصته "حي بن يقظان".
فبالنسبة للعقيدة فهي تحتوي علي إلهيات ونبوات وسمعيات، فالإلهيات سوف نرى أن ابن طفيل قد أدرك وجود الله الذي أسماه "واجب الوجود" بعقله وحده من خلال تصفح الموجودات من سلم العلل من المحسوسات إلى العقليات ومنها إلى العلة الأولى أو الموجود الأكمل. أيضا نرى إثبات مجموعة صفات لهذا (الموجود الحق الواجب الوجود) والتي منها أنه كلي مجرد ، ليس بجسم وأنه فاعل عالم قادر وهو غاية في التمام والكمال والحسن والبهاء.
أما النبوات فهو محور جدلي في فلسفة ابن طفيل، حيث إنه لم يعط للنبوات من حجم القصة سوى مساحة هامشية في حدود مناقشة نقدية مقارنة، تجلت في لقاء حي بأفراد كانوا على ملة نبوية أخرى، كانت الأولوية فيها "للدين الطبيعي" الذي قد وصل إليه (حي) بنفسه وبفضل تأملاته الخاصة على "الدين النبوي". علاوة على استنكاره بعض ما بالغ الوحي في من ضرب الأمثال وإباحته التملك فوق الحاجة.
كم إن للدين النبوي (وهو ما يقابل الدين الطبيعي) عند ابن طفيل مظهران، الأول مظهر حرفي/ ظاهري/ سلفي، والمظهر الثاني: باطني/ جوهري/ جواني. ووفق هذا فإن الحقائق الدينية التي تطابق مع الحقائق التي وصل إليها حي بن يقظان هي حقائق الدين في مظهره الباطني لا الظاهري، ومن ثم فالدين الذي اعتبره ابن طفيل هو الدين في مضمونه ومقصوده لا في شكله ومظهره.
بيد أن تداعيات القصة بين جدل الظاهر والباطن للدين جعلت "الدين الطبيعي" (المتمثل فيحي بن يقظان) كان مُعلّما "للدين النبوي" حتى في مظهره الباطني المتمثل في اسال، فقد تابع اسال حيا في نهاية الأمر بعدما ارتحلا سويا إلى الجزيرة، وشرع حي في تعليم اسال تجربته حتى اقترب مما وصل إليه حي أو كاد.
وأما فيما يخص السمعيات فلا نجد لها أي ذكر أو إشارة، يغض الطرف عنها في محتوى دلالات القصة، ولا عجب، لأنه ابن طفيل يصور مركزية القصة حول محور الدين الطبيعي وتهميش الدين النبوي بما فيه من أخبار سمعية عن العالم الآخر، إنما اكتفى فقط بالتصريح والتأكيد على خلود النفس وبقائها بدوام مشاهدتها الحق تعالى.
فإذا وصلنا لثاني موضوعات الدين وهي الشريعة المتمثلة في العبادات والفرائض، فنجد موقف ابن طفيل منها على لسان بطل قصته تكمن في الاندهاش والتعجب من قلتها، إنما يبدو أنه كان مكتفيا بممارسة "العبادات العقلية" المتمثلة في بعض التأملات في الوجود ومشاهدة الحق من خلالها، كما أنه تعجب أيضا من إباحة اقتناء الأموال والتوسع في المأكل فوق ما يقيم رمق الإنسان.
وأما القسم الثالث من موضوعات الدين وهي الأخلاق ؛ فإن ابن طفيل يقول بالأخلاق الطبيعية، وهي التوافق مع مفردات الطبيعة دون إعاقتاها سواء كان نبات أو حيوان، حيث إن لكل موجود غاية خاصة به يسعى نحوها، والإنسان لا ينبغي له أن يعرقل تلك الغاية . فمن طبيعة الفاكهة _مثلا _أن تخرج من زهرتها، ثم تنمو وتنضج ..فإذا قطف الإنسان هذه الثمرة قبل أن يتم نضجها، لأن عمله هذا يعد بعيدا عن الأخلاق. بالإضافة إلى أنه من الواجب على الإنسان ألا يقتنى ما فوق حاجته، بل يكتفي بما يسد به جوعته وحاجته، لأن القيمية الأخلاقية بل والجمالية تكمن في سعي كل موجود نحو غايته دون إعاقة.
إن المضامين الفكرية التي يحمّلها ابن طفيل لقصته "حي بن يقظان" تؤكد ، في كل جانب من جوانبها؛ على استقلالية الإنسان دون وصاية سماوية، وإن البرادايم الذي يقدمه ابن طفيل للدين هو "الدين الفلسفي" هو الذي يصنعه الإنسان عبر تجاربه الخاصة وتأملاته الوجودية، مع المحافظة على عنصر الإيمان بالله وخلود النفس، وهو ما يعرف تماما بـاسم "الدين الطبيعي" في مقابل الدين الرسمي الذي يدرج معه النبوة ومحتوياتها.
ومن خلال ما سبق، تنجلي بوضوح دلالات القصة في احتكاكات عنيفة مع النبوات، الأمر الذي يؤكد على أن الدين عند ابن طفيل بمفرداته العقائدية والشرائعية والأخلاقية في حيز العقل وحده دون الوحي. وأن هذا كله مرهون بقدرة الإنسان تجاوز الغامض بطول تأمل وهو ما عبر عنه ابن طفيل بامتلاك المرء "مخيلة فائقة" _بتعبيره، والسؤال هو: هل كل إنسان يمتلك مثل هذه "المخيلة الفائقة"؟
إن حيازة قصة كتبت في القرن السادس الهجري الثاني عشر الميلادي على كل تلك الدلالات؛ تجعل منها قصة عبقرية ومن كاتبها نصيبا كبيرا من الجرأة، لكنه يفقد من جرأته حينما نعلم أنها كانت مجرد قصة أراد أن بيث فيها فلسفته، ولم يصغ أفكاره في صراحة، فكانت القصة بمثابة القالب الذي صب فيه ابن طفيل فلسفته متخفيا، فكان الأسلوب الذي اتخذه هو الإضمار لا الإظهار، والإشارة لا العبارة، والتلويح لا بالتصريح.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قوات الاحتلال تقتحم بلدة شرقي نابلس وتحاصر أحياء في مدينة را


.. قيادي في حماس: الوساطة القطرية نجحت بالإفراج عن 115 أسير من




.. هل باتت الحرب المفتوحة بين إسرائيل وحزب الله أقرب من أي وقت


.. حزمة المساعدات الأميركية لأوكرانيا وإسرائيل وتايوان..إشعال ل




.. طلاب جامعة كولومبيا الأمريكية المؤيدون لغزة يواصلون الاعتصام