الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مباحث في الاستخبارات (254) المعلومات الاستدراجية

بشير الوندي

2021 / 2 / 18
الارهاب, الحرب والسلام


مباحث في الاستخبارات (254)
المعلومات الاستدراجية
------------
مدخل
------------
الاستدراج هو ان تضع عدوك او من تريد السيطرة عليه في المكان الذي تريده له سواء بالقول أو بالفعل لكي تتمكن منه , فبالقول من قبيل أن توقعه في فخ الاسترسال , دون ان يشعر , فيما لايريد البوح به , وفي الفعل من قبيل ان توقع قوات العدو في فخ مميت من خلال طُعم محكم , كالجبنة في مصيدة الفأر , ففي الحالتين انت تسعى لأن تعطي لعدوك معطيات تجعله يتصرف وفق ماتشاء وحيثما تشاء .
---------------------------
دسّ السم في العسل
---------------------------
ذكرنا في مبحث سابق (المبحث 67 المعلومات الموجهة ) اربعة انواع من منتجات المعلومات الاستخبارية الذكية التي تقذف بها الى مسامع العدو , وهي :
1- معلومات ايهامية : وهي على نوعين , اما تكون ايهامية كاذبة تماماً تنتجها وتسوقها بطرق تجعلها تبدو ككنز من المعلومات , او ان تكون ايهامية صادقة لكنها تتيح في حبكتها ان يستنتج منها العدو استنتاجات تلههيه عن الحقيقة .
فالكاذبة منها تحتاج الى حنكة وبراعة متناهيتين لتجعل العدو يعتقد انه هو من اكتشف تلك المعلومات بجهوده عن طريق رصده وجواسيسه وانصاته , بحكم ان استخبارات العدو ليست بالسذاجة التي تصدق كل مايلقى في طريقها من معلومات سهلة المنال , فبراعة الطريقة هنا هي الفيصل في النجاح بخداع العدو.
ومثالها ان تجعل عدوك يظن انه تمكن بجهوده من سرقة وثائق من خزانة قائد عسكري رفيع , وحينها ستكون لتلك الوثائق مصداقية عالية لديها , ولك ان تعرف ان من ابتكارات الاجهزة الاستخبارية ان تترك عامدة وثائق مزيفة في مواضع قادة عسكريين قبيل انسحاب القطعات كي يلتقطها العدو ويبني تصوراته وفقها .
اما عن المعلومات الايهامية الصادقة , فهي ان تنشر الاستخبارات معلومات ذات مصداقية في نفسها ويسهل على العدو التأكد منها بالفعل , الا انها تحمل في طياتها امكانية كبيرة لحرف تفكير العدو عما تخطط له على الارض , من قبيل مانشرته صحيفة الاهرام المصرية في خبر صغير بصفحاتها الداخلية عشية تحضيراتها للهجوم في حرب رمضان 1973 من ان قرعة الحج والعمرة للضباط العسكريين قد تمت المصادقة عليها , وبالفعل توجه العديد منهم (للتمويه) للتسجيل لغرض عمرة رمضان والحج , فمن الطبيعي ان تستنتج الاستخبارات الاسرائيلية ان هذا دليل على ارتخاء القوات المصرية وان موعد الحرب ليس في رمضان .
وخلاصة الامر ان الغرض من المعلومات التمويهية بشقيها انها تستخدم لإشغال العدو عن رؤية الحقيقة او إكتشاف ما تخطط له ضده .
2- معلومات مسيطر عليها (مقننة) : وهي خليط بين الصحيح والمزيف يتم تزويد العميل المزدوج بها كي يكسب ثقة العدو , فحين يجند العدو شخصاً ما كجاسوس بعلم مسبق من استخبارات بلده , يسعى العدو الى اختبار المعلومات التي يجلبها ويسعى للتدقيق من صحتها , لذا تعمد الاستخبارات الى تزويده بمعلومات صحيحة نسبيا كي يكسب ثقة العدو , كأن يبلغ الجاسوس المفترض العدو عن اماكن قواعد صواريخ متطورة مضادة للطائرات ويستطلع العدو ليجدها صحيحة ويقصفها , ولكن العدو لايعلم انها هياكل لقواعد صواريخ لااكثر , ولحبك الموضوع يعترف الاعلام العسكري بأنّ العدو قد دمر قواعد للصواريخ.
3- معلومات اختبارية : وهي معلومات تبثها الاستخبارات على نطاق ضيق ومحاط بالسرية على عدد محدد من كادرها لغرض اكتشاف خيانة شخص ما , فحين تشك الاجهزة الاستخبارية بأنَّ هنالك تسريب ما لمعلومات سرية , تعمد الى ان تنتج معلومة لعدد محدود للاطلاع عليها وتعطيها صفة عالية من السرية , ثم ترصد من خلال جواسيسها هل ان تلك المعلومة قد وصلت للعدو , حينها سيسهل عليها تحديد الخائن .
4- معلومات استدراجية : وهي معلومات كاذبة , بشكل مرتب , تبثها الاجهزة الاستخبارية في الاعلام لإستدراج واستفزاز العدو كي يرد , من قبيل ان تفقد اثر قائد ارهابي مختف عن الانظار , فتبث خبر مقتله بقصة مختلقة عبر الاعلام لتربك اتباعه , فيضطر لأن يظهر في لقاء متلفز او اي تحرك ليقول لأنصاره انه حي, وهو امر كثيراً مااستخدمته الCIA مع بن لادن وغيره من القادة .
وهنا يتبين لنا الفرق بين الخداع والتضليل وبين الاستدراج, فالاستدراج هو للتحايل والايقاع , اما الخداع والتضليل فالهدف منه حرف فهم العدو عما نفكر به.
---------------------------------------
استدراج يطال حتى الشعوب !!
---------------------------------------
ان المعلومات الاستدراجية او الاستدراج بشكل عام هو طريقة تجعل عدوك يقوم بما تريده منه , وهو قمة الذكاء الاستخباري , وقد يكون الاستدراج لجيوش او لجهاز استخباري او لشخصيات , بل وحتى للشعوب والانظمة.
فقد تستدرج العدو في الجبهة لتوقعه في فخ أو ان تستدرجه ليهجم او لينسحب او لصلح أو لحرب او غير ذلك , ولكي تنجح لابد من ان يظن العدو ان حركته القادمة هي نتيجة تفكيره وتخطيطه بينما هي في حقيقتها مسرحية تضعه في المكان الذي يحطمه , ولعل خداع السفيرة الامريكية كلاسبي هي من استدرجت صدام ليطمئن في عملية غزو الكويت حين اوحت له ان تعليمات وزارتها تقضي بعدم التدخل في العلاقات الكويتية العراقية .
وهناك الكثير من قصص الحرب العالمية الاولى والثانية عن عمليات استدراج جراء معلومات استدراجيه ادت الى تدمير جيوش وقلب موازين معارك , فخلال الحرب العالمية الأولى ، وكجزء من مسعى بريطاني حثيث يهدف إلى مواجهة تهديد غواصات الـU-Boat الألمانية ، استعانت البحرية الملكية البريطانية بسفن مموهة بشكل خاص عرفت باسم الـQ-ships، التي كانت سفناً تجارية محملة بأسلحة ثقيلة جدا كانت مخفية على سطحها , وكان المراد منها استعمالها كطعم لاستدراج غواصات العدو حتى تقترب منها بالشكل الكافي، ثم كانت هذه السفن التي تبدو تجارية ومدنية تكشف عن مدافعها وتغرق الغواصات الألمانية بمجرد ما تطفو هذه الأخيرة على السطح لتنفيذ هجومها.
واحيانا يتم استدراج تنظيم ارهابي من منطقه الى اخرى , كما فعلت قوات الاحتلال الامريكي التي نقلت بطريقة الاستدراج وتهية الارض جماعة القاعدة من جبال افغانستان الى غرب العراق , من خلال الضغط عليهم ليتركوا جبال تيرا بورا وينتقلوا الى سهول العراق.
وقد تستدرج شعوب ليتم الايقاع بها استخبارياً فتنفذ مخططات خبيثة تؤدي ببلادها الى الهاوية , وهذا النوع الأخير بات ممكناَ للغاية من خلال تطور وسائل التكنلوجيا والتواصل الاجتماعي والإعلام , ولعل عام 2019 _ 2020 في العراق كان مثالاَ حياَ لما جرى من مخططات وتأثيرات استدرج فيها الكثير من الشباب العراقي الى فخاخ تؤدي الى تدمير مجتمعاتهم " وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا" كما يقول القرآن الكريم .
--------------------------
فن استدراج الافراد
--------------------------
قد تستدرج شخصاَ في مقابلة تلفزيونية او في غرفة التحقيق او في لقاء ودّي , بحيث تؤدي اسئلتك او ايحاءآتك الى ان يخرج المخبوء مما لايريد اظهاره " والمرء مخبوءٌ تحت زلات لسانه " كما قال الامام علي عليه السلام .
وحتى التجنيد بالإلهام الذي تناولناه في مبحث سابق , وفصلناه في كتاب مستقل لتحليل ظاهرة الذئاب المنفردة , هو في جوهره مبني على معلومات ومعطيات استدراجية تؤدي الى زرع نزعة تكفيرية متشددة وتصنع من انسان وديع لتحيله الى قنبلة موقوتة يفجر نفسه وسط الابرياء او يركب شاحنة ويدهس بها جمع من الناس (انظر كتابنا الذئاب المنفردة ..المجندون بالإلهام )
ان من علو فن الاستدراج ان يتم بطريقة لا توحي للمُستدرج بأي شعور نحو حقيقة الأمر , فمن عوامل نجاح فن الاستدراج لاسيما الفردي للأشخاص , هو جهل المُستدرَج لأي حقيقة تدل أنه يقدم معلومات , وان يكون المدخل للحديث مناسب غير ملفت وأن تجعل المُستدرَج يقود الحديث شريطة ان تدرس طبيعة شخصيته جيداً , والاهم من كل ذلك جعل الحديث يتجه نحو ما يريد المُستدرِج بطرق ملتوية ويكون بشكل طبيعي في السياق وليس بشكل مفاجئ , والتصرف بلباقة وتواضع مع المُستدرَج وعدم مقاطعة حديثه وعدم الإلحاح عليه مع دغدغة مشاعر المُستدرج بحسب صفاته كحب المديح او التفاخر , او بالعكس كأن تستفز مشاعره لإظهاره بأنه ليس بواسع الاطلاع كي تحفزه ليثبت العكس .
كما ان من حيل الاستدراج ان توحي له بأنك تملك معلومات أكثر منه ليتكلم هو دون حساب ويحاول إقناعك أنه أخبر منك , أو إظهار عدم التصديق لبعض المعلومات التي يتكلم عنها لدفعه للحديث بشكل أوسع ليثبت صدقه.
-----------------
اكلة سمك !!!
-----------------
من قصص الاستدراج الفردية اللامعة ماحصل في العراق عام 2001, حيث اعتقلت السلطات اثنين من المعارضين ممن يحملون كنزاً من المعلومات , لدرجة ان الدولة اكتفت باظهارهما على شاشات التلفزة , ثم اعلنت سريعاً عن خبر اعدامهما , ونشرت كافة الصحف صورتيهما واعترافاتهما الصورية .
استنفر خبر اعتقالهما التنظيم المعارض فبث عيونه وجواسيسه وبكافة الطرق للتأكد من مصيرهما دون جدوى , وكانت المعلومات التي ترد لهم تؤكد ان احتمال بقائهما رهن الاعتقال هو الامر المنطقي اكثر لما عرفوه من صلابتهما امام وسائل التحقيق , ومن ثم فمن المرجح ان يكون اعتقالهما عالي السرية ومحصور بمكتب رئيس الدولة وجهازه الامني الخاص , فكان لابد من الوصول الى عبد حمود كي يعرفوا الحقيقة , وقد بدت الفكرة كقصة الفئران التي اقترحت ان تضع جرساً في رقبة القط كي ترصد حركاته , فالفكرة جيدة ولكن من يستطيع ان يصل الى رقبة القط أصلاً عدا عن ان يضع قلادة الجرس في عنقه !!!؟.
حينها لمعت فكرة جهنمية تبدو يائسة لكنها ذكية , وتم الامر بالاتصال بأحد التجار المتعاونين سراً مع المعارضة وممن له علاقات تجارية مع رؤوس النظام , وطلبوا منه ان يدعو عبد حمود الى وليمة سمك في مطعم على ابي نؤاس , وان كل المطلوب منه ان توضع عدد من الصحف التي فيها صورة الشخصين تحت السمك , حيث كان الدارج وقتها ان تغطى صواني السمك بالجرائد , وتم تدبير الامر وفق الخطة , وكانت اللحظة الحاسمة حين ابصر عبد حمود بالصورتين وقال بفخر وبإبتسامة العارف ببواطن الامور : تحفّظنا عليهما في مكان سري للغاية ولم نعدمهما الى الآن !!!!! , والواقع انها برغم احتمالية نجاحها المقاربة للصفر الا انها كانت نموذجاً ملفتاً ورائعاً وصعباً للغاية في الاستدراج الفردي.
------------------------------
اللعب على حبال التوتر
------------------------------
ان الاستدراج والمعلومات الاستدراجية كانت من اكبر الاسباب التي خلقت الحروب والنزاعات وتمزيق المجتمعات في العالم , من خلال معلومات موجهة الى طرفي صراع لايجاد فتنة وحرب بينهم , ولايغيب عن بالنا ان بعض الشركات العالمية لصناعة الاسلحة وللبحث عن اسواق جديده ٫تدفع بسخاء الى استخبارات دولية لإنتاج وتاجيج صراع عسكري في المناطق الساخنة وذات المشاكل الاجتماعية والجغرافية والدينية والقومية , فتقوم الاستخبارات بتوزيع معلومات استدراجية ضمن خطه محكمة لجر الطرفين الى صىراع , ولعل اغلب الصراعات في الشرق الاوسط وافريقيا هي صراعات بمعلومات استدراجية مدفوعة الثمن.
ولعل اكبر استدراج قامت به بريطانيا خلال فترة احتلالها للعراق تمثل في اشعال الخلاف المذهبي بقوة في العراق , واستدراج العراق الى صراعات داخليه مذهبية منذ مطلع القرن العشرين لازلنا نعاني من آثاره , لاسيما حين اكمل الاحتلال الامريكي مافعله الانكليز ليعمق هذا الصراع بشكل اوسع واكبر و يستثمر ما تم التمهيد له منذ قرن , وسنتناول الموضوع في كتاب سيصدر قريباً بإذن الله .
------------
خلاصة
------------
ان انتاج معلومات الاستدراج تحتاج الى ذكاء وتخطيط ومعرفة كبيرة بوضع العدو وحالاته النفسية وازماته ومشاكلة ومخاوفه ونقاط الضعف واسباب الضعف , لكي يتم بناء اطار متكامل يسهل من استدراج العدو الى الفخ , والواقع ان الاعيب الاستدراج للشعوب والافراد تتطلب وسائل فعالة لمقاومتها .
ولعل مقاومة الاستدراج الفردي تبدو ممكنة من خلال العديد من الطرق الفعالة من قبيل ان تحتفظ بما لديك من معلومات دون أن يشعر أحد أنك بالأصل تملكها , والتنبه لكل كلمة تقولها أمام الأصدقاء والأقرباء , وان تكون لديك قرون استشعار لكل حديث يُفتح معك من أي شخص , والحذر من أن يثيرك أحد ليستفزك كي تثبت له انك اعلم ببواطن الامور , الا ان الاصعب والاخطر هو المعلومات الاستدراجية التي تبث وتستهدف الجماعات والشعوب لاسيما تلك التي تمتاز بالتنوع العرقي والديني , فالاستدراج هنا وارد وجر المجتمعات للاقتتال وارد , وايقاف هذا النوع يحتاج الى وعي مجتمعي عالي والى عدالة اجتماعية وتكافؤ فرص والى اقتلاع جذور الفساد , وبغير ذلك سيجد العدو الف ذريعة وذريعة لإستدراج شعوبنا الى فخاخ لاتبقي ولاتذر , والله الموفق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شولتز: المساعدات الأميركية لا تعفي الدول الأوروبية من الاستم


.. رغم التهديدات.. حراك طلابي متصاعد في جامعات أمريكية رفضا للح




.. لدفاعه عن إسرائيل.. ناشطة مؤيدة لفلسطين توبّخ عمدة نيويورك ع


.. فايز الدويري: كتيبة بيت حانون مازالت قادرة على القتال شمال ق




.. التصعيد الإقليمي.. شبح حرب يوليو 2006 | #التاسعة