الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لعنة الخلود

محمد عبد الكريم يوسف
مدرب ومترجم وباحث

(Mohammad Abdul-karem Yousef)

2021 / 2 / 18
الصحة والسلامة الجسدية والنفسية


هل يتمكن الإنسان من العيش للأبد في يوم من الأيام ؟
أو يبتكر إكسير الحياة الدائم ؟
الملاحظ أن الإنسان يتمسك بالحياة قدر استطاعته ولا يريد أن يموت.
لا أحد منا يريد أن يموت . ونريد أن نعيش في سن الشيخوخة ، محاطين بالأشخاص الذين نحبهم ، وأن نكون قادرين على السفر حول العالم في أوقات فراغنا. ومع ذلك ، مهما حاولنا جاهدين ، فإن الحقيقة المرعبة ستصدمنا يومًا ما. حقيقة أن وقتنا الذي خصصته لنا الحياة قد انتهى.
إن فترة مائة عام من الحياة على الأرض هي فترة قصيرة مؤلمة للعيش فيها . وبالتأكيد سنفتقد الكثير من العجائب في عصر يتغير بخطى أسرع من أي وقت مضى مثل عصر النهضة والثورة الصناعية وعصر الفضاء - هذه مجرد بداية ، للفصل الأكثر إثارة في تاريخ البشرية.
في القرن القادم ، سوف تتقدم تقنيتنا الموجودة حاليا بحيث يصبح من الممكن وجود روبوت واحد لديه القدرة على القيام بجميع وظائفنا أفضل منا. وتتنبأ بعض التقديرات الأكثر تفاؤلاً بتحقيق ذلك بحلول عام 2050 . وبغض النظر عن ذلك ، سيأتي الوقت الذي يمكننا فيه إجراء محادثة عادية وحوار منطقي مع روبوت لكن هذا ليس كل شيء.
هناك سبب يجعل العصر الذي نعيش فيه يسمى عصر الفضاء. لقد استغرق بناء أول طائرة 200 ألف عام ، لكننا استغرقنا 66 عامًا فقط للوصول إلى القمر . ماذا سيحدث بعد قرن من اليوم ؟ ربما بدأنا بعثاتنا الأولى لاستعمار كواكب أخرى بحلول ذلك الوقت.
إن استمرار تيار التقدم العلمي غير المسبوق ودخول الأطفال في التصميم والإبداع واستخدام أسلحة ليزر الخيال العلمي في الحياة الواقعية واللقاحات للأمراض المستعصية حاليًا على بعد خطوات. ألن يكون عظيماً أن نشهد كل هذا التقدم العلمي، ونهرب من حتمية الموت؟
لنفترض أن لديك خيارًا للحصول على الشباب الأبدي ، دون الحاجة إلى القلق بشأن تعفن الجسد بمرور الوقت . وفي حال اتخاذ هذا الخيار ، فإنك تعيش على مدى قرون وآلاف السنين ، غير متأثر بالشيخوخة والمرض. ولجعل الأمور أكثر وضوحًا، لنفترض أن المشكلات المالية قد انتهت أيضًا. فهل تقبل الخلود؟
كيف سيكون شكل العيش إلى الأبد؟
تمتلئ السنوات القليلة الأولى بالمتعة حيث يمكنك أخيرًا استكشاف العالم. ثم تتلاشى قيود الحياة بطريقة سحرية ، ولم تعد الصحة مشكلة. قد يكون هناك نوع من العجرفة بداخلك ، مع العلم أنك وحدك سوف تشهد أكبر حدث في تاريخ البشرية. لن يتمكن أي شخص آخر من مشاهدة مثل هذا الشيء بالكامل.
في البداية ، قد تتمكن من تجربة الأطعمة الغريبة ، وزيارة الجزر النادرة والعطلات الممتعة والحصول على نصيب كبير من المتعة الجنسية. لنفترض أنه مع الحياة الأبدية يأتي الشباب الأبدي أيضًا ، وأنت تزور مواقع التراث العالمي والمتنزهات الوطنية والحانات والمقاهي والمتاحف دون الشعور بالإرهاق على أقل تقدير . يبدو أن المرء يمكن أن يعيش الحياة المثالية.
إن حياة السفر ممتعة ، ولكن هناك الكثير لتراه . قد يستغرق الأمر عقودًا من الزمن ، ولكن سيأتي اليوم الذي تزور فيه كل بلد ، وتختبر كل إحساس فريد يمكنك أن تحلم به. وقد يصبح السفر مملًا. وقد تقرر الاستقرار في حي هادئ ولكن جميل.
ثم تطير السنوات وتتحطم أحلام الحياة الهادئة مع وفاة الأصدقاء والعائلة واحدًا تلو الآخر. لا شيء يضاهي رعب اليوم الذي يتركك فيه آخر صديق لك . ثم تفقد الأبناء والأحفاد الواحد تلو الآخر، وكذلك أحفادهم وأحفاد أحفادهم و أنت تجلس إلى جانبهم حزينًا كسير الخاطر على هذه الخسائر وعاجز عن التدخل.
أهوال الحياة الأبدية
في يوم من الأيام ، ستصبح الحقيقة واضحة - وهي أنك تعيش أكثر من كل شخص تعرفه و العلاقات التي اعتدت أن تكون ذات مغزى لن توفر لك أي نوع من الرضا. وهذا هو السبب الذي يجعل أشياء مثل القبلة الأولى ، أو اليوم الذي اعترفت فيه لشخص ما تجربة لا تُنسى لأنها أحداث فريدة ومميزة.
لن يكون هناك أي جمال بريء عندما يكون لديك موعد مع شريكك العاشر لأن الحب الأول هو الذكر ى الخالدة( نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ، ما الحب إلا للحبيب الأول). قد تتوق إلى الفرح الذي شعرت به ذات مرة في مثل هذه المناسبة ، لكنه صار بعيد المنال. لن يعوض أي قدر من العناق والقبلات الفراغ الأجوف داخل قلبك. وستكون غير قادر على العثور على أي رضا ، فتنفصل - ويمكن أن يكون الأمر فظيعًا وصادمًا ، وسيكون كل شيء أجوف على حد قول الشاعر إليوت.
وبعد أن عشت كل هذه السنوات ، ستصبح أكثر حكمة بكثير من الإنسان العادي وستعيش لوحدك ولن يعجبك شيء حولك . و عند السير في الشارع ، لن تر فقط لافتات ضوئية فاخرة ولوحات إعلانية وامضة ، ولكن ستشاهد أيضًا المتسولين يجلسون في الأزقة المظلمة والقذرة الذين يتجاهلهم الناس في سوادهم الأعظم ، تمامًا كما فعلت أنت منذ زمن طويل.
وحيث أن السنين منحتك الحكمة التي يراكمها الخلود ، تبدأ في رؤية الجانب المظلم من المجتمع ثم تبدأ بكشف الأقنعة التي يرتديها الناس ومعظمها صادم للغاية : الجشع والغطرسة والقلق واليأس . و ستحاول إصلاح ذلك ، عن طريق تعليم الأشخاص الذين تراهم في الشارع اعتقادا منك أنهم سيصبحون ممتنين لك، لكن لن يتحسن شيء في المدى المنظور إن لم يبدأ الناس بالنظر إليك بسخرية وغرابة.
ومع ذلك ، فأنت تضغط عازمًا محاولا إنقاذ البشرية. أنت تحاول إثارة الإلهام للآخرين حتى ينضموا إليك في إنهاء العنصرية والفقر والكراهية . تخيل فقط مقدار معاناتك عندما تفشل هذه الخطط النبيلة الواحدة تلو الأخرى . الأشخاص المتعاطفون قليلون جدًا ومتباعدون. وليس من طبيعة البشر أن يكونوا أشرارا ، لكن قسوة المجتمع تجبرنا على وضع أنفسنا في المقام الأول رغما عنا أو نداس تحت الأقدام.
الندم
يأتي الندم عندما يبدو أن الأمور تزداد سوءًا. لا يحب الناس الآخرين لمجرد وجود مهارتهم أو حسن نواياهم أو أحلامهم ، يفضل الناس للأسف أشياء أخرى مثل المنفعة المادية والفائدة والمركز الاجتماعي . وعلى الرغم من مساهماتك المجتمعية ، لن يتم اعتبارك شخصًا يستحق الاحترام ، بل شخص غريب الأطوار لأن قيمك وأفكارك لم تعد تتناسب مع هذا العالم المستقبلي ، وبالتالي سيتجنبك المجتمع وينظرون إليك بغرابة ، ويصير الخلود موضوع حسد وسخرية وغيرة وكراهية وقد يصنفونك على أنك وحش قادم من أغوار التاريخ .
ومع مرور القرون والسنوات ، تتحقق الوعود في التقدم العلمي. مرة أخرى ، يفقد الناس دهشتهم ويتدخل الأطفال المصممون المبدعون مرة أخرى لحل المشكلات فيصطدمون بالأطفال المحسنين وراثيا الذين يتفوقون عليهم بسرعة وسهولة ويحلون محلهم فغي كل مفصل من مفاصل الحياة ، ويحدث أيضا أن يتم نبذ أصحاب الاعاقات الخفيفة والتخلص من أصحاب الاعاقات الكبيرة مما يسبب موجة عارمة من الاحتجاج .
وقد يتم استخدام أسلحة الليزر قوية لوقف الجريمة أو تدمير الأخطار التي يتعرض لها كوكب الأرض ، وقد يتم استخدامها في عروض للقوة العسكرية. البلد الذي يسيطر عليها يسيطر على العالم.
تأتي لقاحات المناعة بمثابة القشة الأخيرة . وبدلاً من الحصول على مجتمع خالٍ من الهموم وفي النهاية من الأمراض ، فإن هذه اللقاحات تحتكرها بعض الشركات الصحية التي تنمو في الحجم و تغذيها الأرباح من مثل هذا العلاج - وتتقاضى أسعارًا باهظة مقابل جرعة واحدة. لا يزال الفقراء يموتون وهم يعانون في فراش الموت. كم سيكون مؤلما وأنت الحكيم الوحيد في مجتمع مهووس بالجنون أن تشهد كل تلك الأحداث وأنت مكتوف اليدين ؟
وبغض النظر عن مدى قوة إرادتك ، ستصبح أهوال الخلود في النهاية أكثر مما يمكن أن يحتمله بشر . و بعد أن تشهد المآسي الجنونية مرارًا وتكرارًا ، ستكون في مركز أضعف في كل مرة تتعرض للجنون ، وقد يكون جسدك المادي قادرًا على الصمود أمام هجمات الزمن ، لكن عقلك ليس مصممًا لتحدي كل تلك الأهوال. وفي يوم من الأيام ، سوف تتحطم ، وتتفتت إلى عدد لا يحصى من حالات الحزن التي تمر عبر آلاف السنين.
إن الحياة الطويلة والمثمرة مع وجود الكثير من الذكريات السعيدة نعمة بحد ذاتها. إن الحيوية الشديدة للعواطف التي تأتي معها هي نتيجة للوعي بأن وقتنا هنا على الأرض محدود وقصير للغاية وكل إحساس فريد من نوعه ونحن حريصون على تذوق كل لحظة منه لأنه حتى تلك التي تكون حلوة ومرة مفضلة إلى حد كبير على حزن الحياة بلا نهاية.

كانت سيبل جميلة الجميلات في اليونان القديمة ، وعندا سألها زيوس ما تريدين يا سيبل؟ أجابت رب الأرباب : أريد الخلود . أجابها : لك الخلود. وبعدها عاشت سيبل ألاف السنين وفي كل عام كانت تصغر في الحجم قليلا . حتى صارت صغيرة جدا. وذات صباح أشفق عليها أحد المارة ووضعها في قارورة بجانب الطريق ، كرهت سيبل الخلود والحياة الأبدية ، وعندما أشرف عليها زيوس من علاه ، سألها نفس السؤال : ماذا تريدين يا سيبل؟ قالت : أريد أن أموت .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نتنياهو: حماس تمارس إبادة جماعية ورفضت جميع المقترحات المتعل


.. الدكتور مصطفى البرغوثي: ما حدث في غزة كشف عورة النظام العالم




.. الزعيم كيم يشرف على مناورة تحاكي -هجوماً نووياً مضاداً-


.. إيطاليا تعتزم توظيف عمال مهاجرين من كوت ديفوار وإثيوبيا ولبن




.. مشاهد جديدة وثقتها كاميرات المراقبة للحظة وقوع زلزال تايوان