الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بانتظار الفجر

ضيا اسكندر

2021 / 2 / 17
كتابات ساخرة


كل مرة لدى شرائي سلعة ما من جارنا الدكّنجي الثمانينيّ بائع الحبوب، تسيل في داخلي غريزة الفضول لمعرفة أحواله الشخصية وأتساءل في سرّي: «كيف يقوى هذا العجوز على تحمّل العمل وهو بهذا العمر؟! ومن أين له هذ الهمّة؟! ما سرّ دوامه الطويل من التاسعة صباحاً وحتى العاشرة ليلاً؟! كيف يقضي أوقاته خارج دوامه؟ وهل صحيح ما يتناقله بعض الجيران من أنه مُعارض سياسي عتيق؟» فأهمُّ بطرح أسئلتي التي تشتعل بداخلي، لكنني أجده دائماً منهمكاً ببيع زبائنه الكُثر الذين يتوافدون إلى محلّه لرخص مبيعاته. إلى أن وجدته أحد الأيام بمفرده. فاهتبلتُ الفرصة بعد أن اشتريت حاجتي وتجاسرتُ على سؤاله:
- عذراً يا جار! دائماً تخامرني مجموعة أسئلة عن دوامك الطويل في المحل.
صوّب إليَّ ابتسامة خفيفة وقد ارتسم الترحيب في وجهه. وجلس بهدوء على الكرسيّ قبالتي. وخلع طاقيّته الرمادية ومسح صلعته براحته. ثم أسند مرفقيه إلى سطح طاولة الميزان، وقال يستحثّني على الكلام بصوتٍ متهدّجٍ:
- أهلاً وسهلاً، تفضّل!
- مثلاً كيف تصبر على الدوام (13) ساعة متواصلة دون حتى استراحة؟
رمقني بنظرة متردّدة وقد دبَّ في عينيه الاهتمام، وبوجهٍ ممصوص الوجنتين تكالبت عليه أنياب الشيخوخة، حتى أن عظام وجهه كانت بارزة بوضوح. أجاب:
- والله يا جار تعوّدت..
سألته بنبرة محقق:
- طيب أليس لديك عائلة، زوجة، أولاد.. متى تراهم يا رجل!؟
أجابني وقد افتعل ابتسامة على وجهه الذي غزت بشرته التجاعيد كالزبيب:
- يوم الجمعة كما تعلم، أختصر دوامي في المحلّ إلى النصف. أعود إلى البيت الساعة الرابعة بعد الظهر. نتناول الغداء معاً، ونتحدّث قليلاً، ثم أنكبّ على النوم للتعويض..
- ألا يخطر عل بالك الجانب الترفيهي في حياتك مثلاً، أو على الأقلّ زيارة أقارب، معارف، أصدقاء.. فالإنسان بالفطرة كائن اجتماعي!؟
أطرق قليلاً ونزّل نظارتيه عن عينيه حتى كادتا تقعان عن أنفه. وهزَّ رأسه مستحسناً سؤالي، وقال بعد أن ارتسمت على وجهه بسمة جريحة مظلّلةً بكآبة صامتة:
- صحيح كلامك؛ ولكن أين هو ذلك المواطن السوري الذي يترفّه هذه الأيام، ويقوم بواجباته الاجتماعية من زيارات واستقبال.. وما إلى ذلك؟ باستثناء أولئك الذين نهبوا البلاد والعباد من خنازير الفساد وأربابهم وحُماتهم.. إن غالبية الشعب السوري يئنُّ تحت وطأة الغلاء الفاحش والانتظار في طوابير هدر الكرامة، ويفتقر إلى الحد الأدنى من مقوّمات العيش اللائق.. لا حول ولا قوة إلا بالله.. (زفر بحرقة وثبّتَ نظّارته ليداري انفعاله. وبصوتٍ خافتٍ أضاف وهو يتجرّع المرارة) يرضى عليك لا تجرجرني يا جار، وتجعلني أبوح بما يعذّبني فأُتَّهم بجريمة «وهن نفسية الأمة..». (وأردفَ ممازحاً بدعابة) لستُ راغباً في أن تصبح نمرة رجلي أكبر.
قلت له وقد لفحني خاطر الأقبية الرهيبة:
- وكأنك مررت سابقاً بتجربة اعتقال سياسي؟
لمع في عينيه وميض الفخر الحافل بالتحدّي، وأومأ بهزّة بطيئة من رأسه موافقاً بكبرياء وعلى وجهه بقايا ابتسامة حزينة. وثبّتَ نظره بي وهو يلوّح بكفّين خشنتين كأنهما قُدّتا من لحاء شجرةٍ قديمة وقال:
- لا تسل عن جواب أنت خير من يعرفه. وهل يوجد في هذا البلد إنسان شريف حاول مناطحة الاستبداد والتصحّر السياسي الممزوج بالرعب، إلّا وتمّت "استضافته"؟ أو على الأقلّ تعرّض للمضايقات الفظيعة؟ لقد تسرّب عمري في مواجهة ما أعتقد أنه يستحق المواجهة. ودنَوتُ من خطّ نهاية رحلتي في هذه الحياة وما زلت أنتظر طلوع الفجر. لكنني سأكتفي بالقول: سنبقى نتضوّر شوقاً للحرية. ونحلم رغماً عن أنوفهم، بوطنٍ يزدهر بالديمقراطية والعدالة والكرامة الإنسانية. ولكن ما يحزُّ في نفسي ويؤلمني يا جار، أنني لن أعاصره للأسف.
قلت له وأنا أمتلئ إعجاباً به:
- على الرغم من كل ما يعانيه شعبنا في هذه المرحلة العصيبة من فقرٍ وقهرٍ وإذلال.. أراك متفائلاً!
صمت هُنيهة مفكراً وأجاب بثقة:
- يقول المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي: «القديم ينهار، والجديد لم يولد بعد. وفي غضون ذلك تكثر الوحوش الضارية». نعم يا عزيزي! إن الظلام الدامس يشتدّ قتامةً قُبَيل الفجر. لذلك أقول لك، ثقْ تماماً أننا اقتربنا كثيراً من سورية الجديدة.
رفعتُ نحوه عينين تفيضان بالأمل. نظر كل منا في عينيّ الآخر، دون أن ننطق بكلمة واحدة. طال الصمت، وفيه قيل كل شيء بلا كلام.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال


.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81




.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما