الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التاريخ العربي والديكتاتورية

فارس تركي محمود

2021 / 2 / 14
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


إذا كان التاريخ هو محصلة أفعال البشر وسلوكياتهم وأقوالهم فهو بالتأكيد سيختزن بداخله الكثير من سماتهم وصفاتهم الفكرية والعقلية وما يتميزون به ، لأن أفعال الإنسان وأقواله وتصرفاته ما هي إلا ترجمة أمينة ودقيقة لفكره وعقله وإذا ما حاولنا رصد وتتبع التاريخ العربي أو بالأصح تاريخ المنطقة العربية منذ بدايته وحتى اليوم لتمكنا بسهولة من رصد الحضور الطاغي لسمات المجتمع البدائي والدولة القديمة من جهة ، والغياب التام لسمات المجتمع المتمدن والدولة الحديثة من جهةٍ أخرى . كما سنرصد ونلاحظ كيف تفاعلت تلك السمات البدائية مع محيطها وكيف طورت أدواتها وعززت حضورها وساندت ودعمت بعضها بعضاً وأدت بعضها لبعض ، وكيف أوجدت لها حلفاء وشركاء وداعمين بحيث أصبحت هي السمات المسيطرة والمهيمنة وبحيث تمكنت من إقصاء أية سمات مغايرة ومناهضة لها ، ضمن ميكانيزم محدد ورحلة طويلة استمرت لآلاف السنين ، هذا الميكانيزم وتلك الرحلة اللذين ما كان لهما أن ينطلقا لولا الفعل الجغرافي الصحراوي الذي أشعل شرارتهما الأولى .
أ – الديكتاتورية : إن الديكتاتورية والحكم الشمولي المستبد وتقديس الملوك والحكَّام تعد – وكما ذكرنا سابقاً – من أهم سمات المجتمع البدائي ، وتاريخ المنطقة العربية برمته بقديمه وحديثه تسيطر عليه هذه السمة إذ أن كل الملوك والحكام والأمراء الذين تولوا السلطة في هذه المنطقة كانوا مقدسين بشكلٍ أو بآخر ، فالمصريون القدماء قدَّسوا الفرعون واعتبروه ابن الإله ( أمون رع ) أو المكلف من قبل الإله بتدبير أمور الدولة والناس والحفاظ على النظام ، وفي أحيان أخرى اعتبروه تجسداً للإله وأطلقوا عليه ألقاب ومسميات إلهية أهمها خمسة القاب :
1 – حورس : نسبة إلى الإله حورس ( الصقر ) إله السماء الذي وحد القطرين القبلي والبحري .
2 – الربتان : الإله الذي اتحدت في شخصه الآلهتان ( نخبت ) ربة مصر العليا و ( واجيت ) ربة مصر السفلى ، وهما الأفعى والعقاب حاميتا مصر .
3 – حورس الذهبي : الذي يمثل أرواح الآلهة .
4 – ابن رع : وهو تأكيد الأصل الإلهي للأسرة الحاكمة .
5 – أسم الملك : ويعتبر تجسيداً للآلهة مكتوباً ضمن مقطعين أولهما : أسم الملك عند توليه العرش ، يسبقه عادة ( ملك مصر العليا وملك مصر السفلى ) ويبتدئ غالبا بكلمة ( رع ) . وثانيهما : اسم الملك الذي كان يدعى به قبل اعتلائه العرش .
إن إغداق هذه الالقاب على الملك إنما يعبر عن حاجة المجتمع إلى سلطة قادرة ، يضع تحت تصرفها كل قواه وإمكاناته وموارده لتحقيق الطمأنينة والرخاء والاستقرار . وقد وصف أحد رجال الحاشية ( فرعون ) فقال عنه : " هو الذي يضاعف الخيرات ، هو الإله بل ملك الآلهة ، يعرف من يعرفه ويكافئ من يخدمه ، ويحمي أتباعه ، هو ( رع ) جسده الظاهر هو ( القرص ) ويحيا إلى الأبد ".
بل إن المصريين ربطوا بين الخصب والنماء وتأليه الفرعون حيث اعتبروا أن تأليه الفرعون أو تكليفه بالحكم من قبل الآلهة شرط أساسي لكي تعم البلاد اسباب السلام والرخاء وترتفع مياه الفيضان السخية ، وتنمو غلال القمح والشعير وتتكاثر قطعان الماشية ، وتتدفق على البلاد ثروات الذهب والفضة والنحاس والأخشاب الثمينة والعاج والبخور من أركان العالم الأربعة . ويتغير هذا الوضع كله إذا لم يتوافر هذا الشرط الاساسي فتسود الفوضى وينعدم الأمان ، وتجدب الأرض ، وتغلق المعابد.
وكان الفرعون يتمتع بسلطات مطلقة لا حد لها وليس لإرادته من وازع أو حسيب وقد جاء في النصوص المصرية القديمة " كل ما يتفوه به صاحب الجلالة يجب أن يتحقق في الحال " ، ومشيئة فرعون وإرادته هي القانون وهو " يعمل ما يجب ، ولا يأتي أبداً ما يبغض أو يكره " . وكان من الأمور البديهية لدى المصريين القدماء أن إرادة الملك وأوامره وأحكامه لا يمكن أن تأتي إعتباطية ، بل هناك تجريدات إلهية تجعل من هذا كله أشبه باليقين . والأحكام التي تصدر عنه والرغائب التي تتجلى فيه هي ( سيا ) أي ( تفهم ) وماعت أي ( عدل وحق ). وهذه المثالية الصورية تقضي بأن يكون الملك ليس رب البلاد وحاكمها فحسب بل السيد المطلق الفعلي للأرض وما عليها وما الناس إلا عبيد له أكثر منهم رعايا. والذي ينظر إلى عظمة الأهرامات يستطيع أن يدرك السلطة المطلقة التي تمتع بها الفرعون بحيث تم بناء هذا البناء العظيم فقط من أجل سعادته وراحته في الحياة الأخرى .
لم يقتصر تأليه الحكام وتقديسهم على الحضارة المصرية فحسب بل ظهر أيضاً بشكلٍ جلي في الحضارة العراقية ، إذ كانت الفكرة السائدة لدى شعب وادي الرافدين تعتبر أن الملوك يحكمون على الأرض بالنيابة عن الآلهة أو بتخويل منهم ، أو أنهم أبناء الآلهة ، وفي بعض الأحيان تمت عبادة الملوك باعتبارهم أرباب وآلهة . وكان يطلق على الملك عدة ألقاب منها ( أنسي ) أي وكيل الإله ( ) ، و( بعل ) و( آشور ) وهي من اسماء الآلهة ، وملك العالم ، وملك الجهات الأربع وهو أيضاً من ألقاب الآلهة ، وكاهن ، وملك الكل.
واعتقد العراقيون القدماء بأن فكرة الملكية بحد ذاتها قد نزلت من السماء أي أنها ابتكار إلهي حيث تذكر أسطورة ( إيتانا والنسر ) أن الملكية قد هبطت من السماء وأنها مقدسة وهي هبة الآلهة الى البشر حتى يعيشوا في نظام وأمن وإن الإلهة عشتار والإله أنليل نصبوا ملكاً من البشر ، وتؤكد هذه الأسطورة على أن الصولجان والتاج وعصا الراعي وغيرها من شارات الملكية كانت موضوعة أمام الإله الأعظم ( آنو ) ملك الالهة في السماء . وفي بعض الحالات تم تأليه الملوك ورفعهم إلى مقام الربوبية وعبادتهم وهم أحياء مثل ( نرام سن ) الملك الأكدي ، و( أورنمو ) ملك أور وهذا الأخير تم تأليه أولاده أيضا ، وتسمى الكثير من الناس بأسماء مثل ( شولكي إلهي ) ( وشولكي خالقي ) ، و( شولكي ) هو أحد ملوك العراق القديم .
وكان الملوك يفتخرون باختيار الالهة لهم ف( انتمينا ) و( اوروكاجينا ) و( جودية ) كانوا يتفاخرون بأن الآلهة اختارتهم من بين كل البشر ، كما اعتبر الكثير من الملوك انفسهم أبناء الآلهة مثل ( ارونمو ) الذي أكد أنه ابن الإلهة ( نينسون ) التي ولدته بناء على أوامر من إله القمر ، وادعى الملك ( لبت عشتار ) أنه ابن الاله ( أنليل ) ، وادعى اشور بانيبال بأن أمه هي الالهة ( ننليل ) زوجة الاله آشور.
لم يتم تقديس الملوك والحكام فحسب بل تم تقديس أفعالهم أيضاً وما يصدرونه من أوامر وتشريعات ، فعلى سبيل المثال تم اعتبار قوانين وتشريعات حمورابي منزلة من السماء حيث يظهر الملك على أحد أوجه الأسطوانة التي نقشت عليها القوانين وهو يتلقى القوانين من ( شمش ) إله الشمس نفسه ، وتقول مقدمة القوانين : " ولما أن عهد أنو الأعلى ملك الأنونا كي وبِلْ رب السماء والأرض الذي يقرر مصير العالم ، لما أن عهد حكم بني الإنسان كلهم إلى مردوك ؛ ... ولما أن نطقا باسم بابل الأعلى ، وأذاعا شهرتها في جميع أنحاء العالم ، وأقاما في وسطه مملكة خالدة أبد الدهر قواعدها ثابتة ثبات السماء والأرض ، في ذلك الوقت ناداني أنو وبِل ، أنا حمورابي الأمير الأعلى ، عابد الآلهة ، لكي أنشر العدالة في العالم ، وأقضي على الأشرار والآثمين ؛ وأمنع الأقوياء أن يظلموا الضعفاء ... وأنشر النور في الأرض وأرعى مصالح الخلق . أنا حمورابي ، أنا الذي اختاره بل حاكماً ، والذي جاء بالخير والوفرة ، والذي أتم كل شيء لنبور ودُريلو ، ... والذي وهب الحياة لمدينة أرك ؛ والذي أمد سكانها بالماء الكثير ، ... والذي جمل مدينة بارسي ، ... والذي خزن الحب لأوراش العظيم ، ... ، وأمن الناس على أملاكهم في بابل ؛ حاكم الشعب ، الخادم الذي تسر أعماله أنونيت ". ولا حاجة بنا إلى القول بأن صلاحيات الحكام كانت مطلقة وبلا حدود فعندما يتم تأليه الحاكم أو اعتباره وكيل الإله فإن صلاحياته ستكون صلاحيات الإله نفسه .
كذلك ظهر تقديس الحكام في الدول والممالك العربية التي قامت فوق أرض الجزيرة مثل الدولة المعينية ومملكة حضرموت ومملكة سبأ وقتبان ومملكة كندة والحضر والغساسنة والمناذرة ، فكان هؤلاء الحكام يلقبون بألقاب ذات دلالات إلهية فحكام الدولة المعينية حملوا ألقاب عدة مثل ( مزود ) الذي يعني من يزود الآلهة والمعابد بالقرابين أو من يزود دولته بالخيرات ، و ( صدق ) أي الصادق أو العادل ، ويشور بمعنى ( المستقيم ) ، و ( ريام ) أي المتعالي. وحمل حكام سبأ وقتبان لقب ( مكرب ) أي المقرب من الآلهة أو الوسيط بين الآلهة والبشر ، واللقب هو كناية عن الكاهن الحاكم الذي يحكم باسم الآلهة التي يتحدث باسمها. وقد أصبغت الأسرة الحاكمة لمملكة الأنباط على نفسها صفة الألوهية فتم تأليه الملك عبادة الثالث ، بينما كان يطلق على ملك آخر من ملوكها وهو رب أيل الثاني لقب ( واهب الحياة والخلاص لأمته ).
وفي كتابه ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ) يقول المؤرخ الكبير جواد علي : " إن الخروج على الملك كان يعد خروجاً على الحق والقانون فالملك هو السلطة العليا في المملكة وهو الموجه والمدير والمدبر لأمورها ، وله على أتباعه حقوق منها حق التسليم والخضوع والطاعة ، فطاعة الملك واجبة وله حق جباية الشعب أي أخذ الضرائب منه ، ضرائب على الزراعة والتجارة ، وحق اعلان النفير العام والحرب . . . وهو القاضي الاعلى والرئيس الروحي لامته . . . " . ويضيف جواد علي : " كانت الارض في نظر العرب الجنوبيين ملك الآلهة وأن الملوك هم خلفاء الآلهة على الارض وهم المسؤولون عن الأرض وعن تطبيق أوامر الآلهة ونواهيها بين الناس وكل أرض الدولة هي ملك الحاكم . . . " .
ويورد المؤرخ جواد علي ملاحظة بسيطة لكنها مهمة جداً فيما يخص سمة الديكتاتورية وتجذرها في المجتمع العربي إذ يقول : " . . . وإننا نأسف إذ نقول إننا لا نملك كتابات جاهلية تتحدث عن حقوق الملوك وعن الواجبات التي على الشعب القيام بها تجاههم . . . " . إن أهمية هذه الملاحظة تكمن بأنها تفصح عن طبيعة العقلية العربية ونظرتها للحاكم فهذه العقلية لم تتصور أو تتخيل أصلاً أن هناك أمور بعينها هي من حق الملك وأمور أخرى ليست من حقه فهذا المعنى لم يخطر لها يوماً ، لذلك لم تجد حاجة لتدوين وكتابة حقوق الملك فكل شيء مباح له ورهن إشارته وليس هناك ما هو خارج عن سلطته من أصغر الأشياء إلى أكبرها . وقد ورد في كتب التاريخ أن النعمان بن المنذر ملك الحيرة وصل إلى مرحلة من الاستبداد العبثي بحيث أنه خصص يوماً للسعد ويوماً للنحس فإذا جاءه أحدهم يوم السعد يكرمه ويجزل له العطاء ، أما إذا جاءه في يوم النحس فيقوم بقتله . وقصة جبلة ابن الأيهم آخر ملوك الغساسنة معروفة ومشهورة وملخصها أن جبلة هذا حج إلى الكعبة في زمن عمر بن الخطاب ولم يكن جبلة حينها ملكاً بل إن مملكة الغساسنة لم يكن لها وجود أصلاً ، وبينما كان يطوف حول الكعبة وطأ أعرابيٌ بدون قصد على إزاره فما كان من جبلة إلا أن قام بلطمه وهشم أنفه فغضب الأعرابي واشتكاه إلى عمر بن الخطاب فبعث إليه وقال : ما دعاك يا جبلة إلى أن لطمت أخاك في الطواف فهشمت انفه ! فقال : إنه وطأ إزاري ولولا حرمة البيت لضربت عنقه ، فقال له عمر : أما الآن فقد أقررت فأما أن ترضيه وإلا اقتص منك بلطمك على وجهك . فقال جبلة : يقتص مني وأنا ملك وهو سوقة ! ثم هرب خوفاً من عقوبة عمر بن الخطاب .
لم تشذ عن الممالك العربية في هذا الجانب إلا مملكة تدمر التي كانت أقل استبداداً والسبب في ذلك يعود – وفقاً لما يقوله المؤرخون - إلى تأثرها بقوانين وأنظمة اليونان والرومان باعتبار أنها كانت تتمتع بصلات وثيقة مع الامبراطورية الرومانية وهناك من الآراء ما يذهب إلى أن تدمر قد منحت درجة مستعمرة رومانية عليا ، فكان لمدينة تدمر مجلس شيوخ له سلطة سن القوانين والتشريعات ، ويشرف على السلطة التنفيذية شيخان وديوان يتألف من عشرة حكام، أما السلطة القضائية فيشرف عليها بعض الوكلاء. وهذه الحقيقة نشاهدها تتكرر اليوم في كل البلدان العربية التي لم يعرف البعض منها مظاهر الديمقراطية والمشاركة الشعبية بالحكم إلا بتدخل وتأثير خارجي وكأننا ما زلنا نعيش في بداية الألف الأول قبل الميلاد . ولا غرابة في ذلك فسمات الشعوب وصفاتها التي تنتجها الجغرافيا لا تتغير مهما مر عليها من وقت ومهما توالت عليها السنوات والقرون .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رداً على روسيا: بولندا تعلن استعدادها لاستضافة نووي الناتو |


.. طهران تهدد بمحو إسرائيل إذا هاجمت الأراضي الإيرانية، فهل يتج




.. «حزب الله» يشن أعمق هجوم داخل إسرائيل بعد مقتل اثنين من عناص


.. 200 يوم على حرب غزة.. ومئات الجثث في اكتشاف مقابر جماعية | #




.. إسرائيل تخسر وحماس تفشل.. 200 يوم من الدمار والموت والجوع في