الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية (ماركس العراقي) ح 25

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2021 / 2 / 22
الادب والفن


فسحة صغيرة غير كافية
في أوائل تشرين الأول يمكن القول أني الآن حر ونجوت من طوفان الحرب ومحرقة الموت التي أكلت من جرفنا الكثير، خلفت ورائها رمادا وغبارا نفسيا لا يمكن نسيانه أو تنظيفه لربما لسنوات أو عقود، الشخصية العراقية التي هتكت شفافيتها طاحونة المعارك أصبحت معتمه لا يمكن إحراز ما تحتها أو التنبؤ بما فيها، جروح وإنكسارات وخيبات والأهم من كل ذلك تلك الآلام التي سكنت ما بين القلب والروح، ترعاها الرغبة في أن نفهم لماذا كان كل ذلك ضروريا ولم يفكر أحد بالبديل، علينا إذا أن نبدأ من جديد وكأن الذي مضى ضاع بلحظة تهور حين غاب العقل المسئول الذي يخشى أن تراق قطرة دم بدون ثمن مناسب ولا مناسب للدم إلا السلام.
القرار الأول الذي أتخذته أن أحلق عاليا وحرا في بيت مستقل وعمل مستقل ووريث لعرش روحي، فقد مرت ثلاث سنوات دون أن يأتي هذا الأمل ليطرق الباب إلا مرة واحدة وقبل أن نفتح هرب إلى حيث أراد الله، طرقنا أبواب العيادات الطبية والمستشفيات والمختبرات الكل يقول ما من شيء محدد يؤخر قدوم ولي العهد إلا الفرصة المثالية، ومن أين لنا بالمثالية وكل نظام حياتنا يعتمد على المفاجآت ولعبة القدر، صديقي عباس الأستاذ المعلم الذي طالت صحبتي به حتى بعد أن فارقتنا الخدمة العسكرية وقوانينها، ألتقي به في كل مناسبة أزور فيها مدينة الشامية أو هو يزورني حين يأت للنجف، لا تكتمل مسبحة الأحباب إلا بلقاء صاحب الجلالة رشيد أبو جولة وحديث لا يرقى له الصدق ولو أراد، قمة الظرافة أن تكون زراعا للفرحة في موسم قحط لا ينبت إلا دموع وأسى، في إحدى زيارتي له وقد أصر على أن يصحبني إلى البيت وحديث من هنا ومن هناك، كان الحل عند والدته السيدة التي أنجبت الكثير من الأولاد والبنات وهي الخبيرة بأمور الحمل وشؤون النساء.
في نهاية شهر تشرين الثاني بانت أول علامات الحمل القادم إلينا من خلف بوابة لأحلام، لا ندري هل كان دور أم عباس وصاحبتها العلوية، أم كانت من فاعلية التدخل الطبي، المهم شعور غامر بالسعادة أن القادم إلينا سبكون أول زهرة تتفتح في حديقتنا الصغيرة، جارنا الذي استأجرنا بيته أبو لميعة الكردي كان لديه بيت ثالث قد عرضه للبيع حتى يشتري سيارة أجرة يعد أن تقاعد من وظيفته، أقترح علي شراء البيت بما يتيسر معي من مال والباقي يسدد لاحقا حين تتم المدة التي يسمح له بها بنقل الملكية، الفكرة جيدة والفترة طويلة نسبيا وهذا مناسب جدا لي حتى أكون قادرا على الدفع، أكملنا العقد وأنتقلت بعدها في الأول من كانون الثاني إلى بيتنا الجديد، بالرغم من كونه بعيد نسبيا عن محل عملي في المحكمة لكنه كان فرصة لأثبت لنفسي أني قادر على أن أعيش حياة مستقرة وإن كانت متعبة نوعما.
أشهر ونحن ننتظر قدوم الوليد الذي طال أنتظاره بعد أن جهزنا كل شيء له، وتمر الأيام سريعا والوضع السياسي بدأت غيومه تتكاثف خاصة بعد مؤتمر القمة العربي في بغداد في تموز، هذه المرة ليست مع الجارة إيران المنهكة في كل شيء، صراع الأخوة الأشقاء ونحن نترقب ماذا سيكون هذه المرة وعسى أن تكون أمنياتنا بالسلام هي الراجحة فما زالت دماء الشباب العراقي تضمخ أرض الوطن ندية عبيطة لا تقبل أن تجف حتى لا تنسى ولا ينسى القابعون فوق عروش الوطن أن الحرب لا تجلب إلا المزيد من الآثام، من يسمع أنين الأمهات وحسرات الآباء وحنين الأبناء لمن رحلوا حتى بدون وداع.
