الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جينات الصدفة!

حسان الجودي
(Hassan Al Joudi)

2021 / 2 / 15
الادب والفن


هذه الوريقة الخضراء تمت بصلة قرابة بعيدة لي ، وهذا مصدر سعادة، فهي جميلة نضرة أتشارك وإياها 50% من الجينات. وفِي الحقيقة فهذا مدعاة للفخر لي أيضاً، أن تكون تلك الورقة الخضراء جدّتي من جيل الألف السابع ، فهي من أكفأ مصانع الطاقة في العالم. سطحها الأخضر هو غطاء ذلك المصنع الذي يسمح بامتصاص الأشعة الشمسية التي تترصدها الخلايا المختصة وتحوّلها بعد عمليات متقنة إلى غذاء يجري في عروق النبتة وينتقل منها إلى باقي الأقسام. ثم يأتي أرنب جائع فيأكلها! ويأكل صديقي المصري الأرنب بالملوخية، أو تطبخ زوجتي الورقة محشوة بالرز. فأحصل مع صديقي على مصنع الطاقة الصغير الذي يشغّل مصنع الطاقة الكبير الذي أستخدم الآن قسماً من طاقته ، لأكتب عن صُدفة الولادة.
قطفتُ هذه الورقة قبل قليل من نبتة كبيرة جاورت دالية عنب في أصيص على شرفتي. أتساءل وزوجتي عن هذه النبتة، ما اسمها، وكيف نبتت في الأصيص. لا نتذكر شيئاً عنها، نتذكر أننا فقط منذ شهور نثرنا بعض البذور المتنوعة في كل مكان. ألاحظ وجود نبتة مشابهة لها في أصيص مجاور. نبتة خضراء مزهوة واثقة. وأفكر ، كيف أن الصدفة وحدها جعلت احدى النبتتين تنمو في أصيص الدالية ، والثانية تنمو في أصيص منفرد. الصُدفة وحدها بلا شك، ستجعل من النبتة الأولى هزيلة بعد أن تستولي الدالية القوية على كل مخصصاتها، بينما ستسمح للنبتة الثانية بالعيش والازدهار. أعتقد أننا مثل هذا النبات مدينون في حياتنا لصُدفة الولادة. الطفل الذي يولد في الأحياء الفقيرة لاسلام آباد ، سيكبر ليعمل عامل تنظيفات على الأرجح. بينما الطفل المولود في البترون اللبنانية لوالد يعمل بالصياغة، سيكبر ليصبح تاجر سيارات، أو يدرس الطب في احدى الجامعات الأوربية. والطفل المولود لطبقة سورية متوسطة، سيدرس الجامعة ليعمل بعدها موظفاً أو ربما مهندساً وتوتي توتي خلصت الحدوتة.
تشكّل صُدفة الولادة مدخلاً هاماً لسؤال وجودي كبير، يتعلق بالبحث عن المعنى في الحياة. والذي هو بالصُدفة (الدين ) لمليارات من البشر. أما الأشخاص الذين خرجوا عن طوق الصدفة هذا ، وأرادوا البحث عن المعنى. فمنهم من يهجر بيئته بكل ميراثها ، ومنهم من يتوسل بالموسيقى أو الفن أو الأدب أو الفلسفة. منهم من يذهب إلى المخدرات، ومنهم من يذهب إلى الملذات الحسية. ومنهم إلى العلم الدنيوي الجليل.
يدافع كامو في (سيزيف) عن عمل سيزيف اللا مجدي في رفع الصخرة إلى القمة . تتدحرج الصخرة إلى الأسفل فيقوم سيزيف بتنفيذ عقاب الآلهة ويرفعها من جديد في عمل أبدي دون فائدة. يرى كامو أن أن سيزيف هو البطل الحقيقي لمجرد أنه في ذلك العقاب الأبدي الذي حُكم عليه، تبدّى أقوى كثيراً من تلك الصخرة، وبالتالي أقوى كثيراً من مصيره. فـ «لئن كانت أسطورة سيزيف مأساوية هي كذلك لأن بطلها واع تماماً مصيره». فذلك الوعي هو ما يجعل منه إنساناً وقدرته على التحمل تجعل منه بطلاً. لكن عامل التنظيفات الباكستاني الذي يقوم بعمل سيزيف طوال عمره هل هو سعيد بذلك؟ وهل هو واع للصُدفة المسماة قدراً والتي جعلت منه مسلماً وعامل تنظيف إلى الأبد؟ تقول قريبتي الوريقة الخضراء أنها شخصياً وجدت المعنى في عمل مجدٍ وهو إنتاج الطاقة واللون الأخضر وقرون الفليفلة. قريبتي الأخرى قرب الدالية تبدو في مزاج سيّء، وتصرخ بغضب من أن معناها في الحياة هو القضاء على الدالية.
لا أهتم بهذه النبتة الغاضبة، أنصرف إلى النبتة الطيبة التي تواصل صنع الطاقة والثمار، وأقطف بعض وريقاتها وأصنع منها قناعي الشمسي الدائم . فأنا في دورة الكربون، في صُدفة الكربون، ونهايتي التحلل مثل هذه الوريقة الخضراء وعودتي بعدهاً كربوناً جديداً بمعنى واحد هو صناعة ثمار الجمال








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان أحمد عبدالعزيز يجبر بخاطر شاب ذوى الهمم صاحب واقعة ال


.. غيرته الفكرية عرضته لعقوبات صارمة




.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة