الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إيه يا زمن … ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2021 / 2 / 14
الادب والفن


كان حيّنا بائساً ينهكه الفقر والتقشف والاسى .. بيوتنا متلاصقة تفتقر الى الخصوصية .. ارضه يغمرها التراب سرعان ما تتحول الى طينية لزجة بمجرد ان تسقط عليها حبات من مطر ، لا يفصل بين بيت ، وآخر سوى جدار واهن من القصب مكسو بالطين انهكته الأيام .. يبدو صف البيوت ، وكأنه بيت واحد ، فان حدث شجار او اقيم فرح او اي صوت اعلى من المعتاد تلتقطه اسماعنا بكل تفاصيله في كل سهولة ويسر .. رغم الفاقة التي كان عليها الناس ، فأنهم في حقيقتهم طيبون تجمعهم الفطرة الاولى ، ويملأ قلوبهم الخير ، والصدق ، والعفوية .. !
يعيش في بيت جيراننا من جهة الشمال اشقاء اثنين ، أمير الكبير ، ومجيد الأصغر .. سأموا حياة العزوبية ، بعد وفاة والدتهم ، وشعروا بحاجتهم الى لمسة امرأة تبعث الحياة ، والدفء في ذلك البيت الكئيب .. تزوج أمير من فتاة جميلة تشهد لها نساء الحي بالطيبة وحسن الخلق ! أما مجيد فيقضي معظم وقته في التسكع والصيد ، فهو عاطل في أكثر الأحيان عن العمل ، ولا يحسن شيئاً الا صيد السمك أو صيد الطيور ، والعصافير ، وفي المساء يشوون ما يصيده لتكون وجبات .. هي على أي حال مساهمةً منه في مصروف البيت .. !
مرت الأشهر الأولى بخير وسلام لا تحمل اي مشاكل .. كانت الفتاة فيها متفانية في خدمة زوجها رغم عيوبه ولم تحرم شقيقه من رعايتها ، واهتمامها .. كانت تعتبره بمثابة اخ لها .. حولت البيت الى جنة صغيرة .. كان أمير يذهب كالعادة الى عمله في الصباح ، ومداراةً للموقف يخرج مجيد من الصباح ، ولا يعود الا بعد ان يعود شقيقه !
اندفعت الأحداث فجأة في مجرى جديد غير متوقع .. لاحظ فيه الكل تحولاً في سلوك امير .. فقد اصبح متوتراً ، ودائم الغضب ، وزادت عدوانيته ، وبدء يضرب زوجته بقسوة ، كان ينقض عليها كما تنقض الحدأة على الفرخة ، فيوسعها ضربا ، ونسمع صراخها يمزق سكون الليل ، ويردد الافق صداه ، وصوت الحزام الذي يستعمله ينهال عليها ، وهي تنكمش حول نفسها وجسدها يهتز ألماً ورعباً .. ولا فكاك ولا خلاص من قسوته .. يسيل لسانه بأقذع الشتائم ، والكلام البذئ .. رامياً اياها بالخيانة والغدر .. ترك كلامه جرحا داميا في كرامتها وكبرياءها ، وفقدت الكثير من ذات نفسها .. لم نكن نعرف ما المعنى من كلامه هذا ، فالمرأة تشهد لها كل نساء الحي بالعفة ، والطيبة .. ولم يكن احد يرغب في ان يتورط مع أمير لما هو معروف عنه من شراسة ، وسوء خلق !
لملمت المرأة أخيراً احزانها واوجاعها ، وبحركة قدرية لا رجعة فيها ، غادرت البيت الى اهلها ، ورفضت العودة الى ذلك الكابوس المقيت ، وانهت هذا الفصل المأساوي من حياتها الى الابد ، وبعد فترة سمعنا بانه طلقها .. اما شقيقه مجيد فقد أختفى ، وكأنه تلاشى ، ولم يعد له من وجود .. ولم يُعرف له مكان بعد ذلك .. ! ثم بمرور الايام تراجعت الحادثة الى الظل ، وتبددت مثل حلم عابر !
تسير الايام بلا توقف .. واصلت فيها الحياة سيرها الوئيد في الحي ، ونسى الناس قصة الاخوين .. وبعد ان سقط النظام الملكي .. تركنا الحي ، وانتقلنا الى حي آخر جديد استعدنا فيه آدميتنا المفقودة .. ومرت السنوات سريعا ..كبرنا فيها ، وتزوجنا .. وفي يوم لا ينسى ، كانت الشمس فيه تؤذن بالمغيب ، وانا في طريقي الى البيت تقاطعتُ مع رجل ، نظر كل واحد منا الى الاخر نظرةً عابرة ، واستمرينا في السير بضع خطوات ، توقفتُ والتفتُ .. رأيته هو الاخر قد توقف ، وهو ملتفت ينظر اليَّ .. كان واقفاً في مكانه كأنه يتشرب وجودي .. تحركتُ ببطء وتحرك هو بذات البطء ، ثم رجع كل واحد منا باتجاه الآخر ، ولما نظرنا لبعضنا عن قرب .. لم استطع ان أضبط دهشتي ، وانا اشاهده أمامي بعد كل تلك السنين .. هتف باسمي ، وهتفت باسمه ، تعانقنا ، لم أتوقع ان يبرز الماضي فجأة امامي هكذا .. قلت : يا له من فراق طويل ، يا مجيد !
اشتعل الشيب في فوديه ، وشعره قد تساقط الكثير منه ، وبدا الكبر عليه ، وأنا الآخر لم انجو من علامات الزمن حتماً ! كانت لحظة بالغة الندرة لم اكن اتوقع مثلها .. سألته : اين كنت يا رجل كل هذه السنين ؟ قال وشبح ابتسامة حزينة على وجهه : انها قصة طويلة .. بعد الاحداث التي حصلت كنت اعتقد ان كل شئ قد توقف تماماً .. لكنك تعرف ان الاصل في الدنيا هو الحياة ، وان أرض الله واسعة ، وفي لحظة جنون ، وشجاعة مني .. هدتني الاقدار الى احدى السفن اليونانيه في ميناء المعقل ، وبمساعدة صديق لي في الرصيف صعدت فيها بحاراً ، وبقيت كل تلك السنين أجوب العالم ، وقبل اسبوع وصلت سفينتنا الى البصرة .. فقضيت ايام الرسو ، وانا أتجول في مدينتي التي ولدتُ ، وترعرعتُ فيها .. لم أترك مكانا لي فيه ذكرى الا وذهبت اليه كأنها نظرتي الأخيرة ، ثم أكمل بصوت رطبته الدموع : اتدري لقد زال حينا القديم وحل محله آخر جديد ؟
ثم اكمل : ستكون هذه سفرتي الأخيرة ساترك البحر بعدها ، واتزوج ، واستقر في اليونان ، وانا الان في لحظات الوداع الاخيرة لبلدي ، واهلي ربما الى الابد ، وخيراً أني رأيتك لأودعك .. كان كمن يريد ان يقتلع جذوره من الاصل ، يبدو ان هذا البلد لن يستيقظ ابداً .. هكذا انهى كلامه .. قلت حتى أقلل من احزانه ، وارطب الاجواء : اتدري لقد شعرتْ العصافير ، وبقية الطيور بالامان عندما اختفيت .. شاركني الضحك ، ولكن بمرارة ، وقال : يا له من زمن ! كم كانت فيه الأيام على عذاباتها جميلة !
لم ارغب في ان أنكأ المزيد من الجراح ، ولا اجدد الاحزان .. او القي حجراً في المياه الراكدة ، تعانقنا ثانيةً عناقاً حاراً بعد ان تمنيت له كل الخير ، فهو يستحقه ، وقلت في نفسي : يالها من مصادفة مدهشة لم تخطر على بال ، هذه هي الحياة لا تتوقف ، ولا تستدير أبداً الى الوراء ! مضيت في طريقي مشغول الفكر .. سهرت طوال تلك الليلة ، وانا استحضر الاحداث التي كانت جزءً من حياتنا في ذلك الوقت ، وكأن الزمن قد ارتد بي الى الوراء ، واستيقظتْ في داخلي روائح الذكريات من شذرات الطفولة والصبا ، والتي لم يبقى منها في أحلامي الا الشذا الطيب ، وعلى لساني الا المرارة .. ورددت في أعماقي : إيه يا دنيا .. ! ماذا تخبئين لنا في الغد من عجائب .. ؟!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تعاون مثمر بين نقابة الصحفيين و الممثلين بشأن تنظيم العزاءا


.. الفنان أيمن عزب : مشكلتنا مع دخلات مهنة الصحافة ونحارب مجه




.. المخرج المغربي جواد غالب يحارب التطرف في فيلمه- أمل - • فران


.. الفنان أحمد عبدالعزيز يجبر بخاطر شاب ذوى الهمم صاحب واقعة ال




.. غيرته الفكرية عرضته لعقوبات صارمة