الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاحتفاء بيوم -النصير الشيوعيّ- أم الاشتغال على تاريخه؟

نصير عواد

2021 / 2 / 18
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


بسبب الظروف المعقدة التي تعيشها الحركات الثورية المسلّحة فإنها احيانا تكون مجهولة البدايات ومعروفة النهايات. وأن تجربة الأنصار الشيوعيّين بجبال كوردستان العراق لا تذهب بعيدا عن ذلك، وهناك الكثير من الروايات والغموض حول بدايات الحركة الأولى عام (1963) والحركة الثانية عام (1979). وبما اننا لم نزامن الحركة الأولى فنستطيع باختصار الحديث عن الحركة الثانية، والتأكيد على انه ليس ثمة يوم محدّد لصعود المقاتلين الجبل والاعلان عن بداية نضالهم ضد الديكتاتورية، وأن يوم بناء أول موقع او قاعدة لهم لا يعني بأي حال من الاحوال هو يوم بداية الحركة. فالبدايات كانت معقدة وضبابية، وان الالتحاق بحركة الانصار كان على شكل افراد ومجموعات صغيرة، على فترات متباعدة، لا يوجد في كثير منها تنظيم او ترتيب، خصوصا بين القادمين من داخل الوطن. أدى ذلك إلى ان يقع الكثير منهم بأيدي أجهزة الديكتاتور، وتصفيتهم لاحقا. بشكل متأخر ظهرت الكثير من روايات المقاتلين التي تتحدث عن البدايات، فيها خلافات على الأيام والأسماء والامكنة، وفيها اتفاقات على تأسيس القواعد الأولى. ولذلك تجد الانصار يستذكرون أيامهم وشهدائهم حسب المناسبات والاحداث، الأمر الذي صوّرها أحيانا اشبه بكتابات المواسم والمناسبات. والملفت انه حتى اجتماع الّلجنة المركزيّة للحزب الشيوعيّ العراقيّ (أوائل تشرين الأول من عام 1981) الذي أقر فيه "الكفاح المسلّح" أسلوبا للنضال، وشرح فيه الأسباب التي دفعته لحمل السلاح، لم يتوقف عند البدايات. فلقد مضى يومذاك أكثر من عامين على صعود المقاتلين الجبل، شكّلوا فيها فصائلهم وخاضوا معاركهم. يومها تهكم أحدهم قائلا ان (الأنصار صعدوا الجبل فلحق بهم قادتهم).
أردنا القول، بعد هذه المقدمة السريعة، لسنا بحاجة إلى الاحتفاء بيوم "النصير الشيوعيّ" فلقد سئمنا كثرة الاحتفالات والمناسبات، لم يبقَ الكثير منّا أحياء، نحاول جاهدين الدفاع عن تاريخنا وشهدؤنا. فالأجيال الجديدة لا تستطيع تصوّر الظروف التي كابدها الأنصار الشيوعيّين قبل وبعد صعودهم الجبل، وبقي ذلك موضع أسئلة عندهم، فمن أين لهم فرحة الاحتفاء بــ" يوم النصير الشيوعيّ". الأجيال القديمة التي عايشت التجربة، ولم تتفاعل معها لأسباب شخصيّة او سياسيّة، استمرت تطرح أسئلة تلبس لبوس المنطق والحرص، في حين انها تحمل في دخيلتها التشكيك، وتكشف عن نسيان أصحابها الظروف المعقدة التي دفعت الوطنين إلى صعود الجبل وحمل السلاح ضد سلطة الديكتاتور. حتى ان هناك الكثير من اليساريّين افتقدوا الواقعيّة، واستمروا أعواما طويلة يغلفون شكوكهم واسئلتهم الفاسدة بسيلوفان الوطنيّة للنيل من التجربة. بل ذهب البعض منهم إلى اتهام الأنصار الشيوعيين بالــ"الخيانة الوطنية" بسبب عدم وقوفهم إلى جانب ديكتاتور العراق في حربه مع إيران، على الرغم من ان الديكتاتور بدأ حربه ضد القوى الوطنيّة العراقيّة قبل ان يعلن حربه على إيران. والمؤلم ان بعض هذه الشكوك والاتهامات والاسئلة يتلقفها آخرون لا علم لهم بأسرار وحروب تلك الأيام، ويتعاملون معها كمعلومات سياسيّة ووقائع تاريخيّة لا غبار عليها.
الأنصار الشيوعيّين في كل مرحلة يواجهون خصوم من نوع مختلف، ولا أظن الدعوة للاحتفاء بــيوم "النصير الشيوعيّ" ستنجو من السهام والطعون. سبق لديكتاتور العراق ان وضعهم في درج الخيانة والتآمر والعصيان، ملأ فيهم السجون والمقابر والمنافي. الأحزاب السياسيّة المتواجدة بالجبل هي الأخرى تعاملت مع الأنصار الشيوعيّين كمنافس ينبغي اضعافه والتعتيم عليه، وتصفيته إنْ تطلب الامر. اليساريون بدورهم ما انفكوا يثيرون أسئلة حول صحة رفع الشيوعيّين السلاح بوجه الديكتاتور، ويصوّرون ذلك ورطة، من بين ورطات كثيرة، جرهم الحزب إليها. في حين ان الكل يعرف حقيقة ان تحصن الشيوعيّين بالجبل ليس بدعة في تاريخهم المشحون بالصراعات، فلقد تحصنوا بالاهوار والجبال في ظروف سابقة، ولكن صعودهم الجبل في نهاية السبعينيّات كان أعمق من حيز السلاح الضيق. صعودهم الجبل في نهاية السبعينيّات، من مدن العراق وأريافه لم يكن ثورة، أو حرب أهلية، ولم يأتِ بتوجيه من الحزب الشيوعيّ العراقيّ، بقدر ما هو حالة من الدفاع عن النفس، لا خيارات كثيرة فيها.
إنّ ابتعاد تجربة الأنصار الشيوعيّين، زمانيّا ومكانيّا، افسح المجال للبعض بالسؤال عن جدوى الصعود للجبل يومذاك، ببنادق عتيقة لمواجهة نظام مدجج بالسلاح من أخمص قدميه حتى قمة رأسه، مدعوم إقليميّا ودوليّا؟ إلى جانب سؤال؛ لماذا قاتل الشيوعيّين صدام الحسين، وهو يخوض حرب وطنيّة ضد إيران؟ بل ذهب البعض إلى جر تجربة الأنصار الشيوعيّين لموقعة الاحتلال الأمريكي وسقوط الديكتاتور، متمهلين عند موقف الحزب الشيوعيّ الضعيف من الاحتلال، ثم متهكمين من تحالفه البائس مع الصدريين، ومتسائلين عن اسباب فشل الأنصار في محاكمة جلال الطالباني وناو شيروان اللذان تسببا في مقتل الكثير من الأنصار الشيوعيين. وهناك الكثير من الأسئلة التي لا يسعها المقال، تبحث في نتائج حركة الأنصار، وتحاول ربطها تعسفيا بما يحدث بالعراق اليوم. اسئلة تقفز على الزمان والمكان، ظاهرها الحرص وباطنها الخلاف والتشكيك بالتجربة، والغمز من بعيد إلى غياب الحكمة عند القادة الحزب.
ان اغلب الخلافات والتساؤلات "الحريصة" عن صحة تجربة الأنصار الشيوعيّين جاءت متأخرة، جاءت من باب الخلاف السياسيّ مع الحزب الشيوعيّ العراقيّ، لا مع الأنصار. بعد ان وجدوا من السهل الحديث عن وقائع ومواقف بعد عقود على وقوعها، متناسين ان الموقف والرأي تصنعهما الحوادث الصعبة زمن وقوعها وليس بعد عقود على وقوعها. ومع ذلك نقول للــ"الحريصين" ان الوقائع والشهادات والبيانات أوضحت ان الشيوعيّين العراقيّين كانوا سيبحثون عن أسلوب آخر للنضال، غير الكفاح المسلّح، لو لم يكونوا تحت ضغوطات هائلة أوصلتهم إلى حقيقة ان الامل في ان يغير النظام الحاكم سلوكه القمعي هو الخنوع والانتظار الذي لا طائل منه. فلقد اجتمعت بالعراق، في الربع الأخير من القرن المنصرم، ظروف غاية في التعقيد، دفعت البلد بأكمله إلى حافات الموت والانهيار: نظام سياسيّ قبليّ-قوميّ يواجه خصومه بالحديد والنار، شعب مرعوب ومهدّد، أحزاب وطنيّة تبحث عن اثبات وجودها بعد ان شن النظام حربا شاملة ضدها، نزاع على الحدود العراقيّة-الإيرانيّة. بكلام آخر انه في نهاية السبعينيّات لم تكن ظروفا ثوريّة او صراعات معلنة قد دفعت الشيوعيّين إلى حمل السلاح، بل الموت المنفلت هو الذي فعل ذلك. فلقد كان الشيوعيّين مطاردين بكل ما للكلمة من معنى، حوصروا بمدنهم وشوارع طفولتهم، في حين فتحت لهم باب صغيرة باتجاه الجبل ودول الجوار، باب ما زالت اسراراها طي الكتمان، قد يكون لقاء فيدل كاسترو بصدام حسين هو المفتاح. يومذاك كان زاد الشباب اليساريّ خليط من العواطف والشعارات الحماسية والاغاني، خال من توابل اسقاط النظام، ثم سرعان ما وجدوا أنفسهم امام حقيقة إما الموت بكرامة او العيش من دونها. وجدوا أنفسهم دون ظهير، مرعوبين من فكرة التعذيب لا فكرة الموت، يزيدهم رعبا مصير من كانوا معهم ثم اختفوا من دون ان يستطيع حتى ذويهم السؤال عنهم. وكثير من الأنصار يتذكّرون جيدا كيف انهم بعد أعوام على تحصنهم بالجبل، بين رفاقهم وبنادقهم بأيديهم، كانوا يهلعون لمجرد استحضار لحظات الرعب التي كانت تواجههم يومذاك في مدن وشوارع الوطن: التلفت الدائم، خوف الاهل والأصدقاء من استقبالهم في بيوتهم، الساعات التي لا تنتهي في انتظار رفيق تأخر عن موعده، مصير مَنْ لم يستطِع الوصول للجبل. وفي مثل هكذا ظروف معقدة لا يمكن وضع حركة الانصار بين ثنائية الصح والخطأ، فقلّة الخيارات المتاحة ساهم كثيرا في دفع المناضلين صوب الجبل، بثيابهم التي عليهم، لا يعرفون ما ينتظرهم من أهوال ومصاعب، ولم يدركوا ان الحياة بالجبل أكثر تعقيدا، وان عليهم صنع حاجاتهم ومصائرهم بأيديهم، وأن عليهم ان يطبخوا ويحطبوا ويقاتلوا دفاعا عن أنفسهم. لقد عاشوا في الواقع ما قاله غاندي (من الأفضل للإنسان ان يقاتل مِن ان يخاف)
من الجيد وضع تاريخ العراق الحديث موضع بحث وتساؤل، وكشف النقاب عن الاسرار والبطولات والخيانات، بدل الانشغال بالاحتفالات واجترار المقولات وتفريخ المنضمات. ففي نهاية المطاف حركة الأنصار الشيوعيّين ليست بالمثاليّة، ارتبطت بتعقيدات الصراع يومذاك، وما خلّفته الحرب من ويلات ومعاناة. تجربة لها ظروفها، فيها الكثير من البطولات والقيم النبيلة، إلى جانب اغلاط وخسائر لا يمكن الدفاع عنها. فيها سياسات وشعارات جرى ابتلاعها بعاطفيّة هزيلة. فيها معارك شرسة وشهداء ابطال، وفيها معارك ما كان يجب ان تحدث. فيها مواقف مشرّفة، وفيها خيانات لمسؤولين كبار تسبّبوا بمقتل الكثير من الأبرياء. ففي زمن الحروب والصراعات السياسيّة هناك دائما من يدفع الثمن. ثمن قد لا يكون مفهوما، لكن بمرور الأعوام سيكون مفهوما ومعقولا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إحباط كبير جداً من جانب اليمين المتطرف في -إسرائيل-، والجمهو


.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة كولومبيا




.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي


.. تصريح الأمين العام عقب الاجتماع السابع للجنة المركزية لحزب ا




.. يونس سراج ضيف برنامج -شباب في الواجهة- - حلقة 16 أبريل 2024