الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية (ماركس العراقي) ح 23

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2021 / 2 / 18
الادب والفن


سندباد عسكري.
أقل من شهرين هي كل فترة بقائي في تجنيد المعقل فقد تم تنسيب العقيد حسين مديرا لتجنيد البصرة بعد أن تم ترقيته لرتبة عميد وتنسيب المقدم عبد الله بديلا عنه، الرجل الذي حل محل أمري السابق لا يقل أحتراما ولا إنسانية من سلفه وعاملني بكل أحترام وتقدير، لكن بعد يومين جاء أمر نقلي إلى المديرية لينسبني نائب ضابط عبد الزهرة مسئولا عن شعبة الطابعة، كانت هناك فتاتين طابعيتين وجندي طابعي يعرب الثرثار حسب ما قالت إحداهن، لم أجرب الطباعة سابقا إلا قليلا وطلب سيد عبد الزهرة من يعرب أن يعلمني على الطباعة السريعة وعلى أستخدام الرونيو، تحملت غلاظة يعرب وافتخاره بأنه أسرع طابعي في كل العراق وما إلى ذلك من كلام، يومان بالتمام والكمال وباشرت بالطباعة وإن كنت بطيئا لكن لا شيء يبقى مؤجلا فكل الكتب السرية والتي نخص الحركات وذات التوجيه السري والفوري من اختصاصي حسب توجيهات السيد مدير التجنيد، قضيت الشهرين والنصف تماما وإذا بكتاب نقلي فورا ويتحمل الأمر التأخير إلى مديرية الخدمات الشخصية في بغداد.
تحديدا وبالكسرة في بغداد وقريبا جدا من الكلية التي منحتني شهادتها مقر وحدتي الجديدة، دائرة شبه مدنية الدوام فيها كبقية الدوائر المدنية الأخرى وإن كانت بالزي العسكري يبدأ من الساعة السابعة والنصف وينتهي في الساعة الثانية ظهرا، ما عدا أيام الخفارة التي يبقى فيها واحد من كل قسم مع حرية الدخول والخروج، بناية الدائرة الحديثة جدا هي جزء من مجمع يشمل عدة دوائر مختلفة الأختصاصات التي تعني بجوانب متعددة من واجبات الوزارة تجاه منتسبيها وبالأخص شهداء ومراتب وحسابات الوزارة أضافة لبناية الحاسبة المركزية للوزارة، صار بإمكاني الذهاب يوميا إلى كربلاء والعودة في صباح اليوم التالي، الآن تشعر أنك فعلا بعيدا عن فم الحرب التي لا تشبع ولا تكل من ألتهام أرواح الجنود بلا حساب.
نسبني مدير الدائرة وكان برتبة لواء مشرفا على الشؤون القانونية لقسم الشهداء بأعتبار عدم وجود قانوني أو حقوقي فيها، كل واجبي كان دراسة كل ملف لشهيد أو مفقود من الناحية القانونية قبل المباشرة بإنجاز معاملة ذويه، هذا ما يجعلني في تماس مباشر مع الألم ومشاهدة تلك الدموع الحزينة والألم يعتصر قلوب الأمهات والآباء والأبناء، العمل هنا يتم من خلال النافذة الواحدة، يتم أستلام المعاملات في الأستعلامات ويتم تجميعها وتدقيقها من قبلي ثم تدفع للإنجاز خلال أقل من ساعة، وفي حالة النقص تكتب كل المستمسكات المطلوبة في ورقة وتسلم لذوي الشهداء سريعا.
أحببت عملي الجديد وحاولت تقديم كل شيء وبدون تبرم أو تكاسل وفاء لأرواح أولئك الذين مضوا بلا رجعة، أيضا شعور حقيقي بأني أمارس أختصاصي حتى مع وجود هو من أعلى رتبي مني في القسم، كل الزملاء هنا في القسم هم ممن لديهم سند أو واسطة ليبقوا بعيدا عن ساحات الحرب ومصائبها، لذا فالتعامل مع الجميع لا بد أن يأخذ هذه القضية في الحسبان، لا أريد أن أزعج أحد ولا الأعتراض على ما يجري فقد يكون الثمن مما لا أستطيع دفعه، عند غياب أحد من القسم أو تمتعه بإجازة أقوم بتولي مهامه حتى لا يتأخر شيء أو تتأخر عائلة شهيد في الأسفل، كان مدير الدائرة مرتاح للعمل في القسم وإنسيابيته بشكل مرضي بل وممتاز دون بقية الأقسام.
شعرت في لحظات متكررة أن الحظ أبتسم لي هنا ومنحني مما لا يتعود علي مع شخص مثلي هو الخيبات رفاق وأصدقاء جبرا عنه، اتسأل هل حقا أن الحظ يبتسم أم أنها مناورة حتى يقذف بي إلى مكان أخر في لحظة غضب، فخلال تسعة أشهر أنتقلت من عدة أماكن لا يشبه بعضها بعضا ولكنها في المجمل كانت مرضية لي ومريحة برغم التعب وكثرة التنقل، أصدرت القيادة العسكرية قرارا بإبدال الجنود الذين خدموا كثيرا في جبهات القتال بأخرين ممن يعملون في مقرات ثابتة أو في المدن على أن ينفذ الأمر من تأريخ صدوره وفورا، كنت من الذين لا خوف عليهم ولا يحزنون فكل خدمتي هنا لا تزيد عن شهرين وجئت منقولا للتو من البصرة، قررت المديرية بأعتبار غالبية منتسبيها ممن قضوا سنوات هنا والعمل بمبدأ القرعة أن يختاروا جنديا من كل قسم لإبداله مع جندي أخر من المشمولين بالنقل.
القلق ساور الجميع ما عدا شخص واحد ظن أنه في منجى من القرعة، فالقسم القانوني لا يوجد فيه شخص أخر غيري كأختصاص ولا يوجد من ينافسني في دقة العمل ورضا المدير عني وعن عملي، في نهاية الدوام وقبل الإنصراف جاءني النائب الضابط المسئول عن الإدارة ليخبرني أني مشمول بالنقل كون اسمي هو الذي خرج في القرعة وعلي العودة إلى البصرة وتحديدا إلى عينة الفيلق الثالث، كان الخبر بمثابة الصاعقة التي ضربت أم رأسي، لم يسمح لي بمقابلة المدير اللواء أحمد كما لم يسمح لي بالاعتراض فالأوامر العسكرية تنفذ دون نقاش، هكذا ذهبت لأستلم كتاب نقلي مع نظرات تشفي وشماته من أولئك القطط السمان في القسم الذين سيبقون تحت حماية أقاربهم ومعارفهم، أظهرت عدم المبالات من الأمر الخدعة وأستلمت كتابي وتركت المديرية وأنا ألعن القدر اللعين.
في محطة قطار الحلة في مساء ذلك اليوم كنت وأخي الذي سبقني للتواجد في البصرة في كتيبة مقاومة الطائرات في الرميلة وقد قطع أجازته ليوم واحد ليذهب معي فهو خبير بمناطق البصرة وقد خدم فيها منذ أن ألتحق جنديا قبل سبع سنوات، رحلة القطار كما أعرفها مزعجة وتمثل لي إرهاقا غير معتاد خاصة مع الحشود التي تملأ عربات القطار مدنين وعسكرين وطلبة جامعات وضجيج وفوضى لا يسمح لأحد بأن يأخذ قسطا من الراحة وهو ذاهب ليوم عمل قد لا نجد فيه مجال للراحة أيضا، كانت عربات القطار تتهادى على سكتها تحمل ملايين المشاعر والأحاسيس لبشر لا يعرفون ماذا تخبئ المقادير لهم بعد لحظة أو ما بعدها، الجميل يحاول أن يقضي طول الرحلة بما يشغل نفسه من متابعة حالة اللا أمل واللا حلم قريب يمكن أن يفتح أفاق له على شمس يوم جديد.
سألت أخي حسين عن معنى رحبة وهي لتسمية الرسمية للوحدة الجديدة التي سألتحق بها وكنت أظن من خلال المعنى أنها مكان خاص بالسيارات والعجلات، قال إنها وحدة خدمية معنية بتجهيز الوحدات العسكرية بكل ما تحتاجه من ملابس ومعدات وتجهيزات وفق نظام مركزي عدا الأسلحة والذخائر فقط، هذا يعني أنني ذاهب إلى ما يشبه المخازن ولا علاقة لها بالقانون أو الحقوق، قال في الجيش فقط هم أصحاب الأختصاص الطبي والهندسي هم من يراعى لهم ذلك، أدركنا فجر الصباح ونحن في محطة الشعيبة وهي المحطة ما قبل الأخيرة للوصول للبصرة، نزلنا وركبنا باص إلى مفرق الزبير وهو أقرب مكان ممكن يوصلنا إلى منطقة الدريهمية حتى مقر وحدتي الجديدة، أجواء الصباح والسهر الذي أصابني طيلة الرحلة تمنيت لو أخذت غفوة ساعتين و أكثر لأكون على أستعداد للعمل من جديد.
ركبنا سيارة أجرة باص متعب من كل شيء فيه متجهين صوب مفرق معمل البتروكيماويات حيث من هناك عليك السير على الأقدام لمسافة تقارب الكيلومترين للوصول للوحدة، بنايات المخازن (الجملونات) واضحة جدا وبضع وحدات عسكرية منتشرة في المنطقة وعلى طول الطريق كلما سألنا أحد عن موقع الرحبة يقول أمامك ستجدها، وأخيرا مع بوابة وحدة عسكرية يحرسها جنديان وصلنا بعد أن رحبا بنا الحرس وأنتظرنا أتصال عبر السايكرفون ليسمح لنا بالدخول، دقيقة ونحن في مكتب الوحدة وأمام نائب ضابط خالد الرجل البدين أحمر الوجه الذي تلقانا بلهجته الغربية مرحبا بنا وأخذ الكتاب وذهب إلى الأمر العقيد سبع الذي نسبني فورا إلى أحد الأقسام وأهمها هو قسم التدقيق وهو شبيه بقسم السيطرة على الخزين.
في قسم السيطرة كان المسئول عنه نائب ضابط كريم حسين رمان وهو من أهالي بغداد رجل لا يكل ولا يمل من المزاح والثرثرة، بعد أن جهز لنا أفطار من حانوت الوحدة الذي يديره الجندي كاكه سليم الكردي الذي سيصبح صديقي الأثير لاحقا وقد أجاد الإعداد الجيد للفطور ومع الشاي اللذيذ أو هكذا شعرت بمذاقه بعد رحلة متعبة استأذن أخي بالذهاب وأنصرف مودعا وقد أقلتي أحدى عجلات الرحبة إلى مفرق الزبير، أما أنا فأمرني نائب ضابط كريم بالذهاب إلى القاعة وأستلام سريري وأخذ قسط من الراحة لأن دوام الوحدة مستمر وليس محدد بوقت معين وهناك واجبات حراسة على كل الجنود، أما لحراسة مقر الأمر أو باب النظام أو حرس قاعة، شكرته وتوجهت صوب القاعة فقد تملكني الإرهاق والتعب تماما وبكامل قيافتي نمت دون أن أشعر بشيء.
الرحبة بالرغم من أنها من الوحدات الثابتة وبعيدة نسبيا عن ساحات المواجهة اليومية لكنها لا تخلو من مخاطرة خاصة في الواجب الأستثنائي حين تحتدم المعارك ليقوم أفراد من الجنود بالذهاب إلى وحدات المدفعية الثقيلة لجميع خراطيش المدفعية الفارغة وتحميلها بسيارات الأسكانيا ومن ثم ترسل لاحقا إلى معامل الإسكندرية، الطريق محفوف بالمخاطر دوما أما نتيجة الأستهداف بالقصف أو الرمي العشوائي على مرابض المدفعية، ذهبت إلى هناك أكثر من مره وبتوجيه خاص من المساعد المقدم الذي ما أن يغادر العقيد سبع أمر الرحبة ويتولى هو الأمرة إلا ويخرج كل خبثه معي وينتقيني من بين كل جنود الأقسام لأذهب مع الجنود المخصصين لهذه المهمة، وعند العودة يسألني في كل مرة نفس السؤال... هل أنت محامي؟ وكأنه يريد أن يخبرني بشيء فأسكت ولا أجيبه بشيء خوفا أن تفلت مني كلمة أندم على ثمنها لاحقا، حاول ن ض كريم أكثر من مرة أن يثني المقدم عن إرسالي بحجة أن عمل القسم أهم ولدينا مئات الإيصالات التي تحتاج لتدقيق وإدراج في سجلات الكليمانزو، لكنه يأمره أن أنجزها بعد عودتي حتى لو أضطر إلى العمل طوال الليل.
لا تفسير عندي لهذه الحالة ولا من سبب يجبره لمعاملتي هكذا فكل الجنود يعملون بأقسامهم التخصصية ولا أحد يخرج غيري، نائب ضابط كريم كان منتسبا إلى صنف الأستخبارات العسكرية وهو يجيد اللغة العبرية ومتخصص بمتابعة النشاط الإسرائيلي عبر محطات الإذاعة أو عبر وسائل التجسس، وهو من تلقى الكثير من الدورات التخصصية التي تتعلق بمهنته، لكنه وجد نفسه في يوم من الأيام هنا في الرحبة لكون أحد أبناء عمه قد تم إعدامه بتهمة الأنتماء لحزب الدعوة العميل، يقول لي لا أعرف أبن عمي ولم ألتق به فهو ولد وعاش في منطقة الشالجية في بغداد فقد كان أبوه من عمال السكك الحديدية من خمسينات القرن، وكل أولاد عمه وأعمامه يسمع بهم ولكن لم يلتق بأحد بسبب مشاكل عائلية بين والده وأخوانه الذين يسكنون في أحدى المحافظات البعيدة.
منذ ثلاث سنوات وهو هنا وكل يوم يمر عليه لا ينتهي غلا ويأخذ جزء من روحه وكيانه فهو مراقب بدقة من قبل الأستخبارات ومن قبل التوجيه السياسي في الوحدة، لذا حول حياته كلها إلى الهزار المستمر والإفراط في الطعام ومشاهدة أفلام كارتون، لكنه في داخله الرعب هو المستوطن الوحيد الذي سلب منه حتى نعمة الإحساس بكون إنسان مسالم يحب وطنه ولا بديل له عن هذا الحب مهما كانت الأعذار أو المبررات، كنا نجلس لساعات طويلة في العمل فيوميا تردنا عشرات الطلبات من وحدات الفيلق كما تردن عشرات الطلبيات التي توزع على المخازن وحسب الأقسام وعلينا السيطرة على الخزين صرفا وإيرادا وبموجب موقفين يوميا إلى عدة جهات الفيلق ودائرة الميرة وغيرها من الوحدات المسيطرة، غير القيام بتدقيق مواقف الوحدات من الأحتياجات التي ترسل أو التي لم تتوفر في مخازن العينة، عمل شاق لكنه يقتل الملل ويساعدنا في نسيان الكثير من المشاكل التي يثيرها يوميا المفدم مساعد أمر الوحدة أو الرفيق محمد مسئول التوجيه السياسي وتدخله في كل صغيرة وكبيرة.
كل فترة خدمتي في الرحبة كانت تسعة أشهر وهي فترة طويلة نسبيا أنتهت بمجلس تحقيقي حول رسالة وصلت أستخبارات الفيلق من أحد الجنود تتهم المقدم المساعد بأستبدال أثاث خشبي قديم بأثاث جديد من المخازن، وبالرغم من أن الواقعة صحيحة وثبتت إلا أن المجلس وبعد التحقيق مع كل منتسبي الرحبة أداني أنا بكتابة التقرير الذي لم أره ولم أعلم به أصلا ولكن كنت أحد الشهود كوني في وقتها رفضت الإدخال والإخراج، أوصى المجلس التحقيقي بنقلي إلى وحدة مشاة قتالية ضمن قاطع الفيلق الثالث فورا، وهكذا غادرت منقولا إلى الفوج الثالث لواء 419 في قاطع فق 19 في منطقة الدير على الطريق بين البصرة والعمارة، لتتوقف سفينة السندباد العراقي في هذه المحطة المميتة والتي كثيرا ما كنت أمل أن لا أتوقف عندها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان هاني شاكر في لقاء سابق لا يعجبني الكلام الهابط في الم


.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي




.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع


.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي




.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل