الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية (ماركس العراقي) ح 21

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2021 / 2 / 18
الادب والفن


ما قبل الطوفان... ما قبل القيامة
القيامة في الفهم الديني هي النهاية الحتمية لسعي الوجود فيما مضى حيث توضع الحسابات مقابل الفرضيات في ميزان العدل ويتم الوزن بالقسط، وقياسا لهذه الصورة يمكن لكل إنسان بعد مشوار مخطط له بنهاية محددة أن يعلن قيامته النسبية والذاتية ليكتشف المنجز من المأمول ويستخرج نتائج الحساب، بعد تسريحي من قاطع الجيش الشعبي أنزويت بنفسي وأعلنت عن قيامة خمس وعشرون عاما حافلة بكل ما هو متوقع وغير متوقع وأستثنائي، بحثت في حياتي من يوم المولد حتى اللحظة والميزان أمام عيني يزن كل شيء ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا وأحضرها، لأجد نفسي في الأخر خسرت أشياء وربحت أشياء لكن لم أخسر نفسي بالرغم من كثرة الألم والوجع وسلسلة الخيبات، هنا أدركت حقيقة وحيدة أن أساسي متين ويمكنني أن أذهب أبعد من خوفي وخشيتي من الموت، أن أذهب حاملا تجربتي بكل معانيها وأخوض معركة الطوفان القادمة بعد أيام.
جيد ... هذا جيد فحصادي يمكن الفخر به أو على الأقل لا يشعرني بعار ما، كل ما في الأمر أنني وتحت ضغط فكرة الطوفان أشعر بشيء من التوتر والأهتزاز، طبيعي جدا أن تكون هناك هواجس خوف من كل تجربة قادمة لا سيما تلك التي خاضها غيرك بنفس الشروط وتحت نفس القواعد، لكن لا بأس أيضا فهناك أكثر من مليون عراقي ما زالوا يحتفظون بأسمائهم في سجلات الأحياء في دائرة الموت المغلقة، الفرق أننا ننظر من الجانب الضبابي للأمر مما يدفعنا لمزيد من القلق، قلق من اللا محسوب فقط.... إذا أنا أتنفس إذا أنا موجود وعلي الحفاظ على أنتظام الشهيق والزفير الآن قبل الطوفان القادم.
في تلك الأيام حلمت بما هو أغرب من الخيال، ولو أني من ذوي الأحلام الكثيرة والتي غالبا من تقلقني لسبب بسيط أني مغرم أساسا بتفسير الأحلام، لذا فما من حلم إلا وله دلالة خاصة عندي ومغزى يشدني لما أفسر به، الأحلام في البعض منها هروب للعقل من مواجهة مشكلة عجز من تفهمها أو هضمها، وأحيانا يكون مواجهة حقيقية بين إشكاليات الإنسان الذاتية ونظرته للواقع وقد تكون تفسيرا أو رمزا لتفسير، فينفعل العقل ويرسل إشاراته إلى الذاكرة التي لا تنام حين ينام الإنسان لكنها سرعان ما تنام حين يستيقظ، لذلك فكثيرا منها يذهب سريعا ما لم نلقي القبض عليها فور صحوتنا، وهنا يأت دور التفسير ليفهم البقية الباقية منه أو مما زال عالق في المنطقة الوسطى.
حلمي كان وكأني حامل كما تحمل النساء وأعاني من ألام مخاض الوضع لكن بدون أن أستغرب من وضعي وكأن الأمر عادي جدا، كانت مجريات الحلم تدور في بيت إحدى قريباتي التي كنت وإياها لوحدنا في غرفتها، بعد قليل أتممت الولادة لكني لم أرى الجنين ولم أرى دم أو ما يرافق الولادة عادة، جلست شبه مرعوب ولكن بعد لحظات وأنا أعيد شريط الحلم شعرت بتفاؤل شديد وأعتبرت هذا تفريجا لي عن مشكلة عانيتها، أدخل الحلم وتفسيره مزيدا من الطمأنينة على نفسي وأعتباره بشارة قادمة وأن لا ضيق سيواجهني في القادم من الأيام.
كان لمفعول الحلم ولعدة أيام تالية مفعول إيجابي ساعدني في أجتياز مرحلة التشاؤم وزرع في داخلي نوعا من الإطمئنان أن الأمور ستجري على خير، عدت للقراءة ليلا حتى الصباح، أما النهار فأقضي معظمه بالنوم حتى ساعات ما بعد الظهر، الفترة المسائية عادة ما تكون نزول شبه يومي لوسط المدينة، هذا الحال وما رافقها من انشراح وفرفشة أصبح مستغربا في داخل المنزل، حتى والدتي تسأل ما هو سر هذا التغير الذي حل فجأة بدل الكأبة والسرحان البعيد الذي لفني في أيام كثيرة، لم يبقى من موعد مراجعة التجنيد إلا عشرة أيام أو أقل وعلي قبل أن أقيد بالإجازة والأذن أن أذهب برحلة أخيرة، قررت فيها الذهاب إلى أقصى ما يمكنني الذهاب له في زيارة بيت جدي لعلي أجد ما لم أفلح في أن أجده في المرات السابقة.
خمسة أيام في كانت كافية لي لأسترد جزء من تأريخي وجزء من هويتي التي أفقدها التفكير بالحرب والموت الذي يتجول حرا في بلادي دون رادع، كما قلت الموت ليس هي القضية التي أناقشها فالأمر مفروغ منه، لكن خطواته الغير منضبطة بغياب حل لها وسكوت الناس على رؤيته التي أضحت مألوفة ولم تعد تثير أحد، أحصيت أصدقائي الذين رحلوا ومعارفي الذين ودعتهم أسرهم دون أي يحققوا ولو جزء مما كانوا يحلمون به وقد طويتهم الأيام عبثا، قريبي وصديقي جميل الذي كان يمني نفسه وقد أصبح معلما أن يكون مغنيا وربما أكثر من ذلك مات بشكل لا يصدق، رجعت سيارة الحمل العسكرية عليه نتيجة خطأ ما، ترك الحسرة في قلب أمه التي ما أن تراني حتى تتذكره وإن كانت هي لم تنساه، أرى في عيونها الحسرة المرة أن أكون معها وجميل تحت التراب.
جدي الذي أنهكته الأيام وجدتي التي تفكر كثيرا في خالي الضابط المدفعي وهو يخرج من معركة ليدخل أخرى وفي أشد الأماكن خطورة، لا تعنيها بالحقيقة تلك الأنواط التي حصل عليها ولا تكريم الرئيس له بسيارة لحرصه في تنفيذ الواجبات بدقة وأتقان عمله، عندها السلامة أكبر نوط يمنحه الله لها وعودته إلى أطفاله وزوجته وبين عائلته هي الهدية التي كانت تنظرها كل ثلاثة أسابيع، صادف أن جاء مجازا في الفترة التي كنت فيها في بيت جدي، وهذه فرصة جميلة أن نتحدث في كل شيء فلم أعد بالنسبة له أبن أخت فقط فهو أكبر من صديق وأقرب الآن لي، صحيح نحن نتفق في أشياء ونختلف في أخرى ولكنه يدرك حقيقة أني الآن بالنسبة له غير، بقيت ثلاثة أيام معه ولا بد من العودة لكربلاء فما من وقت بقي غير يومين أو ثلاثة حتى أصبح الجندي المكلف الجديد، الجندي الذي سيضاف رقما مع الأرقام السابقة التي تعني شيئا للعسكر ولكن لا تعني شيئا لي إلا بداية الخوض في الطوفان والخطوة الأولى نحوه.
راودتني فكرة كنت قد اجلتها سابقا أن أكتب أي شيء ربما قصائد وربما بحث ما فالأفكار تتكدس في الذاكرة والأشياء التي تهمني لا بد أن أسطرها، سامحك الله رفيق أبو عادل فأنت من أضاع بحماقته ما كنت مخططا له أن يكون، أشد ما على الإنسان أن تسلب منه إرادته على البقاء وإن كانت بأي شيء ربما يستطيع أن يفعل شيئا، الأنكى منه أن من يسلبك هذا الحق لا يملك مشروعا أخر غير أن يرميك في فم المجهول لينال نظرة شكر ممن لا ينفعه أو يضره، كثيرون مثل هذا ذهبوا لرغبة من أحد شبيه بالرفيق أبو عادل ليبقى هو يمارس لعبته دون شعور بحجم الكارثة وحجم الجريمة التي يقترفها بغباء.
الصدفة وحدها من قادتني على غير موعد لأن ألتقي يرجل ضرير يسكن مجاورا لأحد أقربائي في منطقة الثورة، رجل غريب في كل شيء وأحيانا خارج المنطق، فبالرغم من كونه أعمى وكبير السن لكنه ينزل يوميا للمدينة صباحا ويرجع مساء يقطع بضع كيلومترات من سكنه في أطراف المدينة ويعود دون أن يتعثر بشيء أو يصطدم بشيء، رجل مرتب جدا في حياته ونظيف في ملابسه ومسكنه دون أن يكون هناك من يخدمه أو يسكت معه، حاولت أن أفهم هذه المعادلة وكيف تكون؟ قيل لي أن الرجل هناك من يخدمه من عالم أخر عالم الجن! عجيب هل ما زالت الناس تؤمن بذلك وإن كانت الأمور تشير إلى قضية محيره، سألته بعد أن تكلم كثيرا عن علوم غريبة بالنسبة لغيري فقد عرفت جزء من أسرارها سابقا من قراءاتي أو من خلال شغفي بكل ما هو غريب واستثنائي، وبدون أن أكمل سؤالي قال يا ولدي لا تخاف فأنك ستخوض الطوفان وترجع سالما، فمكتوب لك أن تبقى ورغم أنف المدفع والصاروخ... عجيب هذا الرجل حين يكلمك وكأنه لديه ذاكرة المستقبل، حدثني بعد أن طلب من الحاضرين أن لا يبقى أحد، خرج الجميع وهمس في أذني... أنت مدخر لوقت أخر وقت لا يرحمك ولكنك ترحم فيه حتى الحجر الأصم.
في اليومين التاليين لم أفارق الرجل كنت شبه اللصيق به لا يفرقنا وقت إلا المساء حين ينصرف إلى بيته قبل أذان المغرب ليمارس خلوته اليومية بين صلاة وعبادة وأشياء لم نعرفها عنه ولا يسمح لأحد للإطلاع عليها، سألني عن درجة أتقاني للغة الإنجليزية فأجبته أنا على درجة مقبولة منها لكنها لا تعني جيدة، كلمني بلغة واضحة وغاية في الإتقان وكأنه بريطاني الولادة والمنشأ، تعجبت وسألته هذا منجز لك أنك تعلمت ما لا تحتاجه، قال أني أتكلم سبع لغات أضافية بنفس الدرجة، فأنا معلم في المدرسة الهندية في كربلاء وطلبتي أكثرهم لا يجيدون العربية في أول الأمر.
كان بودي أن أغوص في عالمه الذي أرى فيه ما لم أجده لا في عالم السياسة ولا في عالم القانون، أعرف أن الغيبيات والروحانيات التي تطفو في المجتمع هنا وهناك دليل على هشاشة البنيان الفكري وعجزه عن الرد والإجابة على تساؤلات البشر، لكت عالم سيد عبد عالم لا يتصل فقط بالغيبيات من كونها عالم لا يمكن التحقق منه، فهو بالرغم من بساطته التي تبدو للبعض لكنه أيضا في غاية التبحر في علوم الفلسفة والمنطق والتأريخ واللغة، رجل لم يتعكز على قدراته الميتافيزيقية لكنه واصل بجد مع كل ما يتاح له من معرفة، إنه إنسان واقعي لا يؤمن بالحظ بدون عمل وتخطيط ولا يؤمن بالقضاء والقدر بدون علل وأسباب ومقدمات، قد يكون ظاهرة خارج أطر المجتمع وواقعه خاصة عندما يوصف من قبل من لا يعرفه بأنه ساحر أو مجنون وربما هناك من يتوسل به أن يمنحه شيئا تعويذة أو حرز، في محضر كنت اراقب فيه ردوده على امرأة تريد حرزا لزوجها الذي يقاتل في الجبهة خاصة وانه الآن هارب من الجيش ويريد العودة، قال لها قولي لزوجك أن يترك هذه الأعذار ويعود لوحدته التي لن يجد أفضل منها بين الثريد والثرثرة... لم يرى الحرب بعينه ولن تصيبه أطلاقة وهذا يكفي.
اليوم هو الخميس ومن المفترض أن يكون يوم السبت القادم هو موعدي لمراجعة التجنيد وقد هيأت كل ما يلزم، قال لي إذا أردت أن تذهب فلا تبكر وأنتظر حتى حلول الظهر وراجع، فسرت الأمر في حينها أن السوق سيتم من أول الصباح حتى نهاية الدوام ولا فرق بين مبكر ومتأخر، المهم قضيت صباح السبت قريبا من دائرة التجنيد كان هناك اصدقائي عبد الزهرة وكريم وجمال وغيرهم ينتظرون كتب الإرسال، في حدود الساعة الحادية عشر لم يبقى أحد من المجندين ينتظر الكل ذهبوا وأنا أنتظر أنتصاف النهار لعل شيئا ما سيكون، لم يخطر في بالي أن لكل دقيقة مقادير ولكل ثانية تدبير، ما إن حلت الساعة الثانية عشر إلا وأنا على شباك ضابط التجنيد المختص، سألني أين كنت لحد هذه الساعة؟ فأنت محظوظ وردت برقية الآن أن يتم سوق الخريجين من الدراسات الإنسانية إلى مدرسة الشؤون الإدارية في التاجي.... وما الفرق؟ قال بسخرية ستكون إداريا وليس مقاتل....
شكرا سيد عبد... شكرا لتلك اللحظة التي رمتني في طريقك أو رمتك في طريقي... هذا جيد وفأل خير وإن كانت الحرب ليس همي الخاص... همي الأول والأخير هو السلام وعودة الجميع لبيوتهم وأعمالهم وأن يبتعد أبو عادل وذوي البدلات الخاكي والزيتوني عن طريق الناس، مضت أربع من سنين عجاف أكلت الأخضر واليابس، أو كما يقول سيد عبد هذه طبقة وطبقة أخرى وتنتهي الحرب... ماذا تعني بطبقة قل ستفهم في حينها... اه منك صديقي العجوز أكره ألغازك حين تسد بها أبواب تساؤلاتي، ولكني وبكل الصدق أفرح أكثر حينما أكتشفها أو تظهر لوحدها امامي.
من بوابة التجنيد مباشرة غلى سوق العلاوي أبحث عن حقيبة وأدوات حلاقة وما احتاجه لرحلتي القادمة، فغدا لا بد ان أكون على اهبة الأستعداد والاستيقاظ صباحا ومن ثم التوجه لوحدتي الجديدة، يا لها من فرصة... مدرسة وليست مركز تدريب ولا الكلية العسكرية كما سوقوا البعض من أقراني، أكيد نظام المدرسة يختلف عن نظام معسكرات التدريب، وإن كان هي فترة أشهر أو ربما اسابيع ولكنها تفرق بالتأكيد عن كل المسميات، تفقدت كل شيء ولم يفوتني ايضا أن اشتري دفتر ذو المائتي ورقة ومجموعة من الأقلام والورق، قد أحتاجها هناك فبالتأكيد ليس كل الوقت سنكون منشغلين أو تحت التدريب العسكري أو في تعليمنا الشؤون الإدارية، من السوق حيث ذهبت للحلاق مباشرة فمن الواجب أن أكون حالقا شعري (نمرة 4) المقررة على كل جندي مستجد، ها أنا تماما جاهز للذهاب حيث سأخوض في لجة الطوفان وانا مطمئن أن القدر قد عقد معي صلح او هدنة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الممثلة رولا حمادة تتأثر بعد حديثها عن رحيل الممثل فادي ابرا


.. جيران الفنان صلاح السعدنى : مش هيتعوض تانى راجل متواضع كان ب




.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي