الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


انطون سعادة: مؤسس الفكرة القومية العملية(1)

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2021 / 2 / 18
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


تقديم عام

ولد انطون سعادة في لبنان. تلقى تعليمه الأولي في القاهرة. هاجر عام 1919 إلى الولايات المتحدة الأميركية حيث عمل لأشهر في محطة للقطارات وبعدها انتقل إلى البرازيل حيث كان يعمل والده. وفيها انكب على تحصيل معارفه الجديدة في ميادين التاريخ والفلسفة والاجتماع والسياسة. وسعى منذ وقت مبكر للعمل السياسي والفكري. وتتوج عمله هذا بتأسيس الحزب القومي السوري وأيديولوجيته الخاصة. في عام 1930 عاد إلى الوطن من البرازيل، وبعد إقامة قصيرة في لبنان سافر إلى دمشق لدراسة إمكانية العمل السياسي فيها. وعمل في تدريس اللغات من أجل تأمين العيش. واعتقلته سلطات الانتداب الفرنسية مرات عديدة، بسب تهديد رؤيته وسلوكه السياسي لأهدافها الساعية لتجزئة "سوريا الطبيعية". واضطر للسفر والترحال سنوات عديدة، بما في ذلك عودته مرة أخرى للبرازيل. ورجع إلى لبنان عام 1945 بعد جلاء القوات الفرنسية. ووقفت اغلب القوى السياسية التقليدية وراء عرقلة رجوعه بحجة الحكم القضائي الصادر بحقه منذ أيام الانتداب! في 2 آذار 1947 وصل إلى بيروت فأصدرت الحكومة اللبنانية في أعقاب الاستقبال الكبير مذكرة توقيف بحقه وألغتها في تشرين الأول 1947. وعمل سعادة على تنظيم القوى في حركـة قومية شاملة خلال حرب فلسطين 1948. وبأثر ذلك قامت الحكومة اللبنانية بإصدار سلسلة قرارات منعت بموجبها الحزب القومي السوري من عقد الاجتماعات العلنية. وبعد الانتخابات البرلمانية الملغاة لجأ إلى دمشق. استقبله حسني الزعيم، وبعد شهر من وصوله سلمه للسلطات اللبنانية وفق صفقة بينهما. فاجروا له محاكمة شكلية في يوم 7 تموز 1949 حكمت عليه بالإعدام. وجرى تنفيذه بعد يوم واحد من الحكم، أي في يوم 8 تموز 1949.
***

الأيديولوجية القومية الجزئية

إذا كانت الاستقامة مع النفس هي تعرج ذاتي محكوم بمعاناة البحث عن حقيقتها، فان صيغة تجسيدها النظرية والعملية المتعلقة بكيفية تأسيسها لإشكاليات الوجود التاريخي للجماعة والأمة عادة ما تتحول إلى هموم لا تنتهي. وبالأخص حالما يكون التاريخ الواقعي والفعلي للأمة زمنا متحللا في حلقات الانقطاع والهزائم. وقد كانت تلك حالة العالم العربي الفعلية في مرحلة صعوده الجديد، التي جعلت من هواجس وعيه الذاتي "انبعاثا" و"بعثا" بعد سباته الطويل في كهوف النسيان الذاتي. من هنا تحول الهواجس إلى هوس فكري وروحي متسام، وجد تعبيره النموذجي في صعود وهيمنة العقائد العملية المتنوعة. فإذا كانت عقيدة الإخوان الشاملة هي عقيدة الجهاد الشامل بسبب أصولها الدينية التوحيدية الإسلامية، فإن عقائد الفكرة القومية (الدنيوية) هي مبادئ وقواعد الكفاح والنضال من اجل صنع الوحدة الغائبة، وإعادة وحدة الجماعة المتحللة، وإرشاد القومية الضائعة، وصنع الأمة المرجوة. وقد جسدت الفكرة القومية عند انطون سعادة وميشيل عفلق هذه الحلقات الأربع والمكونات الجوهرية بصورة ترتقي إلى مصاف الصيغة الكلاسيكية الكبرى، أي الأكثر أصالة ونموذجية وتماسكا من حيث بنيتها النظرية ومبادئها العملية.
فقد توصل انطون سعادة (1904-1049) في مجرى تأسيسه النظري للفكرة القومية الاجتماعية السورية إلى أن صنع الوحدة الغائبة، وإعادة وحدة الجماعة المتحللة، وإرشاد القومية الضائعة، وصنع الأمة المرجوة هي أولا وقبل كل شي فكرة عملية. مع ما ترتب عليه من تشديد على أن الطريق لبلوغ الغاية يجري عبر الإصلاح، وأن النشاط العملي السياسي هو الأسلوب الأمثل والوحيد للإصلاح الحقيقي بوصفه فكرة عملية سياسية. بمعنى ضرورة الانتقال من التنظير المجرد إلى ميدان تطبيقها العملي.
لم تكن هذه الفكرة أو النتيجة النظرية التي توصل إليها انطون سعادة معزولة عن تاريخه العائلي وتربيته الشخصية التي لعب فيها أبوه دورا جوهريا. رغم أن مضمونها النظري والعملي هو نتاج مرحلة في تطور الفكرة القومية الاجتماعية. ومن الممكن العثور على مكوناتها الخفية في المقال الذي نشره تحت عنوان (ذكرى سوريين عظيمين)، والمقصود يهما كل من جبران خليل جبران ووالده خليل سعادة، بوصفهما ممثلين للفكرة القومية السورية التي بلور انطون ملامحها النظرية والعملية بصورة تامة. ففي هذا المقال يتناول إشكالية الفكرة القومية السورية من خلال تحليل مواقف وحقيقة هاتين الشخصيتين. لكنه سيضيف إليهما كل من انطون فرح وفيليب حتي. بل نراه يبحث في موتهما عن "سر" مثير للغاية. وذلك لأنهما كلاهما توفيا في نفس اليوم من أيام السنة التقويمية، مع فارق السنوات. فقد توفي جبران في الأول من نيسان 1931، بينما توفي خليل سعادة في الأول من نيسان عام 1934. وإذا كان جبران سوري النزعة، فإن "خليل سعادة امتاز بوصفه وطنيا صادقا وسياسيا بعيد النظر.... فأسس بكتاباته طريقة التفكير السياسي الصحيح وأيقظ محبة الوطن الحقيقية" كما يقول انطون سعادة. بينما أيقظت كتب جبران الناشئة وأرتها الظلمة التي هي فيها وحببت إليها الخروج منها. ومع أن جبران وقف عند هذا الحد، فان أهمية تعيين العتمة هي أهمية عظيمة الشأن. ومن هذه الناحية أمكن تعيين جبران خليل جبران "كسابق أمام النهضة القومية السورية". ولعل مقاله (لكم لبنانكم ولي لبناني) دليل تقاطع على عدم رضاه عن لبنان السياسي. كما أن هناك دليل خطي مادي على موقفه هذا في رسالته إلى أميل زيدان مدير مجلة الهلال (أخ جرجي زيدان). فقد كتب إليه عام 1919 و1922 ما يلي "أنا من القائلين بوحدة سورية الجغرافية، وباستقلال البلاد تحت حكم نيابي وطني عندما يصبح السوريين أهلا لذلك، أي عندما تبلغ الناشئة الجديدة أشدها وقد يتم الأمر بعد مرور خمس عشرة سنة... فهناك أمور رئيسية يجب علينا المطالبة بها بإلحاح واستمرار وهي وحدة سورية الجغرافية والحكم الأهلي النيابي والتعليم الإجباري وجعل اللغة العربية الأولية والرسمية في كل آن. إذا كنا لا نريد أن نمضغ ونهضم فعلينا أن نحافظ على صبغتنا السورية حتى وإن وضعت سورية تحت رعاية الملائكة... وأن بإمكان الغربيين مسعدتنا علميا واقتصاديا وزراعيا ولكن ليس بإمكانهم أن يعطونا الاستقلال المعنوي. وبدون هذا لن نصير أمة حية. والاستقلال صفة وضعية في الإنسان موجودة في السوري ولكنها لم تزل هاجعة فعلينا إيقاظها"( انطون سعادة:الآثار الكاملة، ج8). لكن نقطة ضعف جبران، كما يقول انطون سعادة، تقوم في تخليه وابتعاده عن هذه المهمة بانتقاله إلى مجال "المجد الشخصي". لهذا نراه "يترك الكتابة بلغة السوريين وانصرف إلى الكتابة بلغة الأمريكان الذين هم أسرع من السوريين إلى التقدير وأقدر منهم على شراء الكتب. فأظهر من هذه الناحية ضعفا روحيا عظيما وهو الرجل الروحي الذي أراد الانتصار بأدبه على المادة". بعبارة أخرى، لقد اعتبر انطون سعادة "ترك الكتابة باللغة العربية نقيصة كبيرة لأديب عظيم مثله لا تعوض". بينما جعل من أبيه نموذجا للشخصية الوطنية المتجانسة. ولعل "كتاباته السياسية مثالا للأخلاق" العملية.


لقد كان الانتقال من التنظير المجرد إلى ميدان التطبيق العملي عند انطون سعادة النتيجة المتراكمة من معاناة النظر والبحث والتأمل العملي لتأسيس الفكرة القومية السورية. بحيث نراه يتكلم عن بلوغه هذه الفكرة الجلية بالنسبة لتاريخ الأفكار الإصلاحية العملية، بمعايير "الوحي الباطني". بل نسمعه يتكلم عن منطق "الصوت الداخلي" الذي سمعه في حلم أوصله في نهاية المطاف إلى رؤية "الأشياء بصورتها الحقيقية" بحيث رأى كيف أنه كان على ضلال فيما كان يحاوله في إصلاح الناس (بالكتابة)، بينما "لم يصلح نفسه أولا بالعمل" . أما في الواقع فليس صوت الباطن هذا سوى صوت الشخصية القومية الباطنية لانطون سعادة، ومن ثم صوت الفكرة القومية السورية في أهم مراحل ارتقائها، أي رجوعها من سماء التنظير العقلي إلى ميدان الصراع العملي من اجل اختبارها وتجسيدها وتحقيق ما فيها.
بعبارة أخرى، إنه "صوت النبوة" القومية الحديثة الذي طالبه بالتركيز على الأبعاد العملية في الإصلاح. والعمل المباشر من أجل تغيير الواقع. انطلاقا من أن الإصلاح الحقيقي مقترن بالعمل فقط. وهذا بدوره لم يكن في الواقع سوى الصيغة الأيديولوجية المتوترة لطبيعة الانقلاب الهائل في التاريخ السياسي، التي لازمت الصيرورة العربية الحديثة وانقلابات وعيه السياسي. ففي إحدى محاضراته التي ألقاها تحت عنوان (التفكير العملي والإصلاح الاجتماعي) نراه يركز على جملة قضايا عملية كبرى بالنسبة للفكرة القومية مثل أهمية الأفكار في جعل علاقة الفرد بالمجتمع شيئا مفيدا لكليهما، وأهمية النخبة، أو ما اسماه بضرورة الاهتمام "بالطبقة الراقية وذلك لعظم مسئوليتها في تقرير الحياة القومية، وذلك لأنها عقل الشعب وقوته التفكيرية". وذلك لأنه "منها يجب أن تخرج المبادئ الصحيحة التي هي مصدر صحة الحياة القومية". وكذلك الفكرة القائلة، بأن "صحة الحياة القومية وجمال المطلب الأعلى يدلان على صحة حياة الأفراد الداخلية وجمال نفوسهم". مع ما يترتب على ذلك من ضرورة نقد حالة الفساد الاجتماعي والأخلاقي في الموقف من الإنسان المواطن. إضافة إلى نقد حالة التقليد، أيا كان شكله ومحتواه ومصدره، القديم منه والجديد. وذلك لأنهما كلاهما من صنف واحد. وينطبق هذا على قضية ما اسماه بالتقاليد الموروثة التي "تمنع نفسيتنا وعقليتنا من النمو وتشوه تركيبنا الاجتماعي وتجعلنا عاجزين عن تحقيق ما قد نرى فيه مطلبا أعلى جميلا". ولعل "المعتقدات الدينية والتقاليد الناشئة عنها" من بين أكثرها خطورة وجلاء، وذلك لأنها تقيم حواجز بين المسيحيين والمسلمين وتمنع من اشتراكهم اشتراكا فعليا في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والنفسية للأمة. ولعل في النظام الاجتماعي العائلي الذي يتمشى عليه المسيحيون والمسلمون نموذجا لما اسماه انطون سعادة بسيادة المبادئ الفاسدة التي تؤدي إلى قهر النفس. ووضع حصيلة أفكاره النقدية هذه في استنتاج نظري عملي يقول، بأن "الذين نمت نفوسهم في قوالب حديدية من التقاليد والمعتقدات يتزعزعون ويسقطون عند أول احتكاك وأول صدمة، أنهم لم يتمكنوا من مقاومة الأهواء لأنهم كانوا عديمي الإرادة، ولم يتمكنوا من اختيار السبيل لأنهم كانوا فاقدي الحرية". الأمر الذي يجعل من الاعتماد على الفكر العملي ضرورة، وذلك "لأن العصر الذي نعيش فيه هو عصر عمل". بل نراه يقلب في نهاية المطاف إحدى المرجعيات الفكرية الذائبة في لاهوت الأخلاق العملية، عبر وضعها بصيغة تقول "قديما قيل إن الأعمال بالنيات، وأنا أقول إن النيات بالأعمال" .
وفيما لو جرى انتزاع هذه الفكرة من تاريخها النظري واللاهوتي والأخلاقي، أي من أثرها بالنسبة لتطور المدارس الفكرية الكلامية والفقهية والأخلاقية، التي يجهلها انطون سعادة، فإن قيمتها تكمن في تأسيس ما يمكن دعوته بالخوارجية الجديدة، أي الحركة الداعية إلى أولوية وجوهرية العمل بوصفه محك الإيمان الصادق بالوحي الجديد للفكرة القومية. وفي كلتا الحالتين كان الإيمان العملي يرتقي إلى مصاف الفكر النظري المتشدد. وليس مصادفة أن نعثر في آراء ومواقف انطون سعادة حتى مراحل متأخرة من حياته على تعايش الفكرة النظرية المجردة والصيغ الوجدانية الخطابية. ففي معرض تحديده لماهية القومية، نسمع يقول، بأن "القومية هي يقظة الأمة وتنبهها لوحدة حياتها ولشخصيتها ومميزاتها ولوحدة مصيرها"، و"أنها عصبية الأمة وقد تلتبس أحيانا بالوطنية"، كما أنها "الوجدان العميق الحي الفاهم، المولد محبة الوطن والتعاون الداخلي بالنظر لدفع الأخطار"، وأنها "الشعور بوحدة المصالح الحيوية والنفسية"، والساعية من أجلها ومن أجل تحسينها "بالتعصب لهذه الحياة الجامعة" . كما نعثر عنده على تحديد لها بعبارة تقول:"القومية هي الروحية الواحدة والشعور الواحد المنبثق من الأمة، من وحدة الحياة في مجرى الزمان"، وأن القومية "ليست مجرد عصبية هوجاء أو نعرة متولدة من اعتقادات أولية أو دينية أو نعرة دموية سلالية، بل شعور خفي صادق وعواطف حية. أنها عوامل نفسية منبثقة من روابط الحياة الاجتماعية الموروثة والمعهودة" . وتراكمت كل هذه الصيغ المتنوعة في ما أطلق عليه انطون سعادة عبارة الوجدان القومي. وجعل من هذا الوجدان الصيغة الظاهرية والنفسية المرتبطة بالصيرورة المعقدة لما اسماه بشخصية الجماعة، بوصفها ذروة التطور الاجتماعي. ومن هنا استنتاجه القائل، بأن "الوجدان القومي هو أعظم ظاهرة اجتماعية في عصرنا" .
غير أن هذا الوجدان الذي تنتظم فيه بقدر واحد المشاعر الجياشة والمنطق البارد ليس إلا الوجه الاجتماعي لصيرورة الجماعة والأمة . ذلك يعني أن انطون سعادة يفرز في تأسيسه للفكرة القومية أسسها التاريخية والاجتماعية من خلال توحيد ظاهرة الجماعة والأمة في حلقات مترابطة تشكل أسس ومصدر الفكرة القومية وتجليها الوجداني. فقد اعتبر ظهور شخصية الجماعة أحد أعظم الحوادث التاريخية والاجتماعية. وكتب بهذا الصدد يقول، بأنه إذا "كان ظهور الفرد حدثا عظيما في ارتقاء النفس البشرية وتطور الاجتماع الإنساني، فان ظهور شخصية الجماعة كان أعظم حوادث التطور البشري شأنا وأبعدها نتيجة وأكثرها دقة ولطافة وأشدها تعقيدا" . بعبارة أخرى، إنَّ ظهور الجماعة كان يحتوي من حيث مقدماته التاريخية وآثاره الاجتماعية على إمكانية هائلة بالنسبة للرقي الإنساني والثقافي. وليست القومية الحديثة سوى الصيغة الأكثر تكاملا وتجسيدا لهذا الارتقاء التاريخي المعقد للجماعة. وجعل من هذه المقدمة وتحليله والاستنتاجات المترتبة عليها مقدمة حدَّ فيها ماهية الفكرة القومية وحقيقتها.(يتبع....).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مراسلنا: دمار كبير في موقع عسكري تابع لفصائل مسلحة في منطقة


.. إيران تقلل من شأن الهجوم الذي تعرضت له وتتجاهل الإشارة لمسؤو




.. أصوات انفجارات في محافظة بابل العراقية وسط تقارير عن هجوم بط


.. جيش الاحتلال يعلن إصابة 4 جنود خلال اشتباكات مع مقاومين في ط




.. بيان للحشد الشعبي العراقي: انفجار بمقر للحشد في قاعدة كالسو