في صباح يوم الخميس الثاني من آب سقط العقل مرة أخرى في وحل التهور وأعلنت حكومة بغداد ومن على شاشات التلفزيون ومحطات الإذاعة عن عودة الفرع إلى الأصل، الكويت المحافظة التاسعة عشر بعد أن دخل الجيش العراقي أراضيها بناء على طلب قادة الإنقلاب على أسرة أل الصباح، يا لحظك العاثر يا وطني فلقد حباك الله بمن لا يؤمن أن السلام هو أقصر الطرق لإعادة ما تمزق وتهدم من جدرانك التي أصابها الوهن بحرب ثماني سنوات ما أن تفتر قليلا حتى تستعر من جديد، تذكرت سيد عبد الله يرحمه حين قال (لا ابقاني الله ليوم الواصمة يخوض فيها الأبله ويتطير منها الأفقه ويفرح بها السارقون ويتطير من نتانتها العاقلون)، سألته في وقتها ... قال (بعد أن يطبق الطبق على الطبق وتمضي سنتان على المشق).....
المشق لمن لا يعرفه هي كما يطلق عليها بالفن الــ (بروفة) أو الإعداد المسبق لعادة من عادات الشيعة في العراق حين تسل السيوف والقامات لشج الرؤوس في ليلة وصباح العاشر من محرم، كانت حرب الثماني سنوات رغم مرارتها وطولها وعظيم خسائرها مجرد مشق للحرب القادمة وإن كانت بغير حال، كان الرجل صادقا في نبوءته ورحل قبل أن يراها وتراه وترك لنا أن نسل السيوف لنضرب رؤوسنا بقوة لعل العقل النائم يصرخ من هول الوجع.. لا فائدة فالرأس الذي يضرب بالحديد ولا ينهض مجرد جثة لكائن ميت، فمشهد الدم المراق في كل مكان هو القادم الحتمي ولا مفر منه وعليك يا رجل أن تستعد للجولة الثانية من الطوفان أو ربما طوفان القيامة أو قيامة الطوفان.
الناس التي كانت تخشى الكارثة يعرفون أنهم هم وحدهم من سيحترقون أولا وثانيا وثالثا، أما الخائضون بها بلا فهم ولا علم ولا كتاب مبين فقد صار الموضوع عندهم عيد، قوافل تأتي من هناك محملة بما خف وزنه وغلا ثمنه منهم من يرحل بها خارج العراق ومنهم من بسط بضاعته على الشوارع والطرق يبيع كل شيء فلا يعرف أحد ماذا سيحمل الغد، المتراقصون على جراح الوطن أسكرتهم لوثة سطوة القوة فراحوا يعربدون على العالم من حولنا وكل واحد منهم عنتر زمانه وهرقل الجبار، يخوفون من لا يخاف ويتدحرجون إلى القاع ومن سكرتهم يظنون أنهم يرتقون قمم لا تنال من أحد وهي لهم وحدهم، العالم الكبير من حولنا عمل جاهدا أن يقنع شمشون الجبار أن يعيد حساباته ألف مرة قبل أن يمضي للنهاية، فاليوم يوم المرجلة والصوت صوت الجهلة,
ما إن أقتربنا من نهاية شهر آب حتى شرف ضيفنا الذي طال أنتظاره وفي نفس يوم مولدي، هل هو القدر أن يجعل منه نسختي الثانية؟ أم أن هناك حسابات قدرية لا نعرفها، وقد لا نثق حتى بما تحمل من مصير؟ كانت الفرحة عظيمة لكنها مثل طائر جبار الشكل والمنظر لكن جناحيه مقصوصتان، لا يستطيع الطيران ولا يرغب المكوث في الأرض رغم أنفه، أنه في حيرة لا تطاق أن يخلق ليكون على غير ما هو عليه، من يقنعني أن تأخر وجوده كان مرتبطا بأن أستمتع به ويستمتع بأب في زمن عقيم من أحاسيس الود والحنان؟ هل كتب عليه كما كتب علي من قبل أن أفارق أبي وأنا في الشهور الأربعة من عمري، كانت هواجسي تقول أن ذلك ما سيحدث بالتأكيد، فنحن سلالة غريبة عن العالم نعيش الفقد والحزن كما يعيش الناس على الهواء والماء.
أربعة عشر يوما مرت على ولادته حتى جاء خبر أستدعاء مواليدنا لخدمة الأحتياط مرة أخرى، بين رضوخ وتمرد بيني وبين نفسي ذهبت لأستلم كتاب سوقي إلى مركز تدريب مشاة الديوانية هذه المرة، لا سيد عبد موجود لأعرف خارطة طريقي ولا من دليل غير حدس عقلي أنني ومصيري الآن وجها لوجه، مؤمن تماما كما يقول المصريون في مثلهم الشهير (ليس في كل مرة تسلم الجرة) وجرة وجودي هذه بيد أرعن مختال فخور، لا قيمة عنده لشيء سوى أنه يحلم بأمجاد الأباطرة والقياصرة لعل في الغد من يكتب عنه أنه كان القائد الذي غزا الشرق والغرب وأخضع البلدان والممالك لسطوة حكمه، أحد عشر يوما فقط في مركز المشاة وهذا كتابك بيمينك إلى الفوج الأول لواء 423 في طريق السالمي في الكويت.
من البصرة إلى أستراحة الحجاج ومن ثم الطريق الصحراوي بأتجاه الحدود السعودية، لا شيء يوحي أن هناك أمل في حلحلة الموضوع والوصول إلى تفاهمات اللحظة الأخيرة قبل الأنفجار العظيم الذي سيطيح بنا جميعا، أعلن رسميا عن تشكيل تحالف دولي كبير لأخراج العراق من الكويت رغما عنه، لا رغبة حقيقية لدي للدفاع عن أرض لا تنتمي لي ولا أنتمي لها وهو إحساس لأول مرة أجده يخامر عقلي، كلام العروبة والإحساس القومي وحكايات الرفيق عفلق ومنيف الرزاز وووو لا تقنعني الآن أن أودع طفلي لأجل أن يبقى الزعماء زعماء والفقراء فقراء لا ناقة لهم فيها ولا جمل، جميل أن تجلس في قاعة مكيفة وتحت الأنوار الساطعة لتتكلم عن حلم الوحدة العربية وعداء الإمبريالية والصهيونية للعرب، لكن أن تكون مرميا في هذا الجزء الخلفي من العالم بأنتظار صاروخ أمريكي يجعلك شذر مذر أو قنبلة من القنابل العنقودية التي تحيل وجودك إلى عدم فالأمر ليس وجهة نظر، إنه قرار منطقي أن لا أدع أحد يركب ظهري مرة أخرى.
هذا القرار وصلت له مقتنعا تماما بعد عدة أسابيع قضيناها كالجرذان في حفر المواضع بعد أن أعلنتا أمريكا يوم السابع عشر من كانون الثاني الحرب على الجيش العراقي، هرب الكثير من أفراد سريتي وكل تعداد الفوج لم نشكل سرية واحدة، الليل كان سترا للهاربين، ومن يذهب بإجازة لم يعود والمصابين أو من يرافق الشهداء لم نراهم بعد، فقط الضباط كانوا في مقراتهم المحصنة ومن الفوج لم يبقى غيري ونائب ضابط عبد الحسين من المفرزة الطبية، خرج النقيب الذي حتى أجهل أسمه وكان وكيلا لأمر الفوج يوم 10 شباط وتسأل لماذا بقيتم أنتم فقط، الحقيقة لا جواب عندي هل هو الخوف من الطريق؟ أم الخوف من القتل في هذه الصحراء لتأكلني حيواناتها دون أن يستدل على مصيري، لا من وسيلة نقل ولا من طريق أمن وكل شيء يتحرك على الأرض مستهدف من السماء.
صلينا الفجر أنا وزميلي عبد الحسين وهو من أهل النجف أيضا وقررنا التوكل على الله بعد أن كتبنا في أكثر من ورقة وقطعة قماش موزعة في ملابسنا وفي الحقيبة التي نحملها الاسم والعنوان الكامل وأسم الوحدة تحسبا للمصير المتوقع، أخذنا جانب الطريق وعيوننا مرة ف الأرض ومرة في السماء خوفا من قنبلة غير منفجرة أو مرور طائرة أو توقع سقوط صاروخ، هكذا وبحالة من الخوف وترديد الكثير من الأدعية وآيات القرأن وصلنا أخيرا إلى أستراحة الحجاج في تقاطع السالمي، كان المنظر هنا أكثر رعبا مما رأيناه في طول الطريق، الجوع تملكنا ولا نقوى على المسير حتى، في لحظة رحمة توقفت سيارة إيفا محملة بجنود وقد نفذ منها ماء المبرد (الراديتر)، نزل العريف السائق ليجلب الماء من الجامع المقابل وملأ خزان الماء وتحرك ومثل القردة تسلقنا انا وصاحبي إلى الحوض الخلفي برغم ممانعة الجنود الذين تكدست أجسادهم فوق بعض، وأنطلقنا مسرعين نحو الحدود العراقية عند بوابة صفوان عندها تعطلت السيارة تماما.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا