الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رثاثة الطبقة الحاكمة في تونس

عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)

2021 / 2 / 18
مواضيع وابحاث سياسية


بعد 14 جانفي وصلت إلى الحكم تلك الفئات العاطلة عن العمل بعد أن فقدت وظائفها ودخولها الشهرية، وانفصلت عن طبقاتها الأصلية بسبب السّجون والفصل من العمل لأكثر من عشرين عاما . وسرعان ما انضم إليها المتشردون والصعاليك والمجرمون وتقريبا جميع الأشخاص الواقعون في القاع، الذين لا مقام اجتماعي لهم (sans statut). وهكذا تشكّلت الطبقة الحاكمة في جزئها الأكبر من عدد مهول من "الحالات الاجتماعية" التي ظلت لوقت طويل في تناقض مع المجتمع.

من المعلوم أن فئات "البروليتاريا الرثة" بالمصطلح الماركسي، هي الفئات الاجتماعية الأكثر استعدادا للتجنيد من قبل البرجوازية، للقيام بكلّ الأعمال القذرة التي تخدم مصالحها. وبحكم التهميش والعيش خارج السياق الاجتماعي وخصوصًا خارج الدورة الاقتصادية، فهي تتميز بميلها إلى أنشطة التّهريب والكُنطرة. وميلها إلى المغامرة من أجل الإستيلاء على السلطة بالتّحالف حتّى مع الشّيطان: مع العصابات الاقتصادية، مع الجماعات الإرهابيّة، مع كل العناصر المارقة على القانون. وباستخدام الميليشيات. ومثال ذلك استخدام مجاميع أنصار الشريعة التي تورّطت في عمليات إرهابية واغتيالات سياسية شنيعة. وكذلك تأسيس ما سُمّي ب"روابط حماية الثورة" الذي تُعتبر إحدى أوضح تنظيمات "البروليتاريا الرثة" شبه المسلّحة التي صالت وجالت في تونس، فاعتدت على الأحزاب والمنظمات، وعلى المثقفين والإعلاميين. وبعد حلّها، عادت تحت إسم "ائتلاف الكرامة".

بالإضافة الى الفئات التي عادت من الخارج مطلع 2011 ضمن أجندات أجنبية مخابراتية، كانت هنالك فئات محلية رثّة، شكّلت الأساس الاجتماعي لتوسّع الفوضى، إذ اُستخدمت حُثالة فئات القعر الاجتماعي الأوطى على الإطلاق في الأحياء الشعبية وفي البوادي، في عمليّات هدم الدولة تحت عنوان "مواجهة الدولة العميقة". ولقد رأينا كيف أن تلك الفئات، بحكم وضعها المعاشي الهامشي، كانت شديدة الحماس لبيع نفسها لمكائد قيادة حركة النهضة في تدمير مؤسسات الدولة وإشاعة الفوضى وإشاعة الرُّعب، وفرض الإذعان على خصومها السياسيين.

إن طبقة حاكمة عمودها الفقري حركة تتكوّن من خليط من الأيمّة المتطرّفين والغوغائيين والرّعاع وعصابات التهريب والمافيا الاقتصادية، لا تملك أية قدرات ذات شأن، تُشجِّعُ على الإصلاح، بل إنها مُهيّأة موضوعيًّا لتشجيع العنف وتوسّع التخلّف والفساد الإداري والرشوة و شراء الذمم دون توقف، وفي كل مفاصل الدولة والمجتمع.

لهذه الأسباب يُدار مُعظم الاقتصاد التونسي، منذ سنين، من قبل هذه الفئات الرثّة التي تملك ثقلا نوعيا في الحكومة، وفي مجلس نواب الشعب، وفي اللجان التي تستحوذ على عقود الوزارات. بالإضافة الى المراكز الإدارية المهمة في أجهزة الدولة التي يجلس فيها مُتحزّبون وأتباع وحُلفاء. ويمتد هذا الإخطبوط المافيوزي الرثّ بقدراته الماليّة المُستحدثة الى سوق البورصة وتجارة العملة، وشركات الاستيراد والتصدير، وشركات البناء وبيع العقارات والموانئ. هذا وتملك الفئة الرثة الرّئيسية مكانة أساسية وسط المساجد. ولها جهازها العسكري السرّي، وميليشياتها المدنية العلنية المُمثلة في البرلمان، تدعمها وترعاها وتمدها بالأموال والمنافع والمناصب، من أجل كسب ودّها وإسنادها عند الحاجة.
من جهة أخرى يتمّ تهريب الأموال إلى الخارج سواء بواسطة الطريق الرسمي "القانوني" عبر البنوك، وضمن رخص رسمية، أو عبر غسيل الاموال من خلال التعاون مع جهات مافوزية موجودة في دول أجنبية. وتستخدم هذه الطبقة الحاكمة الرثّة أجهزة الإعلام الرّسمية وغير الرّسمية، مستعينة بألوف مؤلّفة من الذّباب الأزرق، لترسيخ موقعها السلطوي من خلال شراء صحفيين وكتًاب واعلاميين وأنصاف مثقفين، يُدبجون لها المقالات في الصحف اليومية والمواقع الإلكترونية والبرامج الإذاعية والتلفزية، ويكيلون لها المديح مقابل أموال الحرام.

بعد عقد من حكم الرّثاثة والخراب، سقط المستوى الأخلاقي في البلاد الى ما تحت الحضيض. وتدهورت معيشة الناس بشكل مُخيف وغير مسبوق، جرّاء تدهور الخدمات الأمنيّة والصحية والتعليمية والسكنية والبلدية وانقطاع الكهرباء ونقص الماء الصالح للشراب وغياب الصيانة والبطالة وانتشار الأمية والانقطاع المدرسي. وتطول قائمة المصائب لأن الفئات الرثة، بحكم اشتغالها خارج معايير الأخلاق والسياسة والقانون، لا تفكر ولا تُشغل بالها بحلّ مشاكل المواطنين، لأنها لا تدخل ضمن مشروعها الذي يتلخص في السّلب والنّهب وجمع الأموال في أقصر وقت مُمكن. ولإخفاء طبيعتها الإجراميّة، تحرص على تغليف نفسها بغلاف ديني فتستخدم الإسلام غطاءً لها، لأنها في الأساس بعيدة كل البعد عن القيم الأخلاقية. فهي من جهة تستغل الناس البسطاء وتستخدمهم من خلال ادّعاء "حماية العقيدة". ومن جهة أخرى، ولكي تنمو تجارة العقيدة، تقوم بمسخ العلاقات الإجتماعية وإفساد العائلة وتسهيل بيع المخدّرات والحبوب السامّة، وإدخال علاقات وسخة تقوم على المنافع والأنانية، حتّى تُفرغ المجتمع من الخِصال الحسنة وتعطبه أخلاقيًّا وتُكسِّر جهازه القِيميّ، وتُرسي خصال الغِشّ والاحتيال والتنكيل والكيد والأحقاد.

في إطار حكم الرّثاثة هذا، تتعطّل جميع البرامج التنموية التي تضعها الحكومة في كل مرة، لأنها لا تخدم مصلحة الفئات الرثة. ولذلك تقوم بعرقلة تنفيذها. فالقطاع الصّناعي والقطاع الفلاحي اللذان يُمكِّنان من تطوير الاقتصاد الوطني وتنمية حياة السكان، لايُلبّي مصالح جماعات الفساد الطُّفيليّة التي تجني المبالغ الطائلة من عمليات الإستيراد. فتعمل كلّ ما في وسعها لعرقلة خطط التنمية الوطنية. التي تضعها كوادر مختصة في الحكومة، وبمشاركة كافة الوزارات وكوادر من القطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني، ذلك لأنّ بارونات التهريب لا يخدمها أيّ إجراء يُقلّل من استيراد السّلع من الخارج. علاوة على أنّ كلّ العصابات الاقتصادية المارقة على القانون في العالم، لا تسمحُ بالتّخطيط العلمي الصّارم، مهما كان نوعه قصير أم متوسط أو بعيد المدى، ولا بخطط تنمية استراتيجية تمتد لسنوات طويلة. لأنّ كلّ ما تؤمن به، ويهمها، هو الحصول على الرّبح بأسرع وقت وبأسهل طريقة. بمعنى أنّنا إزاء مجموعة من اللّصوص وقُطّاع الطُّرُق والشّقـــاوات، المعنية باستمرار الاقتصاد التونسي معطوبا استهلاكيا، وخارج رقابة الدّولة حتى تُحقِّق ماربها وتضمن موقعها في الحكم.

الانتخابات التّشريعية الأخيرة خير دليل على سيطرة الفئات الرثة على مقاليد الحكم والاقتصاد التونسي. وهو ما مكّنها من شراء أصوات الفقراء والصّعود إلى مركز التّشريع. كما أن المستوى المُنحط الذي بلغه مجلس نواب الشعب، أحسن دليل على الرثاثة الأخلاقية والسياسية وحتى اللّغوية. فنحن نشاهد فضائح لا تُحصى ولا تُعدّ، بدءًا بالعجز على التفاهم على رئيس برلمان، وصولًا إلى مؤامرات التحكم في تركيبة الحكومة، مرورًا بمقابلات الملاكمة والرّكل والرّفس وحِصص الكوميديا وتبادل قبيح القول في كل الجلسات بلا استثناء. وهنا تتجلى بوُضوح سِمات سيطرة الفئات الرثّة على مقاليد الحكم في تونس.
نتيجة لكل ما سبق، ستظلُّ الحكومة تدور في حلقة مفرغة، وتتخبّط بشكل مأساوي في جملة من المشاكل المتنوعة التي لا حلّ لها، وفي مقدمتها أزمة سياسية/اقتصادية/اجتماعية /صحية مركبة، بالتوازي مع مظاهرات عارمة فاضت على المدن، ووصلت إلى القرى والأرياف. وضحايا الوباء يتساقطون، ومصابين يوميًا بسبب سوء الخدمات الصحية والبطالة والبنية التحتية المتهالمة على جميع المستويات.

وسط كلّ هذا، وبدلا من قيام جبهة مواطنية شعبية عارمة تُوقِفُ الخراب، تتعالى الأصوات من كلّ حدب وصوب لتُهاجم رئيس الجمهورية لأسباب تافهة ولا معنى لها، سوى كونها تفسح المجال لمزيد التخريب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما الهدف وراء الضربة الإسرائيلية المحدودة في إيران؟|#عاجل


.. مصادر: إسرائيل أخطرت أميركا بالرد على إيران قبلها بثلاثة أيا




.. قبيل الضربة على إيران إسرائيل تستهدف كتيبة الرادارات بجنوب س


.. لماذا أعلنت قطر إعادة -تقييم- وساطتها بين إسرائيل وحماس؟




.. هل وصلت رسالة إسرائيل بأنها قادرة على استهداف الداخل الإيران