الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أيّامٌ في البدروسية

حازم شحادة
كاتب سوري

2021 / 2 / 15
الادب والفن


ثمّةَ قصصٌ تحدثُ في حياةِ الرجلِ مرّةً واحدة، وعلى خلافِ العشراتِ من القصصِ التي يَنساهَا أو يتناسها، يستحيلُ عليهِ نسيانُ تلك.

وصلتُ شاطئَ البدروسيةِ أوَّلَ مرّةٍ صيفَ عام 1996 وهذا التاريخُ يَجعلنِي بِالنسبةِ لبعضكم، قديماً نوعاً ما.

عندما استدارَ السائقُ بالميكروباص يساراً إثرَ رحلةٍ من اللاذقيةِ استمرَّت ساعةً وبدا البحرُ في نهايةِ شارعِ السّروِ تذكّرتُ أينَ سأطلبُ منهُ التوقفَ كما أخبرني الخالُ (أبو محمد) عبرَ الهاتفِ حينَ دعانِي لمساعدتهِ في تأجيرِ (الشاليهات) للمُصطافين وصيدِ السمكِ بالأقفاصِ الحديدية.

في تلكَ الظهيرةِ كانَ الشاطئُ شبهَ خاوٍ من الناسِ وأشعةُ الشمسِ تسكبُ فوقَ الموجِ والرمالِ بريقاً عجيباً. وقفتُ فوقَ التلّةِ المُتاخمةِ للطريقِ ورميتُ بصري باتجاهِ (الشاليه) الذي تليهِ أشجارُ الكينا فعرفتُ أنّهُ المقصود.

في خيمةٍ جُدرانها من القصبِ وسقفها الأغصان كانَ الخالُ متّكئاً على سريرٍ خشبي يشربُ المتةَ ومِن آلةِ تسجيلٍ قديمةٍ يقولُ عبد الحليم حافظ:

ـ ضِحكِت تانِي.. نفسِ الضِّحكة وراحِت ماشيه
زيِّ الدنيا ما تِيجي بثانيه وتِمشي بثانيه

بعدَ أن رحّبَ بي دعاني للجلوسِ على جذعِ شجرةٍ مقطوعةٍ ذي حلقاتٍ دائريةٍ كثيرةٍ وبعدَ أن استرحتُ قال:

ـ لنبني عرزالاً في الحال، يجبُ أن يكونَ لكَ مكانٌ تنامُ فيه.

مع حلولِ المساءِ كانَ العرزالُ جاهزاً بعدَ أن قمنا بثبيتِ الأخشابِ جيّداً ووضعنا فيهِ فرشةً وغطاءً.

أثناءَ العمل شرحَ لي الخالُ كيفَ أستقبلُ المُصطافين وأصحبهم بين غرفِ الشاليهِ المزودةِ بالمراوحِ والثلاجةِ والغازِ والأسرَّةِ وجميعِ لوازمِ المطبخِ وبعدها أقولُ لهم السعرَ المُترتبَ عن استئجارها كلَّ يومٍ ففي حال تمّت المُوافقةُ أستلمُ منهم البطاقةَ الشخصية لربِّ العائلةِ أو من ينوبُ عنهُ وأسلّمهم المفاتيح.

ـ وبعد؟
سألتهُ، فأجاب:
ـ هذا كلُّ شيء.

المُهمُ عندي ألا تكونَ الشاليهُ فارغة فمتى كانَ الزبائنُ يَشغلونها بعدَ دفعِ المالِ يمكنكَ أن تفعلَ ما تريدهُ. البحرُ من أمامكِ والسمكُ في قلبهِ أمّا النساءُ فأنتَ وشطارتك.

ضحكتُ مع قليلٍ من الحياءِ فأنا لم أكن قد جاوزتُ بعد عامي الرابع عشر لكنَّ دقّات قلبي عزفت بنشيدٍ لم أعدهُ من قبل.

كانَ الخالُ بدر ذا ملامح جميلةٍ وطيّبةٍ أمّا جسدهُ فكانَ رياضيّاً نتيجةً لرفعِ الأثقالِ والعيش قربَ البحرِ وأنا تأثّراً به رحتُ أرفعُ الأثقالَ وأتمرّنُ كثيراً كي يصبحَ جسدي مثل جسدهِ وفي تلك الأيام.. نجحتُ شيئاً ما.

حينَ حلَّ المساءُ كانت إضاءةُ الخيمةِ مصباحاً أصفر تمَّ تعليقهُ على غصنِ شجرةِ الكينا وعن يسارنا كانَ صفُّ الأشجارِ المُتاخمةِ مُعتِماً بالكامل.

في الحقيبةِ الصغيرةِ التي أحضرتها معي ثمَّة بعضُ الملابسِ القليلة جدّاً وكتابٌ لصنع الله ابراهيم اسمه (نجمة أغسطس) ولأيّام طوالٍ هناك، كانَ صديقي الوحيد، تقريباً.

هكذا أصبحَ مقرُّ إقامتي الجديد جاهزاً وبعدَ أن ذهبَ الخالُ لمقابلةِ بعضِ الأصدقاءِ في مكانٍ ما قربَ نبعِ البدروسيةِ صنعتُ لنفسي كأساً من المتة وجلستُ وحيداً.

تفقّدتُ أشرطةَ الكاسيت التي كانت مَرميّةً في كيسٍ بلاستيكي قديم فعثرتُ على خمسةِ أشرطة لأمِّ كلثوم وثلاثةٍ لفيروز واثنين لعبد الحليم حافظ.

انتقيتُ كاسيت (من أجل عينيك عشقتُ الهوى) ثم أشعلتُ سيجارة ورحتُ أستمع.

في البحرِ كانت أضواءُ مراكبِ الصيدِ تنعكسُ على الماءِ كالنجومِ ومن خلفي كانَ جبلُ البدروسية شامخاً زيّنتهُ بعضُ الغيوم التي جلاها القمرُ الصاعد.

ـ من بريقِ الوجدِ في عينيكَ أشعلتَ حنيني
وعلى دربكَ أنّى رحتَ أرسلتُ عيوني

تقولُ الست فيجيبها الموجُ بعزفٍ أبدي ساحر.

تتميّزُ الأقفاصُ الحديدية التي تُستخدمُ لصيدِ السمكِ بشكلٍ مُفلطحٍ وبوَّابةٍ دائريةٍ تضيقُ نحوَ الداخلِ فتسمحُ للسمكِ بالدخولِ لكن ليسَ بالخروج.

فيما بعد، ودون طائل، اكتشفت أن الدنيا تستخدم لصيد البشر أقفاصاً تشبه تلك.

كنّا نضعُ في القفصِ الخبزَ اليابسَ وبقايا الأطعمةِ ثم نعومُ حاملينهُ صباحاً مسافة عشرين متراً ونغوصُ بهِ نحو الأعماقِ لنضعهُ في مكانٍ مُناسبٍ قربَ الصخورِ التي تتجمّعُ حولها الأسماكُ وعصراً نعودُ إليه وبعدَ أن نخرجهُ نفرغُ ما فيهِ من سمكٍ أو أخطبوطات أو سلاطعين.

في البدروسية أيقنتُ أن لحمَ السلطعونِ أشهى بألفِ مرةٍ من باقي اللحومِ وذلكَ بعد أن تشوي السلطعونَ على النارِ قليلاً ثم تكسر الدرعَ الذي يُغلِّفُ جسده وتنتقي اللحمَ الأبيضَ بيديك.

***
امرأة تستحم

كانَ تموزُ قد انتصفَ وكنتُ على وشكِ أن أغادرَ عامي الرابع عشر حين أخبرني الخالُ ذاتَ يومٍ أنه ذاهبٌ إلى المدينةِ كي يزورَ زوجتهُ وعلى أبعدِ تقديرٍ سيعودُ ظهرَ اليوم التالي فأوصاني بملازمةِ الخيمةِ البحريّةِ لتلبيةِ احتياجاتِ المُستأجرين إن طلبوها..

صنعتُ لنفسي كأساً من المتةِ ورحتُ أربّي الأمل كما قالَ الدرويش.

خلفَ شاليهات الخالِ وخيمتنا المُتاخمةِ لصفٍّ طويلٍ من أشجارِ الكينا أرضٌ ترابيةٌ مكشوفةٌ لا تتجاوزُ مساحتها المئتي مترٍ مُربّعٍ في زاويتها الشرقيةِ ثمّة مَقرٌّ بدائي للاغتسالِ أقامهُ الخالُ كي نزيلَ فيهِ عن جسدينا مياهَ البحرِ المالحةِ بعدَ الصيدِ والسباحة.

ورغمَ أنَّ مقرّ الاغتسالِ ذاكَ غيرَ مسقوفٍ ومحاط بأحجارِ البناءِ من جهاتٍ ثلاثٍ إلا أن الجهةَ المَكشوفة هيَ التي تطلُّ على الخيمةِ لهذا كنّا حريصين على الاغتسالِ بثيابِ السباحةِ وعند تبديلها نتوارى خلفَ الأحجار.

من بينِ أوراقِ القصبِ التي تتمايلُ مع نسيمِ تلكَ الظهيرةِ، وبينما كنتُ أعبُّ من سيجارتي الثانية وأصابعُ النعاسِ تداعبُ جفني بلمساتٍ سحريّةٍ رأيتُ فتاتين تتجهان صوبَ المَغسل.

نسبةُ ذكائي عادية جداً لكنّ الموقفَ لم يكن بحاجةِ آينشتاين.

من المؤكدِ أن الفتاتين اعتقدتا المغسلَ للعمومِ ولأنَّ جهتهُ المكشوفة لا تطلُّ سوى على الأشجارِ والأعشابِ والقصبِ الذي صنعنا منه الخيمة فقد كانتا مطمئنتينِ إلى حدٍّ كبير.

عدّلتُ جلستي من الاتّكاءِ برأسي وأنا مستلقٍ على راحةِ يدي إلى الاتكاءِ على كوعي الأيسر وشربِ الماءِ الساخنِ في الكأسِ دفعة واحدة ثمّ أشعلتُ سيجارة جديدة.. بانفعال.

أقصى ما وصلت إليهِ مُخيلتي الطفولية في تلكَ اللحظةِ أن أرى الفتاتين تغتسلان بسكبِ الماء العذبِ فوقَ جسديهما دونَ نزعِ ملابسهما لكن حينَ وقفت إحداهما على مسافةٍ من المَغسلِ كي تراقبَ الطريقَ ونضت الثانية عنها جلباباً أسود ولنصفِ دقيقة ربما.. لم أصدّق ما رأيت.

سحبتُ من سيجارتي نفساً عميقاً وجلستُ على سريري الخشبي مُتربِّعاً.
إنّه صيفُ عام 1996.. حين رأيتُ لأوّلِ مرّةٍ امرأةً عاريةً من رأسها حتى أخمصِ قدميها.

كانت المرأة قد أمسكت الجلبابَ من ياقتهِ ورفعتهُ إلى الأعلى على غير استعجالٍ حتى خلعتهُ من فوقِ رأسها ولم تكن ترتدي تحته قطعةَ واحدة من القماش.

كيفَ لي أن أصفَ جسدها الأبيضَ الممشوقَ وارتجاجَ نهديها حين رفعمها الجلبابُ قليلاً ثم عادا إلى حيث يجبُ أن يكونا..

البطنُ سهبٌ خصبٌ وشعرُ العانةِ يتوّجُ مثلثَ فينوس المُطلَّ على فخذينِ غضّينِ مسكوبين بمعجزةٍ آلهية..

انحنت الفتاةُ كي تلتقطَ خرطومَ المياهِ فَبدت مؤخِّرتُها المُكتنزة كسؤالٍ في الامتحانِ مطلعهُ:

ـ املأ الفراغَ بما يناسبهُ...

ثم حينَ راحت ترشُّ الماءَ على جسدها وتفركُ نهديها بيدها أصبحَ الكونُ أجمل.

تخيّل معي..

المَجموعة الشمسية، مجرّة دربِ الحليب، جارتنا الأندروميدا، الثقوبُ السوداء، أعمدةُ الخلق، النجوم النيوترونية الكثيفة، المستعراتُ الكُبرى.. حتى الإنفجارُ العظيم قبلَ مليارات السنين، أصبحَ أجمل فلا تستهن بما يمكنُ لامرأةٍ عاريةٍ أن تفعلهُ.. إيّاك ثمّ إيّاك أن تفعل..

ـ هل تعرفُ لماذا بحثَ جلجامش عن ماءِ الخلود؟
من أجلِ تلك اللحظات..

لم يقف الزمنُ يومها يا صاحبي..

على عكسِ ما تمنّيتُ لم تكن صديقتها سوى رفيقة لمراقبةِ الأجواءِ فما أن أنهتِ المرأةُ الاستحمامَ حتى أخرجت من حقيبةٍ بلاستيكيةٍ جلباباً وارتدتهُ على عجلٍ ثم ذهبتا..

***

يوسف الحمصي

ذات مساءٍ وكنَّا جالِسَينِ على الرملِ نشربُ البراندي الوطني المغشوش أشعلتُ سيجارة وقلت:

ـ كم امرأةً عرفت في حياتكَ يا خال؟
كبعَ الرجلُ ما في كأسهِ دفعةً واحدةً وقال:
ـ المبتدئونَ أمثالكَ يقومونَ بالعد.

ثم أضاف:

ـ النساءُ على شاطئِ البحرِ ـ حتى القادماتُ من مناطق محافظة ـ أشهى وأكثرُ حريّة لأنهنّ يعرفنَ أن مدةَ إقامتهنّ قصيرة ويحتجنَ إلى بعضِ الذكريات فإيَّاكَ أن تلحقَ امرأة، إن كانت تريدكَ ستأتي من تلقاءِ نفسها.

سادَ صمتٌ بعد ذلكَ رحتُ خلالهُ أتأملُ النجومَ ثمَّ تفاجأتُ بشخصٍ غريبٍ يقتربُ وبعدَ أن ألقى السلامَ جلسَ إلى جوارِ الخالِ الذي عرّفَ عنه:

ـ هذا يوسف، شيخ شبابِ حلب، سيعملُ في المتجرِ المجاورِ لنا طيلة الصيف وهو صديقٌ قديم.

- تشرفنا

قلتُ بعدَ أن سكبتُ لنفسي كأساً من البراندي ثمَّ أشعلتُ سيجارة.

كانَت أضواءُ المراكبِ الصغيرةِ الذاهبةِ إلى الصّيدِ تشعُّ في الأفقِ النائي حين راحَ يوسف فجأة يصدحُ بصوتهِ الشجي موَّالاً حلبياً أنهاهُ بعبارة..

- سبحانَ من شقّهُ بلا منشار.

إثر ثوانٍ معدوداتٍ ملأت أصواتُ ضحكنا المكانَ وأزعجت المُصطافين الجالسين على الرملِ لكن انزعاجهم ما كانَ ليعني لنا شيئاً خاصة بوجودِ الخالِ فهو دونَ أي مبالغةٍ رجلٌ بعشرةِ رجالٍ ومصيرُ من سيتعاركُ معنا الذلّ لا محالة.

حينَ هممنا بعدَ الثالثة فجراً بالصعودِ إلى مقرِّنا البحري انطلقَ يوسف كالسّهمِ وبحركةٍ أكروباتية خطفت أنفاسي استدارَ في الهواءِ وحطَّ واقفاً على قدميه.

لم تبارح حركتهُ مُخيّلتي فطلبتُ منه أن يُعلّمني تنفيذَها وهكذا رحتُ أتمرنُ معهُ حتى أتقنتها.

كلّما رأيتُ جداراً مرتفعاً تسلقتهُ وما أن أقفَ على حافتهِ حتى أقفزَ مستديراً استدارة كاملة في الهواء لأهبطُ على قدمي.

مساءً كنّا نجتمعُ كلّ يومٍ لنقرعَ الكؤوسَ ونغنِّي ما طابَ لنا من مواويلٍ ثم ننهي الوصلةَ الطربية بالعبارةِ ذاتها..

ـ سبحانَ من شقّهُ بلا منشار..

يوسف وكنيتهُ الحمصي كانَ أشقر الشعرِ نحيلَ القدِّ رياضياً وقد سبقَ له أن عملَ في لبنان ومصر وليبيا قبل أن يعودَ أدراجه إلى الوطنِ بعدَ أن بدّدَ ما جمعهُ من مالٍ على النساء.

ذاتَ مرةٍ وكنّا نعومُ في البحرِ مساءً قلتُ له..

- ما حكاية ( سبحان من شقهُ بلا منشار)..

ضحكَ بصوتٍ جهوري وقال..

في البدروسيةِ لن يمضي وقتٌ طويلٌ قبلَ أن تعرفَ المعنى العميقَ للعبارةِ يا صديقي.

عندما انقضى ذلك الصيفُ وعدتُ إلى المدرسةِ لم أترك حائطاً من حيطانها إلا وقفتُ عليه ثم قمتُ بالشقلبةِ الهوائيةِ التي علّمني إيّاها يوسف كي أستميلَ الفتيات بجسدي وقدرتي على تطويعِ الهواءِ لكنني في إحدى المرّاتِ تماديت.

كانَ الجدارُ مرتفعاً جداً فسقطتُ على مؤخرتي وتسبّبتُ لنفسي بجروحٍ مؤلمة فتوقفتُ بعدها عن أداءِ الحركة ( السحرية) ولكنَّ..

ما زال المعنى العميقَ للجملةِ الخالدة يُغريني باكتشافهِ .. يوماً بعدَ يومٍ، بعد يوم.
***

نورا

في الصيفِ التالي سنة 1997، وكانَ نسيمُ البحرِ ينسابُ بينَ أوراقِ الكينا على مَهلٍ فتسمعُ لَحناً مِن ذاكَ الذي للهِ درَّهُ ما أعذبه توقَّفت أمامَ خيمتي سيارةٌ كبيرةٌ ترجَّلَ منها شابانِ يرتديانِ جلبابينِ أبيضينِ وبعدَ أن ألقيا السَّلامَ طلباَ للإيجارِ (شاليه) بسعرٍ مقبول.

ساعدتهما في تفحُّصِ (الشَّاليه) فتشاورا مع عائلتهمَا بينما كنتُ أصلِّي أن يقبلوا فهذهِ العائلة تضمُّ بين أفرادها، أجملَ فتاةٍ قابلتها يوماً.

بعدَ أخذٍ وردٍّ لم يَطل قالَ أحدهما:

ـ موافقون، سنستأجرها لأسبوع.
ـ على بركةِ الله..

قلتُ وسلَّمتهم مفاتيحها ثمَّ قبضتُ منهم المبلغَ سلفاً وعدتُ أدراجي فصنعتُ لنفسي كأساً من المتَّة عقبَ الجهدِ الذي بذلتهُ ورحتُ أستعيدُ في مخيلتي ملامحَ تلكَ الفتاة ثمَّ أشعلتُ سيجارة.

ـ الوجهُ المُدوَّر، العينانِ العسليتانِ الواسعتانِ، الخدَّانِ المُورِّدانِ والبشرةُ البيضاءُ النقيّة، الشَّفتانِ المُمتلئتانِ المُزدانتانِ بأحمرِ الشقائقِ.
الحِجَابُ أساءَ للمشهدِ كلهِ فأنا لم أستطع رؤيةَ شعرِها بسببهِ لكن قلتُ لنفسي:

ـ وكيفَ سيكونُ أيُّها الأحمق..
لا بُدَّ أنهُ مُسترسلٌ ناعمٌ إن لم يصِل بطولهِ إلى خصرها فهوَ على أقلِّ تقديرٍ يُغرِّدُ حينَ تَخلعُ الحِجابَ عندَ منتصفِ ظهرها، ثمّ رحتُ أتخيَّلُ منتصفَ ظهرها وهي عارية...

جذبتُ الماءَ الساخنَ بمصَّاصةِ المتةِ ثمَّ أشعلتُ سيجارةً جديدةً وحينَ تمركزت عدسةُ مخيلتي عند مؤخِّرتِها الحَنونة، توقفت.

مكوَّرةٌ، لا هي بالقاسيةِ ولا المترهلة، عذبة، شهيَّة..
يا إلهي، أما كانَ من الأفضلِ لو أنّني أضعُ خدِّي عليها الآن؟
تفاءلتُ خيراً ثمّ نمت.

استيقظتُ عندَ الفجرِ وقمتُ بجولتي الاعتياديةِ في المياهِ..
كنتُ أبحثُ عن قطعِ الذَّهبِ والفضةِ التي من الممكنِ أن تكونَ ضاعت من أصحابها في المياهِ ثمّ أرجعُ إلى الاستلقاءِ واحتساءِ المتةِ مع التدخين.
طبعاً خلال خدمتي في البدروسية لأربعةِ أصيافٍ لم أعثر ولو مرة واحدة على الذهب.

فجأة..وبينما كنتُ جالساً أمام خيمتي مرَّت الفتاة من أمامي.

التقت عيونُنا. أشرتُ إليها إن كانَ باستطاعتي الاقترابَ فأشارت بإصبعها راسمة حركةً دائرية تعني بها.. ـ ـ فيما بعد.

ـ الله أكبر.. فيما بعد خيرٌ من النفي..
أشرتُ مرّة ثانية بما معناه:
ـ متى؟
فوضَعت كفّيها حولَ فمهَا وهَمَست..
ـ مساءً.
عدتُ لأشيرَ أنَّني سأنتظرها مساءً في مكانِي هذا خلفَ الخيمةِ فهوَ مُستترٌ ولا يستطيعُ أحدٌ ملاحظتهُ فهزَّت رأسها موافقة.
مرَّتِ السَّاعاتُ بطيئةً إلى أن أتَى المساءُ، وعندما يأتي المساءُ ـ يا حبيب ـ تبدو النجوم مثل اللآلئِ ..

أتت معه بكلِّ أنوثتها وجمالها وبعدَ أن سلّمت قلت:
ـ دخيل الله ما أجملك..
ابتَسمت وشكرتني..
ـ وأيضاً تشكرينني!!
أنا من يشكرُ اللهَ والسماءَ والبحرَ والصيفَ على قدومك..
أنا من يشكرُ القدرَ والصدفةَ والمواقيتَ وحركةَ الكواكبِ والنجومِ التي تضافرت كي ألتقي بكِ ها هنا يا امرأة.. ما اسمك؟
ـ نورا..
ـ عاشت الأسامي يا نورا..
أنا أسعدُ فتىً في العالم لأنكِ تقفينَ قُربي الآن..
ـ اسمع لا أستطيعُ أن أتأخرَ أكثر..
ثم أردفت بلهجتها الحلبية:
ـ أحببتُ أنّك تستمعُ لعبد الحليم، وأحببتُ عينيكَ أيضاً.

عادت أدراجَها بهدوءٍ تاركة إيَّايَ غارقاً في دوامةٍ من العطر.
كيفَ لدقائقٍ معدوداتٍ أن يدخلوا إلى القلبِ والنفسِ هذا الكونَ من السَّعادةِ والرِّضا؟

كيفَ للحظاتٍ هاربةٍ من مداراتِ الأبراجِ والأفلاكِ أن تقلبَ تاريخَ الفتى رأساً على عقب وتحوِّلهُ من كائنٍ جلفٍ قاسٍ إلى طائرِ نورس؟
استلقيتُ على سريري دونَ أن أقدرَ على النوم.. شيءٌ بداخلي كانَ يقول:

ـ عِش هذه اللحظات، إيَّاكَ والنوم..
الوقتُ بدونها أصبحَ ثقيلاً..
كنتُ أنتظرُ خروجها لأستنشقَ الهواءَ المُحمَّل بعطرها، نتحاورُ بالعينينِ من بعيد لبعيد..
وحين أغمزها تبتسم...
(ونظرة من بعيد لبعيد،، تقول حبيت)..
يا الله ما أجمل تلك الابتسامة..

أريدُ أن أقابلها قبلَ أن يحينَ موعدُ مغادرتهم.. أريدُ أن ألمسَ ذلكَ الجسد، أن أقبِّلَ تلك الشفتين ،أن أحصلَ على ذكرى منها ولا يمكن لي أن أقنعَ بالكلام فقط.

قبلَ موعدِ رحيلهم بيومٍ واحدٍ كنتُ أدخِّنُ وبينما أشعلُ سيجارة جديدة سمعتُ حركشةً خلفَ خيمتي فانتفضتُ والأملُ ينفجرُ داخي كالبركان..

هرعتُ إلى مكانِ لقائنا الأول فكانت هناك..
وقفتُ قبالتها ورحتُ أنظرُ في عينيها دون أن أنطقَ بكلمة..

ضممتها إلى صدري فلم تمانع وراحت تمسحُ بيدها على وجهي..
قبَّلتها فوقَ عنقها فلم تمانع، وضعتُ يدي على مؤخِّرتها وعصرتها فكادت تصرخُ وحين أمسكتُ نهدها تراجعت إلى الوراء بسرعةٍ لكنني حظيتُ بكمشةٍ منه..

ما أروعَ ملمسهُ حتَّى من فوقِ الثياب..

قالت:
ـ إن فعلتَ ذلك مُجدَّداً سأذهب ..
ـ لن أفعلَ أعدك..

ثم اتخذنا من الأرضِ مجلساً دون أن أعرفَ ما الذي سأقوله، ولا هي قالت.
فجأة اقتربت مني وتركت قبلة فوقَ شفتي هامسة...

ـ لا فكرة عندي كيف أحببتكَ ولم أعرفكَ إلا لساعات، كانَ الحديثُ مع عينيكَ جميلاً، أنا سأذكرك دائماً.. وأنـت؟
أشعلتُ سيجارة وقلت:
ـ ذاتَ يومٍ سأكتبُ عنكِ قصّة.
***

العاصفة

بعدَ مغادرةِ نورا بأسبوعين أو ثلاثة سمعتُ صراخاً يقول:

ـ قاربكم يغرَق.. قاربُكُم يَغرق..

انتشلتُ نفسي بشقِّ الأنفاسِ من حلمٍ رائعٍ تدورُ أحداثهُ على سريرِ الفنانة باميلا أندرسون في قصرها الهلوليودي وحينَ أصبحتُ قادراً على التمييزِ بين قصرها وخيمةِ القصبِ أدركتُ أن الصوتَ الذي يصرخُ هو صوتُ جارنَا يوسف.

لقد حلَّت طلائعُ المساءِ منذُ دقائق علَى الأرجح.
ـ الَّلعنة، ما الذي يقولهُ هذا الأبله؟ وكيفَ سيغرقُ القارب؟

رحتُ أتساءَلُ وما زلتُ مُستلقِياً على الإسفنجةِ الرَّطبة.

من بينِ أوراقِ الشَّجرِ طالَعتني بَعضُ الغيومِ الدَّاكنةِ ثمَّ بَدأ جسدي يشعرُ برشقاتِ الرّياحِ الغربيَّةِ القويَّةِ والبارِدَة.
أخيراً استعادَ عقلي مَا جرى قُبيلَ غَفوتي بِسَاعة.

أحدُ المُصطافين جاءَ إلى حيثُ كنتُ جالساً على الشاطئِ وطلبَ أن يستأجرَ القاربَ الصَّغيرَ لساعتينِ أو ثَلاث.

دفعَ المبلغَ المُستحقَّ ثمَّ سَاعدتهُ في النزولِ إلى البحرِ وحينَ عدتُ إلى الكوخِ استلقيتُ على فراشِي غيرِ الوثيرِ وغَفوتُ لِيكرِمَني المَنَامُ بمهبلِ باميلا الوردي.

قفزتُ بأربعتي ونزلتُ السُّلمَ كالمجنونِ فرأيتُ الطقسَ قد انقلبَ كلِّيَّاً وبوادرُ عاصفةٍ تلوحُ في الأفق.

أشارَ يوسف إلى تجمُّعٍ صخرِيٍّ يبعدُ عشرينَ متراً عن الشَّاطِئ.
كانت أضواءُ المحلَّاتِ والمقاهِي تتيحُ رؤيةَ القاربِ والأمواجُ تتقاذفهُ مع مِجدافيهِ الَّلذينِ يُلوِّحَانِ في الهواءِ كيدِي شَخصٍ على وشكِ الغرق.

ـ ابنُ العاهرَة، ابنُ العَاهِرَة، ابنُ العَاهِرَة..

كانَ هذا كلُّ ما قلتهُ وأنَا أندفعُ كالمجنونِ محتارَاً بالسَّببِ الذي دفعَ النَّذلَ إلى تركِ القاربِ هناكَ كي تبتلعهُ المياه.

قذفتُ بِجسدي إلى الماءِ ورحتُ أسبحُ صوبهُ مُتجنِّباً كُتلةَ الصُّخورِ التي أحفظُ أمكِنَتَهَا عن ظهرِ قلبٍ فهي مكانُ صيدِنا المُفضَّل.

لم يكُ ارتفاعُ المُوجِ ما أزعجَني بل قوَّةُ التيَّارِ والرِّياح.
اقتربتُ رويداً رويداً منَ القاربِ، وكي لا يصطدمَ رأسي به غصتُ على الفورِ مُتلمِّسَاً بيدِي الطريقَ المَائِيَّ أَمامي وحينَ أَحسستُ بجسدِ القاربِ تَشبَّثتُ بِهِ وأخرجتُ رأسي منَ البَحر.

بيدينِ ثابِتَتَينِ رفعتُ جسدِي لكنّ المجدافَ الذي كانَ يَضربُ الهواءَ كيفمَا اتَّفَق بفعلِ التَّيِّارِ العنيفِ أصَابني.

سقطتُ في الماءِ مِن جديد وحينَ تذوَّقتُ لزوجةً حلوةً ممزُوجَةً بالملحِ أدركتُ أنَّ الدِّماءَ تَسيلُ مِن رأسي.

شتمتُ ابنَ العاهرة بِغيظٍ أكثر وبقيتُ مُمسِكَاً بجسدِ القارب.

كانَ المساءُ قد حلَّ تمامَاً وَبدأت قطراتٌ من المطرِ تسقطُ تباعَاً ولم يبقَّ لي كي أستطيعَ الرُّؤيةَ سوى القليل ممَّا ترسلهُ أضواءُ المقاهِي.

تَشبَّثتُ بحافةِ القاربِ مُنتبهاً لحركةِ المجدافينِ ثمَّ بقفزةٍ واحدةٍ أصبحتُ داخلهُ.
أمسكتُ المجدافين بقوّةٍ وبدأتُ تعديلَ المسارِ بعيداً عنِ الصُّخور.

زادَ ارتفاعُ المُوجِ مع ازديادِ هبوبِ الرِّيَّاحِ ممَّا جعلني أتخبَّطُ يُمنةً ويُسرى لكنَّ المطرَ كانَ لَطيفاً فتوقَّفَ على
حينِ غرّة وبعدَ أن أصبحتُ على مسافةٍ آمنةٍ داخلَ البحرِ عَدَّلتُ الاتجاهَ أفقياً مُبتعدَاً عنِ المكانِ الذي تركَ فيهِ

المُصطَافُ الحقيرُ قاربي وفرَّ هارِبَاً مع أوّلِ موجةٍ عَاليةٍ (كمَا حلّلتُ الأمر).
حينَ غدوتُ قُبالةَ المنطقةِ الرَّمليةِ من الشَّاطئِ ـ والتي أحفظها أيضاً عن ظهرِ قلب ـ كان عليَّ الرُّجوعُ بِسرعة.

هَكَذا.. رحتُ أجدِّفُ بطريقةٍ لا تسمحُ للموجِ بالولوجِ وكلَّما اقتربتُ من الشَّاطئِ ازدادَ قلقي وخوفي من اصطدامٍ
عنيفٍ لكنَّ اصطدامَ الخَشبِ بالرَّملِ خيرٌ وأحبُّ إليَّ بألفِ مرَّةٍ من الاصطدامِ بالصَّخرِ.. وهذا ما كان.

لمحتُ خيالَ يوسف في العتمةِ وهو مُسرعٌ باتّجاهِي وحينَ نزلتُ كي أدفعَ القاربَ خارجَ المياهِ كانَ قد باشرَ
الدَّفعَ من الطرفِ الآخرِ فظللنا هكذا حتى أصبحَ القاربُ في مأمنٍ على الشَّاطِئ.

ارتميتُ فوقَ الرِّمالِ المُبلَّلةِ لاهثاً لخمسِ دقائق دونَ أن تكونَ لي القدرةُ على النُّطقِ بِحرفٍ واحد.
ـ قمتَ بعملٍ رائعٍ أيّها البحّار.

قالَ يوسف مازحاً وهو يَربتُ على كتفِي بينمَا كُنَّا مُتَّجِهَينِ صوبَ الكُوخ.

هدأت وتيرةُ الرِّياحِ وبدأت غيومُ العاصفةِ المُفاجئةِ تَختفي لتحلَّ مكانَها نقاطُ ضوءٍ صغيرةٌ قادمة من بدايةِ الزمان.

في الكوخِ عاينتُ مكانَ الجرحِ الذي أحدثتهُ ضربةُ المِجدافِ ثمَّ وضعتُ فوقهُ بعضَ العرقِ لتطهيره.

أخذتُ حمَّاماً سريعَاً وارتديتُ مَلابِسَاً مناسبة لتدفِئَنِي ثمّ اتخذتُ مجلسي أمام كوخنا البَحريّ بعد أن صَنعتُ لنفسي كأساً ساخناً مِنَ المتَّةِ شربتهُ مع سيجارةٍ لذيذةٍ ومِن خلفِ جبالِ البدروسيةِ بدأَ القمرُ رِحلتهُ الأسطوريةَ
في الوقتِ الذي كانَت دوائرُ باميلا الشهية تكتملُ في الأفقِ البعيد.
**

فتاةٌ بريطانيةعلى شاطئ البدروسية

عندما كانَ إقبالُ المُصطافين على استئجار (الشاليهات) في البدروسية يضعفُ لسببٍ ما، كانَ (أبو محمد) ينطلقُ إلى رأسِ البسيط على مسافة خمسة كيلومتراتٍ كي يلتقطَ الزبائن من هناك وذات يومٍ لمحُتُه قادماً
صوبَ الشاليه بصحبةِ رجلٍ وامرأةٍ شقراوين أجهلُ تماماً كيفَ أقنعهما بمرافقته.

كانَ أيُّ أجنبيّ في البدروسيةِ مثارَ دهشةٍ للمصطافينَ ولنا نحنُ الذينَ نعملُ هناك فخرجتُ من خيمتي لأعاينَ الوضعَ وبعد أن شرحنا بإنكليزيتنا الركيكة تفاصيلَ الإيجارِ للسائحِ وكانَ اسمهُ ( تاكوين) وافقَ على الدفع ثمَّ أصبحَ مع صديقتهِ (أماندا) ضيفينِ عندنا وإكرامُ ضيفةٍ مثل أماندا يكونُ بمضاجعتها ثلاثَ مرّاتٍ في الليلةِ الواحدةِ لكن هيهاتَ أن ألفتَ انتباهها أنا الفتى الذي بالكاد تبدو لحيتهُ عن مسافةِ بضعةِ أمتار.

أيُّ حظٍّ هذا الذي أرسلها مع تاكوين..
ـ هل من الممكنِ أن يستفقدهُ الرفيقُ الأعلى ـ على سبيلِ الحظِّ ـ فتصرخُ هيَ طلباً للنجدة؟

قلتُ لنفسي ورحتُ أتخيلُ كيفَ سأهرعُ إليها لكن.. بعدَ فواتِ الأوان.

أجسُّ نبضهُ القذر فلا أشعرُ بشيءٍ وبعدَ دقيقةِ صمتٍ أخبرها أنهُ غادرَ إلى الجحيمِ ثمَّ أضمُّها إلى صدري حتى ألتصقَ بنهديها العرمرمينِ اللذينِ ما كانا بحاجةٍ لحمّالةِ صدرٍ كي يشرئبا مثلَ جرمينِ منيرينِ في سماءِ الكوكب الدريّ في الأفقِ.

طبعاً.. لم يمت ابنُ الإنكليزيةِ وبينما كانت ترضعُ لهُ ليلاً كنتُ أنا سهراناً أمامَ النارِ التي أشعلتها على الشاطئ أدخنُ وحيداً، كئيباً، ( مشغول البال وحزين).

صباحاً.. توجّهتِ الفتاة وصاحبها إلى البحرِ ليسبحا.

كانت أماندا الرائعة ترتدي ( البكيني) ولمن لا يعلمُ طبيعةَ سواحِ البدروسيةِ فجلّهم من المُحافظينِ المتدينين
الذينَ تسبحُ نساؤهم مرتدياتٍ ملابسَ الخزانة.

خمسُ دقائقٍ كانت كافية كي تجتمعَ أمّة ( الاحتشام) في المكانِ الذي تعومُ فيه أماندا.

عندما شاهدَ الخالُ مَا حدثَ انفجرَ ضاحكاً وطلبَ منِّي أن أنزلَ القاربَ الصغيرَ إلى الماءِ لأصحبها في نزهةٍ بحريِّةٍ بعيداً عن عيونِ المُفترسين الذينَ تحلّقوا حولها
نظرتُ إليهِ ببلاهةٍ وقلت:

ـ كيفَ سأدعوها للإبحارِ معي وصاحبُها بِرفقتها؟
أكّد الخالُ أنني غشيمٌ في هذه الأمورِ وأنَّ الأجانبَ لا تعنيهم هذه الشكليات.
اقتنعت.

أنزلتُ القاربَ إلى الماءِ ثمَّ بدأتُ التجديفَ صوبها وما أن دعوتها إلى الصعودِ حتى وافقت على الفور.

مددتُ يدي كي أساعدها فلمستُ بأطرافِ أصابعي أطرافَ نهدها الرجراج.
رميتُ نظرةً صوبَ المكانِ الذي يجلسُ فيه الخال وقلتُ متمتماً:

ـ روح يا شيخ.. الله يوفقك دنيا آخرة.

كانَ صدرها الطيبُ إسفنجياً لا هو بالطري ولا القاسي ونظراً لتجربتي النسائيةِ المتواضعة في تلكَ المرحلةِ توتّرت أموري على الفورِ والحمدلله كنتُ ارتدي سروالاً قصيراً فضفاضاً وإلّا لتحولتُ إلى مادةٍ للسخريةِ أمامَ
هذه السيدة الإنكليزية النبيلة.

ساعةٌ من الزمنِ مرّت وأنا مع أماندا في عرضِ البحر.

النسيمُ البحري يداعبُ شعرها الأشقرَ وهي تتأملُ الأمواجَ الرقراقة بينما كنتُ أنا سارحاً في الأزرقِ الساطعِ من عينيها أقولُ:
ـ لو أنِّي لو أنِّي بحّار
لو أحدٌ يمنحني زورق
أرسيتُ قلوعي كلَّ مساء
في مرفأ عينيك الأزرق.

طبعاً لم تفهم أماندا شيئاً ممّا قلتهُ وبالتأكيدِ لا تعرفُ من هو نزار قباني وبنسبة 99% لم يعنِ لها شيئاً ذلكَ اليوم ربما، آه يا أماندا لو تعلمينَ كم عنى لي.

استيقظتُ في اليومِ التالي وكلّي لهفةٌ لمشوارٍ بحريٍّ جديدٍ معها إلى جزيرةِ الحمام وكلي أملٌ أن أطعمها بعضَ الحمام لكنَّ أماندا وصديقها كانا قد غادرا.
قلتُ للخالِ بانفعال:
ـ ألم تحاول إقناعهما بالبقاءِ حتى لو مجاناً؟
فراحَ يسخرُ منّي متهماً إيّاي بالعشق.
وأنا، بالفعلِ كنتُ عاشقاً لأجملِ نهدين مرّا عبرَ العصورِ البحريةِ، صاحبتهما فتاة بريطانية، أبحرتُ معها صدفة قربَ شاطئ البدروسية..
***

الشهادة الإعدادية

بعد أماندا كانت الأيامُ تمضي ببطئٍ في ذلكَ الصيف، وظهيرةَ كُلِّ يومٍ تقريباً، كنتُ أستلقي في العرزالِ بين أغصان الشجرِ واضعاً ساقاً على ساقٍ أدندنُ مع عبد الحليم..
ـ الهوى هوايا..
ثمَّ أمدُّ يدي خارجَ الخيمةِ العاليةِ لأنفضَ رمادَ السيجارةِ بينما تسكبُ نسيماتُ بحرِ البدروسيةِ فوقَ جسدي نبيذَ غوايتها الساحر.

كان قد مرَّ على مجيئي خمسة وأربعين يوماً لم أزر خلالها منزلنا في اللاذقية مكتفياً بالأخبارِ التي ينقلها الخال أبو محمد بعد زياراته المتقطّعة لرؤيةِ أسرتهِ أو لإحضار ِبعضِ الأشياءِ الضروريةِ من المدينة.

في ذلك العرزال كانَ الكسلُ يتسلَّلُ إلى النفسِ بِلذَّةٍ عجيبةٍ حتى يتحوّلَ من خطيئةٍ إلى حكمة.لساعاتٍ أستلقي هناك أشربُ السجائرَ وأغني مع عبد الحليم حيناً وأحياناً مع نجاة..
ـ يا حياة عمري بقا لي عُمر ...
وحينَ يغلبني الهوا الغربي أستسلمُ للرقاد.
ذات يوم، كنتُ غافياً حينَ سمعتُ صراخَ الخال فمددتُ رأسي من بينِ أوراقِ الكينا وقلت..

ـ إن كنتَ أيقظتني من أجل العملِ فسأتركُ البدروسية وأعودُ إلى اللاذقية.
كانَ أبو محمد يصلحُ شبكة الصيدِ ودونَ أن ينظرَ إليَّ قال:
ـ والدكَ المعتوه يريدُ مُحادثتكَ عبرَ الهاتف.

كانَ الهاتفُ المقصود والوحيد في منطقتنا هو هاتفُ جارنا (أبو علي) فأنَا والخال لم نكن نملكُ هاتفاً وفي الحقيقة، لم نكن نملك شيئاً سوى أقفاصِ صيدِ السمكِ وبعضِ الشِّباكِ ومسجلة كاسيت كان يستخدمها على الأغلب نبوخذ نصر.

- ماذا يريد ؟
قلتُ وأنا أتثاءب.
- ومنذ متى أعملُ سكرتيراً عندكَ وعند الذي خلّفك؟ اذهب وكلمه.
نزلتُ السّلمَ الخشبي بتثاقلٍ وتوجهتُ إلى شاليهات جارنا الوحيد ثم طلبتُ رقمَ منزلنا وحين أجابَ والدي
سألتهُ عن سببِ إيقاظه لي فقال..
- مبروك.. 258 من أصل 290 ، لكن الأملَ كانَ أكبرَ بحصولكَ على علاماتٍ أعلى.
أغلقتُ السّماعةَ في وجهِ أبي المُتأملِ وعدتُ أدراجي إلى الخيمة فأعددتُ كأساً من المتة واشعلتُ سيجارة ثمَّ
انتابني شعورٌ رائع..شعرتُ أنني أعظمُ إنسانٍ في الكون.
أن تعيشَ مع ستةِ أشخاصٍ في غرفةٍ واحدة وتنالَ مثل تلك الدرجات في امتحانِ الشهادة الإعدادية حدثٌ عظيم..
أخبرتُ الخالَ بحصيلةِ علاماتي فقال إنه كانَ يعرفُ لكنّهُ أحبَّ أن أسمعها من أبي ثمّ أضافَ وهو يسوّي
آخر الخيوط المتشابكة من الشبكة..
- بالنسبة لفتىً يعيشُ مع أبيهِ وأمِّهِ وأربعةِ أشقاء في غرفةٍ واحدة، علامتك هذه معجزةٌ بحدِّ ذاتها..
قلت..
- عليكَ أن تخبرَ أبي بذلك، كان يطمحُ لعلاماتٍ أعلى..
- ومن يحسبكَ؟ آينشتاين؟
- ربّما ابنُ آينشتاين..
ثمَّ غرقنا في نوبةٍ من الضحك..
- بهذهِ المناسبة أنا أدعوكَ إلى وليمةٍ سَمك ..
- وأنا قبلت..
هكذا..
توجَّهنا ـ الخال أبو محمد وأنا ـ إلى البحرِ نحملُ شبكةِ الصيدِ وعدنا عصراً بأكثر من ثلاثةِ كيلو غرام من سمكِ الغريبةِ والغبص وأخطبوط متوسط الحجم..
عند المساء أوقدنا ناراً وبعدَ أن فرغنا من شيّ السمكِ والأخطبوط كبعنا ما تيسر لنا من كؤوسِ الويسكي الوطنية المغشوشة ثمّ غفونا فوقَ شاطئٍ مُذهلٍ من الرملِ والوعودِ المُنتظرة.

***

ذاتُ العينينِ الخضراوين

في أواخرِ صيفٍ أمضيتهُ هناك عام 1998 ، كانَ لونُ البحرِ شديدَ الزرقةِ وزبدُ الموجِ يحيكُ فوقَ الماءِ
قمصانَ غوايةٍ للنساءِ الحالِماتِ وكنتُ مُستلقياً في ظلّ خيمةِ النخيلِ حين سمعتُ جلبة مصحوبة بالهلعِ وحينَ
نظرتُ باتجاهها رأيتُ امرأتين وعصبة من الأولادِ الصاخبين يشيرونَ باتجاهِ البحر.

أمعنتُ النظرَ قليلاً ثمَّ قفزتُ في الماءِ وسبحتُ باتجاهِ الغريق.

الأيامُ الطوالُ التي عملتُ فيها بالقربِ من البحرِ علمتني بعضَ الأساسياتِ المتعلقة بإنقاذ الغريقِ ومن أهمِّها
إمساكهُ من شعرهِ وضربهِ إن لزمَ الأمرُ حينَ يحاولُ التشبُّثَ بكَ لأنك إن تركتهُ يفعل قد تغرق معه.
بعدَ أن تمسكهُ جيداً من شعرهِ أو تحتِ إبطهِ تبدأ طريقَ الرجوع عائماً على ظهركَ باتجاه الشاطئ وهذا ما
فعلتهُ حيث ساعدتني القوى المنهارة للغريقِ على التحكمِ بجسدهِ.

حين أصبحنا فوقَ الرمالِ قذفَ من فمهِ سائلاً أصفر ذا رائحةٍ مقززة لكنهُ ما لبثَ أن استعادَ وعيه ولم يحتج
للإسعافِ أو الذهابِ إلى المستشفى.

انهالت فوقَ رأسي دعواتُ الأمِّ التي كادت تُفجع بولدها حتى شعرتُ بالخجل مؤكداً لها أنّ أي شخصٍ آخر
كان ليفعل ما فعلتهة أما المرأة الثانية فلم تكن سوى فتاةٍ في ريعان الصبا اكتفت بالنظرِ إليَّ بعينينِ ممتنتينِ
وابتسامةٍ آسرة.

كانَ شعرها مسترسلاً حتى منتصفِ ظهرها وعيناها لشدةِ اخضرارهما كادتا تتحولان إلى جنَّتين تجري فيهما الأنهار.
ساعدتُ الفتى بالنهوضِ وإيصالهِ إلى مقرِّ إقامة أسرتهِ في الشاليهِ المُستأجرِ ورفضتُ رفضاً قاطعاً أن ألبِّي
دعوة العائلة للجلوسِ مهنئاً إيّاهم بسلامة الفتى.

كم هو رائعٌ ذاكَ الشعورُ الذي ينتابكَ حينَ تسدي الآخرين صنيعاً دونَ أن تنتظرَ مقابل.
تنشطتُ بعد مغامرتي تلك ثمَّ جففتُ نفسي وقمتُ بتسخينِ الماءِ لأحتسي كأساً من المتةِ مع سيجارة.
نزلتُ البحرَ عصراً لأخرجَ أقفاصَ صيدِ السمك وبعد أن أفرغتُ محتواها قمتُ بتلقيمها مرة أخرى وأعدتها
إلى مكانها في القاع.

زارني بعد ذلك صديقي المجنون يوسف فتسامرنا قليلاً وأخبرته أن الخال بعد أن غدوتُ خبيراً هنا زادَ من
زياراته الكثيرة إلى المدينة كي يرى زوجته.

استأذنَ يوسف بعد ذلك فقد كانَ على موعدٍ مع صاحبته وقبل أن يبتعدَ كثيراً قال:

ـ إن سمعتَ صراخاً هذه المرة لا تأتي لتنقذ أحداً يا (بطل)، الأمر مختلف هنا..

أطفأتُ مصباحَ الخيمة ونويتُ تدخينَ سيجارة ما قبل النوم لكنَّ حركشة من خلفِ الخيمةِ نبّهتني.

في البدايةِ اعتقدتها أفعى من الأفاعي التي اعتدنا عليها في هذا المكانِ البري فانتظرت كي تذهب من تلقاء
نفسها لكن الحركشة استمرت وقويَ صوتها فانتابني القلقُ وقفزتُ بلمحِ البصرِ لأعاينَ الوضع.

بين الأعشابِ المتاخمة لخيمتي البحريةِ كانت الفتاةُ ذاتِ العينين الخضراوين ِتقفُ راجفة.
لا أنكرُ أن قلبي قفزَ من مكانهِ وعرَّج إلى سدرةِ المنتهى ثم عادَ بطرفةِ عين.

ـ ما الذي تفعلينه هنا ؟

سألتها بهمسٍ مرتبكاً وأنا أقف قبالتها مستنشقاً ذاكَ العطر الذي يضوعُ من جسدها ممزوجاً بالعرقِ فلبعضِ
النساءِ عَرقٌ شذاهُ أزكى من كلّ العطورِ التي صنعتها وستصنعها باريس.

ـ لا أعرف..

أجابت بخوفٍ وارتباك أيضاً.
ـ كم عمرك؟

ـ بعدَ أسبوعٍ أتمُّ الرابعة عشرة.

وقعَ الرقمُ على مسمعي كالصاعقة.
ـ كانت مزيجاً مرعباً ورائعاً من الطفولة والأنوثةِ والجمال.

ـ هل أطردها من هنا بحزمٍ أم ألبّي دعوتها الجارفة وشبقها الساطع ؟

كانَ الملاكُ المتربعُ فوقَ كتفي الأيمن يأمرني بطردها أمّا الملاكُ المتربعُ على كتفي الأيسر فراحَ يقنعني أنَّهُ
ما من ضيرٍ في مضاجعتها مع الأخذِ بعينِ الاعتبارِ مسألة عذريتها وكان من بين ما قاله:

ـ هي من أتت أليكَ بملئ إرادتها..

كانَ الملاكُ الأيسر مُسلحاً بشوكةٍ ذاتِ رؤوسٍ حادة ومُقنِعة استقرت في قلبِ الملاكِ الأول وانتهى النقاش.
أمسكتُ الفتاة بيدها وأدخلتها الخيمة.

كانت خيمتي مزودة بفراشٍ غير وثيرٍ ودمجانةٍ من عرقِ التين أشربُ منها بين الحين والحين وفي الزاوية
طاولة خشبية مهترئة فوقها أضعُ الكؤوس والمسجل العتيق.

أشعلتُ سيجارةً وأنا أجلسُ إلى جوار هذه ِالمعجزةِ غير مصدقٍ أنها قربي وأنها أتت بملئ إرادتها.
لم يكن إنقاذي لأخيها من الغرق خارقاً للعادة لكن المراهقات ميّالات للمبالغةِ ويبحثنَ دائماً عن بطلٍ حتى لو
كانَ في الأحلام.

كان عنقها في تلكَ الأثناء يبدو كصفحةِ نورٍ تتلألأ فوقها أخيلةٌ من زمنٍ بعيد فاقتربتُ منه رويداً رويداً وقبل
أن تلامسهُ شفتاي نفختُ دخان السيجارة كما لو كنتُ أهمسهُ حتى ولجَ في قلبِ القميصِ الأبيضِ الذي كانت
ترتديه واستقرَّ قاب قوسين أو أدنى من نهديها العبقريين.

بعدها، وبطريقةٍ لا يمكنُ وصفها، نظرت الفتاة إليَّ بعينينِ مُتوسِّلتين.
أنا لستُ كازانوفا لكنني خبيرٌ نوعاً ما بتلك النظراتِ وأعرف ما الذي تريدهُ المرأة عندما تصلُ إليها لذا سحقتُ
عقبَ السيجارةِ وبرويةٍ ساعدتها في خلعِ ثيابها الحلوة.

قالت الفتاة وهي تهمُّ بالرحيل:

ـ هذا أجملُ يومٍ في حياتي ثمَّ طبعت على شفتي قبلة.
حينَ استيقظتُ صباحاً تعمّدتُ المشي أمامَ مقرِّهم لكنه كان خاوياً.
غادرت أسرةُ الفتاةِ مرةً واحدة وإلى الأبد.
لعلَّ حادثَ الغرقِ ساهمَ في اتخاذها القرار بسرعة وقد كان لون البحر في ذلك النهارِ رمادياً باهتاً أما غيوم الخريفِ فبدأت تزحفُ كأفعى فوقَ رمالِ السماء الداكنة.

كما أخبرتكم من قبل..

ثمّةَ قصصٌ تحدثُ في حياةِ الرجلِ مرّةً واحدة، وعلى خلافِ العشراتِ من القصصِ التي ينساها أو يتناسها،
يستحيلُ عليهِ نسيانُ تلك.

***

استشهدَ الخالُ بدر (أبو محمد) في الحربِ السوريّة صيف العام 2018 بعدَ أن تطوعَ للخدمةِ في الجيش العربي السوري طوالَ سبعِ سنين.

من كتابي (أيّامٌ في البدروسية)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حفل تا?بين ا?شرف عبد الغفور في المركز القومي بالمسرح


.. في ذكرى رحيله الـ 20 ..الفنان محمود مرسي أحد العلامات البار




.. اعرف وصايا الفنانة بدرية طلبة لابنتها في ليلة زفافها


.. اجتماع «الصحافيين والتمثيليين» يوضح ضوابط تصوير الجنازات الع




.. الفيلم الوثائقي -طابا- - رحلة مصر لاستعادة الأرض