الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المرأة المسلمة في بلاد اللجوء؛ بين ثقافتي الشرق والغرب؟

هوازن خداج
صحفية وباحثة

(Hawazen Khadaj)

2021 / 2 / 21
الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة


متغيرات كثيرة طاولت أوضاع الجنس البشري، فالمنظومة التقليدية التي شكلت البناء الأول لتفوّق الرجل مقابل دونية المرأة المحكوم بامتيازات البيولوجيا الجسدية، لم يبقَ منها ما يستطيع مواجهة التطور المختلف على مستوى العالم. ولكن خيوطها الممتدة نحو كمٍّ من "القيم" المجبولة مع مُحرّمات الأديان والثقافات، مازالت تحكم جزءاً من النساء وتأسرهن داخل جدران صلبة من العادات والتقاليد والأخلاقيات لم تكن دوماً شديدة الاحترام لحقوق الإنسان الأساسية أو للكرامة المتساوية للجميع؛ إذ ما تزال حقوق المرأة وقضاياها مشكلة العصر، وتزداد حدّة في المجتمعات التي يختلط فيها الديني والمجتمعي الثقافي لتشكل انقساماً في أوضاع النساء، ليس فقط وفقاً لمنظومتين من القوانين الدينية – الثقافية الإسلامية وتعبيراتها القدسية، وقوانين المجتمعات المستقبِلة وتعابيرها الحقوقية المتساوية، بل بين عالمي (الدين والدنيا) و(المعاصرة والتخلف) وما يتبعهما من انشطارات حادّة طاولت عالم النساء، مُشكّلة افتراقاً واضحاً في وحدة قضاياهن، وانعكاسها على النساء المُسلمات خارج بلدانهن. فتغيير نمط الحياة شكل دفعاً للكثيرات منهن للاصطدام بتلك الأسوار التي تُسيّج مساحات التفكير ضمن جغرافيا المقدس، وثوابته السّكونية المؤبّدة، ليُشكلن فراراً منها نحو واقع جديد ومغاير، أو الاختباء خلفها لمنع أي ثقافة مغايرة من اختراق وجودهن، وغالباً يزددن تشظياً بين الممكن والواجب، ويعشن في تناوب داخل حلقة الانفصال والاتصال عن الجماعة الدينية وقيمها وعن المجتمعات الحديثة، مُرسِّخة لحالة اغتراب مزدوج.
يلقي هذا البحث الضوء على بعض تجلياتها في:
• الهوية الدينية للمرأة (الانفصال والاتصال)
• التصورات المتبادلة بين النساء المُسلمات والغرب
• أثر الإقامة في أوروبا على تفكير المُسلمات
• المُسلمات والقضايا الشائكة
• أزمة المُسلمات في الانفصال والاتصال
• التوصية
مقدمة
داخل مجموعة كبيرة من المشكلات "الصراعية" التي تعيشها البشرية تتصدر مشكلة "الهوية الدينية الإسلامية" يزيد هذه المشكلات على نحو لافت تفاقماً في العالم الإسلامي النمط العولمي باعتباره ضياعاً لما هو ثقافي وتاريخي، وتلاشياً للكينونة الدينية ضمن أشكال من التواصلات والتشابكات والتغيُّرات العديدة في معاني الحياة ومعالمها، إذ تجعل هوية المتدينين (المسلمين) "هشّة" لا يُمكنها مواجهة مسار الثورات المعرفية الهائلة، والتحولات الاقتصادية الثقافية والطفرات العلمية التكنولوجية، لتزيد حامليها انغلاقاً أو تشظياً في الدفاع عن وجود مُهدّد بالضياع والاستلاب في ميدان يضجّ بالمعطيات المختلفة البعيدة عن الأفكار الأولية لحاجات البشر البسيطة كالدين الذي يساعد على التكيّف وتحقيق الذات.
ويزيدها إرباكاً لدى مسلمي "الخارج" مسألة الاندماج التي تفرض التخلي عما هو تقليدي والاتصاف بالحداثي، من خلال تبنّي القيم الحقوقية والقوننة التي لا تتناسب مع مسطرة "القيم الإسلامية" في تمايزها وخصوصياتها، حسب ما يعتقد المحافظون على السياجات الإسلامية المغلقة، وكذلك ما يعتقده أبناء الدول الأوربية حول عدم مناسبة القيم الإسلامية لمجتمعهم..( )
هذا الشعور جعل الكثير من المسلمين ينظرون إلى أنفسهم بعين الضحية، ويعيدون تشكيل الهوية في صورة معتقدات خلاصية تفرض نمطها الفهمي والمعيشي، وكرسالة يتوجب تأديتها للحفاظ على طبيعة المجتمع الثابتة؛ فالهوية الدينية تمتلك مضموناً شبه مستقر، وتدين للسلف بالتأسيس لروح الجماعة، وقيمها، لتكون جزءاً من مشكلة المُسلمات مهما اختلفت الجغرافيا، إذ لايزال موضوع المرأة أحد أهم القضايا الحساسة والصراعية بين منظومتي التحرر والتدين ونظرتهما للمرأة، ولا يقتصر فقط على حدود أزمة الهوية الدينية لهنّ، إنما باعتبار "المرأة" جزءاً "قيمياً" له خصوصيته للجماعة الدينية، التي انعكست على هويتهنّ في أوروبا بطرق مختلفة.
الهوية الدينية للمرأة (الانفصال والاتصال)
شكلت الهوية الدينية للمرأة المُسلمة في العالم الإسلامي جزءاً من شخصيتها الإيمانية والمجتمعية معاًـ فتقسيمات النوع الاجتماعي (الرجل/المرأة) مازالت قائمة على المميزات المتصلة بتحديد أدوارهما بناء على الأوامر العقائدية (حقوق وواجبات)، وما يرافقها من المحرّمات والتابوهات المجتمعية (العادات والتقاليد..) المتأصّلة ضمن منظومة أخلاقية تحاصر المرأة، ويتم تكوينها ضمن منظومة تربوية تتلقاها منذ بداية وعيها الأولي للاختلاف بينها وبين الذكر (يحق له ما لا يحق لها).
وبالعموم يبقى التزام النساء بالهوية الدينية أمراً أساسياً ولا يخص ديانة بعينها، وذلك حسب البحث الذي أجراه معهد (PewForum.org) بين عامي 2008 و2015، وتشير فيه البيانات الموسّعة عن النوع الاجتماعي والدين لـ "ست" مجموعات دينية مختلفة (مسيحيون، مسلمون، بوذيون، هندوس، يهود، غير منتسبين لدين) إلى أن "النساء أكثر تديّناً من الرجال" على مستوى العالم، فهنّ عموماً لا يملن إلى الإلحاد أو الانفصال عن مقومات الفكر الديني على عكس الرجال. أما فيما يخص المسلمين فكانت: ( )
المسلمون النساء الرجال
الحضور الأسبوعي للمساجد 42% 72%
الصلاة اليومية 72% 71%
أهمية الدين 76% 76%
الإيمان بالجنة 94% 93%
الإيمان بالجحيم 88% 88%
الإيمان بالملائكة 86% 85%

من خلال هذه الدراسة فإن الرجال والنساء المسلمين لديهم مستويات متشابهة من التديّن على مستوى جميع المعايير، ما عدا الصلاة في المساجد وهي شأن طبيعي، صلاة المسلمات تُفضّل في "حجرتهن". وتتقارب النسب في بقية الأمور.. لا يلغي التمايزات بين الرجل والمرأة ببعدها التاريخي المترسخ في المخزون الاجتماعي، وفرضها هوية أنثوية متمايزة عن هوية الرجل في النظر إلى الأمور الدينية، ثم الاجتماعية -الثقافية كمقدسات. ما يجعل تغيير المكان لا يعني الخروج عن المحددات والتمايزات الأساسية في الهوية كونه شيئاً أشبه بالإدراك الذي يمتلكه الأفراد حول أنفسهم، والمميزات الأساسية التي تحددهم بوصفهم كذلك، وأن الخروج منها يتطلب التكيف مع أنماط اندراج اجتماعي وممارسة كثيرة التنوع، لتكوين مسعى وسطي يمكّن المرء من الإفادة من كل تجربة ناجحة وإعادة صياغتها ثم إدراجها في كينونته الخاصة على صعيد الحياة الدينية، كما يعبر عنها "ليفي شتراوس" إنها تتجلى في الاتجاه نحو، لا في العودة إلى، إنها في التفتح لا في التقوقع وفي التفاعل لا في العزلة.( )
الارتباط المجتمعي إن خفت حدّته في أوروبا، لم يلغِ خضوعها للحصانة من التماثل مع المجتمع في بعض الأسر المُسلمة التي يجد فيها تبني المرأة للثقافة العامة أو الانبهار مقاومة، بوصفه تعبيراً عن انحلال أخلاقي، وهذا ما يمكن تتبعه في أقوال الدعاة، والأئمة وإلحاحهم في أفق التفتح الشخصي على موضوعات أخلاقية وروحية، فما ينشره كتّاب معاصرون عن التصدي لمشاعر العداء المتنامية ضد المسلمين في بعض الدول الأوروبية مثل: حفيد حسن البنا "طارق رمضان" حول واقع أن التساكن ممكن، بموجب الشرع طالما ليس هناك حرب قائمة بين المسيحيين والمسلمين، هو بعيد بشكل ما عن مناقشة أوضاع النساء، إلا بالحدود المتيسرة (الضرورات تبيح المحظورات)، وهي فكرة تحتمل الاختلاف حول حدود الضرورات والمحظورات، والقوة المتفاعلة بينهما وانعكاسها على النساء كمحفز للتفاعل أو رادع عنه.
وبغض النظر عن القضايا الجنائية (الاغتصاب، التحرش..) المنسوبة إليه، وأقوال أخيه "هاني رمضان" حول ضرورة الجهاد، وتشبيهه المرأة المسلمة بلا حجاب بقطعة 2 يورو التي تنتقل من يد ليد.( )
ولكنه لا يُلغي وجود الخارجات عن هذا القانون في بلدان العالم الإسلامي، ولا يلغي سقوط الهوية الدينية بمعناها التقليدي للمرأة المُسلمة في ابتعادها عن الجغرافيا الثقافية للإسلام، نتيجة عدم خضوع المسلمين لقانون إسلامي، أو لضغوط رأي عام يُلزمهم بممارسات محددة، جعلت ممارسة الدين بالنسبة لهم خاضعة لقناعات فردية تنمَّى بطرق مختلفة تتراوح بين الانغلاق على الذات، والتقيد بالجماعة الدينية، وبين تنمية هوية دينية فردية يعاد فيها تنظيم القيم بما يسمح له بعدم التقيّد بالتقليد، وغالباً يتم الفصل بين الانتماء العام والدين، لتشكيل هوية دينية تمثل الفطري، والمكتسب في السلوكيات البشرية، الأمر الذي ساهم في تشكيل مُسلمات أوروبا لهوية دينية خاصة بعيداً عن الخضوع السلبي لمعايير المجتمعات الإسلامية، ولها أبعاد واعتبارات مختلفة عن هوية التبعية المطلقة أو النسبية في المجتمعات الإسلامية.
في النظر إلى الأبحاث المتعددة حول المرأة المُسلمة في أوروبا، فإن تشكيلها هوية دينية يخضع لثلاثة اتجاهات:
الأول: يفرض فيه على المرأة نوعاً من الاستبعاد الاجتماعي، يجعل إمكانية تكوين الهوية الفردية أكثر صعوبة لاعتبارات نفسية ومجتمعية ودينية، مرتبطة بقلة التفاعل المتحرك بين السلوكيات المحيطة وبُنى الاتصال والاستتباع (العائلة والتقاليد..) التي تحدّ من إمكانية حضور الآخر في صيرورة الهوية، لتبقى الهوية الدينية بوصفها نظاماً مكتملاً من المعاني لديهنّ هي السمة العامة، ما جعل بعضهنّ يكتسب مقاومة أقوى من التماثل مع القانون والمجتمع "الجديد"، نتيجة قناعة مترسخة بأن ما يمسّ وضعهنّ الاجتماعي "مقدس" ويضاهي انتماءهن لهوية دينية تقاوم التغريب، فرفضهنّ الاندماج يكون لحماية هويتهنّ النفسية والجسدية بما هي ملك للجماعة الدينية من التحطيم.
الثاني: تميل فيه المرأة المُسلمة لنحت هوية معاصرة، ومتماشية مع المجتمع "الغريب"، مع الحفاظ على الربط الديني الاجتماعي المتأثر ضمناً بالبيئات الأصلية، وبالشعور الذي يحملنه عن بلد الاستقبال، وبأقدمية وجودهن في هذه البلدان، وبقدرتهن الذاتية على النجاح أو الفشل فيها، وعلاقتهن الفردية بـ (التفاعل) مع المجتمع الجديد. هذه الشروط وغيرها جعلت هوية المُسلمات "قلقة ومضطربة" فمسألة "الولاء المزدوج" تحافظ على اعتبار الانتماء إلى الدين هو انتماء للتقاليد الدينية والاجتماعية المُلزمة كافة، والخروج من التقليد يماثل بشكل ما الخروج عن الدين.
الثالث: وهو الاتجاه الذي خرجت فيه النساء نحو تبنّي هوية دينية لا تعتمد التقليد والتبعية بل ترفضها، وهي مزاوجة بين الحداثي والديني، تحوّل فيها الدين إلى الفضاء الخصوصي الروحي، فاسحاً في المجال لقبول المجتمع الجديد دون اعتباره غريباً أو غربياً، فهذه المرأة باتت جزءاً من المجتمع كمواطنة مشاركة في الحياة العامة، لتبني تآلفاً بين الممكن دينياً والموجود مجتمعياً في مجتمعات علمانية، وبالتالي تردم الفجوة بين التعريفات الذاتية التقليدية للخصوصية الدينية الإسلامية، والمجتمع الأوروبي لصالح تبنّي قيم دينية ذاتية.
إنَّ تكوين هوية إنسانية منفتحة يحيَّد فيها الدين عن المجال العام بالنسبة للمرأة، يحتاج لوضع اجتماعي متقبّل ومتفاعل يدفعها للخروج عن الأوضاع "السكونية" التي تؤلفها الجماعة الدينية المحتكرة للمرأة ككائن، وهي الخطوة الأولى في تشكيل هوية فردية لها، تمكّنها من الاندماج بالمجتمعات المستقبلة لتكوين التجربة الثقافية التي تمنحها معنى لوجودها، فالهوية الإنسانية لا تقوم إلا كـمحصّلة مسارات متعددة ومتراكمة على امتداد الزمن، والفرد هو الذي يعطي التجارب المتتالية والمتباينة التي يعيشها القيمة التي تصيّرها مساراً ذا معنى.( )
ولكن هل يمكن تحقيق الهوية الإنسانية بالابتعاد الجغرافي فقط؟ أم إنها تبقى خاضعة لاعتبارات أخرى أهمها: التصورات المتبادلة بين النساء
العلاقة التاريخية بين الغرب والشرق رافقها كمّ من التصورات المتبادلة بعضها حول بعض، كانت فيه النساء جزءاً غير منفصل وإحدى المسائل المؤثرة على كلا الجانبين، دافعة لإرباكات مختلفة في آلية التعاطي، وقد تقاسمتها العديد من النظريات:
أولاً: نظرية الاستشراق (Orientalism): هي دراسة كافّة البُنى الثقافيّة "لغة وثقافة وتاريخاً وفناً وديناً وغيرها" للشرق من وجهة نظر غربية، وقد تجلّت كمسألة تتعلّق بالجغرافيا السياسية، والمحكومة بـ "المعرفة" للآخر مما احتاجه الغرب في عصر الإمبراطوريات والاستعمار. فمفهوم "الاستشراق" حسب "إدوار سعيد" لا يقتصر على عناصر المعرفة، والدراسة العلمية الوضعية، لكنه يتضمن أيضاً خطاب الذات الغربية، التي تنظر إلى الشرق كمقابل لها، ليكون خطاباً استحواذي القوة على مسلوبي القوة.( )
خطاب الاستشراق ساهم بشكل ما في خلق وتداول كليشيهات محددة، إيجابية كانت أم سلبية عن الشرق، حملت سردياتها الكثير حول النساء؛ فمن خيال أسطورة وحكايات ألف ليلة وليلة، والخصوبة التي منحتها قصص الأميرة شهرزاد للمخيلة، إلى مسألة الدونية والتهميش مع الطروحات المعاصرة (الشبقية والكبت)، تشكلت جملة إرباكات في طرح قضايا النساء المُسلمات، التي مازالت بشكل ما محكومة بالنظر إليهن من خلال أعين "الزائرات" الأوروبيات للشرق منذ القرن التاسع عشر، والتركيز على مواضيع مثل الحريم والحجاب وتعدد الزوجات والزواج القهري والختان.. أو على تلك الفتنة و"الحرية" المخفية تحت الحجاب، ثم انتقلت مع التنوير وتحرر النساء في أوروبا إلى موضع الإنقاذ لكائن مضطهد، ومقموع ومعذّب، لا يتحرك إلا في البيت أو داخل الحريم، في قفص ذهبي.( )
الصورة السلبية التي شكلها الاستشراق غذّت نسبياً شعور التفوق للأوروبيات مقابل الدونية للمسلمات، الذي أنتج خللاً في التعاطي العام مع قضية المرأة كقضية عالمية، لا فرق فيها بين الشرق والغرب.
وهذا دفع لظهور العديد من الكتابات التي تخرج نحو تفكيك الطروحات السائدة باتجاهات مختلفة كجيرمين تيلون كتاب "الحريم وأولاد العم" الذي بحث في المُسلّمات العامة كمسألة الحجاب والحريم باعتبارها شأناً إسلامياً لتعيدها إلى المكان الجغرافي أكثر من الديني، كون تهميش المرأة يشمل مساحة لا تتضمن فقط البلدان الإسلامية، والبحث التاريخي يبرهن أن الحريم والحجاب هما في الغالب أقدم من الوحي القرآني.( )
في العموم ليست الرؤية المشوَّهة للإسلام هي المسؤولة عن الوصاية المفروضة على النساء، إنما هناك ثقافة عامة مهيمنة تحتاج بحثاً منفصلاً.
ثانياً: نظرة المُسلمات إلى المرأة الأوروبية: في موازاة نظرية الاستشراق سادت رؤية مغايرة ومختلفة عن المرأة الأخرى في الغرب عموماً، تمتدّ من مسألة تعاطي الدينين المسيحي واليهودي مع المرأة وحرمانها من حقوقها كافة فهي أكثر خضوعاً وتهميشاً مما هي عليه في الإسلام، إلى تحرر المرأة كمعادل للانفلات الأخلاقي وهدم البنيان الطبيعي للكون في ثنائية (الرجل والمرأة) وما يترتب عليهما؛ لقد شكلت كلتا النظرتين (الخضوع/الفجور) نصّاً مكتملاً في أحاديث الدعاة، والفقهاء، وعلماء الدين ورجاله لتكون ردّاً على قضايا المرأة في المساواة والتحرّر، وعاملاً في قولبة خيال المرأة المُسلمة، ونظرتها إلى قرينتها الأوروبية، وفي ازدياد إرباكها في العالم الإسلامي إثر طرح قضايا المرأة كموضوع عالمي وداخل المجتمعات المستقبلة التي حسمت خيارها تجاه قضايا المرأة التحررية.
الصورة التي شكّلتها المرأة المُسلمة عن نظيرتها الأوروبية، صعبة التفكيك، كونها قائمة على تشابكات دينية ومجتمعية:
من ناحية الدين: الخلاف بين الأديان لا يقتصر على نظرة كل دين للآخر وتفوقه في الجور على النساء، بل في تبنّي غالبية المُسلمات للحقوق والواجبات الشرعية المنصوص عليها في (القرآن والسنة والإجماع ثم القياس والاجتهاد) وكل ما عدا ذلك باطل، وهذه غالباً تحدد دور المرأة في العائلة لا خارجها، لتكون فكرة المرأة عن وجودها متناسبة مع ما يروّج له غالباً الدعاة والشيوخ والفقهاء في نقاشهم لمكتسبات التحرر كمعادل لفقدان العائلة التي لا تقتصر على أقوال ابن تيمية: " المرأة كاللحم على وضم" كناية عن الغاية في الضعف، ويعدُّهنّ أسرع للفواحش، ويقرّ بزواج القاصرات، ويدعم كل المعيقات في سبيل تقدمهنّ.( )
أو أقوال حسن البنا المرأة الجوهرة الذي يصبّ في عزلها وعزلتها، بل يتبناها العديد من المفكرين المسلمين الذين يمثلون الخروج على التقاليد مثل علي شريعتي الذي يعدُّ تحرر النساء هجوماً على المسلمين، وأنه "إذا منحنا المرأة حقوقها الإنسانية، والإسلامية نكون قد أعددنا أفضل عنصر قادر على مجابهة هذا الهجوم" وأن على المرأة ألا تختار" لا النهج التقليدي الرجعي، ولا النهج الحديث المستورد، وإنما تختار النهج الذي أراده الإسلام للمرأة".( )
من ناحية المجتمع: لقد رُسّخت على مرّ القرون بُنية ذكورية وضعت النساء ضمن المراتب الدنيا داخل البيت والمجتمع، ومع تفكيك ذكورية المجتمع في دول أوروبا وخروج الأوروبيات من قوننة الدين ومن التشريعات القانونية السابقة على النهضة الأوروبية، سادت مقولات الانحراف الأخلاقي، وكان لتشابك الدين والأخلاق والمجتمع لدى المسلمين أثره الكبير في انكفاء النساء عن قضايا التحرر، وهذه أخذت مداها الواسع في أقوال الدعاة والشيوخ، لترتبط بشكل ما في أذهان المُسلمات على أنَّ هذا التحرر هو خطيئة، خصوصاً أن تتبع ما يقال حول أن هذا التقدم لم يُكسب المرأة شيئاً سوى تحويلها إلى (مسترجلة أو سلعة).
ويبقى السؤال: هل تخلت المُسلمات عن هذه النظرة تجاه المرأة الأخرى بعد أن لمست ميزات التحرر والمساواة؟
ثالثاً: نظرة الدين للمرأة مقابل نظرية الانفتاح والتحرر: المتغيرات التي طالت أوضاع النساء في أوروبا والخروج من قوننة الدين إلى تأكيد الحقوق المتساوية للجنسين، أفقدت الجدوى من تسليط الضوء على "حقوق" المرأة في الأديان ومنافسات التفوق في إعطاء حقوق لا تقارب طموح "المساواة" بين البشر، ولكنها غرست تفاوتاً كبيراً بين عالمين للنساء (الحداثة- التخلف) وتحت سقفين (العلمانية – الدين) التي جعلت العالم الإسلامي يخوض حيرة الاختيار والاندماج متعللاً بأسباب مختلفة تقوم على الخصوصية الدينية والثقافية. المشكلات التي يعيشها المسلمون في بلدانهم وما واكبها من معطيات، جعلت القطع مع الحداثة يتم بالكشف الدؤوب عن أكذوبة التقدُّم العلمي والتقني والسقوط الأخلاقي والإنساني، وكذلك عن زيف التحرر النسوي، الذي يمكن تتبع عناوين الكتب التي تمتد بين الدفاع عن الإسلام وحقوق المرأة فيها إلى تفكيك التحرر وأثره على المجتمعات. (موسوعة بيان الإسلام للرد على الافتراءات والشبهات، أشرف عليها 933 عالماً وداعية وخبيراً. التحرير الإسلامي للمرأة "الرد على شبهات الغلاة" د. محمد عمارة. فتاوى المرأة المُسلمة، د. يوسف القرضاوي. قضايا المرأة المعاصرة، د. سعاد صالح. المرأة بين طغيان النظام الغربي ولطائف التشريع الرباني، د. محمد سعيد رمضان البوطي). وغيرها الكثير.
كما يتم تسليط الضوء على المشكلات المجتمعية في الغرب عموماً وتصنّف باسم (جرائم) التطور والتحرر وحتى حقوق الإنسان، كالاغتصاب وسوء المعاملة والتعنيف (الضرب) الذي تدفع ثمنه نساء الغرب، وتدرج الكثير من الأمثلة عليها حسب ما تنقله الصحف. مثلاً: 3% من الأمريكيات تعرضن للاغتصاب! وفيها 6.1 مليون امرأة مشرّدة. وفي فرنسا مليونا امرأة معرضة للضرب سنوياً. يقول الرئيس الفرنسي "ماكرون" حسب bbc إنه "عار على فرنسا أن تقتل امرأة كل ثلاثة أيام بسبب العنف الأسري"، وأن فرنسا "لا ينبغي أن تكون من بين الدول التي تعيش فيها النساء في خوف".( )
أما مسألة الزواج بأربعة فيتم تفكيكها في إحصائيات الخيانات والعشيقات وفي التأكيد على أنها سُنّة طبيعية للرجل وإقرارها شرعاً نتيجة معرفة الدين لطبيعة الرجل.
المسألة الأهم التي يجري التركيز عليها دينياً هي مسألة (التفكك الأسري) لتكون على رأس القائمة في تشكيل عوامل الردع للمرأة ليس لكونها مسألة دينية ومجتمعية معاً، بل لأنها تدخل في صميم التكوين الأنثوي. وهو ما جعلها تشكل خطاباً للكثير من الدعاة في تسليط الضوء على أرقام المطلقات، وانخفاض أعداد المواليد، وازدياد عدد الأُسر التي تقوم على أحد الوالدين وغالباً الأم، والأطفال غير الشرعيين، وخطورة هذا كله في جعله سبباً لعمل المرأة خارج المنزل؛ ومن المفكرين كما يقول علي عزت بيخوفتش: "إن الحضارة لا تقضي على الأسرة فقط من الناحية النظرية، وإنما تفعل ذلك في الواقع. فقد كان الرجل هو أول من هجر الأسرة ثم تبعته المرأة، وأخيراً الأطفال.. وإن الحضارة ألحقت الخزي بالأمهات بصفة خاصة، فهي تفضّل على الأمومة أن تحترف الفتاة مهنة البيع، أو أن تكون موديلاً أو معلمة لأطفال الآخرين، أو.. وتفخر بعدد النساء اللاتي نزعتهن (تقول حررتهن) من الأسرة والأطفال لتلحقهن بطابور الموظفات".( )
أمام هذا الواقع المعقّد وغياب الموقف العقلاني والفكري من الحداثة والتحرر، يأتي التأكيد المستمر على أن الإسلام أعطى المرأة حقوقاً لم تكن موجودة في الجاهلية، ولدى الأديان السابقة لترسيخ الاكتفاء بما شرّعه الدين الإسلامي، ولتشكل مساراً بالنسبة لغالبية المُسلمات، خصوصاً مع ترويج أنَّ ما تعيشه النساء في الغرب هو فجور "الجاهلية" لا تتمنى المرأة المتدينة العودة إليه، وكذلك لا تتمنى كثيرات مواجهة ما يُشاع حول "التفكك الأسري" إذا توصلن لقناعة بأنه منتج محصور بحرية المرأة!
الأثر الذي تتركه هذه الخطابات تتفاوت نسبة تبنّيها بين المُسلمات في أوروبا وتخضع لمقدار تأثرهنّ بالبيئات الأصلية وبما يتصورنه عن التحرر، والخزينة الثقافية التي يمتلكنها، وتختلف بين الأجيال، فتلك التي فقدت ارتباطها باللغة العربية، وما ينشر من كراسات وخطب، لا تعيش انفعال أزمة العالم الإسلامي مع الحداثة، بل تتبع لبعد آخر ينتهجه الواعظون والأئمة أو المفكرون المسلمون الأوروبيون الموجودون في فضاء أوروبي، والنقاط المشتركة التي يرتكزون عليها هي إلحاحهم على موضوعات أخلاقية وروحية، والصبر والمعاناة، ومقاومة الإغراء والإغواء، وتجنب المحظورات التي تترك مجالاً لاستبطان التديّن في مجالات الحقوق والواجبات والالتزامات من جهة، وفي مجالات الامتيازات والتحريمات من جهة ثانية، لتزيدهنّ تشظياً بين الممكن والواجب، مرسخة اغتراباً مزدوجاً.
أثر الإقامة في أوروبا على تفكير المُسلمات
الخليط المتنوع من الأعراق واللغات والثقافات والتقاليد، كذلك الانتماء الديني والميول الفكرية والعقائدية الذي احتضنته أوروبا في فترات مختلفة من الهجرات، وأسباب الهجرات المتباينة بين العمل والتعليم والبحث عن الرفاه الاجتماعي، أو تحقيق الذات والوجود الذي يمكن ملاحظته لدى جزء من المهاجرين الذين شكلت أوروبا "حلماً" بالنسبة إليهم للخروج من واقعهم الاجتماعي بتجلّياته كافة، يجعل اعتبار المُسلمات مضطهدات وعاطلات عن العمل والتعليم والمشاركة، تخميناً لا يخلو من المبالغة، فهو لا ينطبق على المُسلمات كافة، والمتغيرات القانونية والمدنية فرضت واقعاً مختلفاً التغى معه "نسبياً" خضوعهنّ للقوننة الدينية والاجتماعية، ويمكن تبيّنها في:
الناحية القانونية:
القوانين الأوروبية تنطبق على الجميع، وحرمان الرجل المسلم من مكتسباته المجتمعية والدينية داخل قانون حضاري ومدني وأخطرها: (تعدد الزوجات، زواج القاصرات، الزواج القسري..) أعطى لطبيعة حياة المُسلمة طابعاً مختلفاً، مثلاً:
تعدد الزوجات: العديد من الدول الأوروبية تمنع قوانينها الجزائية التجمع للعائلات (المتعددة) والزوجين مخيرين فإما الطلاق "الامتناع عن المعاشرة" وإما العيش بشكل غير قانوني، كفرنسا مثلاً: عقب قانون (باسكوا) صار ممنوعاً منح بطاقات الإقامة للأشخاص متعددي الزوجات، وحسب قانونها الجزائي المادة (433-20) فإن تعدد الزوجات يستوجب عقوبة الحبس لمدة عام وغرامة مالية قدرها 45 ألف يورو.( )
ويحاول بعض المسلمين الضغط باتجاه الاعتراف بقانون الأحوال الشخصية الإسلامية، باعتبار قانون العقد المدني لا يواكب عقد الزواج في أحكام (المهر، المتعة، النفقة، الحضانة)، وأن الحرمان من تعدد الزوجات أدى إلى تشظّي الأسر المُسلمة وارتفاع نسبة الطلاق فيها.( )
علما أنه لا يمثل حالة عامة حسب استطلاع أعدّته مؤسّسة (I fop) لحساب (l’Institut Montaigne ) بين نيسان/أبريل وأيار/مايو 2016، على عينة من 1029 شخصاً مسلماً أو يتبنون الثقافة الإسلامية في فرنسا، بيّنت الانقسام بين المسلمين وطريقة رؤيتهم للدين وجود ثلاث مجموعات:( )
المجموعات النسبة % التقييم ملاحظات
المجموعة الأولى 46 % تبنّوا بالكامل العلمانية ومنظومة القيم الأوروبية- بطريق الاندماج يمارسون شعائرهم دون أي تضارب مع قيم المجتمع الفرنسي.
المجموعة الثانية 25 % تشدد في التدّين والتمسّك بالهوية الإسلامية ترفض ارتداء النقاب وتعدد الزوجات.
المجموعة الثالثة 28% اعتنقوا عقيدة دينية متشددة وتبنّوا خطاباً متطرفاً يتنافى مع قيم الجمهورية يعيشون على هامش المجتمع ويتمثلون بشكل كبير لدى الفئات الشبابية.

زواج القاصرات: في جميع الدول الأعضاء، الحد الأدنى للسن المطلوب للزواج يتوافق مع سن الرشد، ويتم تحديده بـ 18 عاماً، ويحتاج الزواج قبل هذه السن في 16 عاماً إلى موافقة الولاية القضائية في بعض البلدان. والدول الأوروبية عموماً ملتزمة قانونياً فيما يتعلق بالاعتداء الجنسي على الأطفال دون سن 18 عاماً، واتفاقية (Lanzarote)، التي دخلت حيّز التنفيذ في عام 2011، تُلزم البلدان التي صادقت عليها بتجريم بعض الأفعال المتعلقة بالأطفال دون سن 18. وتعدُّ أول صك يثبت الأشكال المختلفة للاعتداء الجنسي على الأطفال كجرائم جنائية، بما في ذلك الاعتداء المرتكب في المنزل أو الأسرة، باستخدام القوة أو الإكراه أو التهديد.( )
الزواج القسري: ليس له معنى قانوني صريح ويعرَّف بشكل مختلف وهناك عدد من الدراسات في بعض الدول الأوروبية تعتقد بوجوده بحسب الشبكة الأوروبية ضد العنصرية وكراهية الأجانب (EUMC):( )
بلجيكا: يعتقد 74% من التلاميذ الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و18 سنة باستمرار ممارسته. وهناك 16% يعرفون حالات الزواج تحت الإكراه داخل دائرتهم، و7% قالوا إنهم على علم بذلك داخل أسرهم.
ألمانيا: وجدت دراسة حكومية وجود حالات عنف أسري ضد النساء التركيات ومرتبطة بالزواج القسري أو المُدبّر، وهناك 17% من العينة يعتقدون بإجبارهنّ على الزواج.
فرنسا: وجد تقرير (Le Haut conseil àl’intégration) عام 2003 بأن أكثر من 70.000 شخص تتراوح أعمارهم بين 10 و18 عاماً من المهاجرين واجهت مشاكل في الزواج القسري أو المُدبّر، وتنتشر غالباً بين مجتمعات من مالي وموريتانيا والسنغال، وأيضاً المغرب الكبير وتركيا وباكستان.
وتجدر الإشارة إلى تقديم الحكومة الألمانية في (27 أكتوبر- تشرين الأول/ 2010) مسودة قانون للحدّ من ظاهرة الزواج القسري، وتجريم هذا النوع من الزواج وتشديد العقوبات عليه بالسجن لمدة قد تصل إلى خمس سنوات، لكنها تعرضت للنقد من قبل جهات عدة بينها جمعيات إسلامية.( )
بالنتيجة ما تنص عليه دول الاتحاد الأوروبي من قوانين المساواة ومنع العنف والإكراه وإضافة لأمور أخرى كالصحة والاستقلال وحرية التعبير، تفسح المجال أمام المُسلمات لإدراك الفرق ولرد أي تسلّط ذكوري، ولكنه سيبقى قاصراً على وعي المُسلمات بمكتسباتهنّ القانونية في بلدان أوروبا.
الناحية الاجتماعية (التعليم العمل والمشاركة):
إن تأثر المرأة بالمحيط وحاجاته، وكذلك حاجاتها كفرد، تفرض منحى مختلفاً عما عاشته في بلدها الأصلي، فالانتقال من تصور مسألة التعليم والعمل كحقوق إلى عيشها كواجب، تتشكل فجوة فكرية تتعدى حدودها الطرح الإسلامي، وتصل نحو دعاة تمكين المرأة المُسلمة أنفسهم؛ ففي البلدان الإسلامية، صاغت حركات تمكين المرأة مسألة الحقوق ضمن كليشهات منفصلة، جاعلة التعليم، والعمل، والمشاركة السياسية، وتقلّد الوظائف العليا، كحقوق بدل أن تكون واجبات المرأة، مثلها مثل الرجل في عالم تحولت فيه قوة الوجود إلى قوة الإنتاج المجرّدة، وبذلك أسقطت الحقوق الفعلية وهي حق الفعل، والحياة، وامتلاك المال، والتمتع بالرعاية الصحية والبدنية، وحق احترام الشخصية. ولكن التوصل إلى اعتبارها واجباً يتطلب انخراطاً في المجال العام لدول الاتحاد الأوروبي، وإلغاء التفاوت بين الرجال والنساء. وهذا لم يحدث، إذ ذكر تقرير (EUMC) حول أوضاع المسلمين في العمل والتعليم والإسكان فروقاً في الأجور، ونوع العمالة، ومعدلات البطالة بين المهاجرين، وعلى سبيل المثال: كانت نسبة أعلى معدل بطالة للذكور13% في المملكة المتحدة عام 2004 وأعلى معدل بطالة للإناث 18% اللواتي تتراوح أعمارهن بين 16و24 سنة. لكن هذه الإحصائية لا تبيّن الأسباب وهل هي متعلقة بمنع المسلمين من العمل وتعليم بناتهم أم لا؟
في ألمانيا أثبتت دراسة "للباحثتين أورسولا بوس نونينغ وياسمين كاراكازولو"، أن التوجهات الخاصة بالتعليم والعمل لا تختلف لدى الشابات من أصول مهاجرة عن غيرهن. واستطلعت آراء فتيات من المهاجرات تتراوح أعمارهن بين 15 و21 عاماً، ومن فئات اجتماعية مختلفة. وقد لوحظ ارتفاع كبير في المستوى التعليمي داخل الأسر المهاجرة، وخاصة بين الفتيات الشابات، وأن 36% من الآباء والأمهات ذوي التعليم المنخفض لديهم بنات ذوات مستوى تعليمي مرتفع.( )
وقد يقدم البحث في أسباب هجرات النساء وفتراتها وتمايزاتها العديد من الاستنتاجات حول انخراط النساء وتقبلهنّ للعمل، والتعليم وغيره. فهذه الهجرات تنقسم إلى: لمّ الشمل للمهاجرين الأوائل. الهجرات المتفرقة العائلية، الهجرة النسوية خارج أطر الروابط الأسرية: للتحصيل العلمي، أو للعمل، ولكل منها دلالتها، ويأتي بينها عديد الحالمين بتغيير بنيوي اجتماعي، وسياسي، وثقافي قائم على النموذج الأوروبي، فأوروبا مثّلت لهم رمزاً للعمل المنتج، والعلم المفيد والثروة، لقد كان إغراء الثقافة المدنية، والنظام، وحرية المرأة، والمواطنة جزءاً من رغباتهن. وكذلك فترة الهجرة واختلافها بين فترة الازدهار الاقتصادي لدول الاتحاد الأوروبي ومرحلة ظهور التناقضات المرتبطة بالمهاجرين ومزاحمتهم أبناء البلد الأصليين، إذ لكل منها واقعه المختلف وانعكاسه بين الطرفين.
إضافة إلى عامل آخر له أثره على صعيد اندماج المهاجرات المُسلمات مع قيم التحرر والمشاركة، ويرتبط بالخلفيات الأيديولوجية والثقافية والمتغيرات التي شهدتها بلدانهنّ الأصلية وتجاربها على سبيل المثال: المهاجرات من خلفيات ثقافية عربية خضعن لمتغيرين مفصليين:
الأول: أطروحات التحرر لتغيير أوضاع النساء المرافقة لحركة التنوير التي رحلت إلى الغرب وعادت لتعمل على هزّ القناعات البالية للمجتمع، والدفع به إلى أفق سؤال حضاري جديد، ورسم خطوات حضارية ودينية متنورة أمثال: (طه حسين، ومحمد عبده، والطهطاوي، وتوفيق الحكيم، وشكيب أرسلان، وغيرهم). وبغض النظر عن إسهامه المتواضع والمتفاوت في اهتزاز الأوهام والخرافات التي احتوتها القوة الذكورية ووثقتها المفاهيم الدينية والمجتمعية تحت مقولة: "ناقصات عقل ودين" في البلدان الإسلامية. لكن هذا الخطاب كان أثره خارج نطاق الصراعات الفكرية لدى المهاجرين إلى أوروبا خصوصاً بين الراغبين بأوضاع أفضل من بلدانهم.
الثاني: بروز حركات مُجهضة للفكر التنويري العام ومحمولة على الفكر الديني السياسي، أهمها ظهور جماعة الإخوان المسلمين الذي جعل المجتمع العربي والمغاربي ضحية له، وأطال في أوضاع المُسلمات، وامتدّ أثره إلى الوجود الإسلامي الأقلوي في الغرب باعتباره قاعدة يمكن الانطلاق منها لحلم الأمة الإسلامية، وجعل اندماج المسلمين مقيداً بمشروع فقه الأقليات، وأعاد ربط المُسلمات بمسألة الواجبات والحقوق الدينية عن طريق انتشار كتب سيد قطب، ومحمد الغزالي، ويوسف القرضاوي.. والمجلات ومختلف المنشورات التي أغرقت السوق الثقافي شرقاً وغرباً.( ) ويمكن من خلال ذلك تفسير الكثير من معطيات انتشار الفكر الجهادي لمسلمي أوروربا رجالاً ونساء، وقد تكون قضية (شميمة بيغوم) في بريطانيا، أو عروس داعش كما درجت التسمية، دليلاً على التحولات التي طاولت مُسلمات أوروبا. وتقدم مسألة التفاعل العام والجدل القانوني المجتمعي دليلاً آخر على التحولات الأوروبية في النظر إلى قضايا المسلمين.( )
المُسلمات والقضايا الشائكة
شكّل انتقال الوجود الإسلامي بأوروبا من وجود مؤقت إلى وجود دائم طرحاً لإشكالات وتحديات مختلفة منها:
أولاً: مشكلة الاندماج والانكفاء للمسلمات: رتّب السعي لإيجاد حلول فورية لوضعية المسلمين، طرح مسألة الاندماج باعتبارها حلاً لجملة الإشكالات، وتقدّم النفع للجميع. ورغم اختلاف النماذج المطبّقة بين دول الاتحاد لكنها تتقاطع في التركيز على معرفتهم باللغة والثقافة والتاريخ ليعيشوا حياة طبيعية من منطلق المواطنة في المجتمعات المستقبِلة. إلا أن المخزون العام من تصورات الطرفين لمفهوم الاندماج والمطلوب منه فعلياً، أدى إلى خلل في مفهوم الاندماج وتناقضه، فالدول الأوروبية تؤمن بإمكانية التسيير الموحّد لكل أفراد المجتمع، لكن هذا الشرط لا ينطبق على الجميع، فالبشر لا يمكن أن يكونوا مواطنين في العالم أكثر مما يكونون في بلدانهم وأن يمتلكوا على نحو جماعي مثلما يمتلكون في عائلتهم.( )
عدَّ المسلمون أن الاندماج مقترن بالتحكم بهم، وتمزيق لقيمهم الدينية والمجتمعية وهويتهم لصالح مجتمعات جديدة، ما أدى لانعزل مجموعات إسلامية كالمغاربة والأتراك وغيرهم، وتكوينهم لمجتمعات موازية مانعة أو متحفظة على مسألة الاندماج باعتباره تذويباً للمسلمين. وأدى التفاوت الواسع في الأمور الثقافية والاجتماعية والحقوقية والرمزية وطريقة تأثرهم بها، إلى ازدياد الفجوة بينهم وبين المجتمع.
وهذه لا تحلّها معرفة المهاجرين اللغة والثقافة والتاريخ، فالمشاكل الفعلية حدثت مع الأجيال التي تعرف اللغة والتاريخ، ولكنها لم تندمج بالشكل المطلوب، بل ترسّخ لديهم خياران: إما مواجهة الرفض والوجود كغرباء، أو التذويب ونكران هويتهم الأصلية وتقاليدهم. وكلاهما تشكلا في مراحل مختلفة للوجود الإسلامي في أوروربا، وانعكسا بنسب متفاوتة على النساء المُسلمات كونهنّ جزءاً من قيمة الجماعة المُسلمة، لتتشكل لدى بعضهنّ عوامل الردع على مسايرة الواقع والانكفاء عن التفاعل والعودة إلى حضن العائلة، هرباً من مجتمعات لا تقبلهنّ أو تقبل قيمهنّ، أو تريد تخليصهنّ مما أقرّه الدين والشريعة.( )
وذلك رغم مغالطة هذا الموضوع للواقع حسبما تقوله الأرقام وحسب دراسة معهد بيرتلسمان ستيفتانغ الألماني 24 آب/أغسطس 2017 التي بينت أن المسلمين عموماً يواجهون رفضَ خُمس السكان، ولا تعدُّ نسبة عالية لتفسير الانكفاء.( )
وكذلك دراسة Pew Research Center لتقدير مدى تقبل الآخرين للمسلمين. وإن كانوا على استعداد لقبولهم أفراداً في الأسرة، والسؤال موجّه لغير المسلمين.( )
المواطنون في فرنسا بريطانيا النمسا ألمانيا إيطاليا
نسبة القبول 66% 53% 54% 55% 43%

وهي نسبة جيدة نتيجة خصوصيات الأسر الأوروبية، وكون غالبية المواقف تجاه المسلمين ترتبط بالسياسة. ولكنها لا تلغي الاعتقاد السائد لدى المسلمين برفض المجتمعات الأوروبية لهم، لأسباب يمكن ردّها بحدود معينة إلى التصورات المختلفة عن الآخر والمتأسسة تاريخياً ولم يجرِ التخلص منها، بل أُضيف لها عوامل (موضوعية وذاتية) دافعة لانكفاء المسلمين عموماً أثّرت في النساء.
العوامل الموضوعية
تتعلق بالتغيرات التي طاولت الدول الأوروبية من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، وطريقة تأويلها على نحو مختلف لدى الطرفين: كازدياد معدلات البطالة التي انعكست في شعور الأوروبيين بالمنافسة مقابل شعور المسلمين الاستبعاد والتهميش. التغيير الديموغرافي وازدياد أعداد المسلمين (كثرة الولادات)، انعكست في الخشية لدى الدول الأوروبية من انعدام السيطرة عليه، مقابل التدهور في أوضاع المسلمين في قلّة التعليم العالي والخبرات، وانعكسا على المرأة بانعدام قدرتها على تحقيق استقلالها المادي لفتح المجال لعمل الرجل كونه أساس بناء الأسر المُسلمة، وزيادة ارتباطها أكثر بأسرتها وتربية الأولاد.
العوامل الذاتية
تتعلق بالمُسلمات، وعدم فقدانهن سلطة التوجيه التي اعتادوها (الأب الشيخ الإمام..) إلا بنسب متباينة ومختلفة، فالمنتمون لهذه السلطة من العوائل المُسلمة طوروا آليات الصدّ للاندماج، وحملوا هواجس الخصوصية والشريعة، والنظرة لقضايا المرأة من زاوية الانحراف، التي يقوم بعضها على التأثر في التحولات الإسلامية نحو الراديكالية في الدول الأصلية (إيران ومصر وإندونيسيا وتركيا والسودان ولبنان والمغرب والسعودية وسوريا وباكستان).( )
وازداد الضغط على المُسلمات لإخضاعهن للتشابكات العائلية، وميولها الأيديولوجية، خصوصاً لدى الأسر التي تتبع فكرياً للتيارات الدينية السياسية. فهم يفضلون أخلاقاً اجتماعية محافظة، ونظاماً اجتماعياً إقصائياً، ويحتضنون أبوَّة المجتمع، ويرفضون التقريب بين الجاليات والمجتمع المحيط، باعتبار كل دعوة تقوم على أساس التنازل عن أمر من الأمور الجوهرية في الدين سواء كانت في العقائد أم في العبادات، أم في الحلال والحرام ونحوه من أمور التشريع الأساسية للفرد أو للأسرة أو للمجتمع إنما هي دعوة مرفوضة شرعاً.( )
ويضاف إليه مقدار ارتباط المرأة المُسلمة بما يقدمه الدعاة والأئمّة في دول أوروبا أو على الإعلام، فمنذ التسعينيات، نشطت المراكز (الدعوية) في أكثر من بلد أوروبي، منها ما شجّع على التعايش ومنها ما أكد على المغايرة ودعم الثقافة الإسلامية كموروث تراثيّ للمسلمين هناك، وبعضها اعتنت بما يُسمى "الإسلام السياسي" كان لها أثر مختلف.
ثانياً: الإسلاموفوبيا والنساء
ساهمت الأحداث السياسية المتراكمة في يقظة الشعور الأوروبي بالخوف من الإسلام الذي انتقل من خوف "محتمل" مرافق لنمو الأصوليات الدينية في الدول الإسلامية، واختراقها فضاء المسلمين في أوروبا نتيجة هجرة مؤسسي التنظيمات السياسية الدينية، إلى خوف "حتمي" مع وقوع عدد من العمليات الإرهابية في بعض الدول الأوروبية، لتشكل بيئة جديدة للسخط والعداء للمسلمين المهاجرين، فمن كان يراهم عبئاً نتيجة الأحوال الاقتصادية في أوروبا، صار يراهم خطراً يجب مقاومته. وانعكس هذا على المُسلمات مباشرة، حيث وضعن تحت عامل ضغط مضاف، يعانين التمييز بين الجنسين كغيرهن من النساء، ويتضاعف التمييز العنصري والديني الممارس ضدهن بناء على خلفياتهن، ومعتقداتهن الدينية.
الخوف من الإسلام أعاد المُسلمات إلى المواجهة الأولى التي عايشنها في ثنائية الاختلاف بين قيم الفكر التديني الذي يحيط بهن وبين قدرتهن على تنمية شخصية مختلفة، فحالة الصراع التي تأسست لدى المُسلمات مع البيئة الأصلية المحيطة الرافضة قبول الاختلاف، والمغايرة ودمج قيم (التدين والحقوق والإيمان والحريات) التي نمت عند شريحة من النساء، كانت أحوج إلى المساندة، لكن تصاعد موجة الإسلاموفوبيا والضخ الإعلامي كانت تصبّ في سياق النكران الشمولي.
من جهة أولى: لكل ما يمكن أن يقدّمه الإسلام وتخصيصه لتقديم الجهاد والإرهاب، والعزل والتعنيف للنساء، الذي يمكن تبيّنه في استطلاع مركّز (FAZ) في ألمانيا عام 2004 حول ربط الإسلام بالمفاهيم الشائعة والاعتقاد السائد حول المسلمين هو (قمع النساء 93% والإرهاب 83%).( )
ومن جهة ثانية: لوجود نساء مسلمات منسجمات مع واقع الحرية والحقوق للنساء، أو غير مقموعات باسم الدين والقيم، أو يمكنهن اختيار التوفيق بين الدين والمواطنة، وتبنّي الفكر الديني دون تعارض مع القيم الأوروبية.
إنَّ تنكر عدد غير قليل من الأوروبيين، جعل ما حققنه خلال وجودهن في أوروبا وإمكانية التعايش الفعّال عرضة للضياع. وهذا زاد في معاناة المُسلمات خصوصاً. إن معطيات التمييز التي ولّدتها فوبيا الإسلام طالت المجالات كافة في العمل والتعليم وغيرها، وفتحت أمام المُسلمات إمكانية العيش في دول تحترم حقوق النساء، وقد قدمت العديد من التقارير حول تعرض النساء للتمييز كدراسة أعدّتها إذاعة Deutsche Welle) (DW بأن المسلمين أكثر تعرضاً للتمييز في ألمانيا.( )
وبحسب تقرير EUMC عام 2017 أن النساء المُسلمات أكثر عرضة للهجمات المعادية للمسلمين (الإسلاموفوبيا) من الرجال المُسلمين وخاصة إذا كن يرتدين النقاب أو الملابس الأخرى المرتبطة بدينهن. وسجلت العديد من المنظمات NGOs حوادث اعتداء على المُسلمات.( )
وكذلك مؤسسة أخبر ماما Tell MAMA لتسجيل الجرائم والحوادث المعادية للمسلمين في المملكة المتحدة، تقول: إن 56% من حوادث الإسلاموفوبيا التي وقعت خلال الفترة بين نيسان/إبريل 2012 وإبريل 2013 طاولت نساء مسلمات، باستثناء الانتهاكات والتهديدات عبر شبكة الإنترنت، وكانت 78 %منهن يرتدين البرقع أو الحجاب أو غيرهما من الملابس المرتبطة بالإسلام.(31)

غطاء الرأس إشكالية ثقافتين: إحدى المشاكل التي سادت الدول الأوروبية في الآونة الأخيرة انصبّت حول (النقاب والبرقع والحجاب) وكان التعاطي معها مختلفاً، فالنقاب والبرقع يمنعان التعرف على هوية الشخص وهي تعدُّ شرطاً قانونياً في الدول الأوروبية.
النقاب والبرقع: اختلفت القوانين تجاه ارتدائهما، فبينما بقي محطّ نقاش في دول (ألمانيا وسويسرا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا والنرويج) أقرّت بعض الدول الأوروبية حظرهما التام في الأماكن العامة، بينما هولندا جعلته محدوداً في بعض الأماكن (المباني الحكومية ووسائل النقل العام والمدارس والمستشفيات)، وفي إيطاليا منذ سبعينيات القرن الماضي، هناك حظر عام على ارتداء ملابس تجعل من الصعب تحديد الهوية، وقد أقرّت بعض الدول عقوبات على المخالفات، علماً أنهما يؤثران على عدد قليل من المُسلمات:( )
الدولة تاريخ المنع النساء المتضررات العقوبة على المخالفات
فرنسا نيسان / أبريل عام 2011 2000 امراة
بلجيكا تموز/ يوليو عام 2011 300 امرأة دفع غرامات وأحكام بالسجن قد تصل إلى سبعة أيام
هولندا عام 2016 100 امرأة غرامة انتهاك قانون حظر النقاب في أماكن محددة 400 يورو
النمسا ت1/ أكتوبر عام 2017 غرامة مالية قد تصل إلى 150 يورو
الدانمارك آب/ اغسطس عام 2018 غرامة تصل الى 135 يورو للمرة الأولى، وترفع لعشرة أضعاف في حال التكرار.

الحجاب: في ظل المناخ العام واختلاطات الأمور بين الدين والثقافة والسياسة والاجتماع على الجانب الإسلامي وبين أسس العلمانية، وتحرر النساء على الجانب الأوروبي، ليكون الحجاب منطلقاً للتصادم الفكري داخل المجتمعات الأوروبية بثقافتها المتحررة والمنفتحة سلوكياً باعتبارها اللباس أحد مقدسات الحرية الفردية مقابل الطبيعة المحافظة والزي المحتشم للجاليات المُسلمة التي تحمل في تفاصيلها استبطاناً للأصول التراثية الثقافية والقومية لبلدان المنشأ، فعلى سبيل المثال يمكن التمييز بين زي نساء الجالية المغربية عن الجالية التركية، وكذلك لدى الجاليات الأخرى كالألبانية والشرق أوسطية أمثال الجالية العراقية والمصرية والسورية وغيرها.
التفاوت في النظرة إلى الحجاب بين الأقلية المُسلمة في أوروبا التي تعدُّه التزاماً دينياً وأخلاقياً بين المجتمع الأوروبي الذي يتوجس من أي تمييز اجتماعي أو ثقافي، وتصاعده مع ازدياد حالة الإسلاموفوبيا ونمو التيارات الشعبوية تحوّل الحجاب صراعاً بين ثقافتين، وكل منهما تسوق مبرراتها شرعية أو وضعية جاعلين من المرأة أسيرة أزمة المقدّس على الجانبين:
الإسلامي: غالبية المسلمين يرون أن حجاب المرأة من التشريعات الإسلامية الثابتة، وهي فريضة من الفرائض التي يجب على المرأة المُسلمة الالتزام بها، مهما تغير الزمان والمكان، حسب الآيات الواردة في القرآن الكريم: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا. الأحزاب:59 وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. النور:31
وبحسب تقرير معهد " Ifop" هناك حوالي 65% من المسلمين الذين يلتزمون بالفرائض أو التقاليد في فرنسا، ويؤيدون لبس الحجاب (24% يؤيدون لبس النقاب) و60% يرون أن من الضروري ترك الخيار لمن يريد لبسه في الكليات والمدارس الثانوية، فيما يحظر القانون الفرنسي إبراز الرموز الدينية في هذه المؤسسات. ولا تنعكس هذه المواقف على النساء اللاتي شملهن الاستطلاع في مسألة الحجاب، إذ إن 57٪ لم يرتدينه أبداً و8٪ ارتدينه بالفعل، ولم يَعدن إليه. وذكر معهد "Ifop" إن الممارسة الاجتماعية الأكثر انتشاراً هي عدم ارتداء الحجاب (ثلثا النساء من الثقافة الإسلامية لا يرتدين الحجاب).( )
الأوروبي: تحول حجاب المُسلمات لمجال تجاذب سياسي وقانوني بشأن الحريات الدينية، وأسس العلمانية. وفي الوقت الذي أيّدت فيه فئة من الأوروبيين منع الحجاب في الأماكن العامة، من منطلق ترسيخ مبدأ علمانية الدولة التي تقتضي فصل الدين عن الدولة، ترى فئة أخرى أنَّ منع الحجاب يتعارض مع حرية اللباس والتدين التي تكفلها الدساتير والقيم الأوروبية.
ومع ذلك أظهر مسح (PEW) للرأي العام 2005، رداً على سؤال حول "ما إذا كان ينبغي فرض الحظر على ارتداء النساء المُسلمات للحجاب في الأماكن العامة بما في ذلك المدارس فإن (78% من المستجيبين في فرنسا و54 % في ألمانيا، و29 % في بريطانيا اعتبروا ذلك "فكرة جيدة" ).( )
وثمة فكرة قائمة حول أن إدماج الحداثة لا يمكن حدوثه إلا بفتح أبواب الاجتهاد لإدراك المقصد القرآني، ويصار إلى الخروج عن التراث وحقّانيته، ومن العناصر الأكثر صدماً بنظر الغرب (عقوبات البتر، جلد النساء الزانيات، وحتى الحجاب) وغيرها.( )
النسبة الكبيرة لتأييد منع الحجاب لا يمكن ردها فقط لمسألة الإسلاموفوبيا، بل لأسباب أخرى تتعلق برمزية الحجاب نفسه على أنه مسألة اجتماعية لا علاقة لها بالدين ولم يَرد وجوب الالتزام به في الشريعة الإسلامية، إضافة لزوال الأسباب التي استدعت إقراره في فترة الرسالة للتمييز بين المُسلمات ونساء الجاهلية، وهو ما تتبناه بعض المُسلمات في أوروبا ممن قررن عدم ارتداء الحجاب والتقيد بحدود الآيات المنصوصة في القرآن.
في المقابل هناك مسلمات يعتبرن التعلق بالحجاب شأناً ثقافياً وجزءاً من هوية النساء المُسلمات وخياراً ذاتياً بعيداً عن الفرض المجتمعي، وهو ما طورته بعض المُسلمات في إظهار تمايزهن عن المجتمع وإثبات شخصية مختلفة كونها لم تعد تلك المرأة الأمية التي يمكنها تقبّل ما يُملى عليها ضمن المقولات الدينية أو المجتمعية، ومع ذلك بقيت بعيدة عن التواصل التلقائي الحميمي بالمجتمعات المستقبلة، وتعاني التمييز، وهذا شكّل عاملاً في التفاتها نحو معرفة الدين الإسلامي نوعاً من “التقوى الفعالة” حسبما يفسرها "أوليفييه روا" استعادة الذات وصقلها مع السعي نحو التبشير بهذه المهمة وزرعها في نفوس الآخرين، وكان التمسك بالمَعْلم الديني (الحجاب) جزءاً من الشخصية الجديدة، كما تصورها بعض المدافعات المُسلمات عن ارتداء الحجاب، أو المنخرطات في المنظمات النسائية المُسلمة "النسوية الإسلامية" في دول أوروبا التي تشجع إعادة قراءة النصوص المقدسة وظهور نقاشات حول العلاقة بين شورى الإسلام والديمقراطية، وحقوق الإنسان والعلوم والفلسفة، وتحاولن العمل من خلال قراءتهن للقرآن على مفاهيم المساواة بين الجنسين والعدالة الاجتماعية، والفصل بين النظام الأبوي والإسلام، مثال عليها شبكة النساء المُسلمات.( )
إنَّ الجدل القائم حول شرائع الدين وعلمانية القانون في مسألة المساواة لم يلغِ النظرة العامة للحجاب باعتباره أكثر المعالم وضوحاً في تثبيت عدم المساواة والتمييز المنسوب إلى "الإسلام" وفرض تبعية النساء، وكذلك تثبيتاً لحق الآخَر أن يكون مختلفاً عن غيره وينتهك قانوناً أساسياً وهو قانون المساواة الذي أشارت إليه الناشطة النسائية أليس شفارتسر في كتابها.( )
لكن كل هذا لا يلغي وجود حركات عديدة لمناهضة التمييز والتصدي لظاهرة الإسلاموفوبيا والمنافحات عن الحجاب إذ هو أمر شخصي لا فرض ديني، أو وجود المؤيدين والمعترضين على الحجاب، فالقضية لا تزال قضية مفتوحة وقائمة لم يجرِ حلّها، بل تزداد حدّة مع كل اعتداء من طرف على آخر، وتكثر تعقيداتها لدى النساء الجهاديات اللواتي يمكن وجودهن في الدول الأوروبية.
نساء الجهاد
ضمن جملة المشكلات التي تعمّ الجانب الإسلامي في معالجة قضايا النساء، برزت مؤخراً مسألة النساء الإرهابيات اللاتي التحقن بتنظيم داعش إذ شكلت انزياحاً لا يمكن تجاهله في تغيير النظرة والانتقال من المرأة المقموعة باسم الدين (الضحية)، إلى المرأة القاتلة باسم الدين (الجلّاد)، لتشكل زيادة في تعقيد النظرة إلى المُسلمات، والربط بين الدين والمرأة في الإسلام، وهو تعقيد يمتد من الواقع إلى الرمز، والعكس صحيح، فالمَعْلم الديني (الحجاب) الذي استقر النظر إليه لفترة طويلة على أنه حجاب القمع الديني، لم يعد له المعنى نفسه بل صار غطاء لـ (قاتلة) مُحتملة، بعد أن استطاع تنظيم داعش جذب آلاف النساء من دول العالم، على نحو غير مسبوق في تاريخ الجماعات الإرهابية، وبلغ عدد النساء الأجنبيات الملتحقات بداعش نحو (4.761) أكثرهن من شرق آسيا ثم أوروبا الشرقية وأوروبا الغربية.( ) وتعادل نسبتهن: واحدة من كل سبعة مقاتلين، بمتوسط عمر 22 سنة. بحسب بيانات لجنة الخبراء المعنية بالإرهاب (CODEXTER) في 2016 ما أدى إلى حالة من القلق، وخصوصاً الأرقام المتعلقة بالنساء الفرنسيات التي بلغت 220 امرأة، وهو ما يمثل 35٪ من الجهاديين الفرنسيين في داعش.( )
إن ما قدمته البيانات حول نساء التنظيم شكلت زيادة في هواجس الإرهاب وإمكانية أن تتبناها مسلمات أوروبيات، وقُدمت العديد من الدراسات حول الأسباب الدافعة لالتحاقهن.. بعضها يصبّ في مسألة نصرة الأمة ومساندة المسلمين في الدفاع عنها، وبعضها تعده حلاً للمظالم المتصورة التي تعانيها النساء في الدول الغربية، أو محاولة للتكفير عن الذنوب إذ يعتقدن في “التطرف” مخرجاً أو توبة إذ يخضعها لفكرة النسوية الإسلامية الجديدة، تلبي، من جهة ثانية، رغبة النساء في المساواة مع الرجال.
ولكن يبقى الأساس أنهن مثَّلن حالة خطيرة في نمو الجماعات الإرهابية، وفي تصوُّرهن الحلول، وشكَّلن معضلة في حيرة الدول الأوروبية حول آليات التعامل معهن بعد عودتهن من القتال، وما هي أفضل السبل لإعادة إدماجهن في المجتمع مرة أخرى.
أزمة المُسلمات في الانفصال والاتصال
ما تعيشه المُسلمات في مسألة التمايز والتمييز عما هو سائد في المجتمعات الأوروبية على اختلاف نسبتها، لا تلغي وجود أزمة مسنودة على تصورات ماضوية أسّسها التاريخ، وعلى وقائع تابعة لظروف مختلفة ولأسباب متعددة متعلقة بطرفي السلسلة، وحدِّية تعاطيها مع موضوع النساء، ما يجعل أي تصور للحلّ قائماً على الطرفين معاً في البحث عما يمكن أن يجمع دون أن يفرق انطلاقاً من:
أولاً: أن مسألة التمايز بين المرأة المُسلمة والأوروبيات ليست مجرد خاصية شكلية، بل هي في صلب البنية الذهنية التي تتحكم في منتج الخطاب وتصوغه في هذه الكيفية دون تلك، وتتضح هذه البنية في علاقتها بالثقافة الإسلامية السائدة والمؤسسة على الفصل بين الجنسين باعتبار التفاضل بينهما، وبالنسبة للأوروبيات هي ثقافة مؤسسة على صالح الإنسان باعتبار استواء الجميع في الحقوق، وهذا لا يتعارض مع قيم الأديان ككل التي وضعت لأجل البشر من الجنسين، ويبقى أن تمتلك المُسلمات شعوراً بأن هذه المجتمعات تمثلهن وأنهن قادرات على الاندماج وتحقيق المشاركة المجتمعية مع ثقافة مختلفة، وأن إضفاء قيمة لوجودهن من خارج التدين ليس تحطيماً للدين، فحيرة المُسلمات بين حريتهن وما فرضه التدين واعتبارها مسألة تفاضل يؤدي إلى خلل في كلا المفهومين، والشعور بالقسر أو الخضوع لازدواجية المعايير، وتشظيها في أحسن الحالات.
ثانياً: إن فرضية التمييز ضد المُسلمات قائمة ضمناً حول مقدار انسجامهن مع القيم الأوروبية "التحررية" لا يمكن تحديدها بدقة في حال تجاوزنا حيثيات معينة تخصّ المتغيرات (الفكرية والسياسية والاجتماعية) على كلا ضفتي بلدانهم الأصلية، ودول الاتحاد الأوروبي؛ وكذلك تخصّ وضع النساء حصراً في هذه الدول، فإخضاعهن لنظرة كلية التصنيف كأن يكون المسلمون جميعاً إرهابيين أو عالة على الدول المستقبلة أو المُسلمات كلهن مقموعات، يُشكل تمكيناً لعوامل العجز عن إدارة التعدد على صعيد الدول الأوروبية، ولن يعرف ما أنجز وما ينتظر. فالكثير من المُسلمات استطعن تحقيق ذواتهن وممارسة حريتهن والمطالبة بالمساواة في المحيط، وداخل جماعتهن المُسلمة، وهو ما حول تحررها أو انسجامها مع المجتمع الجديد إلى مجال اعتراض المتطرفين الإسلاميين بل والمنافسة على قولبة جماعات الإسلام السياسي الموجودة في أوروبا لها واستعادتها إلى حضن الجماعات الدينية، وهذا يحتاج إلى أهمية إيقاظ الحس النقدي الذي يقف عائقاً في طريق تقدم المرأة المُسلمة وجعلها شريكة في التوجه لمعرفة معالم فكر المتشددين الذين يعرقلون مسيرة تمكينها، وقد يكون ذلك من أهم سبل الوقاية والعلاج.
ثالثاً: إن ما حدث من مفارقات في أوضاع النساء، قلة تريد أن تراه بطريقة مغايرة وأن هناك تشابكاً لا يمكن إلغاؤه في قضايا المرأة شرقاً وغرباً، وأن موضوع المرأة ونقاشه لا يقتصر على الحقوق المضافة سياسياً واقتصادياً وتشريعياً وغيرها، بل على المساواة المفقودة، وعلى صعوبات الحياة التي تواجهها المرأة في الشرق المحكوم عليه بالذكورة وفي الغرب المتحرر. فإن كانت مكاسب المرأة لا تزال هشّة وعرضة للانكسار أو للتراجع، لكنها تبقى قائمة رغم عدم الاعتراف العام بها، وتحتاج دعماً أكبر لأهمية المرأة المُسلمة في تربية الجيل القادم على قيم الدين والتدين (الانغلاق) أو على قيم الحقوق الانسانية و(الانفتاح) على المجتمعات الجديدة.
خاتمة
على مرّ التاريخ الإسلامي شهدت أوضاع المرأة المُسلمة تبدلات عدة وكَثُرت حولها المرويات التي شكلها وعي الجماعة لغاية توجيه محدد لسلوكها الاجتماعي الأمثل، حولتها لكائن مملوك لقيم الجماعة، ومع تبدل أوضاع المُسلمات في البلدان الأوروبية، دخلت المُسلمات على نحو علني أو خفي أزمة مزدوجة ومركبة قائمة على مسألة الانفصال عن تدين الجماعة المُسلمة لصالح الاتصال بالمجتمع أو العكس، لتزيد حيرتها في التعامل مع هذا الأفق، وامتلاك القدرة على التوفيق بينهما، أو توجيهه وجهة محددة يبقى الرهان في نهايتها على مركز الثقل المعنوي للارتباط بأحد المجتمعين ووظيفة كل منهما في الحثّ على الاندماج أو الردع عنه، وتحمل تبعات الردع بأن تعيش انغلاقاً مزدوجاً، انغلاق الجماعة وانغلاقها داخل الجماعة المُسلمة، ولئن كان هذا مقبولاً في العصور الماضية نظراً لانخراط الجميع في أفق ثقافي متشابه محكوم بمنطق الإقصاء، فإنه لم يعد مبرراً اليوم في أفق ثقافي مختلف وثري في معقوليته، وعمقه الإنساني ويمكن من خلاله بناء معايير مختلفة يصدر عنها السلوك العام في الحاضر كما في المستقبل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احمد النشيط يصرح عن ا?ول راتب حصل عليه ????


.. تطور لافت.. الجيش الأوكراني يعلن إسقاط قاذفة استراتيجية روسي




.. أهم ردود الفعل الدولية حول -الرد الإسرائيلي- على الهجوم الإي


.. -حسبنا الله في كل من خذلنا-.. نازح فلسطين يقول إن الاحتلال ت




.. بالخريطة التفاعلية.. كل ما تريد معرفته عن قصف أصفهان وما حدث