الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خواطر وقصص قصيرة

محمود فنون

2021 / 2 / 22
أوراق كتبت في وعن السجن


الجفاف

الحوار المتمدن-العدد: 3613 - 2012 / 1 / 20 - 18:35
المحور: أوراق كتبت في وعن السجن


ان جفاف الحلق ليس بالضرورة عطشا للماء ، قد يجف حلق المرأ لاسباب عديدة ،فحين تكون مربوطا الى الماسورة في احدى ثنايا المسكوبية في ليلة باردة ، فان اسباب جفاف الحلق تتعدد :
هم لا يقدمون لك الماء ،وانت لا تستطيع ان تذهب اليه ، والساعات تنقضي ,كخيط رفيع يلف على عود رفيع,تظن انك لففت منه الكثير فتنظر فاذا بك لا زلت في بداية البداية .هكذا ينقضي الوقت.
ينقضي الوقت؟!وهل هو ينقضي فعلا ؟!ام انه يكرر نفسه في مكانه ولا ...
ان المسكوبية وهي مركز تحقيق تثير قلق ورهبة المسجونين ، ففيها استشهد قاسم ابو عكر سنة 1969 م تحت التعذيب.
وفي المسكوبية يتم تجميع المعتقلين قيد التحقيق من منطقة الخليل وبيت لحم جنوبا ومنطقة رام الله بالإضافة الى المعتقلين من القدس ،وهناك يجري التعامل معهم في عزلة عن العالم .فقسم التحقيق في المسكوبية يأتي في الجناح الخلفي من المبنى وتمر اليه من خلال سجن التوقيف.
فانك اذ تظن ان المبنى قد انتهى هنا ،عند الشرطة المدنية المسؤولة عن السجن حيث يجري استلام السجين وتسجيله، يوجد باب يفضي الى قسم التحقيق الممتد حسب تقديري على جزء كبير يتسع ليكفي للقيام بمهمة التحقيق السري في جنباته .
انت تدخل غالبا مغمى العينين بكيس من الشادر السميك الذي يكفي لحجب الرؤيا ، و" مؤهل " بسير في جزئه الاسفل ليعصمه السجان على الرقبة فتنعدم اية امكانية للرؤيا وتكاد تنعدم امكانية التنفس.
هنا لا تعود ترى بعينيك ،ولانك مربوط في القدمين ومقيد اليدين الى الخلف ومشبوح الى الماسورة (او في أي وضعية اخرى) ، فانك لا تعود تتعامل مع المكان بحواسك بل بالخيال .هنا يتماهى المكان ويتثاقل الزمان ،فيصبح وجودك خارج الزمان والمكان،فتكون انت ولا انت ،فتكون اثناء الشبح مرهون بمكان غير مكانك وزمان غير زمانك .
ان المكان هو الوجود والزمان هو مكون يشكل الوجه الآخر جدليا للمكان ،لا ينفصلان ، في وحدة واحدة .انك في" العدم" وخارج الزمان والمكان فأنت خارج انسانيتك.
ولكن المناضل هو الند ،هو النقيض ،ومع انه لا يقرر المكان ولا الزمان ، الا انه يتفاعل فيهما و هو ينحت الان يكون ندا .
في هذه الحشرة ، في هذه الغيبوبة عن الزمان والمكان ، يتسلح الانسان بخياله مكونا لنفسه عالما خاصا يتعايش ويتفاعل فيه ،الى جانب عالمه الحقيقي ،وهو بهذا يجسد انسانيته ، وهو انما يجسد الرفض للعدو واساليبه ويتعالى عليهما .
انه يتخفف من آلامه بسلاح التحدي والرفض والصمود في وجه آلتهم التي تسعى لأن تمزق جسده وروحه
-سأحمي روحي ..يقول السجين .
-ولكن تعذيب الجسد يفضي الى الروح..إلى هوان الروح ..اليس هذا صحيحا ؟
- ان هدف الجلادين هو تحطيم الروح مرورا بالجسد ,هذا صحيح .ولكن روح المقاومة والتصدي لأساليب التعذيب تتمثل ندا ينتصب امام الجلاد.
وهنا يمتليء خيال المرأ وروحه بكل ما هو عزيز وغالي ,وبكل ما يدفعه الى التحدي والصمود,هنا تتضاعف القوة ,هنا يتضاعف التحدي ,هنا تظهر الندية في الصراع الوطني ..
- انا ...جزء من نحن ,ونحن علينا ان نصمد جماعة وفرادى.
- انا علي ان ارد هجمتهم ...انا صامد ولا خيارات .
-ولكنهم يمتلكون الشبح والجوع والعطش والظلام الدامس, والزمن والضغط على القدمين المربوطتين والشد على اليدين المشبوحتين ...انهم يمتلكون انتزاعك من عالمك عنوة وقذفك في المسكوبية حيث لا تدري ولا تعرف ولا تنام ولا تأكل ولا تشرب .
-انهم يمتلكون تدمير سياق حياتك الذي حاولت اشتقاقه .اين الجامعة ؟ وصحبة الجامعة ؟ واين ما خططت له كانسان يحلم بحياة كالناس الآخرين ؟
- ولكنك لست كالآخرين ! فانت كنت تعيش مع الناس وبين الناس وفي عالم الناس ولكن كان لك عالمك ,عالم خفي هو عالم المناضلين المتنسكين ,كان لحياتك سياق خاص . ثم انفصلت عن العالم العادي الى عالم النسك الثوري
-هذا صحيح .فعالم السر يستهدف اعادة صياغة عالم الجهر, وانا برزخ بين الاثنين وكائن متكامل في كل واحد فيهما ، لم تكن روحي مجزأة .وهذه درجة من الخصوبة الانسانية .
-وحين اعتقالك !
احسست اني اعيد صياغة سياق حياتي من جديد ,وانني سأحاول اعادة صياغة التجربة الوطنية من جديد ,فتسلحت اثناء معاناة الشبح بخيالي متعاليا فوق الم اليدين وبرد الجسد وحشرة الروح الى رحاب العالم الواسعة محلقا ومتأملا.لقد حاولت اعادة صياغة التجربة واعادة بنائها لنتقدم خطوة الى الامام .
-لذلك ابعدوك ما الابعاد بالنسبة لك ولامثالك؟
- هو محاولة انتزاع الانسان من ذاته وروحه وبيئته ,هو عملية قلع من التربة المناسبة والقاء المقلوع في بيئة اخرى غير مناسبة, وسياقها غير السياق الذي كان .
الابعاد هو محاولة لتمويت التجربة والخبرة .
في بيئتنا للفرد قيمة مؤثرة ,ولحضوره بين الناس قيمة عالية واذا ما شكله الناس رمزا بينهم وهو من لحم ودم فان اسمه وحضوره يردفان فكرته وموقفه ليصبح شديد التأثير .ليصبح حضوره بيئة كفاحية وقوة استقطابية. ويؤثر معنويا اضعافا مضاعفة.فيكون الاقتلاع هو الخلاص منه من جانبهم .
فحين استدعاني ضابط شرطة بينما كنت في اقسام السكوبية ,وحين ابلغني انه اتخذ القرار لابعادي شعرت بجفاف حلقي,وطلبت منه الماء فورا بل ورفضت ان اقرأ او اتفاعل مع الموضوع قبل ان ابلل ريقي الذي جف من خبر الابعاد .


البوسطة****1

محمود فنون
الحوار المتمدن-العدد: 3721 - 2012 / 5 / 8 - 16:58
المحور: أوراق كتبت في وعن السجن


البوسطة****1


دخل الجندي الى الممرالطويل الذي يوزع على الغرف ,وبيده ورقة ,وأخذ ينادي على الاسماء :....
وما ان انتهى حتى قال :
"بكرة الساعة ستة كلو بكون جاهز .. مفهوم ؟بكرة بوسطة" وسلم ورقة للشاويش(وهو احد المعتقلين الموقوفين يتم اختياره كيفما اتفق ويستحسن ان يكون على معرفة باللغة العبرية).
-"ما هي البوسطة؟"سأل احدهم .
-"هي سيارة نقل المعتقلين من سجن الى آخر وهي بادارة غير ادارة السجن ويسمى العاملين فيها "بالناحشون "وتكون البوسطة كل يوم اثنين وخميس بشكل اعتيادي بخلاف ما يلزمهم بشكل طاريء."
لا احد يعرف الى اين يكون النقل ولا لأي غرض ، فيذهب بعض المعتقلين وخاصة غير المجربين مذاهب شتى..
ان يوم البوسطة يوم مميز ,فهو يستثير كل الافكار والهواجس ,وعلى اية حال فان البعض يفضل الانتقال من مركز توقيف عصيون ,لانه اشبه بالزريبة وشديد الاكتظاظ وسيئ الطعام وسيء المعاملة ,وعدا عن الحشرة والضيق لاتوجد حمامات بالغرف,ويوجد ثلاث حمامات يتدفق عليها المعتقلون على قسمين,وقلما يتوفر الماء الساخن وحينما يتوفر لا يكفي لكل الموقوفين في كانون الاول.
تتداخل امواج الفكر في رؤوس الموقوفين الذين يجهلون مصيرهم..
يجهلون مصيرهم ..انهم في السجن ..ولكن هذه المحطة الاولى ..نعم نعم المحطة الاولى في عصيون ..يتجمعون ويتعارفون ..ويتآلفون ..ثم يتفرقون يحملون معهم احزانهم وفراقهم ..يتفرقون ليبدأوا رحلة جديدة مغمسة بالعذاب .
الى عوفر من اجل المحكمة ..محكمة؟!اداري ام توقيف؟
- للمحكمة ؟ قال احدهم.
-"طيب يا رفيق ,انا لوين بدهم يوخذوني؟"
-"انت قبل اسبوعين اخذوك للتوقيف الاداري ,يمكن المرة للتثبيت.."
-"طيب شو اعمل؟"
هو يشتغل في شراء الحديد الخردة ويبيعه وراء الخط الاخضر ,وقال لي انه ليس له اية علاقة بحماس وهو أميّ في الاربعينات من عمره, بل انه يحصل على تصريح دخول وراء الخط الاخضر .
-"اصرخ في المحكمة "قلت له "اصرخ وقل لماذا انا في السجن ,انا معي تصريح وكل يوم امر من الحاجز ولا مرة عارضوني ,انا ليس لي علاقة بأحد. اصرخ بهذا قبل ان يسألوك واعترض على أي شيء يقوله القاضي اذا كان غير الافراج"
-أين سيأخذونني يا رفيق ,انا ..يعني انا ..اول.. اه اول مرة ..يعني اول مرة.. أدخل السجن.."
كان قد ادخل السجن قبل اسبوع,ولا يعرف الطين من العجين .ويبدو انه كان يستشعر رهبة السجن رغم كل ما احطناه به من دفء انساني ,وكل التسلية والمجاملات وتعليمه لعبة الزهر.
-"لا تخف ، يمر كل المساجين بهذه التجربة وعادة "اول مرة تحصل مرة واحدة",ربما يستدعيك المحققين ليسألوك بعض الاسئلة ,واصبحت الآن تعرف كيف تتصرف ,المهم لا تدين نفسك ولا غيرك بأي شيء...اياك ان تضر احدأ,واعلم ان الاعتراف بأي شيء هو امر مخزي وهو خيانة ...الانسان يحمي نفسه بنفسه وكذلك يخون نفسه بنفسه .والاصعب ان يخون الناس الآخرين ."
-"انا مجنون ؟!..اصلا انا لا اعرف احدا ,ولا يهمك ,لا توصي حريصا وانا والله سأرفع رأسك عاليا.."
-"حبيبي..انت قبضاي ..وكلنا احببناك.."
-طيب وانا يا رفيق ..انا ..قصدي ..يعني ..انا ذكرني في التحقيق ثلاثة معترفين، طيب..ما الفائدة..قصدي ..ما الفايدة من الانكار؟
-"وما الفايدة من الاعتراف ؟ لا يوجد أي فائدة ,بل كل الضرر ونحن هنا لا نبحث عن فوائد .ان سؤالك غير صحيح وليس في محلة والاجدر ان تصمد في التحقيق "
-"اسمع قل للشرطي :انا لا أعرف حدا ولا رأيت أحدا ولا سمعت أحدا ،وكل ما تسألني عنه لا أعرفه. واصمد" .
-ماذا يحصل؟ ما الذي سيحل لي ؟انا لست فاهما ؟
-ولا شيئ اذا كان ملفك جاهز,فهم يستكملوه بسؤالك ,وسواء ايدت ما في الملف ام لم تؤيده ,فانهم سيقدموا ملفك للمحكمة العسكرية وسيتم توقيفك بناء على هذا الملف ,فقط لا توافق على أي شيء يقولوه ولا توقع على ورقة ولا على إفادة مهما كانت .وإذا قال لك انا كتبت اقوالك ,فقل له وقع نيابة عني .
لقد غير القضاء العسكري موقفه من الذين لا يعترفون في التحقيق ,فقبلا كان يسجنهم بالحكم الإداري ,واما اليوم فهو يحاكمهم على اعتراف الغير ,وهذا يعني انه عندما يعترف شخص على علاقة بشخص آخر فان اعترافه يدين الشخص الآخر ويستخدم في المحكمة دليلا قاطعا ضد هذا الشخص حتى لو عاد الشاهد عن شهادته ,وبالطبع لا يستطيع احد ان يقدم دليل برائته كما يحصل في الافلام.كل من دخل عندهم سيبقى في السجن ثمانية ايام على الاقل ,ثم الى المحكمة سواء محكمة الاداري او محكمة التوقيف وكلاهما تابعة للقضاء العسكري ووفقا لقانون الطواريء والاوامر العسكرية التي اصدرها الحكام العسكريين عبر سنوات الاحتلال.وفي محكمة التوقيف يتقرر المصير :فاما تستطيع النيابة تقديم لائحة اتهام ,وحينها يتم توقيف المتهم الى حين انتهاء المحاكمة ,او يكتفى بالتوقيف ويجري الافراج عن التهم .
-ولكن ادارة السجن ابلغتني بأنني موقوف لمدة ستة أشهر اداري؟
****
-ان السلطات العسكرية (قائد المنطقة الوسطى )هو الذي يأمر بالتوقيف الاداري بالمدة التي يراها ,ولا تزيد عن ستة اشهر في المرة الواحدة وتبدأ عملية خاصة بالاداريين ,حيث يقدم لمحكمة الاداري للنظر في القرار ,حيث يقول القاضي رأيه أرتباطا بملف سري يقدم له من قبل النيابة ولا يطلع عليه الدفاع, بعد ذلك تعود المحكمة للانعقاد للنظر في الحكم ثانية ويجري تثبيت الحكم الاداري بالاشهر ذاتها التي تقررت في المحكمة السابقة او أقل .وعندما تنتهي المدة يتكرر السيناريو ذاته اذا قامت ادارة السجن بتبليغ المتهم بالتوقيف الجديد او يجري الافراج عنه اذا انقضت المدة ولم يجدد له.
-"وهل يستطيع القاضي ان يفرج عني ؟"سأل احد الموقوفين اداريا.
"ان مع القاضي هامشا صغيرا ,فهو يقصر المدة المقررة ,أو يبقي عليها وقليلا جدا ما ينطق بالافراج .واذا كان نطقه بالافراج غير مقبول من الجهات الامنية الاخرى(كلهم جهات امنية متكاملة)فان هذه الجهات تعيد القبض عليه او تستأنف قرار القاضي او تلجأ لقاض آخر..ولا يعجزهم الامر .
"وهل المحكمة جهة امنية؟"
***
-هناك شبكة متكاملة مهمتها التعامل مع قضايا الاعتقال ,وكل يقوم بدوره بشكل مستقل عن الآخر اداريا ومتكامل معه وظيفيا .
الشاباك والجيش,ادارة السجن والسجانين,والشاباص و الناحشون المسؤولين عن البوسطة,والمحكمة ,والنيابة العسكرية,ةالخدمات الطبية التابعة لمصلحة السجون, وكلهم باشراف القائد العسكري .
-"ما الشاباك والشاباص..؟"سأل احدهم.
فالشاباك يقود عملية الاعتقال بالتعاون مع الجيش .حيث يجري نقل السجين الى احدى مراكز التوقيف مشفوعا بالتقارير اللازمة وبأوامر التوقيف اللازمة.
ولا بد من ذكر ملاحظة بأن الادارة العسكرية الامنية تراعي غالبا الجانب الشكلي والتنفيذي في عملية الاعتقال حسب أصول يرونها ,وادارتهم عريقة وتمتلك الخبرة والدراية الكافيتين لتأمين صحة الجانب الاجرائي الشكلي دون انتقاص.
فهم يستحصلون على أمر الاعتقال والتفتيش ,ويدونوا كل خطواتهم وملاحظاتهم بشكل دواويني مدقق.ويصر قائد حملتهم على الطلب من المعتقل حال اخراجه من البيت ان يوقع لهم على برائة ذمة بأنهم لم يأخذوا شيئا من البيت .
وحال وصولهم الى مركز التوقيف المحدد,تقوم دورية الاعتقال بتسليم السجين الى الادارة حسب اصوليات متبعة ,وادارة السجن او مركز التوقيف غير معني اساسا بأسباب وجود السجين وهو معني بوظائف محددة تتعلق بالقيام بواجب السجان حسب القرارات والاوامر العسكرية المرعية وبالتعاون مع بقية الجهات ذات الصلة .
والشاباص هم السجانون
والناحشون هم فريق التنقلات الذي يؤمن انتقال المعتقلين ضمن دائرة السجون والمحاكم والمخابرات للتحقيق, والشرطة لاستكمال اجراءات التحقيق بتوثيقها باسم الشرطة لا باسم الشاباك(المخابرات).
ثم القضاء العسكري للاداري او لمن وفروا لهم لائحة اتهام وكل منهما درجات تبدأ من المحكمة الاولى ثم الاستئناف .
**********
-وانا طلبوني اول امس واقتادوني سيرا على الاقدام الى مكان قريب,وسألوني اسئلة وهددوني بحبسي سنوات طويلة اذا لم اصدق معهم,وقام احدهم بالقائي على الارض وكانت باردة ومبلولة ,وداس على رقبتي وهددني بالموت.. .
ماذا قلت له؟
-الحمد لله وباذن الله عدت سالما ..
-ولكن ماذا سألك وماذا قلت له؟
-طلب مني اسماء مؤيدي الكتل الطلابية في شعبتنا في الجامعة وسميتهم له..ثم طلب مني ان اسمي كل من يؤيدوا الكتل الطلابية في الجامعة وقال بأنه ىسوف يطلبني مرة ثانية..
-وعن السجن ماذا قلت؟
-سألني عن عدد من الاشخاص وقلت له انا لا اعرف عنهم شيئا سوى انهم حماس كما اعتقد وكما سمعت..
*******
وانا امضيت في التحقيق ثمانية وتسعون يوما في مكان بعيد معظمها منفردا في الزنزانة ,وخلال العشرة ايام الاولى لم يسألوني أي سؤال ,ثم ادخلوا عندي شخصا يوحي مظهره بالثقة ولم يسألني شيئا سوى عن صحتي وحاول تسليتي ,وكان يقوم للصلاة صباحا .
كان يعود بعد ان يأخذوه ويؤكد انهم حققوا معه في الامور الخطيرة ومن خلال تعرضه لما يحصل معه في التحقيق فهمت انه من كبار القادة العسكريين ,وشيئا فشيئا وبعد ان قال لي بأنهم(المخابرات)فشلوا تماما في التحقيق معه بل وتيقنوا ن برائته (طبعا بسبب ذكائه وقدراته الخارقة )يتوقع ان يفرجوا عنه ,وعلى الاقل سينقلوه من السجن الى سجن آخر..
استشعرت على الفور فراغا وضيقا لاحتمال نقله وكأن صدري ينقبض ..في الحقيقة فقد احببته ,وأخذت اسأله عن مصيري,فتبادلنا الحديث حول وضعي وعلاقاتي وظروفي وكأنني افاتح مسؤولا عني ..
وبعد ان غادر بساعات ,استدعوني للتحقيق ووجدت كل ما قلته له امامي وبالحرف الواحد..
-"ما اتعسك ! لقد كان هذا عصفورا ,استدرجك لتدلي له بكل ما تعرفه ,وهو بدوره ولأنه جزء من التحقيق ,قام بتسجيل كل ما قلت ,ففاتحوك به .والاولى ان تنكر كل ما قلت مرة ثانية ...
-لقد قلت له عن كل أصحابي من أجل ان يتوصى بهم ..
-وهو قد استوصى بهم فعلا وسيكونوا كلهم في السجون..
-ولكن انا قلت بعض الاشياء على سبيل التباهي وبالغت كثيرا ,وقلت له عن اشياء لم اعملها !
-ان ما قلته سوف يقدم مع ملفك الى النيابة العسكرية ,وهناك سيكيفون كل اقوالك في لائحة اتهام ويقدموها للمحكمة ,سواء ما هو حقيقي أو ما هو مبالغة .
-ما العمل اذن ؟لقد ضحك عليّ.
انهم يضحكون على الهبل من امثالك والهبل هؤلاء هم الاغلبية ممن يتعرضون للتحقيق .وهناك طرفان يتحملان المسؤولية عن نتائج التحقيق في المستوى الوطني :
الاول:هو التنظيم الذي لا يكلف نفسه عناء التثقيف بمجريات التحقيق ووسائل حماية التنظيم من نتائج التحقيق وكل ما يتعلق بالحماية الامنية,وذلك لأن الكثير من المسؤولين كانوا ضعفاء في التحقيق وكانوا يعترفون على كل شيء ويعتبرون تسليم اسرار التنظيم للعدو هو امر في اطار" لا يكلف الله نفسا الا وسعها " ويجرّ الواحد ورائه ملء باص الجيش ليواجهوا مصيرهم . ثم يتوبوا الى الله عن فعلتهم ويعودوا الى تكرارها في الاعتقال اللاحق يعد ان تعوّد عليهم المحققين وخبروا ضعفهم.
ان قلة من المعتقلين يصمدون في التحقيق رغم ان وسائل التحقيق اليوم اسهل من السابق ,وهؤلاء القلة يذكرون المعترفين بسفالتهم وجبنهم ورذالتهم وضعفهم امام المحقق الذي ينتزع منهم اسرار النضال ويوجه الضربات الاعتقالية القوية بالاستناد الى تعاون هؤلاء الضعفاء .ان دورهم اكثر خطورة من دور الجواسيس ,وهم يتحملون المسؤولية عن تضخم عدد المعتقلين – ضحاياهم
والثاني :هو المعتقل ذاته والذي يتوجب عليه ان يدافع عن نفسه بالصمت والتحرز على كل ما لديه من معلومات عن نفسه وعن غيره..أليس هو المناضل في مواجهة العدو ؟اليس التحقيق هو محطة من محطات المواجهة ؟ هنا البطل يصمد والجبان يخون...
-سنقدم لكم في ليلة ثانية ندوة عن دور العصافير ودور المسؤولين الكبار الضعفاء ومسؤوليتهم عن ضرب التنظيمات وإضعافها بسبب تعاونهم مع المحققين وعن كل الذين يتعاونون في التحقيق سواء بواسطة العصافير او بغيرها .ان الواحد منهم يصبح اداة بيد العدو للبطش بالتنظيم .
-ولكن انا قرأت كتاب فلسفة المواجهة ,وقد أدخلوا عندي أحدهم في اليوم الثاني واخذ يظهر حزنه بسبب صغر سني ..
"كم عمرك يا بني"محاولا تقليد صوته الاجشّ.."انهم ظلمة ولا يرحمون صغيرا ولا كبيرا "
-وقد حاول بوسائل شتى ولكنني في كل مرة كنت اشرح له بأنه لا علاقة لي بأي شيء ولا أعلم لماذا اعتقلوني..وقد غيروه مرتين وعاد هو مرة ثانية ,ولما فشلت تجربة العصافير اخضعوني لقسوتهم اكثر من خمسة عشر يوما وذلك لأن احدهم ذكر انه شاهدني مع مجموعة من طلاب الصف التاسع كانت تلقي الحجارة على جنود العدو. ثم نقلت الى هنا مرة ثانية منتصرا ..ونفخ صدره الصغير تعاظما وافتخارا .
*********
بعد ان صلى بعضهم العشاء جماعة ,تحلقنا حول بعضنا ..فقد نشأت بيننا الفة ومشاعر لطيفة ,وغدا يوم آخر قد يتفرق البعض بعد ان توطن الناس على الصبر على ماهم فيه بسبب تآلفهم وايناسهم هذا.
-صحبتكم كانت حلوة.."
-"والله انكم قد كنتم اكثر من أهل وقد خفتم عن روحي وطأة الاعتقال .."
-ارجوكم ان تذكروني بعد فرج الله القريب ان شاء الله وتزوروني في البيت ..."
-لقد احببناك ..مع انك لم تشاركنا الصلاة..لقد خففت عنا كثيرا ونورتنا بامور كثيرة كنت مثل اخ كبير لنا.."
واخذ الجميع يغني "يا ظلام السجن خيم ...
ثم خلد بعضنا الى النوم وتظاهر البعض بالنوم وسهر الباقون مع بعضهم حتى موعد صلاة الصبح حيث ينهض المصلون من المنتسبين للتيارات الدينية ويتيمموا على الجدران صعيدا طيبا ويؤذن واحدا منهم ثم يقيموا الصلاة ويحاول الجميع النوم مرة ثانية.
**********
-"عدد عدد ..يلا عدد عدد سفيراة.."يضرب الجندي على الابواب صارخا في المعتقلين النائمين ,ثم يفتح الباب للشاويش ليقوم باستكمال المهمة لينهض النائمين من نومهم ,ويطلب منه ان يدعو المنقولين للبوسطة بأن يحضروا انفسهم.
يجلس المعتقلون في حلقة واحدة على ركبهم وايديهم مشبوكة الى الخلف حيث يدخل ضابط العدد وهو جندي برتبة عسكرية ومعه جوقة من المرافقين ويتمم عدد المعتقلين بالمناداة على الاسماء كالعادة .
وبعد تمام العدد الصباحي ,طلب المناوب من الشاويش ان يستدعي المنقولين ,فيخرجوا الى الساحة بانتظار اتمام اجراءات النقل . يكون هذا عادة بعد الساعة السادسة صباحا بقليل
يبقى المعتقلون في الساحة الصغيرة يتمشون او يجلسون حتى ما يقرب من التاسعة واحيانا حتى العاشرة والحادية عشرة,ثم يسمعون صوت سيارة البوسطة تتوقف قرب جدار السجن مباشرة ..فيأتي احد الجنود ويتأكد من جاهزية المعتقلين بالمناداة على اسمائهم .
ينزل الناحشون من السيارة وهم حوالي اربع او خمسة, ويسمع المعتقلون اصوات السلاسل وهم ينزلونها من السيارة لأدخالها الى داخل السجن.
ينادي الضابط المناوب على المعتقلين ليبدؤوا بالخروج من الساحة الى باحة أخرى خارج قسم اقامة المعتقلين لتبدأ عملية التفتيش وخلع الملابس والتأكد من الهوية ,وبعدها مباشرة عملية الربط في القدمين ومن ثم ربط اليدين اما بالقيد الحديدي ان توفر أو بقيد البلاستك الذي يشد اليدين بقوة ,والاصطفاف جانب الجدار المجاور لباب السجن الخارجي والوجوه جهة الجدار والسجان الشاباص يصرخ بشكل متكرر لمنع الكلام تحت طائلة العقاب .
ويتم الاستلام والتسليم فيأتي احدهم من الشاباص ويتأكد من سلامة ربط القيد في الرجلين ,م تبدأ المناداة على الاسماء ليتوجهوا فردا فردا الى الباص المعد خصيصا لهذه المهمة حي يصعد المعتقلون المقيدون بصعوبة درجات الباص ليت اجلاسهم على الكراسي الحديدية الصلبة والباردة ,وتبدأ رحلة النقل حيث يكون الباص محروسا بقوات من الجيش او حرس الحدود حتى الوصول الى مدخل سجن عوفر وبسرعة كبيرة والباص يهتز ويرقص بشكل لا رحمة فيه.
اغمض عينيه وهو يمر من حاجز النفق.
-"سأدخل من النفق هذه المرة بشكل علني بعد ان عبرته الى القدس مرات عديدة بشكل سري ملتفا من جهة المخرور الى باب النفق حيث تنتظرني السيارة الموعودة وتحملني الى رام الله لبعض اللقاءات والاجتماعات
-عبور عن عبور يختلف ,لقد كنت تعبر وانت حر ,بينما تعبر هذه المرة مكبلا بالاصفاد ,كنت تعبر في سياق العمل والاجتماعات واللقاءات ,بينما هذه المرة للمحكة ,او التحقيق .
-منذ سنة 2002 م بعد ان اجتاحوا مناطق الف ,اصبحت غاراتهم متكررة ,ان التقسيم الى الف وباء وجيم ليس سوى تقسيما لتسهيل المهات ولا علاقة له بالسيادة والاستقلال والحرية ,انهم قد ضحكوا علينا-ضحكوا علينا بالتعاون مع "غصن منا"وبواسطته.
-"اسكتوا" صاح الشرطي فينا بعد ان سمع دردشة بين السجناء.ممنوع الكلام ..
عاد ثانية وكرر الصياح ..انه يستطيع ان يعاقب الجميع بطرائق مختلفة !انه لا يتحمل مسؤولية عن تصرفاته ,فهو لا يتبع ادارة سجن عصيون ,وما ان تصل الى مرحلة محاسبته على سوء تصرفه تحتاج الى اضراب شامل مدرج في مطالبه واحتجاجاته حول معاملة في البوسطة كي تتمكن من توصيل الرسالة بواسطة الادارة العامة للسجون حيث يتبع قسم الناحشون هذا.
انهم مسؤولون عن كل عمليات النقل بين السجون وبين السجون وبين المحاكم وبين السجون ومراكز التحقيق وكذلك نقل المحررين من المعتقلين في سجون الداخل الى بوابات العبور مع الضفة الغربية وغزة.
يتبع البوسطة****2

البوسطة
محمود فنون 29|4|2012م

بينما كان يغط في نوم عميق ,والشمس على دلالها لم تتأهب لنشر خيوطها الذهبية بعد ، فتح السجان باب مدخل الغرفة الخارجي ودخل الى الشبك الداخلي الذي يفصل السجان عن المساجين ونادى على الاسماء.
والغرفة بطول اثنين وثلاون مترا وبعرض ثمانية امتار ,وهي عبارة عن صندوق ضخم من الاسمنت المسلح مستطيل الشكل بعرض ثمانية امتار وارتفاع ربما يصل الى اربعة امتار ,يلفها من جهتي الطول في الجزء العلوي شبابيك مشبكة بالحديد تفتح وتغلق من الخارج ووفق ارادة السجان. ويفصل بينها وبين غرفة مجاورة لها, باب حديدي مصفح وثقيل مغلق دائما وكأنه حاجز طبيعي يفصل بين بلدين متباعدين ,يحلم السجين ان يراه مفتوحا ليتواصل مع سكان الغرفة المجاورة فهو لا يرى ساكنيها الا اذا اعتلى اكتاف زميل له ونظر من خلال الشبابيك المشبكة بالحديد,اثناء خروج المقيمين في الغرف المجاورة الى الساحة المشتركة.
والساحة تتوسط اربع غرف متشابهة اثنتين من كل جانب وصور يعلوه شبك حديدي من الجهة الجنوبية , بينما تغلق الساحة من الجهة الشرقية بشبك متين من الاسلاك الشائكة التي ترتفع الى مستوى سطح الغرف وكل هذا معا يشكل قسم ألف في سجن بئر السبع الصحراوي ومحاط بالاسلاك الشائكة, ويرتفع على حواف السطح من جهة الساحة سور من الاسلاك الشائكة مما يجعل القسم من الخارج يبدو كقفص محرز .
تدخل الى الغرفة من باب حديدي مصفح في اقصى زاويتها الجنوبية الى حجرة مربعة الشكل بمساحة تسعة امتار تقريبا , جدارين منها هما جداري الغرفة يتوسط احدهما الباب الرئيسي وهو المدخل الخارجي بينما يقع الباب الحديدي المصفح المغلق في الجدار الاسمنتي الفاصل بين الغرفتين , والجدارين الآخرين هما جدارين من الفولاذ القوي الذي يستخم للحمايات ومغطى بشبك قوي على شكل مربعات صغيرة بالكاد ينفذ منها الاصبع البنصر,يتوسط الجدار الايسر باب من الفولاذ القوي من نفس مادة الجدار الفولاذي مغطى كذلك بشبك من نفس النوع وهو الذي يدخل منه المعتقلون الى داخل الغرفة ويخرجون منه.
وفي الجزء الداخلي من الغرفة توجد دورة المياه وهي عبارة عن اربع مراحيض من جهة اليمين يقابلها اربع حمامات من جهة اليسار بدون ابواب ,وفي الجهة الشرقيةجدار يفصل عن الحمامات يوجد عليه حوض فولاذي وصنابير المياه ويعلوه قطعة من الفولاذ المقاوم للصدأ والذي يستخدم كمرآة .
ان هذه الاقسام تصلح لأن تكون مصانع في السجون استخدمت لسكن المعتقلين الفلسطينيين,يتكدس في الغرفة الواحدة ثمانون الى مئة شخص,ينام الجزء الاكبر منهم على الجوانب مرصوفين بجانب بعضهم البعض والباقي في وسط الغرفة .
لقد كانت هذه الاقسام تجديدا على قسم" الماحانيه" المعسكر الذي افتتح به سجن بئر السبع عام 1970 م وهو عبارة عن مباني من الاسمنت المصنع تتجه شرق غرب تركب قطعها وهي بسمك لا يتجاوز اربعة سانتيمترات لتشكل ما يشبه غرفة طويلة يصل طولها الى خمسة وعشرين مترا مسقوفة بشبك من الفولاذ يعلوه سقفا من الاسبست وقد اقيمت المنافع في نهايتها ,بينما شبابيكها في الجهتين الشمالية والجنوبية وتفتح من الخارج ايضا وبابها من الجهة الشرقية .
ان هذا البركس والذي يمكن ان تربى فيه الدواجن اذا ما تم تكييفه بالوسائل العصرية هو عبارة عن حمام حار صيفا ,وما يشبه الثلاجة شتاء.
فما ان ترتفع الشمس بعد الساعة الثامنة حتى يصعب على المرأ ملامسة الجدار ولا الجلوس قريبا منه ,وهو وكأنه خلية حرارية مهمتها امتاص حرارة الشمس وتكثيفها صيفا ,ويصبح الوضع اشد صعوبة في اوقات قيظ الظهيرة . وينقلب الحال لتصبح اشبه بالثلاجة في فصل الشتاء.
بينما لا تكفي البطانيات الاربعة لتدفئة الشخص حينما يبدأ المناخ القاري شتاءا وتتلطف ادارة السجن باعادة البطانية الخامسة التي تكون قد أخذتها في بداية موسم الصيف مع ما يسمى بالملابس الشتوية التي تسلم للسجين في بداية موسم الشتاء.
***
- كيف ترتبون ابراشكم ؟تسائل القادم الجديد .
- يمكنك ان تفرش بطانيتين على ارض الغرفة وتتغطى بثلاثة وتضع ما يتبقى من ملابسك فوق حذائك مكان المخدة وتنام .ولكن لا تستطيع ان تفرش شيئا الا بعد العدد المسائي الخامس والأخير.اجابه السجين الذي يقف قبالته .
وقد ادخل هذا السجين الى الغرفة عند الظهر ولسانه يلهج بطلب الطعام ..
- ولكن الارض تبدوا باردة جدا ,وهذه البطانيات من عهد آدم ,وانا استشعر البرد كثيرا وأحتاج الى خمس بطانيات أخرى كي اتجنب برد الارض وبرد السماء .قال السجين الجديد .انا كنت معتقلا في المسكوبية وهناك البطانيات حديثة ، ويمكن للاهل ان يدعموا السجين بالمناشف والمخدات وبعض الاطعمة ، ,كما ان الطقس افضل بكثير..
- ستتعوّد على اكل" الديسة" والبطاطا المطحونة وتحمّل البرد .اجابه زميله.فالمسكوبية هي تابعية شرطة القدس ومناطق 1948م, بينما هنا تابعية ادارة مصلحة السجون .والمسكوبية عبارة عن مركز توقيف وتحقيق يقيم فيه المعتقل بشكل مؤقت الى حين الانتهاء من التحقيق وتوزيعه على السجون المخصصة لأهالي الضفة الغربية( دون القدس)وقطاع غزة والدوريات الخارجية .
- لقد مررت بمعبار الرملة في طريقي من المسكوبية الى هنا حيث قضيت الليلة الماضية بعد رحلة طويلة وشاقة .انت تعلم كم يتعذب السجين اثناء التنقلات في البوسطة ..منذ صباح امس نادى الشرطي على اسماء المنقولين ,كانت الساعة قبل السادسة بقليل ، قبل العدد الاول حيث طلب منا ان نكون جاهزين ..لم اكن اعلم ما الذي سيجري لي ، وقد استأنست قليلا عندما نادي السجان على اسماء أخرى استعدادا للنقل ..واخرجونا بعد العدد مباشرة الى "المعبار" هكذا يقولون عن غرفة الانتظار للقادمين والمغادرين ,لم نتناول وجبة الافطار ولا حتى كاسة الشاي لا أدري لماذا .
بعد الساعة التاسعة دخل اثنين يلبسون ملابس خضراء وفتح لهم "السهير" الذي يحرسنا باب" المعبار" ومعهم سلاسل بعضها طويل والآخر قصير ,نادوا على اسمائنا وحينما جاء دوري ,فتلني بحيث يكون وجهي الى جهة الحائط .ونزل الى الأرض وكبل رجليّ بالاصفاد ,ونهض وطلب مني ان امد يدي الى الخلف وقيدني وشد القيد على رسغيّ ..دخل آخر وتفقد الوضع ولم يعجبه على ما يبدو وأمر ان يربط كل اثنين معا في الرجلين واليدين .بعد ذلك امرنا بأن نحمل صررنا ونسير ,حتى مررنا بشرطي تفقدنا بالاسم وسلم واستلم أوراقا جرى التوقيع عليها ,واقتادنا الاخضرين الى باب السجن حيث جرى تفقدنا ثانية وفي الباحة في اقرب نقطة من الباب عصبوا عيوننا برباط مشدود ولم نعد نرى شيئا, واقتادونا الى حافلة واقفة .
- اصعد ..امرنا احدهم بجلافة
لقد شعرت في نبرة صوته باحساس من التعالي لا مبرر له فهو مجرد شرطي بدون رتبة ونحن متعلمين وبيننا المدرس والممرض والطالب ..لماذا يظن نفسه من طبقة أعلى ؟
لكزني وانا لا أراه .
طلبت منه بلطف بأن يتمهل عليّ لأنني لا ارى طريقي ,فصرخ بأعلى صوته وطلب مني الصمت ..
- انا هون اللي بقرر مش انت..انت مخرب ..انت حمار ..اسكت ..لا ترفع صوتك..
-هل يصح ان افتح نقاشا مع هذا؟!
عاد ولكزني بقوة هذه المرة وقال في تساؤل استنكاري :انت قبضاي ؟ ما في هون قبضاي..انا قبضاي ..ولكم رفيقي المجاور ,وقال له ماذا تقول ؟ سترون من هو القبضاي حينما نغلق باب الزنزانة ونذهب من هنا ...
****
تذكر ما حصل معه عام 1968م,حينما نقلوه من تحقيق سجن نابلس الى تحقيق صرفند..
-اذا لم تعطنا وصفا دقيقا للقاعدة الفدائية التي انطلقت منها , وكيف تسللت عبر نهر الاردن فاننا سننقلك الى صرفند ,وهناك تتكفل الكلاب بالتحقيق معك..
-كل التحقيق بالنسبة لي متشابه وانا لست فدائيا بالاصل وكل ما تقوله لا أعرفه.
-انت طراز غريب , فالذين نقبض عليهم من الدوريات ,يسجلوا كل شيء وينتهي معهم التحقيق بسهولة ,بعضهم يصمد 48 ساعة ثم يقبل الورقة والقلم ويكتب قصته ,يقول بعضهم انه مضطرون للصمت لمدة ثماني وأربعون ساعة قبل ان يدلي بأي اعترافات ,والبعض يصمد هنا ثم يعترف في سيارة النقل الى صرفند بل ان بعضهم يقول قصته للجنود الذين قبضوا عليه في الاغوار ..ان قليلون هم الذين أنكروا انهم فدائيين ,ونحن نعلم انك فدائي في المجموعة وكلهم قد قالوا بأنك قائد الدورية ...
-لا يهمني ما تقول وانا لا اعرف شيئا ,وليس..
-ويمكنك ان تقول انك لست في السجن !,ولست جريحا في ساقك ..لقد عملنا لك معروف حيث عالجناك..
_لا تقل معروف ولا تقل علاج ..انتم اطلقتم علي النار إما عمدا أو خطأ, وكان يتوجب عليكم معالجتي..و لكن كلما حقق معي أحدكم يبدأ اولا بالضغط على ساقي..
-أنك حمار ..لو انك قبلت بالورقة والقلم وكوب الشاي والسيجارة لكان كل شيء بخير وساعدناك في المحكمة ..
****
نهره زميله الذي لاحظ شروده وهو مستغرق في سرد قصته مع طاقم البوسطة الذي ينقله من المسكوبية وهو لا يعلم الى اين المسير..لكزه كي يتأكد من اصغائه,واستطرد..
-وقفت السيارة في الطريق ,قلت في نفسي :عسى ان اتمكن من قضاء حاجتي,وربما نتناول بعض الطعام ,فحينما مررنا بسجن الخليل لينزلوا زميل لنا ويأخذوا خمسة آخرين شكوت لهم حاجتي الى الحمام فصاح بي أحدهم وقال :بعدين..اسكت..كمان شوية..
عادت البوسطة الى المسير ,وقد عرفت من زملاء آخرين تمكنوا من زحزحة العصابات عن عيونهم اننا نعبر القدس ..
سمعت احدهم يتقيأ ويلعن ابوهم ,واذا بأخر يتقيأ ,وآخر يصرخ من شدة الالم في رسغيه المضغوطين بقيد الحديد ,وأخذ أحدهم يضرب قدميه على ارضية الناقلة علهم يسمعوه ويفعلوا شيئا لمجرد الانسانية ...
الناقلة هي عبارة عن سيارة شحن مصفحة بصندوق حديدي مصبوغ بالاخضر القاتم , يتخلل شقوق صغيرة في اعلى الجدران الجانبية لادخال الهواء ,والصندوق مقسوم الى قسمين بالإضافة الى غرفة السائق ,حيث حجرة في الخلف يجلس فيها الحرس بعد ان يغلق الابواب بالاقفال ويأخذ مسؤول الدورية رزمة المفاتيح ويجلس الى جانب السائق .
-بعد ان تجاوزنا القدس بقليل كما وصف أحدهم,تباطأت السيارة الى ان وقفت ,وسمعنا باب السيارة يفتح ويغلق ثم سمعنا المفاتيح تدور في الاقفال من جهة الخلف وانفتح الباب ,وعلى ما يبدو شاهد الداخل الينا القيء على الارض وربما شم رائحة البول التي كانت تزكم انوفنا مع رائحة القيء ,وظن ان من واجبه ان يعاقبنا على ذلك, فأخذ يرفس ويلطم ويدفع ويسحب فدخل آخرون لمساعدته فألقوا بنا على ارضية السيارة واخذ بعضهم يجرنا على الحديد والقيء والاوساخ وآخر يدوس على رؤوسنا ويبصق علينا ويصفنا بالقاذورات ..وكأنني سمعته يخرج انفاسا مصحوبة بالاصوات من فمه ومن خلفه.. ومن بين الآلام التي تمزق جسدي تسللت ابتسامة صغيرة وكأنها غسلت جسدي بالماء وبالبرد..
-وصلنا الى رام الله منهكين جوعى وعطشى وعلمنا مما يدور حولنا انهم بصدد انزال معتقلين وأخذ آخرين فطلبنا منهم الماء واعلمناهم اننا جوعى ,فقد غادرنا سجن الخليل بعد الغداء كما قال القادمون منه وهم لم يتناولوا الطعام لأنهم كانوا في الانتظار منذ الصباح الباكر ,ووصلنا الى سجن رام الله ووقفنا أكثر من ساعة قبل ان نسمع صوت فتح الباب الخارجي للسجن وانتظرنا زمنا آخر في داخل اسوار السجن ,وقد مزقت الطريق أمعائنا والشاحنة ترقص بنا مسرعة
****
- لو انه يعلم حقيقة امري لما طرح مثل هذا الحديث,ولو ان رفاقي قدموا اعترافاتهم لواجهني بها دون ريب ,ولكنني في كل الاحوال لن اتعاون معه قال في نفسه واستطرد:الاصل انني اتيت لمقاتلتهم وليس لخدمتهم..انهم يطلبون مني ان أدلهم على قواعد الفدائيين كي يقصفوها ,والافضل لي ان اتخيل نفسي في القاعدة ويقصفوها واموت شهيدا بدلا من ان اموت معنويا وروحيا امام نفسي كل يوم مئة مرة .
- "تركب معنا في الطيارة وتدلنا على القواعد ومخازن الاسلحة وتعود معززا مكرما ..وسوف ندفع لك اموالا كثيرة ونطلق سراحك بعد وقت قصير ..من قبلك التزمنا مع آخرين ..نحن كلمتنا واحدة ونلتزم بما نتفق عليه" قال المحقق وود لو انه استطاع ان ينتزع روحه .
- "انت حمار ..انت فدائي؟ لا لست بفدائي ..الفدائي عسكري ويحترم كلام العسكري ...انا اكلمك ضابط لضابط ..دعنا نتفاهم ..."
****
لكزه محدثه مرة أخرى بعد ان لاحظ شروده.
خرجنا من سجن رام الله بعد ان حمّلوا ستة آخرين مربوطين الى بعضهم البعض ,واتجهت السيارة مسرعة ومعدتي تشدني بقوة تستصرخني طالبة قليلا من الماء والطعام او قليلا من الراحة على أقل تقدير ..
-ازحت العصابة قليلا ,فلحظني السجان وقام يشتمني ويسبنا جميعا ويهدد بأنه سيضربنا مرة ثانية..تجاهلته وكأن الامر لا يعنيني ..وبعد وقت وقفت و نظرت من الشباك الصغير الذي يقابلني فرأيت مبنى قديما بابه كباب قلعة ,سمعت صرير الباب ,ثم تحركت السيارة وتوقفت ,وسمعت صرير الباب مرة ثانية ..
***
-جاء احدهم الى باب الزنزانة الفولاذي وطرقه برزمة المفاتيح بقوة, وسأله عن اسمه ,ثم ادار المفتاح في الباب واقتاده الى مكان آخر ..كان الظلام مخيما وكان النوم يدهمه ويغلبه ,وكان يسير معه يغالب النعاس والجندي يتعجله ويصرخ به ويرفسه في ساقه ويدوس على قدمه بالبسطار الثقيل ..
-" الى اين يأخذني هذا السافل"قال في نفسه."لو انه يتركني لأنام بضعا من الوقت فهم لم يتركوني للنوم طيلة الليلة الماضية وطوال هذا اليوم .
ربطوه من رجليه ويديه خلف ظهره عصبوا عينيه برباط شديد ثم رموه في ارضية سيارة ,ووضع الجالسون اقدامهم على جسده الممدد .
-"لن اقول شيئا" قال في نفسه ...
****
خرجنا من سجن نابلس وقد اصبحت زنزانة النقل مكتظة ,نتمايل فوق بعضنا البعض وقد اشتد البرد مصاحبا للعطش والجوع.استكمل حديثه التفصيلي وشرد من هم حوله الى ذكرياتهم وتجربتهم ..
وفي الطريق...وبعد ان خرجنا من سجن... ثم وصلنا الرملة كما فهمت من الرفقاء الذين سبق وخاضوا التجربة ..فبدلا من مسار الطريق من القدس مباشرة الى الرملة...
انتبه أحدهم ونظر اليه مشجعا.
- انتظرنا اكثر من ساعة في زنزانة البوسطة,ثم انزلونا الى قسم المعبار الى زنازين صغيرة
حيث قضينا حاجتنا وشربنا ,ولم نتمكن من الحصول على شيء من الطعام حتى صباح اليوم ,ومن هناك حملونا الى عسقلان ومنه الى هنا ,حيث وضعونا في غرفة الزيارة لبضع ساعات ثم قاموا بتوزيعنا على هذه البركسات...
****
تململ كثيرا في نومه رغم تعبه الشديد وحاجته الماسة للنوم , فهو لم يعتد النوم على ارضية اسمنتية مغطاة ببطانيتين هزيلتين مطويات على اربع طبقات لكل منهما وبعرض ستين سنتيمترا ,ويتغطى بثلاثة ,مما يضطره ليتقلب كثيرا ويزور الحمام مرات عديدة للتبول و...
****
بعد اسبوع واحد تم انتقاله مع خمسة وسبعون آخرين الى غرفة اثنين في قسم الف,وكان هذا الانتقال تطورا هائلا في المكان فهذه الغرفة مسقوفة بالاسمنت وجدرانها بسمك يتجاوز ثلاين سنتمترا.
وبعد سهر وتقلب في الليل غط في سبات عميق ليستفيق صباحا على قرع الباب الحديدي والسجان يحمل بيده ورقة وينادي على الاسماء معلنا عن البوسطة.


لن تبقي مغصوبة

محمود فنون
الحوار المتمدن-العدد: 3672 - 2012 / 3 / 19 - 20:50
المحور: الادب والفن



كان في المهرجان ,ويتظاهر انه يحضر مهرجانا كهذا لأول مرة..
غنت المغنية..
يا قدس العروبة ...لن تبقي مغصوبة
فردد المرددون ورائها آلاف الحناجر كانت تردد
يا قدس العروبة ..لن تبقي مغصوبة
وهو كان يردد مع المرددين
يا مصر العروبة ...لن تبقي مخطوبة
انتبه احدهم من مجاوريه ,وقال له
-مش مصر العروبة
-ولاّ شو؟
- يا قدس يا قدس
-آه..احنا بنغني للقدس ؟ ..آه..طيب.. طيب..وردد مع المرددين:
يا قدس العروبة ..لن تبقي مخطوبة
ونبهه أحدهم:
-مش مخطوبة..مش بالخا..بالغين ..بالغين
-آآه بالغين؟! وانا كنت بقول شو؟
-انت بتقول بالخا
أه بالخا ..انا كنت بقول بالخا طيب طسيب وردد
يا قدس العروبة ..لن تبقي مغطوبة
وقد شدد على الغين هذه المرة ليؤكد لمجاوره انه فهم وصحح نفسه وانتهى الامر.
ولكن مجاوره هذه المرة نهره وقال له :
-مش مغطوبة شو انت ما بتسمع منيح؟ يا قدس العروبة ..لن تبقي مغصوبة ..مش مخطوبة ..مغصوبة بالصاد فاهم ؟
-آآه ..مغصوبة ؟!مش مخطوبة؟! طيب يا خوي طيب ..انا باقي اغني غلط آآه.. احنا باقيين نغني غاط من زمان ؟هيك؟.طيب يا خوي هي القدس مغصوبة على شو ؟وليش بيغصبوها على شي ما بدها اياه؟
يا عمي الله يعطيني صبر ايوب ..اسمع المقصود مغتصبة يعني تحت الاحتلال ,واحنا بنغني اغاني ثورية ..يعني منشان الحرية.
-آآه..احنا كاينين نغني غلط علشان هيك القدس ما تحررت . انا بعرف ان القدس محتلة من سنة 1967 وبعرف ان كل فلسطين محتلة ولكن الاغاني غلط والكورس ماشي غلط .يا خوي ..يا خوي..الحق مش عليّ وعلى امثالي,احنا كنا بنعرف الصحيح من زمان ,الحق على اللي غلطونا ,الحق على رئيس الكورس.
اسمع انا بقولك اخرى مرة الحق مش عليّ وعلى امثالي ..الحق على الرئيس الكبير ..هو غلطنا كثير عشان هيك كانت الغناوي غلط وكل شي كان غلط في غلط والبلاد ما تحررت .
طيب ..بس الرئيس دفع للباصات ودفع للقائمين على المهرجان ..ودفع...
-يا عمي البلاد ما بدها دفع.. البلاد بدها غناوي الصح واحنا طول عمرنا مع كبارنا بنمشي الطريق وبعد ما تقع الفاس في الراس بنكتشف انو احنا رايحين على عين فارس مع انّا ناويين نروح على كيلو سبعطعش. والله والله هم اللي بغلطونا وبتعرف المثل اللي بقول اللي مع القاضي مع الراعي. والثلم الأعوج من الثور الكبير .
وبدك الصحيح يا خوي القدس ما بتتحرر بالدفع للباصات والمستشفيات بجوز يكون هذا مهم كثير بس صدقني البلاد ما بتتحرر الاّ نمشي قي الطريق الصح ونغني الغناوي الصح. والله يولجنا رؤساء على قد القضية وفيهم عقل ورجولية وحكمة وصلابة على قد ما بدها القضية .
أي روح يا زلمة وبعدين مين غيرهم يقعد على الكراسي؟؟؟



ام فلسطينية

محمود فنون
الحوار المتمدن-العدد: 3675 - 2012 / 3 / 22 - 20:36
المحور: الادب والفن




شاهدت صورة لأم فلسطينية تجلس فوق ركام منزلها المهدم في قطاع غزة اثر الاعتداء الاخير وبجانبها يجلس ابنها يحمل جثة ابنه الصغير ايضا وبجانبه تقجلس زوجته تحمل ابنها الصغير جريحا وملفلفا بالعصائب فكتبت هذه الخواطر ولم اتمكن من نشر الصورة


على ركام هذا البيت المهدم تجلس شامخة..مرفوعة الرأس عزة وكرامة.. يملأها الصبر ..وتتدفق حزنا وألما ..ولكنها تختزن .
انها تختزن الحقد ..الحقد العادل والحقاني على جرائمهم ..على مواقفهم ..على عنصريتهم..على سياستهم الاقتلاعية النافية للآخر..
امنا..هذه..لا يطويها الزمن ..ولا تلغيها العوائد ..فيظل حضنها الدافيء وحنوها الذي يؤكد استمرارنا في الحياة.
يا امنا املئينا صبرا ..املئينا حقدا ..املئينا قوة ..
املئينا صبرا..هذا ابنك يجلس على حطام بيته المهدوم بقذائفهم..يحمل ابنه الطفل..فلذة كبده المقتول بصواريخهم .. هذه ام الاطفال ..قطعة من روحها جريحا,تضمه الى صدرها ,علّ حنوها يعيد له الحياة ما اشد جرمهم وهم يحاكمون امامك وانت تنظرين الى البعيد تنظرين الى الغد حيث يقتص منهم الزمن الآت..ويذوب جليد حزننا المتراكم وتزهو بلادنا نظيفة من رجسهم ..وتفرحين
يا امنا ..املئينا حقدا عليهم ..حقدا عليهم..وعليهم وعلى كل من ناصرهم وعلى كل من تواطأ معهم ,وعلى كل من قبل جريمتهم ..يا امنا :اجعلينا جهنم الحارقة نحمل النار الحاقدة ..حقدا لا يرحم من ظلمنا وامتهن احساسنا بالعزة والكرامة ..وامتهن وجودنا ..واسترخص علينا حياة ابنائنا واحساس امنا . واستهان بامتنا
يا امنا ..من عزمك وصبرك وحقدك ..
من حبك الابدي املئينا قوة على قوة كي نكنس وجودهم الغاصب وبلا رحمة فمن يرحم الاعداء انما يعطيهم فرصة الاستمرار في غيهم يعمهون
خواطر قرية نحالين

محمود فنون
الحوار المتمدن-العدد: 3682 - 2012 / 3 / 29 - 20:25
المحور: الادب والفن


من عمر الزمن وجدت ومن باطن التاريخ نهضت .وتجلت.. كنعانية القوام ..فلسطينية الوجنات .حمرة خدها متوحدة مع شفق المغيب وراء صناصين ممزوجا مع عطر الازهار الربيعية التي تنبسط على التلال والسفوح من حولها ليكون حضورها عميقا في الوجدان لصيقا في الذاكرة .ومحمية.
يقف جبل ابو القرون غربا ليطل عليها فتشعر بالامان ..وهو يرقب مشيتها ودلالها وهي ذاهبة الى عين فارس لتشرب من مائها الهنيء الرقراق , ويرمقها وهي في طريقها الى عين ابو زيد باحثة عن الماء البارد صيفا وكأنه يقول :
"يا سعد من شرب من عين العيون وعين فارس واشرف على ابو زيد .."
وهي تحتضن عين البلد في حضنها الايسر ..ازلية وديعة تتوسط بساطا جميلا من الخضرة والكروم..
اما طور الباطية ,فهو ممر الشمس.. تمشي عليه في الصباح الصيفي مستأذنة منه حال بزوغها بين بانياس ووادي سالم في طريقها اليها.. ليتعانقا عناق العاشقين متآلفين على طول الزمان .بعد ان كان عبورها من فوق طور ابو تمام مصاحبا للبرد والمطر.
جميل صباحها بهية طلعتها .تتغطى بالبساط الاخضر مزركشا بكل الوان الزهور الربيعية يتعالى الحنون فوقها معطيا صبغة قانية تزيدها روعة و بهاء.
ذهب بها الزمن ولكنها ما برحت ان عادت مرة ومرات لا تضل طريقها فآثارها مرشدا وماؤها سلسبيلا .
فلا زال البدّ وما فيه من معالم رابطا من روابطها يشدها كلما ابعدت ,ولا زالت النواميس ما قبل الرومان تشهد على العقلية الرشيدة حيث جهزت لنفسها ملاجيء الامان والمدافن..
فخورة بنفسها ..ففي احشائها احتضنت الشهداء منذ قرون وقرون وتلقت الفاتحين العرب ولملمت ضحاياهم بعد ان لفظت البيزنطيين الى غير رجعة ..
مزهوة بدلالها.. عادت مرة اخرى واخرى مصممة هذه المرة على البقاء الابدي .. وما ان تنكمش لسبب ما حتى تسعى عائدة الى طبيعتها الساحرة.. تعود وتجلس على تلتها الصغيرة.. وما ان تستريح حتى تتمطى كلبؤة متمددة ذات اليمين ومشدودة الى صبيحا وخلة عادي وقرنة العين متباهية بجسدها الجميل ومغرّبة الى طريق عين فارس والكبارات وكأنها طاووس مدلل زاده الوان ريشه بهاء على بهاء ..
..وهي قد كابدت وتكابد المحيط الاستيطاني من حولها الذي دفعها بلا رحمة تكابد القهر فانكمشت اطرافها ..
عز عليها ان تجاورها بيتار عيليت شمالا وجبعوت وامتدادات كفار عصيون غربا و جنوبا والنبي دانيال شرقا .
انها لا تطيق رؤية أي منهن جميعا ولا تحب رائحتهن المليئة بنتن العنصرية الاقتلاعي .. ولا رؤية انياب الافعى فاغرة فمها لابتلاعها .
ان اردنا الحقيقة فهذا سبب وجعها ..وعندما تمر بقربها ليلا فاعرف سبب انتحابها ..فقطع من جسدها اللدن والدافيء يتقطع ويقضم بين الحين والحين ..وهي مقهورة قهرا ممزوجا بعزة النفس. تملك ان تصرخ رافضة ..وفي محاولة منها لحماية جسدها من الاغتصاب .وتعود وتحتضن تاريخها آملة ان يشحنها بالقوة والقدرة على البقاء..وهي قد وطنت نفسها هذه المرة "لن ارحل ..وعلى صدر الزمن السرمدي باقية ..قلبي مملوء بالعشق ونفسي تواقة للحرية"
محمود فنون
الحوار المتمدن-العدد: 3707 - 2012 / 4 / 24 - 01:33
المحور: الادب والفن


يوم الزيارة ---
محمود فنون 23|4|2012

كانت في زيارة لابنها الاكبر في العراق ,وهذه المرة الثانية التي ذهبت فيها لزيارته ,كانت الزيارة الاولى في آخر كانون الأول عام 1974م وامتدت حتى بداية كانون ثاني 1975 م.
هو ابنها الأكبر وكان في سفرة طويلة امتدت اثنتا عشر سنة متواصلة ,هي اثنتا عشر سنة من الفرقة ,اثنتا عشر سنة من عذاب الشوق والحسرة ,بل هي سنوات انقضت يوما بيوم يملؤها الحنين وتزخر لياليها بالحلم ,احلام النوم وأحلام اليقظة ...وهل تنام أم وابنها في الغربة لا تكاد تعلم من أخباره شيء؟.
ان الفرقة اشد من الرمضاء لسعا على قلب الأم الفلاحة التي تربت طوال عمرها معتدة "بالعزوة"..العزوة الذين تفرقوا ..تفرق ثلاثة من فلذاتها (الخمسة ),واحد الى الهند والثاني الى الجزائر والثالث ابتلعته سجون الاحتلال للمرة الثانية ..
تملأ خيالها يوميا برؤيتهم مجتمعين حولها .. يجلسون على مسطبة الدار.. يتناولون اقراص السنبوسك التي صنعتها بيديها الماهرتين وخبزتها في الطابون ونضجت حتى تقمرت تفوح منها روائحها الشهية .
-سأصنعها من اللحمة الحمراء هذه المرة ..الاولاد كبروا ..لا..لا.. لا أستطيع هذه المرة صناعة السنبوسك من زوائد اللحمة التي يضعها اللحام بجانب الميزان ..ساق الله على تلك الايام كنا في بيت واحد ..فنشتري من اجل "الزفر" حرصا على صحة الأولاد,كيلو لحمة "قطيم" مع كيلو بصل ,مع الفلفل والبهارات وعجين القمح البلدي ..لا.. لا اليوم الحال افضل يمكن نشتري ثلاث كيلو لحمة نظيفة ,والمرة سوف احشوا العجينة كلها باللحمة وليس مثل ايام زمان حيث يضع الناس ما تيسر "الريحة ولا العدم"..صاحبنا يحب السمبوسك جدا ..هذه المرة سوف اخبز كمية كبيرة وليأكل الواحد قدر ما يشاء بدون تقسيم.. سأضع الاقراص في الصينية ,وليأكلوا حتى يشبعوا.
-اي لعن الله ابو الفرقة والله اليوم الحال أحسن ..
لا احسن ولا شيء..الحال احسن باللّمة وبدون يهود ..
-ولكن الامكانيات احسن ..واصبح في بيتنا غاز ثلاث عيون ,وبيت خارج داخل البيت!..
- والله الدنيا هيك وهيك يوجد ما هو افضل ولكن ..اليهود ..الاحتلال..!.
حرق قلبها الاشتياق وقررت الانطلاق الى بغداد صبيحة اليوم التالي ,ولم تهدأ نفسها الا حينما رتبت حقيبتها وحزمت امرها ورأت نفسها تسير في الطريق.
-"في أي يوم نحن؟"سألت ابنها
-"الاربعاء "اجابها
-"يا يما ..يعني بعد غد الجمعة؟"سألته بلهفة وقد تشوش كل شيء في رأسها
-"يعني ..يعني بعد غد الجمعة"قالت ذلك وقد لاحظ ابنها انها تتكلم بصورة غير عادية وهي تقريبا شاردة الذهن. وتسائل في نفسه ان كان يوم الجمعة القادم هذا ليس كبقية الايام ,وقد لاحظها صامتة ولاحظ في صمتها حزما ..لاحظ في صمتها امرا ما لم يفهمه.
-"ما بك يا أمي؟"سألها علّه يفعل لها شيئا او يفهم منها سبب تغيرها الواضح.
-"سأسافر الآن"قالت بصوت يملؤه الحزم والشوق والأسف في آن واحد.
لم يمض على زيارتها لابنها أكثر من ستة ايام "رأيته "قالت في نفسها" ولكن لا أستطيع الغياب عن يوم الزيارة..ان لم اذهب انا فمن يذهب لزيارته ؟"
أخذت تلملم أغراضها .بطريقة تعبر عن أقصى درجات الاصرار,والدمع يملأ عينيها الأثنتين .
لقد سبق ان ذهبت الى بيروت حينما عرفت ان ابنها هناك قادم من الجزائر .لم تكن قد دخلت لبنان ولم تكن تعرف اية عنوان هناك ,كل ما كانت تعرفه ان ابنها مسافر الى لبنان ,وانها لا يمكن ان تفّوت هذه الفرصة دون ان تراه دون ان تشمه, بعد غياب ست سنوات متصلة .
هل يمكن لأم قطعت الظروف بينها وبين أولادها بسبب حرب 1967م ان يعجزها جهلها بلبنان ,وتجلس في بيتها تزفر الحسرة تلو الأخرى ؟
لقد طارت بجناحين ملائكيين ,وحطت في بيروت ,واهتدت الى ابنها بخطة محكمة اتبعتها بدقة متناهية حيث أمسكت بأول الخيط من خلال جامعة بيروت العربية ,وأبناء القرية هناك ,ومن خلالهم الى من يستطيع ان يرشد عن مكان وجوده ,وقد طاولت السماء أو ما هو ابعد من ذلك.
-هل من المعقول يا امي ان تسافري بهذه السرعة ؟سألها متبرما من الفكرة
-بللت شوقي قليلا برؤيتك,فقط اوصيك بأن تتدبر أمرك وتتزوج اريد ان ارى اولادك أو على الاقل زوجتك.."
ثم اردفت وهي لا تدري ان كانت تكلمه أو تكلم نفسها
-"يا حبيبي أخوك في السجن كما تعلم, ويوم الجمعة القادم علينا هو موعد زيارته ..من يزوره غيري ..لا زوجة ولا ولد..ولا حتى أب..".
ان يوم الزيارة ليس يوما عاديا..
يبدأ المعتقلون بتهيئة انفسهم للزيارة قبل ايام من موعدها ,بعضهم يتدبر قميصا معينا من زملائه وبعضهم يريد ملابسه مكوية ,ومعظمهم يقصون شعورهم , وصباح الزيارة يحلقون ذقونهم..ان يوم الزيارة يقطع سياقا فيبدأ بعده سياق جديد,يساهم في كسر سيلان الزمن .
-"بعد غد زيارة الضفة "قال أحدهم
-"ليتني ازور معكم "قال آخر."لقد حكمني المدير بمنع زيارتي لمدة شهرين متتاليين"
-"ستأتي امي واختي هذه المرة ,لم أر أختي منذ ثلاث سنوات" قال لصاحبه"قد كبرت خلالها ,وانا كذلك كبرت ,تخيل :اننا نكبر داخل السجن !واهلنا يكبرون وهم خارج السجن!".
-"اقول لك بصراحة :قبل ثلاثة اشهر ,شاهدت صبية جميلة جدا ,كانت تزور احدهم بجانبي,طار عقلي معها ,وهذا يجيب على سؤالك يومها عندما عدت من الزيارة ولاحظت انني في مزاج غير عادي ولم اتقبل أسئلتك, عدت يومها وطمرت رأسي تحت البرش وتمددت نائما حتى المساء..هي فتاة ارق من النسمة ,وابهى من القمر , وأشهى من كل شهي في الدنيا,نظرت اليها وأظنها بادلتني النظرة ,فشعرت حينها انني بائس ..ان السجن قبر وانا ميت فيه ,وهي نجمة الصبح وانا لا اشاهدها حقيقة .. انا لم اعرف حينها من انا ..فقط طمأنت نفسي انني في حلم جميل كي اتمكن من التماسك الداخلي والاستمرار في التعامل الطبيعي مع أهلي ..ربما لاحظت أمي نظراتي وحالي ..لقد شاهدتها توزع نظرتها بيننا مصحوبة بتنهيدة عميقة ,وغامت عيناها ثم رمشت بشكل متواصل ,ربما انها كانت تداري د معة حرى..وسألتني عن أحوالي في السجن"
وبعد لحظة صمت:
-يا صاحبي شعرت حينها انني انسان تعس ..ماذا فعلت لأمي سوى انني اسبب لها الحزن العميق الذي تداريه امامي ؟لقد حلمت كثيرا بيوم عرسي وضبطها اكثر من مرة تحدث نفسها في شؤون الخطبة والزواج ..كان وجهها يتغير ..يمتليء وجهها سعادة ويكشف ثغرها عن ابتسامة رقيقة ,ثم ينقلب حالها ..."
-"لا تقلبها غما يا صديقي ,فحالنا كله من بعضه ,ثم قل لي :هل يتملكك كل هذا الاحساس المرهف وقلما يظهر عليك مثل هذا؟"
-"انني في اغلب الاحيان اتماسك وفعلا انا كما قلت لي مرة بأنني اتمتع بصلابة ,واتفهم ظروف الرفاق ومشاعرهم ,وفي الحقيقة انا مثلهم ,فربما يكون الثوريون اكثر رهافة من غيرهم الى جانب ما يتمتعون به من صلابة وترفع عن بعض الامور..."
_"انظر الى هذا ..انه يتجمل قدر استطاعته ,وقد أعطى ملابسه لصاحبه الذي يعمل في المغسلة وأعادها له مكوية بينما الذي يقف بجانبه استعار البسة صديق له من غرفة ثلاثة من ابناء قطاع غزة ,يقول ان اناسا يشبهون الملائكة من المحتمل ان يأتوا مع زائريه..نظف شعر وجهه كله بالخيط ورتب حاجبيه وشاربيه وكأنه في ليلة عرس .."
-"كما ترى كل الشباب مشغولة بالزيارة ..وبعضهم يتمنى ان تكون زيارته مع فوج اناس معينين من اصدقائه.."
تأتي امهات متطوعات لزيارة معتقلين من الدوريات ليس لهم أقارب,بعض الزائرات يزرن ابنائهن ثم ومكررا يطلبن زيارة أحدهم من لبنان أو من العراق ,او يأتين في موعد آخر لزيارة أسرى الدوريات.
ان الزيارة تعني لقاء اناس آخرين غير نزلاء السجن كما تعني اربع علب سجاير عمر وربما يتاح للمرأ ان يدخن سيجارة أو اثنتين بالكعب (الفلتر)بل ان بعضهم يستطيع ان يهرّب عددا من السجائر من تحت انف السجان ويكون سعيدا بغنيمته الى جانب سعادته بتفوقه على التفتيش ...غير ان الاهم هو تبادل الاشجان والاحزان والافراح من وراء شبك الزيارة..اخوك مريض..بنت خالك تزوجت ..سجنوا اولاد الجيران..سافرت الى الاردن ..ابن فلان تخرج من الجامعة, كان ابن صفك...عرس ابن الجيران كان جميل جدا تمنيت ان يكون عرسك وبكيت...
نادوا على اسمه مع الفوج الثالث,خرج معهم من الغرفة ليتجمع آخرون من القسم ,وبعد انتظار تحت رقابة الحراس ,يفتحون باب القسم فيلتقون مع الزائرين من أقسام أخرى..انه يوم عيد ..انهم يلتقون من مختلف الاقسام ..اكثر من عشرين سجينا.
تفصل بين القسم والقسم حواجز من الاسلاك الشائكة والمنع مما يجعل القسم عن الآخر وكأنه في ولاية أخرى .
-"اليوم نرى بعضنا في الغرف المتجاورة بفعل النضالات والاضرابات وتكرار الاحتجاجات ,بينما قبل سنتين ما كان يسمح لأحد في غرفة اثنين ان يتصل بمن هو في غرفة واحد وهما متجاورتان لا يفصل بينهما سوى حائط اسمنتي.. اما الاقسام فكانت مفصولة عن بعضها تماما كما لو كان كل قسم في دولة .."
-"الاضرابات والمصادمات والثبات على المواقف زحزح ادارات السجون شيئا فشيئا وتمكن المعتقلون من انتزاع بعض التحسينات ..اليوم يمكنك ان تفرش البرش في النهار وتجلس عليه بينما كان هذا جريمة يحاسب عليها السجين بقطع الزيارة واسبوع او اثنين في الزنازين.."
-"انا سعيد ان التقي بك يا صديقي وان شاء الله نجلس بجانب بعضنا على شباكين متجاورين.."
-"اذا دخلنا قبل الاهل نجلس بجانب بعضنا اما اذا أدخلوا الاهل قبلنا ,فالمسألة مسألة حظ.."
كانت غرفة الزيارة على مسافة من الاقسام ,وهي عبارة عن غرفة مستطيلة مقسومة قسمين بشكل طولي ويتخلل الجدار الفاصل شبابيك متجاورة عليها حمايات وشبك بفتحات صغيرة على شكل مربع ضلعه واحد سنتمتر فقط .
على كل شباك كرسي يجلس عليه السجين ومن الجهة المقابلة كرسيين اثنين.
-"في السجنة السابقة كنا نزور في ساحة مكشوفة مقسومة بشبك طبقتين واسلاك شائكة يقف المعتقلون في جهة واهلهم في الجهة الثانية.."
-"توقفوا" صرخ السجان بجلافة حينما اقتربنا من باب غرفة الزيارة."انت اسكت ..ولا واحد يتكلم.."
قام احدهم بعد المساجين وتسجيل الرقم على ورقة يحملها بيده ,ثم أمر بتفتيشهم واحدا واحدا ,وكل واحد يخلع نعليه ويفتشها السجان وحتى "البابوج" يخضع للتفتيش بعد اجراء التفتيش الجسدي بخشونة,ثم يقرأ الاسماء اسما اسما ويدخلهم آحادا حيث يستقبلهم حراس آخرين ويأمروهم بالجلوس حسبما ارادوا ,ولم يكترثوا كثيرا لرجاء المعتقلين الذين رغبوا في الجلوس المتجاور.
-"اسكت ..تشمور على شيكت ( إحرص على الشكوت)..اذا حصلت أي فوضى نلغي الزيارة ..اذا رفع احدكم صوته نحرمه من الزيارة .."وتوالت التهديدات .
دخلت واحدة كان وجهها ممتقعا "لقد فتشوني هؤلاء الكلاب وكل قطعة من جسدي ..كانت تفتشني السجانة والجنود واقفون ثم ادخلتني الى معزل واصرت ان تفتش ملابسي الداخلية .واحدى الزائرات لم تتحمل التشديد في الاهانة والاذلال فصرخت ولم يسمحوا لها بالدخول ,وحينها اخذت تبكي بصوت يقطع القلب خشية ان يمنعوها بعد ان وصلت الى ابنها .."
ان الشرطي في اقل رتبة يستطيع ان يتحكم في مسار الزيارة بالتفاصيل وكذلك بالجملة ويستطيع طرد الزائر او السجين ويستطيع خلق اجواء من النكد والاشمئزاز ,بل ان بعضهم يرى لقاءات الاهل وكأنها ترف تم انتزاعه من جلده .
دخلت وعيناها تسبقانها تفتش عن ولدها ,كانت تشد جسدها الى اعلى وتقطب حاجبيها وتزم فمها وكأنها عطشانة وتبحث عن قطرة من الماء لا..لا ..بل كأنها تريد ان تتأكد انها وصلت الى المكان الصحيح وانها سوف تجد شفاء روحها ووجعها الذي سعت اليه من بغداد حتى بئر السبع..
تغير لونها لقد اصبح اكثر اشراقا ثم اعادت ترتيب شكل وجهها مستهدفة التعبير عن سعادتها بابتسامة سرعان ما هاجمها الدمع فأجهشت في البكاء للحظات ..ثم جففت عيونها بكمها وأخذت تدفع بالابتسامة من بين الدموع ,وبان عليها السرور وامتلأ وجهها حيوية وعادت اليها اشراقتها وأخذت تتلمس الشبك الفاصل ويغالبها الدمع تارة وتبزغ من بين الدموع والتقلصات ابتسامة وكأنها منتزعة غصبا الى ان هدأت نفسها بعد ان تأكدت انها وصلت في الوقت المحدد وانها دخلت فعلا ,وانها تجلس قبالته بدون أي شك .
-"يا حبيبي ..آه لو تعلم ..ثلاثة ايام وانا في السيارات حتى وصلتك ..انني لا أصدق نفسي ..كنت يوم الاربعاء في بغداد ,واخوك بخير "قالت وهي تتعجل الكلام راغبة في توصيل كل ما تريده معا وفي جملة واحدة.
من الواضح ان صدرها يفور اشتياقا وانها راضية عما فعلت كما لو كانت حققت انجازا هاما ..
-"وصلت صباح الخميس ..وتوجهت بعد ان استرحت قليلا الى الجسر حيث نمت ليلة الجمعة في البيت ,ومن الصباح الى باص الصليب الاحمر والى هنا..ولم أصدق نفسي حينما نادوا على اسمك للزيارة .. التفتيش قاسي جدا ..وهو لا يحتمل, والله لولا الشيء الاهم لمزقتها هذه الشعثاء التي تصرخ فينا , والحمد لله ضبط نفسي ,وتنفست الصعداء حينما قالت لي ادخلي.."
-"احتجينا عليها للضباط ,وأحدهم قال اكتبوا شكوى ..نشكي لمن؟ الله يلعن ابوهم ..الله يمسحهم عن وجه الارض بدل هذا الاذلال وهذا التحكم في مشاعرنا.."
"اخوتك بخير والحمد لله ,اخوتك في الخارج واخوتك في البلاد يهدوك السلام ولا ينقصنا شيء..كل اهل البلد يهدوك تحياتهم وكل..


رحلة الى الجسر

محمود فنون
الحوار المتمدن-العدد: 3725 - 2012 / 5 / 12 - 00:21
المحور: الادب والفن


رحلة الى الجسر
محمود فنون 11|5|2012
دخل الحرم الجامعي مستعجلا فلم يبق على موعد المحاضرة سوى ثلث ساعة وكالعادة يدخل الى مجلس اتحاد الطلبة في الجامعة الاهلية, ليتابع بعض الامور الروتينية قبل ان يذهب الى المحاضرات:
-"ما رأيكم برحلة الى الأردن؟ سمعت عن برنامج رحلات سياحية لمدة ثلا ايام بكلفة معقولة .."
سمع ذلك وكأن أحدا طرق على باب ذاكرته وأيقظ مشاعره الجميلة ,فهو قد ولد في الاردن ونسج خيوط طفولته هناك ,ولما عاد اليها في زيارة بعد ان كبر قليلا ,والتقى بأقرانه استعاد بناء ذاكرته الطفولية بشكل محسن واكثر وضوحا ونضجا .فقد ذهب الى معظم الاماكن التي بنى فيها كينوته الصغيرة ,ووجد ان اقرانه قد كبروا معه ايضا وتداعت ذكرياتهم معا ,وود لو يذهب الى جميع الاماكن السياحية التي تذكر انه ذهب اليها ..البحر الميت ..العقبة..احراش جرش ودبين..
"انا سأذهب معكم في هذه الرحلة .."
-"ولكن...؟!"
-"لا لكن, ولا غير لكن ..سوف اجرب مرة أخرى"
تسلل خبر الرحلة من تحت الباب وخرج الى دوائر تزداد اتساعا في اوساط الطلبة والكثير منهم لم يسبق له ان غادر الضفة الغربية الى أيّ مكان,وكان الخبر يكبر ويتكامل كلما انتقل من جماعة الى أخرى.
اخذوا يتوافدون على المجلس للتأكد من صحة الخبر .
-"هل سمعت ؟لقد نظموا رحلة الى الأردن.."
-"هل صحيح سجلتم في رحلة جماعية الى الأردن ؟ولماذا تكتمتم على الموضوع ؟ولماذا لم تسجلوا اسمي؟و.."
-"الكثير من الطلبة يرغبون في التسجيل لهذه الرحلة."
-"جيد ,هذا مشجع وسوف نعلن عن التسجيل قريبا ولكن بعد ان نتفق مع الشركة السياحية ونتفاهم على البرنامج والتكاليف.."
انتشر الخبر كالنار في الهشيم ,فالجامعة لا زالت في مراحل تطورها الاولى ومجمعة في مبنى واحد على رأس تلة مجاورة لمخيم الدهيشة يظهر مبناها كقلعة قديمة اضيفت لها مظاهر الحداثة والشموخ.
تك تاك.. تبادل مجلس اتحاد الطلبة كل ما يلزمه من معلومات مع احدى الشركات السياحية الاردنية ,و بدورها قدمت عرضا مغريا في السعر والبرنامج وكأنها ترغب في تشجيع الطلبة على السوح في الاردن وكأنها تستجيب لما دار في خلد الكثيرين منهم.
ما ان انهى المحاضرة الاولى حتى عاد للمجلس ليجد زملائه يطبعون الاعلان ويستنسخوه للصقه على اماكن النشر مع موجز بالمعلومات الضرورية.
كان احد الطلبة يعبر من المكان فتناول نسخة من الاعلان وخرج مسرعا يمتليء وجهه بالبشاشة ويحدوه الامل.
-"ساتظاهر بإلصاقه امامها ..ليتها توافق على المشاركة .."قال في نفسه.
-"ما الذي تحمله ؟"قال أحدهم.
-"هذا لا يخصك.."
-"هذا اعلان الرحلة وسوف تسجل شلتنا كلها ..فقد اتفقنا على ذلك"اكد صاحبه بغرور.
-"طبعا لا مشكلة لديكم ..فالله قد انعم عليكم..الحسرة ان الكثير ممن يرغبون بل يتلهفون على الذهاب يحصلون على اجرة الوصول الى الجامعة بصعوبة ..".
-"إن معظم البنات يرغبن في الذهاب والخروج للمرة الاولى الى الاردن ,بل الى أي مكان بدون احتلال"قالت احدى الزميلات.
***
-"لو انها تقبل الذهاب ..لو انها تقبل ان أدفع عنها تكاليف الرحلة ..والله ..طيب من اين تدفع عن نفسك؟ ..سأدعوها للمشاركة..
"نركب معا مركبا صغيرا ونجذف سويا في العقبة ..لا..لا..انا فقط اجذف وهي تشرد وتتمتع بمنظر البحر وتضحك بحرية وبصوت عالي ..تقترب مني قليلا وتنظر في وجهي لأشاهد مقدار سعادتها ..
- اناسعيدة جدا..
- لماذ؟
-ألا تعرف؟وتضع اصبعها على اقرب نقطة من فمه ثم تدير وجهها بدلال, لسببين :لأن هذه اول مرة اشاهد فيها البحر بل واركب قاربا فيه ..
-وايضا؟
-لا ايضا ولا غيره ..اعرف انت لوحدك.
فشعر بسعادة غامرة..."
تجول هنا وهناك بحثا عنها,فهو منذ سمع بخبر الرحلة كانت هي وهي فقط أول من ملأ كيانه وخطر على باله, واسرع نحوها وعرض اعلان الرحلة امام انفها وبطريقة لا لبس في انها رأته..
-"هذا اعلان الرحلة وانا عارفة بها "قالت "الكل سمع بها والكل يرغب في الذهاب ." قالت ببرود وسارت الى شأنها.
-"تتجاهلني! ..لا تكترث!.. لا بل ربما انها لم تفهم .."وشوش نفسه بامتعاظ .
لقد حاول لفت انتباهها اكثر من مرة,انها من اسرة ميسورة الحال ووالدها رجل محترم وهي زهرة الياسمين معبقة بندى الصباح .أما هو فبالكاد يتدبر امر نفقة دراسته بالاضافة الى ديون الاقساط المتراكمة..
تخيل هذا وانطوى على نفسه.
اجرى القادرون على اتخاذ قرارهم فوريا اتصالاتهم بذويهم وتوجهوا للمسؤول عن تنظيم الرحلة وسجلوا اسمائهم .اما هو وبعد حيرة نتجت عن تشوش افكاره فقد حسم امره بالتسجيل ان وافق ابوه على دفع نفقات الرحلة .
-"كلنا راغبون في الذهاب "قال احدهم مكررا ما قاله آخرون" لو ان الرحلة بدون ..:رفع قبضته قليلا وقال بغيظ وهو يكزّ على اسنانه "الله يلعن الفقر.." ولو كلمّه احدهم بأي كلمة للكمه على صحن خده دون ان يدري ما ذا فعل.
*****
ضحك قلبه .وشعر وكأنه يقلّب الشمس بين يديه .لقد كبر وأمضى سنتين من العقد الثالث من عمره ,وشعر بفخر لا حد له حينما وافق ابوه على تدبر نفقات الرحلة.انه يعلم الحال كله ,وعندما فسر والده تأييد ذهابه امام امه ,تمنى لو انه يملك العالم ليقدمه لوالديه.
-"حاول يا بني ان تزور الاقارب وبالأخص عمتك "قال ابوه
-"واقتصد في نفقتك ..ودير بالك على حالك ..انشاء الله يا ربي تتمكن من تحقيق مرادك.."قبلته وادارت وجهها.. ثم عادت ونظرت في عينيه وقبلته مرة أخرى بصمت وانصرفت دون هدف.
****
تواصل مع اصدقائه بعد ان تناول الطعام مع الاسرة وانصرف الى تحضير لوازمه بلذة وانشغال واضحين .كان قد التقى مع امه في السوق واشترى بعض الملابس واللوازم في طريق عودته من الجامعة,واستكمل احتياجاته من محلات القرية,وتأكد من البطاقة الخضراء وجواز السفر, وحزم كل شيء في الحقيبة وخرج ,ربما لأن الدار لم تعد تتسع له.
*****
جمعوا ما يملأ الحافلة من الراغبين من الطلبة وذويهم,امهات وأخوات واخوة,وانطلقت الحافلة نحو الجسر ووجوههم يملأها الحبور,وما ان تجاوزت العبيدية حتى انطلقت حناجرهم بالغناء وكل اشكال المرح ,هم يفرحون بصباهم وبتجربة جديدة لمعظمهم,ولما ملأ ت الاصوات اذنيه افترق عنهم..
..بعد ان غادر "جسر اليهود" اتصل بخاله الذي كان يعلم بمقدمه ,وانتظره على الجسر ,حيث افترق عن الجماعة راكبا مع خاله وأولاده الذين هجموا عليه مداعبة وألفة ,وبالكاد تمكن من مهاتفة عمته ليعلمها بوجوده وارتباطه بالرحلة وقد وعدها بأن يتخلف عن الرحلة لبعض الوقت وزيارتها وهكذا هاتف جدته وأقربائه خلال سير السيارة وراء الحافلة السياحية التي تقل الفوج السياحي ..
-"لو اننا في عطلة لتخلفت عن الرحلة حال انتهائها وذهبت لزيارة الاصدقاء ورفقاء الطفولة .."
"سمعت جدتي لأبي تقول "ان الآلام تورث ,فهي كانت ممنوعة من كل شيء الا بصعوبة , وبعد محاكم وبعد انقضاء اوقات متباعدة .." وقبل بضع سنوات حينما شكلوا سلطة الحكم الذاتي قالت :"الناس ناسين بعضهم يأكل القلاج وبعضهم يقع في السياج"
حقا انه في بلادنا قد يحصل ان تورث الاسر مواقفها لأبنائها .فبعضهم يورث الخيانة وبعضهم يورث التضحيات,والتضحيات قد تشمل الجميع: الآباء والامهات و الاخوة والاخوات وبعد ذلك الابناء والبنات وربما الاصهار, فالعدو غاشم ولا يدفع ثمن قهرنا.
التحق بالحافلة مهللا ومرحا يغمر الفرح كل خلية من خلاياه ,فهو في الاردن ...
-"واخيرا عبرنا.." قال في نفسه وهو يعلم ان أحدا من الزملاء لم يكن يعاني ما كان يجول في خاطره بل ولا يعلم ما ينطوي عليه صدره.
****
لاحظت احدى زميلاته درجة عالية من الحبور على وجهه"هل ستلاقي احدا في الاردن؟..يا.. وزمت شفتيها كما لو حسبت انه فهم مقصدها ونظرت الى بقية الزملاء وكأنها تشاركهم اكتشافها.
بدأ البعض يحس بطنين في اذنيه,فقد تجاوزت الحافلة الفلسطينية مستوى سطح البحر باتجاه اريحا,وأخذت الاصوات تخفت شيئا فشيئا ,ثم صمت الجميع ,فانطلق صوت احدى الطالبات مغنيا واحدة من أغاني فيروز الجميلة ,وكل اغاني فيروز جميلة وشجية ,وما ان اقتربت الحافلة من طريق الجسر حتى عم هدوء عميق وصمت الجميع وكأن على رؤوسهم الطير..حاول احد الشباب ان يرطب الاجواء دون فائدة فصمت مستشعرا الخجل من فعلته,فقد شعر وكأنه يتواقح.
اصطفوا على شبابيك الخروج في ثلاثة صفوف على ثلاثة شبابيك, يجلس ورائها ثلاث مجندات صغيرات السن ربما في التاسعة عشرة ,تجلس الواحدة وامامها الحاسوب ,وما ان تستلم بطاقة الهوية أو جواز السفر الفلسطيني حتي تسجل رقم البطاقة وتنتظر الخبر من الشاشة الصغيرة امامها .
شاهد ذلك ولم تكن المرة الاولى,كما شاهد سرعة في الانجاز عبر روتين محدد .الواحد يسلم بطاقته فتضع الفتاة عليها الختم وتعيدها له ثم يمر من معبر معين ويسلم ويستلم اوراقا تتعلق بالرسوم المدفوعة ثم يخرج من ممر الى باب بلا عودة وبهذا يكون قد خرج من آخر مرحلة من مراحل التفتيش والتدقيق ,فيصعد الى الحافلة التي تقل الركاب وامتعتهم الى نقطة الحدود الاردنية والتي يسميها الفلسطينيون " جسر الاردن او جسر العرب مقابل جسر اليهود".
اقترب صاحبنا وشاهد وجه الفتاة ,كان مكبدا قليلا رغم حسن تقاطيعها,فهي اما انها متعبة او تعاني من طور متقدم من الدورة الشهرية ,على اية حال لا يمكن وصفها بالبشوشة .
سلمها جواز السفر الفلسطيني ,ومكتوب عليه ما يوجب تقديم التسهيلات لحامله علما انه يصدر باذن السلطات العسكرية الصهيونية ويحمل رقم بطاقة الهوية "الاسرائيلية".
كتبت شيئا على الحاسوب فزاد وجهها اسودادا .
"يا ستار "قال في نفسه وهو يرقب اقل نأمة وأقل حركة من حركاتها .
-"استنا هون "قالت المجندة ""روحوا كلكم هناك ..روحو على شباك تاني" صاحت في الناس بجلافة وحملت جواز السفر وغادرت حجرتها ودخلت الى مكان غير مرئي بعد ان قالت له ان يجلس وينتظر.
-"ربما يسمحوا هذه المرة فهي لم تقل –ارجع"
-"ولكنها لا تقول ارجع عادة هي فقط تدخل من هذا الباب وتسلم الجواز, وبعد قليل تعود الى شباكها اما أن تنهي المعاملة بعد المراجعة ,اوتستأنف عملها بعد ان تقول انت ..استنا ..هون "
رن الهاتف النقال ,فقد كان الاهل يتتبعون مسار الرحلة اولا بأول ,ولم يسعفهم الصبر لينتظروا حتى يفاجئهم بالنتيجة" السارة!" .لقد كانت امه تتحرك في البيت لانجاز ما عليها من أعمال ولكن ليس كما بقية الايام ..ربما انها كانت تدرك النتيجة ,ولكنها تتسلح ببعض الاحتمالات .
"قد تتناول الجواز وتختمه دون ان تنظر ..ربما تقع في مثل هذا الخطأ.. يعني يمكن ان يخطيء الانسان.."
-"لا..لا.. هؤلاء لا يخطئون مع انفسهم, يمكن فقط ان يخطئوا معنا ولا أحد يحاسبهم ,ولكنهم يدققون ضدنا في كل شيء وليس للدواعي الأمنية فقط ..طيب انا منعوني من المشاركة في رحلة الى الداخل انا وبناتي الاثنتين من دون اهالي البلد ,وهو طبعا ممنوع من التصاريح للخارج وللداخل..والله نحن ندفع اثمانا بشكل متواصل .لماذا ...عدنا؟..اصدقاؤه يشغلون اعلى المناصب ويتمتعون بالامتيازات ونحن نتمتع بالممنوعات والسجون والتضييقات.. ينقسم اصدقاؤه الى ثلاثة اقسام :الاول يتربعون على اعلى المناصب وزراء وحول الوزراء ومستشارون ولديهم وكالات متنوعة ويتمتعون هم واولادهم واسرهم في نعيم السلطة .والقسم الثاني استمر على الحالة الوطنية والكفاحية ,وظل يتعرض للاعتقال والملاحقة والممنوعات هو وأهله وأقاربه .والقسم الثالث انطوى على نفسه.
هذا عدا عن الفساد والسرقات والرشاوي ... على كل حال كل ناس وحظهم ..لالا ..لالا ..المسألة ليست مسألة حظ انها اختيار .."
-"اختيار؟! نعم اختيار. هكذا قال لي :اما ان أختار الوطن والجماهير ,أو أختار نعيم الاحتلال والدوس على دماء الشهداء .. وهو كما عرفته جيدا لا يمكن ان .."
"الو هلو ,..أه..يعني قالوا لك..آه"ردت على الهاتف النقال بعد ان أخرجها جرسه من وجوديتها .
-"اه ..خلاص ..جاء أحدهم وسألني ان كانت معي حقيبة ,وقلت له نعم وقال لي انتظر هنا وذهب ..يعني ..يعني.."
التقطت منه الحديث وقالت له "انت تعلم ذلك من قبل ,وليس في الامر مفاجأة يا بني ..حبيبي ..أصلا انا كنت مترددة لولا انني فكرت ان تجرب وتأخذ فرصتك.."
-"المشكلة انني سأنتظر مطولا قبل ان أستعيد الحقيبة ..!"
جلس على الكرسي وفهم ان هذا الجلوس هو اهون من الاعتقال ,وعزّى نفسه"لو انهم يريدون اعتقالي لاقتادوني من هنا على الفور .."
-ولكن هل هذا خيار ؟سأل نفسه .
-لا, هذا ليس خيارا, هو اجبار لي ضمن خياراتهم هم ,فأنا لا أختار السجن وكذلك لا أختار الرجوع.
-نحن في سجن كبير والانسان السوّي يسعى للتخلص من عبودية الاسر وعلى الاقل تخفيفها ولا يمكن ان يختار تقسية حياته وهو بكامل قواه العقلية .
-عندما يختار النضال مثلا هو يختار تقسية حياته .
- لا, هو يختار النضال والعدو هو الذي ..
-هو يختار النضال ,يعني هو يختار الحرية ,بينما العدو يقبض عليه ويضعه في السجن ليجبره على التخلي عن خياره وقد ينجح مع بعضهم بل قد يحوّل بعضهم الى ادوات في يده, اما الباقي :"فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا"...
وأخيرا اخذوه الى مكان تجميع الحقائب بحافلة خاصة ,وأخذ حقيبته وعاد مع الحافلة وهي مغلقة عليه وفقا لأوامر الجيش ,وظل يسير بها ومعه وثائق المسافر الراجع الى نقطة تجمع الأجهزة الفلسطينية حيث سلم الوثائق لأحدهم الذي طلب منه ان يرافقه لبعض الاسئلة .
كان هو في اقصى درجات القرف وهو يعلم بالاجراء الفلسطيني هذا ,وتخلص منهم كيفما اتفق بعد ان أعلمهم ان والده..و"أنهم" سبق ان أعادوه ومنعوه من السفر..
-سألته امرأة نابلسية عن حاله عندما شاهدته يعود بحافلة لوحده ,فأخبرها فقالت"الله يكسر خاطرهن"


مسافرون ..قد لا نعود

محمود فنون
الحوار المتمدن-العدد: 3845 - 2012 / 9 / 9 - 11:43
المحور: الادب والفن


مسافرون... قد لا نعود
محمود فنون
20|8|2012

سافر بالاتجاه الغربي الجنوبي من القرية ,بسيارة جميلة ,يقودها, وقد غطى عينيه بنظارات سوداء.كان قد اشتراها من القدس ..
كان قد دخل القدس بعد سنوات من القطيعة ,فعمره دون الخمسين .و"لكنهم" هذا العام فتحوا الحواجز لمن هم فوق الاربعين ,وعمليا اغمضوا نصف عينهم عن العابرين ,فعبر آلاف من الشبان التواقين والحالمين بدخول القدس ..شباب في الثامنة عشرة فتحوا عيونهم على الحصار والاغلاقات ..وملأت مسامعهم اخبار القدس ويافا وحيفا والبحر ..امتلأت خيلا تهم بالصور الساحرة لفلسطين ..امتشقوا أنفسهم وجربوا حظهم ..فعبر الكثير منهم في سياق الزحمة الهائلة عند نقطة المراقبة التي كانت تتم بالعين المجردة ..العين التي تسهو عمدا فترة من الزمن قبل ان تعود ليقظتها ,فيصرخ صاحبها على هذا وذاك ليعودوا لصغر سنهم وعلى هذا وذاك لإبراز هوياتهم والتأكد من أحقيتهم في الاستفادة من التسهيلات التي قدمتها سلطات الاحتلال على شكل السماح للراغبين بدخول القدس بمناسبة شهر رمضان لهذا العام و بشكل كبير وعلى غير العادة ..
دخل .. صلى الجمعة في ساحة الاقصي متظللا بشجرة باسقة من قيظ ذلك اليوم ..ثم انتظر قليلا ..وحين همّ بالمغادرة ,لفت بعضهم انتباهه لقرب صلاة العصر , غير انه اراد ان يرى شيئا من القدس قبل اوان العودة ..
اشترى شيئا من الحلوى للأولاد , وتجول علّه يجد شيئا للعيال ..فرأى ولدا يقف بجانب حمالة نظارات شمسية ,فاشترى واحدة كانت فخمة و مناسبة تماما لوجهه ولون بشرته ,وكأنها من أكبر وأفخم المحلات المتخصصة .
اراد يومها ان يلبسها وخاصة انه سيقل رجلا وامرأة في الكرسي الخلفي ,ومن طبيعة مهنة السائق ان ينظر في مرآة السيارة بين الفينة والفينة ليرى خلفه, كي يظل مسيطرا على الشارع وعلى السيارة .
كان قد استيقظ من النوم واستحم ولبس لباسا جميلا مناسبا لفترة بعد الظهر, وتعطر وشعر بأنه يتألق ,حمل مفاتيح السيارة ,وما كاد يتجه خارج الباب حتى سمع الهاتف النقال وفيه نداء للتوجه الى مكان ليقل رجلا وزوجته وطفليهما ..
عاد ونظر الى نفسه في المرآة ,رأته ابنته الكبرى ,فعبرت عن شديد اعجابها بمظهر والدها ,وجائت اليه الصغرى راكضة فتعلقت به وعانقته ,وطلبت منه ان يصطحبها,لولا انه قال لها بأنه سيذهب الى العمل ..انزلها برفق وقبلها وطلب من اختها ان تعتني بها, وناولها بعضا من النقود وخرج ,و شعر وكأن شيئا منه قد بقي في المنزل ..
تقدم بضع خطوات وهو يحاول ان يتعجل المسير كي لا يطول انتظار من طلبوه,غير انه اعتقد كما لو كان نسي شيئا ..توقف قليلا ,,تحسس جيوبه من جانبيه ومن صدره ,ومن الخلف حيث اعتاد ان يحمل متعلقاته في محفظة جلدية ..لا شيء غائب مما يحمل عادة ..تلفت ورائه ,شاهد ابنته الصغيرة ترنو اليه بحنو ودلال ,فهوى قلبه اليها.. فعاد وحملها وقبلها ,ووضعها وسار ووجهه الى الخلف باشارات الوداع ,ثم حزم امره وادار وجهه بعنف الى الامام ووصل السيارة وادار محركها وهو ينظر امامه ,وضع النظارة على عينيه وانطلق,و ادار السيارة وعاد الى مركز القرية حيث مكتب التكسي ثم الى منزل الزبون وأخذ حمولته وانطلق الى الجهة الغربية الجنوبية مغادرا القرية ..
***
عندما وضعت جسدها بالسيارة وأرادت الجلوس شعرت ان غطاء رأسها قد تهدل ..هي أصلا لم تكن تشعر بارتياح من هذه التوليفة ولم تتأكد من تناسق الالوان ولا من تماسك المناديل المغروزة بعشرة دبابيس او يزيد .
هل من الضرورة شدشدة المناديل بكل هذه الدبابيس وبهذه الطريقة كي تخفي المرأة شعرها عن أعين الرجال ؟
- "لا ادري: قالت في نفسها .
لقد كانت امي تكشف شعرها حتى العشرينات من عمرها كما قالت لي ولم يقع أي زلزال لهذا السبب,ثم لبست منديلا كانت تربطه من الخلف دون ان ينشق القمر ..
عدلت من ربط المناديل المحكمة على رأسها وعدلت جلستها بجانب زوجها متحسسة اطفالها ..
- "سأشتري كل ما تريدون "قالت لهما ومسّدت على رأسيهما .
التصقت بها ابنتها فرحة ,ونظرت نحو اخوها وكأنها تقول له مناكفة :" انا الذي أجلس في حضنها ".
شعر الطفل بحركة أخته فرد على مناكفتها :"سأشتري أكثر منك"
فدفعته بيدها مغتاظة ودفعها بدوره فنهرتهما الام ونظرت في وجهيهما بحزم ,ثم احتضنتهما ونظرت الى زوجها بجانبها .
- "اولادك مدللين " قالت في محاولة لتبدأ الكلام .
نظر الى السائق ونظر اليها وكأنه يقول لها احذري امام الغرباء وصمت .
صمت وهو يشعر بدلالها وطيبتها ودفئها ويشعر بسرورها لاصطحابها الى مكان التسوق وبصحبة الأطفال .انه يمرر غزله وإعجابه بها من خلال جسديهما المتلاصقين في السيارة ,ويتفاهمان في مثل هذه الظروف بصمت ,وبأنصاف نظرات بين الفينة والفينة ..
****
اكد له الزبون انهما ذاهبون الى سوق رامي ليفي للتسوق ,فقد سمعا من ابناء البلد العاملين في السوق عن عروضات مغرية لأنواع من البضائع والالبسة والالعاب .
- كيس التايد بعشرين شيكل بدل من خمسة وستين ..قال الزبون
- سأشتري بعض الاغراض للبيت وسأشتري للصغيرة ما تحب .. قال في نفسه ..للصغيرة فقط؟! وحينها كيف الخلاص ؟ سأشتري للاولاد, ولكنني سأخص الصغيرة بما تحب, فهم جميعا يحبونها ويدللونها ..لا يهم..لا يهم.
كان قد انجب اطفاله بعد ان تقدم في العمر
*** .
نظر من حوله يمينا وشمالا ,ولفت انتباه زوجته و أولاده للتفرج على الغابة الجميلة من اليمين واليسار, والسيارة تشق طريقها صعودا ,وكلما تقدمت بالمسير يستطيع الرائي ان يرى بعيدا بعيدا نحو الغرب فيرى قمم الجبال المرتبة تنازليا ,فكلما اتجه الناظر غربا يقل ارتفاع الجبال حتى يرى اضواء ساحل عسقلان ليلا ,وربما يرى ضوء سفينة وهي تمخر عباب البحر .
اراد ان يمتع الاطفال ناظريهما بمرأى الطبيعة الخلاب ...الاشجار الباسقة والهواء العليل والافق البعيد البعيد ..
تذكر ما قاله له جده "..هذه المناطق من اراضي بلدنا تمكن اليهود منها في عام 26من القرن الماضي حيث باعها الاقطاعي والذي يملك ثلث اراضي القرية بورقة الطابو العثماني,باعها لسمسار و الذي باعها بدوره لسمسار آخر سرّبها للصندوق القومي اليهودي رغم مقاومة اهالي القرية لعشرين عاما ...لقد نجح الاحتلال البريطاني وأدواته الإدارية والقضائية,في تمرير الصفقة متوجا إجراءاته بحكم قضائي عام 1946م و نفذ بحراب العسكر ,فاصبح ثلث اراضي القرية بيد الصهاينة مقابل المال !!!"
تذكر ذلك وعبس كما لو كان يستشعر قدرا من المسؤولية عن ضياع هذه الأرض وضرورة استرجاعها يوما, رغم انف الأعداء .ان صفقات الاراضي التي يعقدها الاحتلال يحرمها القانون الدولي كما سمع مرة ..
طبطب على اولاده بسرور وعاد يتلفت في البعيد.
***
خرج من وكره في بيت عاين وهو يحمل حقيبة صغيرة على ظهره ,اتجه الى سيارة كانت تنتظره على مسافة قريبة ,استقلها مع صاحبه حتى الدوار ,ثم اتجهت السيارة الى الشمال الشرقي هبوطا الى المنعطف ..نزل من السيارة واتجه الى يسار الشارع عبر الحاجز الحديدي ثم وجد مكانا يختبيء فيه بحمولته وجلس ينتظر.
"العربي الجيد هو العربي الميت.."سمع ابوه يقول لجاره.
"انهم انجاس هؤلاء الاغيار ..لا بد ان نطهر ارض الآباء والأجداد منهم .."قال المعلم في الصف .
"اقتلوا كل ما يتنفس .."كرز عليهم الراب .."لا تستمعوا الى ما يقوله الخونة ..هذه الارض التي وعد الله ان يعطيها لنا ..ها هي بين ايدينا ..لقد عمرها آباؤنا وأجدادنا ..لا زال جزء منها مع الاغيار ..هي ايضا لنا ..وقبل ان تتم خيانة الحكومة لا بد ان نستولي على كل ما بيدهم وطردهم ..وقتل كل من تقع عليه ايدينا حتى يرضى الرّب ..."
وعندما ذهب يوم وشاهد يهودا يتظاهرون من أجل السلام مع العرب المقززين ,تقززت نفسه وكرههم كما لو كانوا اشد نجاسة من الاغيار ,تذكر ذلك وتلمس حمولته مرة أخرى بسعادة ,وتأكد من جاهزيتها .
رن هاتفه النقال ,وبدون ان يرد حضّر نفسه للمهمة ونظر من بين جذوع الاشجار وشاهد سيارة صفراء تتجه صعودا ,فأيقن ةانها الهدف المقصود ..انتظر قليلا من الوقت ظنّه دهرا كاملا ,ثم أخرج القداحة من جيبه وتحرك نحو الحاجز الحديديي وشاهد عربا في السيارة ومعهم امرأة تلبس الزي العربي الذي يميزه جيدا, وهي تحتضن بين يديها طفلين صغيرين ..عبأ نفسه بكل الحقد الذي تعلمه وكونه في حياته ,وعند نقطة الصفر القى العبوة في داخل السيارة بمهارة عالية ,وتأكد من استمرار اشتعالها ,وتلمس جدائله المتدلية على وجنتيه ,وادار ظهره مهرولا نحو الوادي فرحا برسالته .
***
قد يتمكنوا من اطفائها هؤلاء الاوباش ..لا..لا..لقد اشتعلت داخل السيارة وهي تولد حرارة تفوق ستمائة درجة حال اشتعالها فيستحيل اطفائها بل ان كل شيء في السيارة سيشتعل ويحرق هذه النجاسة ..
"لن ينجو أحد منهم "قال في نفسه وهو يتجه صوب العين.
رفع قبضته وهزها عدة مرات وهو يسير ليعلم صاحبه الذي ينتظره بأنه انجز مهمته على خير وجه .
هو هو..تبادل الاثنان الصيحات فرحين .
***
نظر السائق وهو يتابع احكام السيطرة على مسير السيارة نظر الى اليمين فشاهد انبثاق احدهم من خلف الحاجز ..هو رجل في عشرينات عمره, يلبس طاقية ينغرز رأسه فيها عميقا, وله سالفان متدليان على جانبي وجهه ,لونه يميل الى الاحمرار ,ويتصبب منه العرق ..رفع يده بسرعة وبشكل مفاجيء تماما والقى جسما ملتهبا ,ما ان وصل السيارة حتى اشتعلت النيران من تحتهم وفوقهم ومن كل جانب ..ايقن السائق حينها انه لن يرى صغيرته مرة أخرى .. انتهى وسط اللهب الحارق هو ومن معه ..ثم ثم..سمع صراخ الاطفال.. فتراكمت في جسده قوة الحياة بأضعاف مضاعفة .
"الاطفال ..؟!!"قال في نفسه واندفع ليخرج من السيارة .
شده الحزام المشتعل وأخذ يناضل للتخلص منه ,ويحاول الوصول الى مكبس فك الحزام وقلبه يتمزق ..لقد عادت اليه الحياه عندما سمع صراخ الاطفال وتيقن انه مسؤول عن تخليص الجميع ..صاح فيهم "انزلوا من السيارة "هم كذلك محزمون بالاحزمة المشتعلة ..ان كل ثانية هي الف سنة مما تعدون ..الاحزمة تحترق ..الاجساد تحترق امام الاعين ..الاطفال الاطفال يحتر..
"انزلو بسرعة.."
"ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا .."قالت الام في نفسها والقت بيديها الى مكابس الاحزمة لا تشعر بشيء ,لا يهمها شيء ,لا يهمها ان تحترق وتذوب في لهيب جهنم .. الاطفال ..الاطفال ..دفعت الباب واخذت تحاول الخروج واخراج اطفالها ,وساعدها السائق ..سحبوا زوجها ..وخرج الجميع من جوف جهنم ,وساروا خطوات مبتعدين عن السيارة التي اشتد لهيبها واحترقت بالكامل امام اعينهم ..
هو الموت زحف عليهم من طرف الغابة ,فتح فاه وابتلعهم ..قوة الحياة مكنتهم من انتشال انفسهم من ظلام جوفه الواسع ..
كان الناس يتوقفون بقربهم محاولين مد يد المساعدة وابعادهم عن السيارة المشتعلة والتي احترقت تماما .
"من فعل هذا ؟"قال احدهم بلكنة اجنبية .
"مستوطن ..لقد شاهدته ..له سوالف .."
"يمكن عربي؟ .."قال آخر باللغة العبرية .
""لالا..لالا..هو يهودي مستوطن ..خرج علينا من وراء الحاجز والقى النار المشتعلة داخل السيارة وقفل راجعا داخل الحرش باتجاه الوادي .."رد السائق وقد بدأت الدنيا تغيم في عينيه وجلس لا يقوى على الوقوف
ضاق تنفس الزوج ولكن المرأة أخذت تصيح حزنا وخوفا على اطفالها حتى انها لم تتحسس الآلام المبرحة التي أخذت تشتعل في جسدها..تصايح الاطفال مستنجدين بأمهم ولكنها لا تقوى على فعل شيء لهم غير ان تضاعف حبها ولهفتها عليهم آلاف المرات وقد شعرت بعمق المأساة حينما التفتت لترى حال زوجها المريع .
انها في وسط بحر من المآسي ..وشيئا فشيئا اخت تشعر باحتراق جسدها وغابت عن الوعي من شدة الالم .
***
كان الحاضرون قد اتصلوا بالدفاع المدني الاسرائيلي وبنجمة داوود الحمراء وبعضهم اتصل بالهلال الاحمر الفلسطيني ..وتكاثر الناس عربا ويهودا ,وحاولوا المساهمة بشيء لانقاذ المصابين المحترقين.
***
- انا الذي اتصلت بالشرطة..حين وصلت شاهدت شخصا يلبس طاقية يركض باتجاه الوادي ..لقد وصلت بعد العملية رأسا ونزلت وفتحت الباب وسحبت الشخص الذي كان يجلس بجانب السائق ,كان مشتعلا وحاولت اطفائه ..لم يقل شيئا سوى انه اشار بيده الملتهبة باتجاه الوادي .
- هل هو عربي ؟سأله أحدهم باللغة العبرية
- لا يأتي العربي الى هنا لينفذ عملية حرق سيارة عربية هي سيارة أجرة مرخصة خصيصا للعمل في الضفة الغربية ولونها اصفر ولا يشبهها سيارة أخرى.
- ماذا يريد الجاني من فعلته ؟سأل بالعبرية .
- نحن الذين جاء دورنا لنسأل هذا السؤال .نحن كنا نلقي عليكم زجاجات المولوتوف والحجارة واي شيء آخر لأننا نريد الحرية وطرد احتلالكم .وانتم ماذا تريدون منا؟! ..نحن لسنا احتلال ..نحن الوطنيون اصحاب البلاد وسكانها الأصليين ..
- انت قلتها ..انتم السكان الأصليين .
- اهالي نحالين جيراننا ونحن لا نقبل ان يتعرض لهم أحد اثناء مرورهم من" أرضنا وطرقنا" قال أحدهم ويبدو عليه مظاهر المسؤولية .
- ولكن هذه ارضنا وطرقنا ..انتم استوطنتم هنا ,وانا لا زلت اذكر المنطقة وهي ارض زراعية ,وفيها خربة الحبيلة التي نسفتها قواتكم عام 1967 وطردت سكانها .. ومعسكر للجيش الاردني كان قد رحل بسبب الهزيمة في الحرب ..ثم بدأتم العمل وتأسيس الاستيطان ..
- المهم سلامة الانسان رد بالعبرية ..وان شئتم الاحتجاج فتعالوا الى هنا وسوف نحتج معكم من أجل سلامة الطرق..
***
دارت احاديث وأحاديث بين الكثرة المتجمعين عربا ويهودا ,بينما كانت سيارات الاسعاف من نجمة داوود الحمراء تلتقط المصابين وفق مقتضيات الانقاذ وتحملهم في السيارات وقد سبقتها سيارة عسكرية تجري الكثير من الاتصالات .
وفي لحظات كان خبر الجريمة قد انتشر في كل ارجاء القرية...
الشهداء يعودون

محمود فنون
الحوار المتمدن-العدد: 3745 - 2012 / 6 / 1 - 11:48
المحور: الادب والفن


-ماذا تعني شهداء الارقام؟ سألني ابني.
- قصتهم بدأت من زمان ..منذ اختراق الفدائي لحدود الصمت العربي ..وتحليقه في فضاء الحلم الفلسطيني ..ممتطيا روحه فوق السحاب ..ليمطر الغربان رشقات من حقد الثورة ..معلنا ميلاد فلسطين مرة أخرى ..عودتها الى الحياة .
- وكيف يعود الشهداء؟
- هم يعودوا من قلوبنا الى قلوبنا ..هم ينتزعهم الموت من الحياة الدنيا الى سويدائنا ..كي لا ننسى ..
ولن ننسى الحلم ..
دفنتهم ايادي القهر والعنصرية في التراب الوطني الذي عادوا "بعنقائهم" ليغسلوه من رجس حط عليه ..يغسلوه برحيق جسدهم ..ويعبّقوه بمسك روحهم ..
- يخترق الارض من تحت النهر ..ويبزغ فجرا جديدا في فضاء فلسطين ..ممتشقا حلم شعبه الابدي "انا هو الطوفان يارجس البشرية ..انا هو الانسان ..يا وحوش البر ..انا ..نحن..كلنا ..سمعنا النداء
اناديكم...
اشد على اياديكم ..
وابوس الارض..
نحن .. كلنا نهضنا من تحت الرماد ..لنعود ونحترق في رمضاء الارض .."
- وحينما دفنوهم .. صمموا على دفن بطولتهم معهم.. فاستبدلوا اسماؤهم بارقام تقابل ملفاتهم ..
- توقف هدير النهر منذ مدة طويلة ولكن ينابيع انبثقت من كل انحاء الارض ..فأطعمت الارض شهداء على رقاب شهداء ..ان اديم ارضنا مجبول كله بدماء شهدائنا ..
- يتجمع غل عنصري فوق غل استعماري فوق غل صهيوني فيبدع اعتقال الشهداء ..ودفنهم في مقابر الارقام او في الثلاجات ..الى زمن غير محدود.. ويبقي بعضهم بعد ان قتلوه وهو في سجونهم ليكمل حبسه عندهم .
- وحين اقتربت الفؤوس لتحفر تحت التراب ..هدرت الارض ..وتلونت السماء وتجمعت النوارس من كل الاتجاهات لتظل أجسادهم المتكونة من جديد .. تحجب عنهم حر شمس ..ليتم نقلهم من حضن الارض الى حضن الارض ..فنعود ونرفع اجسادهم على اكفنا عاليا ..
وضمير شعبنا يصرخ فينا "اقبروا اجسادهم في التراب ..لا تنزعوهم من صدوركم.."
ونحن نغني اغاني الشهداء التي تتسلل من افواهنا الى اوردتنا..الى قلوبنا
ونكاد نسمع همهمات تتصاعد وتتحول الى الحان وأغاني ..نسمعها من فوق اكتافنا :
"اخي ان جرى في ثراها دمي واطبقت فوق حصاها اليدا
ففتش على امة حرة ابت ان يمر عليها العدا"
ومن بينهم ينتفض خطيبا :
"قتلنا العدو مرة ,,ولو قتلنا الف الف مرة ..لا نموت وقد عدنا..
فانهضوا ولا تدعونا نموت على اكفكم ..اعيدوا زمننا .. اعيدوا زمن الفدائي فنظل احياء "
حسام في السجن

محمود فنون
الحوار المتمدن-العدد: 4410 - 2014 / 3 / 31 - 11:17
المحور: الادب والفن



كان يغط في نوم عميق ،فهو قد ساعد والده في العمل في الحقل قدر المستطاع حتى شعر بأن عضلات جسده الغض قد بدأت تؤلمه .
عاد مسرعا إلى البيت وانكب على كتبه ودفاتره يقرأ ويكتب ويحضر .. فقد قال المعلم بأنه سيمتحن الصف العاشر في مادة التربية الوطنية يوم الأربعاء ، فانتبه إلى أن موعد الإمتحان غدا .
غط في نومه يحلم بأنه تقدم للإمتحان وأجاب على كل الأسئلة وحمل ورقته بعلامة الإمتياز وذهب راكضا لأمه ليطمئنها.. وبينما هو مقبل عليها يريد معانقتها .. شعر بوخزة من مادة معدنية تنخزه بقوة في خاصرته فاستفاق مذعورا لا يدري أهو لا زال في الحلم الجميل أم أمامه كابوس يخنقه من خاصرته ورقبته وكل شيء فيه ..
فتح عينيه أو يكاد ، وإذا بالبساطير العسكرية من حول فرشته البسيطة ،المفروشة على الأرض بجانب سرير أخته الأكبر في الصف الحادي عشر والتي كانت لا تزال تغط في نومها بعد ليلة ساهرة إستعدادا لإمتحانات الشهرين في مادة العلوم والرياضيات وهي تحبهما بشغف ..
قفز من فرشته مندفعا باتجاه أمه ، غير أن يدا قوية تلقفته وهصرت يده الغضة ، وجذبته في اتجاه آخر .
- ما اسمك يا ولد
- حسام
-أنت حسام يوسف سليمان ؟
- نعم ..وأنا في الصف العاشر وعندي في الصباح إمتحان الشهرين في مادة العلوم .
هجمت أمه في محاولة منها لإحتضانه ..هو لم يكمل الخامسة عشر بعد .. فقد أدخلوه الصف الأول في مدرسة خاصة قبل أن يتم السنوات الستة تفاؤلا بذكائه الطفولي كي يكسب سنة من عمره في التحصيل العلمي .
هجمت أمه فاتحة ذراعيها وهي تظن أنها قادرة على ضمّ كل أطفال العالم في حضنها مع حسام الذي يهمّ الجيش بأخذه إلى المجهول .
أيادي ثقيلة تلقفت الأم ودفعتها ورمتها في الجانب الآخر من الغرفة ، وما أن وقعت حتى إقترب منها الجندي موجها سلاحه إلى وجهها مهددا ومتوعدا إذا تحركت من مكانها . بينما آخر يصوب بندقيته نحو الولد المجزور بأيدي جندي آخر .. وآخرون يعبثون بمحتويات البيت ويكومون كل شيء على كل شيء ..
عاد قائدهم وهو يحمل ورقة كان حسام قد رسم عليها علما يحمله نسر عظيم يستهم بالطيران أو يكاد .. ومكتوب تحتها "فلسطين عربية " وورقة أخرى مرسوم عليها عصفورة تحمل في منقارها طعاما وقد أتت إلى عش على شكل خارطة فلسطين تتكوم فيه عصافير صغيرة تفتح مناقيرها حتى الزاوية القصوى ومكتوب تحتها أمنا الحبيبة.
أقبل القائد على الولد وركله بقدمه عدة ركلات وكأنه يعاقبه على حبه لوطنه ..وأمر بتقييده وإلقائه على أرضية الجيب العسكري .
جلس الجنود من حوله على كراسي السيارة العسكرية وقد وضعوا أقدامهم على ظهره ورأسه بينما كان وجهه باتجاه الأسفل حتى وصلوا به إلى بوابة السجن .
كان يتلقى اللكمات في بعض الأحيان كما كان يسمع أجهزة الإتصال تعمل باجتهاد ، علّها تزف خبر القبض عليه وخفره .
أنزلوه بعد دخول رتل السيارات العسكرية من باب السجن حيث حضر طبيب بلباس عسكري وسأله بعض الأسئلة وملأ استمارة تتعلق بالحالة الصحية للسجين الجديد . ثم اقتادوه وهو مغمىّ العينين إلى مكان لم يشاهد منه شيئا وبقي ردحا طويلا من الزمن وهو واقف بانتظار اللاشيء.
كان يقف على رجليه الإثنتين ثم يرفع واحدة ويتكيء على الأخرى ثم يعود ويستبدل قدم الإرتكاز وكأنه وجد لنفسه لعبة يتسلى بها كسرا للإنتظار المجهول .
سمع صوت المؤذن بين موجات الريح المتلاحقة فطمأن نفسه أن هذا آذان الصبح وأنه لا بد قريب من إحدى القرى العربية .
قد يطلقوا سراحي ، وإلاّ لماذا لم يدخلوني إلى السجن ، لقد قال لي جارنا بأنهم بعد استمارة الصحة أدخلوه إلى قسم المعتقلين فورا وبقي ثلاثة أيام قبل أن ينادوه ويأخذوه بالبوسطة إلى قسم التحقيق حيث قضى هناك سبعة عشر يوما وأعادوه إلى السجن حيث أطلق سراحه . لم يسألوه أي سؤال طوال الفترة كما قال !
ولكن إبن جارنا الآخر قال بأنهم نقلوه إلى قسم التحقيق في عسقلان حيث قضى ثمان وخمسون يوما برفقة أحدهم الذي كان يسليه باستمرار ويتحدث له عن كبار القادة ، ثم جلس في أحد الأيام وروى له قصته وسبب إعتقاله وأنه لم ينبس بحرف في التحقيق .. وشيئا فشيئا رد له قصته بروايات عن نضالاته وأنشطته الكفاحية حيث بعد ساعات من تبادل هذه الأحاديث تم استدعاء زميله الذي ذهب بلا رجعة أما هو فقد بقي في الزنازين أسبوعا آخر حيث استدعي للتحقيق ليجد قصته أمامه وثلاثة من رفاقه الذين باح باسمائهم مكبلين بالأغلال...
لن أقول شيئا أمام المحقق ولن أقول شيئا أمام أي إنسان فربما كان واحدا منهم من العصافير ..
من العصافير ؟! يتوجب عليّ الإنتباه وعدم البوح بأي أسرار سواء أمام العصافير أم غيرهم .. إن أكثر الأماكن أمنا لسري هو صدري .. طبعا هو صدري ..
أما ابن عمتي فقال بأنهم أدخلوه إلى قسم المعتقلين في إحدى الغرف .. هناك استقبلوه بحفلة تعارف ثم بعد يومين تقدم منه أحدهم وطلب منه أن يكتب تقريرا عن وضعه في الحركة الوطنية ، كتب كل ما يعرف وزاد على نفسه بروايات و مبالغة ،
وفي منتصف الليل استدعوه بينما كان نائما حيث في التحقيق واجهوه بما كتب من أوراق وقصص وروايات ولم يصدقوا دفاعه بأنه كان " يخرط كوسا "
تذكر أيضا أن أحد زملائه في الصف قد قال له عن كتاب اسمه " فلسفة المواجهة وراء القضبان " يعلم القاريء كيف يصمد في التحقيق تحت كل أصناف التعذيب وكل أساليب الخداع .. تنفس الصعداء وشعر أنه يتعملق : سأصمد قال في نفسه : وشعر بأنه أصلب من الفولاذ .. لن يهزمونني ولا بأي من أساليبهم .
- إدخلوه ، صاح أحدهم .اقتاده الجندي وما أن خطا خطوتين حتى سمع نفس السوط يسأله
- ما اسمك ؟ وبعد أن أتم استجوابا روتينيا ، أمر بفك قيوده وإزالة العصابة على العينين ، حيث شاهد نور الصباح .أدخلوه إلى مكان ، فتشوا جسده ، سمع أحدهم يصيح مناديا على العدد حيث بعد إتمام مهمة تعداد المعتقلين أدخلوه إلى غرفة فيها سبعة آخرون ..
استدعاه شاويش القسم بناء على طلب الإدارة بعد الساعة الثامنة ليلا .. أخرجوه من القسم وعصبوا عينية وكبلوه من يديه وقدميه وأمروه بالصمت وأحدثوا بعض الجلبة وبعض الأصوات .. ثم تقدم أحدهم وقال له بصوت خفيض :" يا مسكين أنت صغير وزملاؤك على مقاعد المدرسة وأنت تعاني هنا من الحرمان وأمك تأتي كل يوم على باب السجن وهي تبكي وتسأل عنك ...
استقبله اثنان من الأسرى في الزنزانة ، وبعد أيام حيث لم يقل لهم شيئا ، نقلوه بالبوسطة إلى سجن عسقلان وأدخلوه إلى قسم نظيف ومرتب وغني بالطعام والشراب والسجائر .. وكان قد قرر التوقف عن التدخين نهائيا وإلى الأبد ..وبعد أن فشلت كل محاولاتهم لدفعه للكلام ، جاء أحدهم واتهمه بالعمالة للإحتلال وأبلغه بأن قيادة المعتقل قررت إخضاعه للتحقيق .
تأكد حينها أنه في قسم العصافير وبدون أدنى شكّ
- لا أعرف شيئا قال له ولا يهمني ما تقول .
في الليل اقتادته الإدارة إلى قسم التحقيق ليواجهوه مباشرة بما لديهم من معلومات حيث قضى سبعة وعشرون يوما في التحقيق مشبوحا طوال فترة النهار وفي الإستجواب معظم فترة الليل ..
- سنحاكمك باعترافات الغير ، قال له المحقق
سرى في جسده تيار بارد مصحوبا بنشوة تورد لها وجهه وبان عليه الحبور رغما انه ومع أنه لم ينطق بكلمة واحدة .
- يعني انتهى التحقيق معي وسيلفقون لي ما تيسر لهم من التهم .. ليلفقوا ما شاؤوا أما أنا فلن أقول شيئا ولن أكون سببا في اعتقال أي شخص مهما كان ولن أكشف لهم أية أسرار .
تذكر ما قال له ضابط الأمن الفلسطيني حينما استدعوه وحققوا معه بأسئلة موحية وقد استطاع أن يدرك كنهها رغم حداثة سنه وتجربته .
انت متهم بالتنزيم وإلقاء الحجارة والتعرض للعملاء ..
لم ينتبه حسام لبقية لائحة الإتهام ... هنا هو تفوق على المحقق بصمته وصيانة لسانه أما ما يستطيع المحقق فعله وتلفيقه فليس بيده حيلة .
- ليس كل المعتقلين أبطال ، قال في نفسه . ثم تسائل : أين سمعت مثل هذا التقييم الغريب . كل الإذاعات والخطباء والمسؤولين يشيدون ببطولات المعتقلين ..هكذا ..ليس على التحديد .. ربما أن جميع المعتقلين يضحون بحريتهم رغما عنهم في السجون ولكن هناك من صمد في التحقيق ويصمد ويتحمل ظروف الإعتقال ويظل ممسكا بوطنيته إلى ما لا نهاية .
ولكن ممن سمعت هذا الكلام.
- وقع هنا . إستعاده صوت المحقق إلى غرفة التحقيق – أنا لا أوقع على شي . قال حسام
- بل ستوقع رغما عنك . أكد المحقق وكان اثنان أخران قد دخلا الغرفة وهصره أحدهما بجسده الضخم في محاولة لكسر هيبته .أدرك حسام أنه في الإمتحان الأخير وفضل الصمت.
أخرجوه بعد أن كبلوه وعصبوا عينيه حيث نقل إلى سجن عوفر . وهناك وضعوه في القفص ثلاث ساعلت حيث جاء أحدهم واقتاده إلى مكتبه وبعد أسئلة روتينية أدخلوه إلى قسم المعتقلين
منتشيا كان .. بل تملأه النشوة .. صغير الجسم نعم . صغير العمر نعم ..ولكنه عظيم الروح.
تكوم في زاوية على البرش الذي خصصه له الرفاق ..انفلت من عالم السجن وقال لأمه : وعدتك بيني وبين نفسي أن لا أخذل حليبك .. وعدتك أن أجعلك تفخرين بي بدلا من اللطم والحزن والجزع .
أما أنا فقد وفيت وفتحت لك باب عزّة النفس وغفى ليحلق في أحلامه إلى كل الآفاق الجميلة .
-------------------

هو ابني
محمود فنون
21/3/2012
لا تعلم لماذا كان يحترق قلبها وهي تسير نحو السوق..
"لا شيء جديد "قالت في نفسها ،وزمت جسدها ،وشدت من همتها ،وسارت مستعجلة.
انه ابنها هذا الذي يطوي احد الجنود يده الغضة ،ويضربه الآخر بعقب بندقيته الخشبي..انه ابنها .. انه .. ومن غيره ؟..
كانت قد زارته في النقب قبل ثلاثة ايام ،وقال لها "لا تخافي: ..ونهض من على كرسي الزيارة نافخا نفسه قدر المستطاع .. " انا كبير ..العب رياضة ..واطالع الكتب الثقافية..واقرأ كتب المدرسة..عندنا مدرسين كثير .. "
ملتفتة الى مجاوريه"بالله يا بني ديرو بالكم عليه ..لسّاتو ما وفّى ستعشر سني..يا حسرتي عليه .."
"بعيوننا حسام ..اسأليه . كمان هو مجتهد...
اقتربت من المشهد ..ان خيالها مليء بحسام ..هي لم تر امامها سوى حسام ..انهم يعذبون حسام ..ومن يكن غيره..تمزق جسدها من الداخل..امتلأ صدرها حبا وحنانا ..وقالت في نفسها برقة الأم الحانية:
- "يا ويلي على امك.. يا حسرتي عليها .. وينها امك؟"
- "وينها امك؟ّ ..انا امك "
لطمه الجندي مرة اخرى بكعب البندقية ، فتلوى كل جسده الصغير,كمعطف كانت تغسله فتعصره ، فعصر الولد روحها مع تقلصات جسده .
"ويلي عليه.. اسّعان عظمو طري .."وتعبأت بكل الحنان الذي صاحب امطار هذا العام ثم..ثم..شعرت انها تستطيع ان تهدم جبل الفرديس .
"لا يمكن ان امشي بدونه "
يعصره الجنود وقد اصبحوا اربعه وكل منهم يتسلى على طفولته ما يشاء : لكما ورفسا وآخر يضغطه نحو الارض ،ثم بطحه احدهم وانهدم تحتهم وهو صامت كالجبل.
نهض الاسد الهصور في داخلها ، ثم وبضعف عاطفي يملآه الحنان :
"ابني..يا ابني.."وكأنها استمدت اضعافا مضاعفة من القوة مع كل لفظة ابني.
نظرت حولها وكانت ثلاث نساء قد اقتربن ، وبدون ان تقول لهن شيئا،فهمن ثلاثتهن ، وبالنظرات تداولن في الخطة وقسّمن الادوار وهجمن تلحق بهن خامسة وهي تصيح "هذا ابني اتركوه ..يا حسرتي عليك يا سعيد.."
وسادسة تقول "يمّا يا جمال ..
هي قادمة من مدينة أخرى ، وقد تركت جمال وقد ذهب الى مدرسة التعويض مع ابيه المدرس المتطوع.
عندما لطمه الجندي ،احسّت ان اللطمة وقعت على وجهها، لا..لا ..بل على روحها وقلبها . لقد شاهدت جمال يتمزق من الألم بين ايديهم .وزمّت فمها وصكت اسنانها:
"الجبناء"
عبأت نفسها وهجمت.
لم تشعر فاطمة قط بعقب البندقية وهو يهوي على ظهرها ، بل انها لم تتخيل ان هناك بنادق أصلا ، هي هجمت وهذا كل شيء.
"لا نذهب الا وهو معنا" قالت احداهن بحزم .
"هذا ابني ..ماذا فعل ؟..مش عيب عليكو بتتسلوا على طفل ؟!"
تمزقت جميلة عندما شاهدته عن قرب .
لم يخط شاربه بعد .غادر الصف هو وعدد من اقرانه متجهين الى المكان المتفق عليه.
كانوا يحاولون هدم ما هو جاثم على صدورهم، من أجل التمهيد لبناء ما هو مستقبلهم .
فتعثر صاحبنا فلحق به الجندي وامسك به. وهذه حقائق النضال.
تكاثرت الامهات ..وتكاثر الجنود ..وكل يمسك بالولد المنهك من التعذيب والضرب ويشده اليه ،عبر تدافع وضرب بالبنادق والايدي .
"ما ظل معي أي صبر"قالت واحدة".وابتعدت قليلا وشدت معها واحدة أخرى:
"طاب الموت"
واندفعن بقوة على الجمع فتعثرت وحدة الجنود ،وتمكنت واحدة من الوصول الى الشاب الذي حاول جهده التفلت من ايدي احد الجنود الذي كان يضغط ساعده كالملزمة ، ودفعته أخرى فتعثر،وسحبنه من بين ايديهم وجسده منهكا ، بالكاد يستطيع الوقوف ....


إنها تحلم
محمود فنون
23/8/2012م


جاءت ابنتها اليها . هي في السابعة والثلاثين من عمرها، جاءت مبتسمة على غير عادتها حينما تبصر امها بعينيها ..
انها والأم ما ان يقع بصرهما على بعضهما حتى تتفجر ينابيع الدموع من عيونهما ، وتأخذ الام تشهق وبالكاد تجد هواء يدخل الى رئتيها ،وترتخي يداها وتشعر وكأن الموت يدهمها ..
انها في الثامنة والسبعون ،ولكنها لا تزال تذكر حملها و لحظة ولادتها وكأنها اليوم،هي ليس البكر ، هي البطن الخامس ، فقد تعطلت ولادتها لبضع سنين" ثم جاءت ارادة الله واعادت القدرة على انتاج الحياة الى رحمها "،والا لكانت ابنتها هذه رقم ثمانية ربما .انها ام ولود ،بل تحب الانجاب .
جاءتها هذه المرة مبتسمة .. ابتسامتها مشوبة بالحزن ، فمها يفتر عن البسمة ، ولكنها مغالبةُ بدرجة مكينة من الاكفهرار .
تحير وجه الام ، فلا هي اغرورقت عيناها بالدمع ولا هي شاركت ابنتها البسمة المشبوبة بالحزن الساكن عميقا في القلوب ..
وفي محاولة لإزالة حيرة امها ،اخذت تؤشر بيدها صوب الشمال ،ولكن لسانها علق في حلقها مع درجة عالية من جفاف الريق ، وتقلصت ابتسامتها قليلا وأصبحت اقرب الى الجمود،كأنها تبتسم تكلفا للصورة ..
ولكن قلبها يدق يكاد يعبر عن قليل من الأمل .. عن قليل من التفاؤل الحالم ..الذي تولد عن شوق متصاعد ينمو بكثافة في اعماقها .. ينمو بما يملأ قلوب نساء الارض جميعا .
الامل؟ ..التفاؤل؟..الامل ؟..الشوق ؟ ايهما يضرب جذوره عميقا عميقا في نفس الام الفلسطينية؟ الأم .. الزوجة .. الاخت ..البنت ..العمة ..الخالة؟
ان الشوق هو نتاج الحب ، هو نتاج الرغبة الحارة في نفس المحب للقاء حبيبه البعيد ..في حالة من انقطاع التواصل بأشكاله جميعها،مما يرسم على الوجه مسحة راسخة من الحزن الآدمي ، فيجعل خروج البسمة وكأنها مقتلعة من دخيلة الانسان ،وكانه يخجل من نفسه اذا ارتسم على سحنته المتألمة شيء غير الالم الساكن في الاعماق.
سنوات وسنوات من الحزن والالم والشوق ، وبحار من الصبر تتولد من مساحة صغيرة صغيرة من الامل.
مساحة تتولد من صورة النقيض الجميل لواقعنا ، نقيضا نعيشه حلما في يقظتنا ، نعيشه نفسيا بخيالنا ،بل نصنعه ،ونصنع كل خيوطه وننسجه عالما آخر ..
عالم يفيض بانهار من خمر ومن عسل لذة للشاربين ، في جنات تجري من تحتها الانهار ،ومساكن شامخة للساكنين ، قدر شموخ الروح الفلسطينية ... شوارع فسيحة تحمل اسماء الشهداء جميعا في عالم الكفاية هذا ، المتحرر من كل قيد ، المتحرر من الغربة وفراق الاحبة،المحاط بظلال الاشجار الباسقة ، لذيذة الثمر، ناعمة الهواء ، تفوح منها روائح عطرة و اجواء سحرية، تعمق الحب وتقوي روابط الانسان بالإنسان وتمسح الحزن عن ارواح امهات المناضلين ..امهات الشهداء والمعتقلين ,الشامخات فخرا واعتزازا بتضحياتهن وذكرى ابنائهن العطرة،الصابرات ،المحتسبات ،الرافعات رؤوسهن ..
قلبها يدق يكاد يعبر عن قليل من الفرح ،ولكن كيف؟ كيف تستطيع ان تقدم ما اتت به راكضة لأمها ،وقد انعقل لسانها وجف حلقها حالما شاهدتها وتلاقت بينهما العيون ؟
لقد تخيلت طاحونة هائلة تدور عكس عقارب الساعة ، وجاءت هي لتديرها مع عقارب الساعة ..
هي جاءت راكضة بغير حساب ،كل ما دفق من فكرها حالما سمعت بالخبر ،ان تبشر به امها العطوف المشتهية .. ولكنها لم تفطن انها بحاجة لتجلو تركيما راسخا من صدأ قلبها هي اولا ، كي يتراقص القلب قليلا بنشوة الحلم باللقاء..
- ما الذي يجري يا بنيتي ؟لقد حيرت قلبي . ثم تدفقت الدموع ساخنة على وجنتيها المتغضنتين .
- سوف ترينه اخيرا .. لا تبكي يا امي .واحتضنت امها وجرت من عينيها انهارا ساخنة من الدمع ،وأخذت تقبل امها بحرارة ودموعهما تختلطان.
- ماذا ؟كيف؟ من؟ ما تقولين ؟لقد اختلط عليها السؤال ،وقد خطر ببالها اشياء كثيرة ،ولها ابناء في الغربة وفي السجن .ثم ما الذي ستراه ؟مستبعدة التفكير بزيارة السجين لطول امد القطيعة والحرمان .
- يحيى يا امي سترين يحيى ..يحيى..
- يحيى؟! من؟ يحي..يح..كيف..كي ؟هل سيفرجوا عنه ؟
ازداد الامر تعقيدا على الابنة .لقد جاءت لتنقل بشرى ، نعم بشرى ، وبشرى غالية ، ولكن الام صعًبت عليها الامور ، ان الامر يتعلق بالزيارة وليس بالافراج .لكن قلب الام قفز مع سماع الاسم ليس الى الزيارة بل الى..
- لقد سمحوا بالزّ..يا..رة
تنهدت الام ، وحاولت لملمة نفسها ثانية ..
ان قلبها مليء بالشوق ليحيى ولغير يحيى ،ومليء بألم الفراق ،بالأضافة لكل اشكال المعاناة في قطاع غزة ، وبسبب انسداد الافق لامرأة في نهاية العقد الثامن ، قضت عمرها تحلم بالعودة الى مسقط رأسها الذي لم يبارح خيالها قط .
***
في ليلة العرس كانت صور القرية تتداخل مع جماليات العشق وخيالاته.
- هل تذكر يوم لحقت بي الى البئر وطلبت مني شربة ماء ؟
- قلتِ لي اشرب .ها هي البيارة امامك .ولكني لحظت انك ادرت وجهك عني بطريقة لعوب .
- كنا صغارا .. ثم اردفت بدلال: كنت اعلم انك تتقاتل مع الاولاد بسببي ..ليتنا هناك..ليت..
تذكرت ذلك وتذكرت يوم ولدت يحيى ، وتسلسلت الافكار والاحداث في رأسها الموضوع على كتف ابنتها.. حتى يوم انتزعوا يحياها من احشاء احشائها ، وساقوه معتقلا،الى حيث لا تعلم، بل ولم تعد تراه منذ لحظتها .
يوما يوما انقضت السنون وساعة ساعة انقضت الايام ."اسألو اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون" .
رفعت رأسها عن كتف ابنتها التي لم تعد تدري ماذا تفعل او تقول ، وامسكت بوجهها بكلتا يديها الاثنتين ضاغطة نصف ضغطة ،ومسلطة عينيها في عينيها الاثنتين .
- قولي ..ماذا قلت؟..ماذا عن(وتهدج صوتها) يحيي ؟
- اهدأي يا حبيبتي ..اهدأي .لقد سمحوا بزيارة المساجين من القطاع.وقد صدر قرارهم بذلك ..سترينه قريبا ..وأول الغيث قطرة ..وهذه درجة اولى .. سيأتي بعدها الإفرا..
- متى ؟متى يا حبيبتي .وأخذت تلثم ابنتها في فمها وتضغطها الى احضانها وتتلذذ بها مستبشرة ، وقلبها كمروحة ابتدأت الدوران ببطء ثم عادت وتوقفت..
- لا امان لهم ..لا اصدق ذلك ..انهم ينكثون وعودهم ..ربما يتراجعون في اللحظة الاخيرة ..ان قلبي المنكوس لم يتفاءل يا بنيتي ..ودائما تنتابني الحسرة لأنني قد اموت قبل ان اكحل عيناي بمرآه الحبيب .
- سترينه ..لن ينكثوا..لقد توسطت المخابرات المصرية ..
- وما شأن المخابرات المصرية في الوساطة .. فليحمنا الله من هذه الوساطة ..بعد ان كانت مصر ام الدنيا ، صارت اليوم تتوسط بيننا وبين اسرائيل! .
- لا مصر ولا غيرها ..ان اضرابات المعتقلين ونضالاتهم هي التي نجحت في الوصول الى اتفاق بين المعتقلين وسلطات الاحتلال ،لم يكن دور المخابرات المصرية اساسيا ،كان بريدا.
- المهم ..ما أخبار الزيارة ..متى ..وماذا عليّ ان اعمل؟هل نقوم بالتسجيل في الصليب الاحمر كالعادة؟
****
تداخلت الاسئلة في رأسها واستذكرت كل مراحل حياتها ..
كانت تسير الهوينا في الطريق ..كانت تحلم وهي تمشي فوق الرمال بتثاقل بائن ..
من ينظر في وجهها يتسلل اليه شيء من حزنها وألمها المتلازمين ..لم يبق وقت طويل للولادة ..كانت خائفة ..لم تكن هذه ولادتها الاولى بل انها ولاّدة. ..كانت تحلم بأنه يسير الى جانبها ويسندها كلما تمايلت على الرمل ..تتخيله من شدة اهتمامه بها وحرصه عليها وهما يسيران جنبا الى جنب ،فيظنها تميل الى السقوط ،فتشعر بانقباضة قلبه من الخوف عليها فيسندها يكاد يحملها ، بل يكاد يلصقها بجسده ليكونا قطعة واحدة...تسللت ابتسامة فرحة الى تقاطيع وجهها الجامدة قطعتها صرخة الم حادة تلتها صرخة اخرى ثم صرخات متصلة ..
لم تكن بعيدة عن غرفة الزينكو التي تقطن فيها هي وما فرخّته من كائنات حية ..
تجمعت الجارات على صراخها الذي يزلزل الارض من شدته ..هدأت قليلا ..
- انها الولادة ..اخشى انها اتت قبل اوانها ..بقي لي اكثر من اسبوع قالت بحزن
- ستلدين بخير ..انت قوية ..ربما هناك خطأ في الحساب ..
- حماتي ليست في غرفتهم ..فقد شاهدتها تخرج ..هي التي اشرفت على ولادتي في المرات السابقة ..
- لا يهم ،فأم سليم قابلة ماهرة. يقال انها تعلمت في مستشفى في مصر، وقد اشرفت على ولادة نساء كثيرات ..
"اذهبي واخبريها يا خالة ".طلبت من شابة صغيرة .
دخلت من باب الزينكو واستلقت على ظهرها ، وبالكاد اغمضت عينيها طلبا للراحة ..تخيلته يطرق الباب..
- كيف اتيت ..كيف عرفت ؟
- لقد شعرت بتقلصات مؤلمة في بطني ..انت حبيبتي ..ادركت انك تتألمين ..اقسمت ان احضر ولادتك فاغمضت عيني وفتحتهما واذا بي امام باب دارنا واطرقه تأدبا و..
- حبيبي انت ..كنت اتمنى وأتمنى ان تكون بجانبي بل تخيلتك بجانبي ..
- اني دائما بجانبك .
-ولكنك ..آه..آه انت ...لم تكن ..معي ..الجارات هن..امسكن بي ..
- ماذا تقولين يا امرأة ؟سألت احداهن
- يا ويلي عليها فهي تهلوس من شدة الالم .
فتحت عينيها ثم اكفهر وجهها ،وأخذت تتلفت هنا وهناك ،ثم عاجلها المخاض والصراخ ساعة من الزمن او يزيد قبل ان تهدأ وكأن شيئا لم يكن .
- مبروك ..هذا يحيى. قالت حماتها وقد حضرت الولادة وساعدت أم سليم.
- الله يبارك فيك ولك انت ايضا ، فأنت قلت بأنك تشتهين ولدا ويكون على اسم جده المجاهد ... رحمة الله عليه ومثواه الجنة ..
كانت تتذكره جيدا فهو قد فارق الحياة قبل بضع سنوات .
قالت زوجته :انه يموت من الحسرات ..انه يموت خارج بيته ولم تفارق ساحة دارهم المغتصبة خياله أبدا..
قال بأنه ما حلم في ليله مرة واحدة قط الآّ ويرى نفسه في قريته لم يغادرها ابدا.كانت العودة حلمه الأبدي، بل زاده اليومي..
بعد حرب 1967م وبعد ان اشتدت المقاومة الفلسطينية ضد اليهود ،شعر بفرح غامر وزاد تفاؤله بشكل واضح ولكن هذا التفاؤل كان مشوبا بقلق وحيرة ..فقد شعر بمثل هذا قبيل الحرب ولملم بعضا من اغراضه ،واشترى فأسا أعجبته واشترى انواعا من التقاوي ...
ولكنه كان يقول:"قالوا لن يكون لنا نصر الا ّتحت راية لا اله الاّ اللّه، فهل يعقل ان ننتصر على يد هؤلاء .. ولكنهم ابطال ويقاتلون , والعدو يحسب حسابهم !"
كثيرون كانو يثيرون نقاشا حادا وجدلا متصلا ..بعضهم يقول:" النصر من عند الله ولا يعطيه الا لعباده الصالحين ،الذين يرفعون القرآن .. " هكذا قال الامام.
وبعضهم يقول :"انه لا يجوز لنا ان نقاتل الاّ تحت راية الاسلام وبقيادة الخليفة المسلم امير المؤمنين.. "
وآخر يقول:" كيف ننتصر ولا زالت الاندلس تحت حكم على غير ملّة الاسلام ، وان تحريرها فرض عين على كل مسلم ومسلمة "
وآخر يقول :"ان موتى هؤلاء الذين يدّعون التحرير ليسوا شهداء بل فطايس .. كيف يسلّم نفسه للموت دون ان يكون تحت راية لا اله الاّ الله .."
وآخر يقول :" قبل ان يعم الدين والصحوة الدينية لن ينطق الشجر والحجر ويقول" يا مسلم ورائي يهودي" ، وهذا لا يكون قبل ان يخرس البارود ويعود حرب السيف .. "
ويجادلهم آخرون بعقم هذه الافكار واستحالة ان يعود القتال بالسيف .. حتى ان احدهم متعلم قال: ب"ان الشجر والحجر لن ينطقا ابدا وانما الكلاشن كوف هو الذي ينطق ،وهو الذي سوف يجبر اليهود على لملمة متعلقاتهم والرحيل .. "
والبعض كان يدعمون فصائل المقاومة ،وآخرون يقفون على الحياد ..
تذكرت كل هذا وقالت في نفسها :"لقد جاءت مرحلة الدين والقتال تحت راية لا اله الا الله ولم ننتصر كذلك ،هل هناك راية أخرى لله سبحانه وتعالى؟ انني ارى قيادات تنشأ من العدم وتكبر ،بينما نحن نتراجع، ويقتل الامل والحلم في قلوبنا "هؤلاء الزعماء .. لا يصلحون"
وتذكرت ما كان يقول والدها يوم رحلوا من البلاد"القيادات خانتنا ،والله ماكانوا على مستوى القضية ،بينما كنا نغني لهم وكأن الغناء والهتاف باسمهم نوع من العبادة .. كنت اعتقد ان عمق الوفاء لهم يعطيهم قوة وصلابة ،ولم أكن اعلم انهم يسيرون على ارجل من قش ..اما ملوك العرب فقد صدق الشاعر الشعبي الذي قال فيهم :
ظنيت النا ملوك تمشي وراها رجال
تخسى الملوك ان كان هيك الملوك أنذال
والله تيجانهم ما يصلحولنا نعال .."
وتفائل بشكل هائل قبيل حرب عام 1967 م ثم وبعد الحرب انعقل لسانه ولم يكن ينطق كثيرا سوى انه كان يخاطب شخصا آخر يدعوه للذهاب للحصاد قبل "السّموم ".
هي لم تتذكر ! هي لم تنس شيئا ابدا ..ان كل تفاصيل عمرها حاضرة في مخيلتها .
كان ابنها البكر مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وكانت اخته الاصغر تتعاطف معه فانساقت الام داعية لهم بالتوفيق .وكان واحد من اخوتها مع قوات التحرير الشعبية والآخر مع حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح .وتقسم ابناء الحارة على هذه الفرق الوطنية ،واغلبهم مع الجبهة ،وكان قد ارتفع صيتها ودعايتها بفعل نجاح العديد من العمليات العسكرية ضد الاحتلال وبفعل مناصرة العديد من رجالات المجتمع الغزي لها ،ولأنها امتداد لحركة القوميين العرب التي كانت تحظى بشعبية واسعة قبل الاحتلال اصلا ،وقد ذكّرتها بنتها مرة بأنه ظهر لهم رموز متميزون .
وقد تميزت في نهاية ستينات القرن الماضي وبداية السبعينات بنشاطها العسكري الكثيف هي وفتح مما اقلق الاحتلال نوعا ما قبل ان يتسلم شارون ادارة القطاع،وكانت قوات التحرير الشعبية قد صفيت تماما والتحق كادراتها في السجون بحركة فتح .
هي تذكركل ذلك وقد وعته اكثر فأكثر مع مرور الزمن ,وتتذكر الانتفاضة الفلسطينية الكبرى عام 1987 ،ووعت ظهور حركة المقاومة الاسلامية حماس .يومها قالت لها ابنتها ببرود:
"هاهم تحولوا من المجمّع الى المقاومة.."
فردت عليها :"يعني ستكون مقاومة باسم الاسلام ..."
سمعهم قريب لهم ورفع صوته بافتخار :
"بل قولي ها هو الاسلام يتسلم الراية ،وقد قرب الوعيد ،وسوف ينطق الشجر والحجر ويقول يا مسلم ورائي يهودي تعال فاقتله.. ان النصر قريب ..وتحرير كل فلسطين سيكون على ايدي هؤلاء ..انهم مخلصون ولن يتنازلوا عن شبر واحد من فلسطين .."
-"لا تسمعي هذا الكلام يا امي فهذه تخاريف .ان الشجر والحجر لا ينطقان ."
وقد جلسن بعد بضع سنوات واستعادن ذكريات مثل هذا اليوم ،حيث لم يتحرر شبر واحد من فلسطين لا على ايدي هؤلاء ولا على ايدي اولئك..ولم يعد التنازل عن اراضي 1948 مقصورا على قيادة المنظمة .."
لقد استعادت بناء كل تجربتها الماضية وبأدق التفاصيل وتذكرت يوم اعتقل ابنها تحت عنوان تحرير فلسطين وعودة اللاجئين ولكن يا حسرة .. وفجأة شعرت بوخزة خفيفة في صدرها ..
***
ستذهب لزيارته اذن ..ستذهب وهي تحمل ما يثاقل العالم من الاشواق والحنين لفلذة كبدها ،ولكن فكرها قد تشوش الى حد بعيد . لقد أخذ ينتابها شيء كما لو كانت في وضع مأساوي ..ان روحها قد تمزقت ..تضحيات وراء تضحيات .. بطولات يتبعها بطولات .. وحلم العودة وبرغم من عمقه وتجذره الا انه أخذ يتكلس في روحها ..
"لا بد ان ينجلي الصدأ"قالت في نفسها "ولكن متى يظهر الناس الذين ..."
نادت على ابنتها وأدخلتها فورا في تفاعلاتها النفسية كما لو كانت اصلا تتحدث بصوت مسموع .
"ما العمل ..جدك ..ابوك..اخوتك..اخوالك .. ورايات سوداء وحمراء وخضراء وكل الوان قوس قزح ..وكل هذا لم ينفع مع هؤلاء الملاعين ..كل ما قدمنا من تضحيات وتكسرت الرايات ولم يبق سوى الزعماء حفظهم الله وهم بصحة جيدة ..كيف؟ لماذا ؟ ما الذي جرى؟ ..وفوق كل هذا قسّموا الوطن بينهم بدون حياء وكأن البلاد محررة .."
تفاجأت البنت ولكنها لم تندرج معها في الحديث ..
***
قرب اليوم ..
ازف الليل..
اقتربت الساعة ..
هي لم يغمض لها جفن ..انها تعيش معه لحظة بلحظة ..هي لا تريد ان تغمض عينيها ..هي تراه امامها ..هي تتحسّسه .وتخيلت كما لو سمحوا لها ان تلقاه بدون شبك الزيارة فضمته الى صدرها المشتاق بلوعة وحزن ولهفة ،دمعت عيناها ... مسحت دموعها ... دفنت رأسها تحت اللحاف بالرغم من الحر الشديد والرطوبة العالية ، كي تعيش لحظاتها بسرية تامة ودون ان يراها احد فيقطع عليها خلوتها الحبيبة ولقائها الحبيب..
احتضنته ونامت والبسمة مشرقة على وجهها ...
وعندما احضروا لها الطبيب ليكشف عليها قال في نفسه" انها تحلم !هذا الفلسطيني يعيش حلمه حيا وميتا!"..وغطى وجهها ..
-------------------
الأم – أم يعقوب دواني
محمود فنون
30/12/2016م
عاشت الأمهات وإلى الخلود يا أم يعقوب
لقد قامت بدورها في الركض وراء يعقوب في مختلف السجون
وبكت كثيرا.
وحلمت طوال الليالي بأن يعقوب في سريره وليس في هذا السجن أو ذاك .
هي بطولات المرأة الفلسطينية عظيمة.
ولكن بطولات امهات المناضلين وصبرهن وجريهن وراء المعتقلين أكبر من أن تقدر.
وسيذكرهن التاريخ الفلسطيني أكثر وأوضح بعد تحرير فلسطين القادم لا محالة .
---------------
صرخات مؤلمة في التحقيق
محمود فنون 20|12|2011
في مثل هذا اليوم سنة 1985م تم اعتقتالي واقتيادي للمسكوبية حيث قضيت فترة التحقيق هناك
في ليلة باردة وبينما انا مربوط هذه المرة الى عمود استنادي الى مربط في اسفل هذا العامود.. مربط على شكل مستطيل مثبت في العامود،بحيث تكون نقاط اتصاله بالعامود هي ضلعه الرابع ..
ياتون بالمعتقل مقيد اليدين والرجلين ورأسه مغطى بكيس من الشادر يصل حتى اسفل الرقبة ,يجرونه ولا يدري اين يسير والى اين يذهبون به ..
يطلب منه السجان ان يجلس وهو يحاول توجيه الجلسة لتكون في المكان المخصص ،ثم يفك قيد احدى يديه ويعيد ربطه ثانية ليكتشف المرء انه اصبح مربوطا ربما في مرابط خيل او أي حيوانات اخرى .
وهكذا اصبحت مثل كل الذين سبقوني مربوطا في عامود في احدى جدران المسكوبية وكما علمت تحت مظلة من القرميد تمتد حوالي المتر من فوقي ،ومن خلفي ساحة مسقوفة ..
اتكأت بظهري فكان الامر قاسيا
-اه ..هكذا اعذب نفسي بنفسي ..لا يجوز ان اتكيء اذا ،ولكنني تحسست المكان ببضع حركات ووزنت الامر.
وجدت انني اجلس فوق ثلاث بلاطات ترفعني قليلا عن الارض ومربوط الى مربط يمنعني من الاتكاء على الحائط من خلفي بل ان محاولة الاتكاء الواحدة قد جعلتني من اعداء الجلوس المعتدل ومن انصار الجلوس على بلاطة منحني الظهر باستمرار قبل ان يعض القيد القصير معصميّ ويدميهما .
القيد يشد باستمرار يبعد يدي عن بعضهما بشكل دائم وكأن اقتراب اليد من اليد يسبب زلازلا للاحتلال وبالنسبة لي وكأنه يولد تماسا كهربائيا او شيئا ما يتآمر من اجل تفسيخ جسدي .
ان جسدي اكبر قليلا من ترتيبات مثل هذه الجلسة وما ان ترتد يداي حول جسدي لتتناسبا مع الربط في الموضع حتى يصبحا مشدودتين بطريقة يستهدفها السجان لتكون وسيلة التعذيب الوحشية التي يتبعها في هذه المرحلة من التحقيق كي ينتزع ما يستطيع من الاعترافات التي يستخدمها في تدمير الثورة وبنى الثورة ويجهز على امكانيات استمرار المقاومة وتطورها ..
اسمع اصوات وهمهمات ..هناك آخرين يجلسون بالمكان ..صوت السجان يصرخ طالبا الصمت ..شيكت(بالعبرية )
ان المصطلحات التي يستخدمها السجانون معروفة تماما للمعتقلين ..شيكت..بيت شاموش..اوخل..تعمود..شيف..شمور عل شيكت ..لو روتسي لشموعتخا..اختك...امك..
المحقق : ..لن تصمد طويلا على هذا الحال ..تحمل يا اسد..ميت ام تبكي ولا امي تبكي...الف جبان ولا الله يرحمو..ولك انت تيس شو جابرك كلهم حكوا وروحوا غير انت يا حمار..يعني لازم تستنى لما ايدك تنشل وبعدين تحكي ،شو الفايدة احكي وايدك سليمة..ولا واحد هان صمد .هنا الكل يعترف ..عندما تريد ان تتكلم نادي الشوتير(الشرطي السجان)وقل له: "أني روتسي لدبير"
..لسه هذا اول يوم .. وشوف حالك بالمراية...اكثر واحد صمد خمسة ايام وحكى ..انت شو بدك تصمد... تخيل انك صمدت ست ايام وبعدها تحكي... لشو العذاب ..احكي من اول أحسن.
- أجلس واستحضر ملف حياتي الكفاحية وأتسلى عن ما حولي وعن ما بي وأتمعن في تفاصيل التجربة واتجاهاتها الرئيسية ،وأتخيل لو انني استمريت في مكاني قبل الاعتقال وأتسائل :هل ممكن ان ننتصر؟هل نمتلك مقومات الانتصار بفعل ثورة من الداخل ؟
كان الخارج قد تلقى ضربة 1982م التي أخرجته إلى المنافي البعيدة والتي جعلت ركيزة الخارج بعيدة عن الفعل النضالي المباشر. وهي سابقا كانت قد تلقت ضربة ايلول 1970 التي أفقدتها كل الزخم والاتساع والجدوى الموجودة في الساحة الاردنية .
لقد توصلت الى اجابة عميقة على السؤال :نعم بمقدورنا أن ننتصر.وحال دخولي سجن المسكوبية بعد انتهاء التحقيق معي ونقلي الى الاقسام شرعت ومن اللحظة الأولى بالتفاعل مع المعتقلين وأقدم لهم إجابة تفيد انه بمقدورنا ان ننتصر.وأثير فيهم هذا التفاؤل الجميل واقدم لهم اجابات وانا واثق انها شافية حول صيرورة النضال الفلسطيني وكنت اعتقد انه بوجودي بين المعتقلين سأنقل ايماني بحتمية الانتصار الى عشرات من المعتقلين الذين بدورهم سيلهبون الارض نضالا وكفاحا حال خروجهم مسلحين بالعقلية الثورية والفكر النظري والتجارب العملية .
يوم على يوم في ذات المكان او في مكان يعرف بالماسورة حيث الربط الى ماسورة مياه تمتد عمودية في مكان من جنبات المسكوبية او على الكرسي الصغير . يبدو انه كرسي اطفال يجلس عليه المعتقل ويمرر القيد من تحت المسند ويد من فوق المسند ويد من تحتها .وعلى الكرسي العادي قرب المجاري التي تفوح رائحتها النتنة . وأحيانا عندما يكون المطر غزيرا يجمعوننا في ساحة مسقوفة.
هذه المرة ... ربطني السجان الى العامود وذهب وبينما انا مستغرق في اخيلتي وافكاري وكانني في عالم آخر واذ بصراخ...صراخ فظيع . صراخ. إن بكرا في اوج مخاض مولدها الاول تكاد لا تصرخ بهذا الصراخ الممزوج بمقادير هائلة من الالم والعذاب ..الصراخ يتزايد بعد كل هنيهة.. صراخا باكيا ..من يافع يبدو انه في السادسة عشرة او السابعة عشرة ..
- "لم يعد يستطع كظم ألمه" قلت في نفسي .
.ولكن الصراخ يتزايد ويستمر انه ليس الصراخ الناجم عن الضيق من الربط وآلام القيد في المعصمين ..تصورت ان السجان يضع قدمه على احدى ساعدي الشاب المربوط الى الحائط مثلي ويضغط بما لا يستطيع الشاب تحمله من شدة الالم ثم يزيد الضغط ثم يزيده وصراخ الشاب المنفلت عن سيطرته يزداد كلما ازداد الضغط على يديه...
لا عيب ان يصرخ الشاب من شدة الألم .. الألم الذي افقده السيطرة .. ان العيب في ان يهون على نفسه وتهون عليه نفسه فيقع في مستنقع الاعتراف والتعاون مع الاعداء ضد نفسه وروحه وفكره وثقافته وثوريته... ليتحول في لحظة التحقيق هذه الى جبان متواطيء مع العدو ...ويتعاون معه ويقدم له الاسرار الدفينة والثمينة التي يستخدمها العدو في ضرب الثورة وضرب التنظيم وضرب التجربة ومن ثم يستخدمها لضرب روح الشعب وروح الثورة في الشعب .. ان الأمر جد خطير... ان الاعترافات جد خطيرة ولها السبق في ضرب وتدمير الكثير من التجارب الكفاحية في تاريخ التجربة الفلسطينية الكفاحية .
الشاب يصرخ ..يصرخ..يصرخ..ثم بدأ صوته يخفت قليلا قليلا الى ان هدأ
تفجرت كل عواطفي ألما وفرحا.
ألما على هذا الشاب حديث التجربة في الحياة وفي الاعتقال كما تصورته .انه مناضل فلسطيني ..لم يرتكب ذنبا .. انه ربما سار في مظاهرة او وزع منشورا او رفع العلم الفلسطيني وهذا مشروع في بلاد الدنيا كلها (ما عدا الدول العربية)
تخيلته وهو يصرخ .تخيلت تقاطيع وجههه .تخيلته مغمض العينين تحت الكيس يصرهما بقوة ..تخيلت دموعه تنهمر.. ولكن السجان لا يراهما لأن وجهه مغطى. وعل اية حال السجان لا يكترث للدموع انه يريد التعذيب والاعترافات ..انه لا يبحث عن شيء آخر ولا يقبل ان تعترض الاخلاق او القيم او التحريمات الدولية او اية موانع قد تحول دونه ودون التعذيب من اجل الحصول على الاعترافات .
تخيلت عضلات صدره وهو يئن من شدة الالم تخيلته يرفع جزءا من جسمه عن البلاطة ليميل على الجزء الآخر ، عل هذا يخفف شيئا من آلامه المبرحة ..
لا يشعر بقسوة وشدة هذا الالم الذي يعتقد المرؤ ان لا نهاية له سوى من جربه.. انه اشد من آلام مخاض البكر في اوج مخاضها لحظة الولادة .
وفرحا: فهو لم يقل له كفى سأعترف ( أني روتسي لدبير).. ربما سقطت بعضا من دموعي ربما تلوى جسدي بصورة عفوية متفاعلا مع الصبي الذي لا استطيع ان افعل له شيئا سوى التضامن بالقلب ..لم يقل له كفى وسأعترف ،وعلى ما يبدو فان السجان اكتفى بهذه الوجبة وانصرف .
الذي اعرفه انني فكرت كيف سأتضامن مع هذا الشاب انا لا اعرفه .ولا اعرف الى أي فصيل ينتمي ولكنه لو تكلم فانه سؤذيني ! انه سيؤذي التجربة التي ارى نفسي بعضا من أرواحها. ان صموده يعززني ويعزز التجربة الفلسطينية الكفاحية التي ارى نفسي جزءا فيها وربما جزءا فاعلا وموجها .. وحينما يضربها " من أي ثغر"...يمس روحي بمقدار ما يدمر في مبنى التجربة الوطنية .
لقد صمد في التجربة فناصرته بتركيم مزيد من الحقد عليهم ... هؤلاء الاوغاد القتلة الذين يعذبون الاطفال بمساعدة الامريكان المجرمين .
فلنتحد جميعا بتركيم مزيد من الحقد على كل المجرمين المستبدين الظالمين للشعوب والذين يقفون في وجه حريتهم والذين يصرون على استمرار الاحتلال في أي ارض ولأي شعب .
ياتي لاحقا
علق أحدهم : حينما يتحول الخوف من الإحتلال إلى حقد عليه ، سننتصر.

إنها تحلم
محمود فنون
23/8/2012م


جاءت ابنتها اليها . هي في السابعة والثلاثين من عمرها، جاءت مبتسمة على غير عادتها حينما تبصر امها بعينيها ..
انها والأم ما ان يقع بصرهما على بعضهما حتى تتفجر ينابيع الدموع من عيونهما ، وتأخذ الام تشهق وبالكاد تجد هواء يدخل الى رئتيها ،وترتخي يداها وتشعر وكأن الموت يدهمها ..
انها في الثامنة والسبعون ،ولكنها لا تزال تذكر حملها و لحظة ولادتها وكأنها اليوم،هي ليس البكر ، هي البطن الخامس ، فقد تعطلت ولادتها لبضع سنين" ثم جاءت ارادة الله واعادت القدرة على انتاج الحياة الى رحمها "،والا لكانت ابنتها هذه رقم ثمانية ربما .انها ام ولود ،بل تحب الانجاب .
جاءتها هذه المرة مبتسمة .. ابتسامتها مشوبة بالحزن ، فمها يفتر عن البسمة ، ولكنها مغالبةُ بدرجة مكينة من الاكفهرار .
تحير وجه الام ، فلا هي اغرورقت عيناها بالدمع ولا هي شاركت ابنتها البسمة المشبوبة بالحزن الساكن عميقا في القلوب ..
وفي محاولة لإزالة حيرة امها ،اخذت تؤشر بيدها صوب الشمال ،ولكن لسانها علق في حلقها مع درجة عالية من جفاف الريق ، وتقلصت ابتسامتها قليلا وأصبحت اقرب الى الجمود،كأنها تبتسم تكلفا للصورة ..
ولكن قلبها يدق يكاد يعبر عن قليل من الأمل .. عن قليل من التفاؤل الحالم ..الذي تولد عن شوق متصاعد ينمو بكثافة في اعماقها .. ينمو بما يملأ قلوب نساء الارض جميعا .
الامل؟ ..التفاؤل؟..الامل ؟..الشوق ؟ ايهما يضرب جذوره عميقا عميقا في نفس الام الفلسطينية؟ الأم .. الزوجة .. الاخت ..البنت ..العمة ..الخالة؟
ان الشوق هو نتاج الحب ، هو نتاج الرغبة الحارة في نفس المحب للقاء حبيبه البعيد ..في حالة من انقطاع التواصل بأشكاله جميعها،مما يرسم على الوجه مسحة راسخة من الحزن الآدمي ، فيجعل خروج البسمة وكأنها مقتلعة من دخيلة الانسان ،وكانه يخجل من نفسه اذا ارتسم على سحنته المتألمة شيء غير الالم الساكن في الاعماق.
سنوات وسنوات من الحزن والالم والشوق ، وبحار من الصبر تتولد من مساحة صغيرة صغيرة من الامل.
مساحة تتولد من صورة النقيض الجميل لواقعنا ، نقيضا نعيشه حلما في يقظتنا ، نعيشه نفسيا بخيالنا ،بل نصنعه ،ونصنع كل خيوطه وننسجه عالما آخر ..
عالم يفيض بانهار من خمر ومن عسل لذة للشاربين ، في جنات تجري من تحتها الانهار ،ومساكن شامخة للساكنين ، قدر شموخ الروح الفلسطينية ... شوارع فسيحة تحمل اسماء الشهداء جميعا في عالم الكفاية هذا ، المتحرر من كل قيد ، المتحرر من الغربة وفراق الاحبة،المحاط بظلال الاشجار الباسقة ، لذيذة الثمر، ناعمة الهواء ، تفوح منها روائح عطرة و اجواء سحرية، تعمق الحب وتقوي روابط الانسان بالإنسان وتمسح الحزن عن ارواح امهات المناضلين ..امهات الشهداء والمعتقلين ,الشامخات فخرا واعتزازا بتضحياتهن وذكرى ابنائهن العطرة،الصابرات ،المحتسبات ،الرافعات رؤوسهن ..
قلبها يدق يكاد يعبر عن قليل من الفرح ،ولكن كيف؟ كيف تستطيع ان تقدم ما اتت به راكضة لأمها ،وقد انعقل لسانها وجف حلقها حالما شاهدتها وتلاقت بينهما العيون ؟
لقد تخيلت طاحونة هائلة تدور عكس عقارب الساعة ، وجاءت هي لتديرها مع عقارب الساعة ..
هي جاءت راكضة بغير حساب ،كل ما دفق من فكرها حالما سمعت بالخبر ،ان تبشر به امها العطوف المشتهية .. ولكنها لم تفطن انها بحاجة لتجلو تركيما راسخا من صدأ قلبها هي اولا ، كي يتراقص القلب قليلا بنشوة الحلم باللقاء..
- ما الذي يجري يا بنيتي ؟لقد حيرت قلبي . ثم تدفقت الدموع ساخنة على وجنتيها المتغضنتين .
- سوف ترينه اخيرا .. لا تبكي يا امي .واحتضنت امها وجرت من عينيها انهارا ساخنة من الدمع ،وأخذت تقبل امها بحرارة ودموعهما تختلطان.
- ماذا ؟كيف؟ من؟ ما تقولين ؟لقد اختلط عليها السؤال ،وقد خطر ببالها اشياء كثيرة ،ولها ابناء في الغربة وفي السجن .ثم ما الذي ستراه ؟مستبعدة التفكير بزيارة السجين لطول امد القطيعة والحرمان .
- يحيى يا امي سترين يحيى ..يحيى..
- يحيى؟! من؟ يحي..يح..كيف..كي ؟هل سيفرجوا عنه ؟
ازداد الامر تعقيدا على الابنة .لقد جاءت لتنقل بشرى ، نعم بشرى ، وبشرى غالية ، ولكن الام صعًبت عليها الامور ، ان الامر يتعلق بالزيارة وليس بالافراج .لكن قلب الام قفز مع سماع الاسم ليس الى الزيارة بل الى..
- لقد سمحوا بالزّ..يا..رة
تنهدت الام ، وحاولت لملمة نفسها ثانية ..
ان قلبها مليء بالشوق ليحيى ولغير يحيى ،ومليء بألم الفراق ،بالأضافة لكل اشكال المعاناة في قطاع غزة ، وبسبب انسداد الافق لامرأة في نهاية العقد الثامن ، قضت عمرها تحلم بالعودة الى مسقط رأسها الذي لم يبارح خيالها قط .
***
في ليلة العرس كانت صور القرية تتداخل مع جماليات العشق وخيالاته.
- هل تذكر يوم لحقت بي الى البئر وطلبت مني شربة ماء ؟
- قلتِ لي اشرب .ها هي البيارة امامك .ولكني لحظت انك ادرت وجهك عني بطريقة لعوب .
- كنا صغارا .. ثم اردفت بدلال: كنت اعلم انك تتقاتل مع الاولاد بسببي ..ليتنا هناك..ليت..
تذكرت ذلك وتذكرت يوم ولدت يحيى ، وتسلسلت الافكار والاحداث في رأسها الموضوع على كتف ابنتها.. حتى يوم انتزعوا يحياها من احشاء احشائها ، وساقوه معتقلا،الى حيث لا تعلم، بل ولم تعد تراه منذ لحظتها .
يوما يوما انقضت السنون وساعة ساعة انقضت الايام ."اسألو اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون" .
رفعت رأسها عن كتف ابنتها التي لم تعد تدري ماذا تفعل او تقول ، وامسكت بوجهها بكلتا يديها الاثنتين ضاغطة نصف ضغطة ،ومسلطة عينيها في عينيها الاثنتين .
- قولي ..ماذا قلت؟..ماذا عن(وتهدج صوتها) يحيي ؟
- اهدأي يا حبيبتي ..اهدأي .لقد سمحوا بزيارة المساجين من القطاع.وقد صدر قرارهم بذلك ..سترينه قريبا ..وأول الغيث قطرة ..وهذه درجة اولى .. سيأتي بعدها الإفرا..
- متى ؟متى يا حبيبتي .وأخذت تلثم ابنتها في فمها وتضغطها الى احضانها وتتلذذ بها مستبشرة ، وقلبها كمروحة ابتدأت الدوران ببطء ثم عادت وتوقفت..
- لا امان لهم ..لا اصدق ذلك ..انهم ينكثون وعودهم ..ربما يتراجعون في اللحظة الاخيرة ..ان قلبي المنكوس لم يتفاءل يا بنيتي ..ودائما تنتابني الحسرة لأنني قد اموت قبل ان اكحل عيناي بمرآه الحبيب .
- سترينه ..لن ينكثوا..لقد توسطت المخابرات المصرية ..
- وما شأن المخابرات المصرية في الوساطة .. فليحمنا الله من هذه الوساطة ..بعد ان كانت مصر ام الدنيا ، صارت اليوم تتوسط بيننا وبين اسرائيل! .
- لا مصر ولا غيرها ..ان اضرابات المعتقلين ونضالاتهم هي التي نجحت في الوصول الى اتفاق بين المعتقلين وسلطات الاحتلال ،لم يكن دور المخابرات المصرية اساسيا ،كان بريدا.
- المهم ..ما أخبار الزيارة ..متى ..وماذا عليّ ان اعمل؟هل نقوم بالتسجيل في الصليب الاحمر كالعادة؟
****
تداخلت الاسئلة في رأسها واستذكرت كل مراحل حياتها ..
كانت تسير الهوينا في الطريق ..كانت تحلم وهي تمشي فوق الرمال بتثاقل بائن ..
من ينظر في وجهها يتسلل اليه شيء من حزنها وألمها المتلازمين ..لم يبق وقت طويل للولادة ..كانت خائفة ..لم تكن هذه ولادتها الاولى بل انها ولاّدة. ..كانت تحلم بأنه يسير الى جانبها ويسندها كلما تمايلت على الرمل ..تتخيله من شدة اهتمامه بها وحرصه عليها وهما يسيران جنبا الى جنب ،فيظنها تميل الى السقوط ،فتشعر بانقباضة قلبه من الخوف عليها فيسندها يكاد يحملها ، بل يكاد يلصقها بجسده ليكونا قطعة واحدة...تسللت ابتسامة فرحة الى تقاطيع وجهها الجامدة قطعتها صرخة الم حادة تلتها صرخة اخرى ثم صرخات متصلة ..
لم تكن بعيدة عن غرفة الزينكو التي تقطن فيها هي وما فرخّته من كائنات حية ..
تجمعت الجارات على صراخها الذي يزلزل الارض من شدته ..هدأت قليلا ..
- انها الولادة ..اخشى انها اتت قبل اوانها ..بقي لي اكثر من اسبوع قالت بحزن
- ستلدين بخير ..انت قوية ..ربما هناك خطأ في الحساب ..
- حماتي ليست في غرفتهم ..فقد شاهدتها تخرج ..هي التي اشرفت على ولادتي في المرات السابقة ..
- لا يهم ،فأم سليم قابلة ماهرة. يقال انها تعلمت في مستشفى في مصر، وقد اشرفت على ولادة نساء كثيرات ..
"اذهبي واخبريها يا خالة ".طلبت من شابة صغيرة .
دخلت من باب الزينكو واستلقت على ظهرها ، وبالكاد اغمضت عينيها طلبا للراحة ..تخيلته يطرق الباب..
- كيف اتيت ..كيف عرفت ؟
- لقد شعرت بتقلصات مؤلمة في بطني ..انت حبيبتي ..ادركت انك تتألمين ..اقسمت ان احضر ولادتك فاغمضت عيني وفتحتهما واذا بي امام باب دارنا واطرقه تأدبا و..
- حبيبي انت ..كنت اتمنى وأتمنى ان تكون بجانبي بل تخيلتك بجانبي ..
- اني دائما بجانبك .
-ولكنك ..آه..آه انت ...لم تكن ..معي ..الجارات هن..امسكن بي ..
- ماذا تقولين يا امرأة ؟سألت احداهن
- يا ويلي عليها فهي تهلوس من شدة الالم .
فتحت عينيها ثم اكفهر وجهها ،وأخذت تتلفت هنا وهناك ،ثم عاجلها المخاض والصراخ ساعة من الزمن او يزيد قبل ان تهدأ وكأن شيئا لم يكن .
- مبروك ..هذا يحيى. قالت حماتها وقد حضرت الولادة وساعدت أم سليم.
- الله يبارك فيك ولك انت ايضا ، فأنت قلت بأنك تشتهين ولدا ويكون على اسم جده المجاهد ... رحمة الله عليه ومثواه الجنة ..
كانت تتذكره جيدا فهو قد فارق الحياة قبل بضع سنوات .
قالت زوجته :انه يموت من الحسرات ..انه يموت خارج بيته ولم تفارق ساحة دارهم المغتصبة خياله أبدا..
قال بأنه ما حلم في ليله مرة واحدة قط الآّ ويرى نفسه في قريته لم يغادرها ابدا.كانت العودة حلمه الأبدي، بل زاده اليومي..
بعد حرب 1967م وبعد ان اشتدت المقاومة الفلسطينية ضد اليهود ،شعر بفرح غامر وزاد تفاؤله بشكل واضح ولكن هذا التفاؤل كان مشوبا بقلق وحيرة ..فقد شعر بمثل هذا قبيل الحرب ولملم بعضا من اغراضه ،واشترى فأسا أعجبته واشترى انواعا من التقاوي ...
ولكنه كان يقول:"قالوا لن يكون لنا نصر الا ّتحت راية لا اله الاّ اللّه، فهل يعقل ان ننتصر على يد هؤلاء .. ولكنهم ابطال ويقاتلون , والعدو يحسب حسابهم !"
كثيرون كانو يثيرون نقاشا حادا وجدلا متصلا ..بعضهم يقول:" النصر من عند الله ولا يعطيه الا لعباده الصالحين ،الذين يرفعون القرآن .. " هكذا قال الامام.
وبعضهم يقول :"انه لا يجوز لنا ان نقاتل الاّ تحت راية الاسلام وبقيادة الخليفة المسلم امير المؤمنين.. "
وآخر يقول:" كيف ننتصر ولا زالت الاندلس تحت حكم على غير ملّة الاسلام ، وان تحريرها فرض عين على كل مسلم ومسلمة "
وآخر يقول :"ان موتى هؤلاء الذين يدّعون التحرير ليسوا شهداء بل فطايس .. كيف يسلّم نفسه للموت دون ان يكون تحت راية لا اله الاّ الله .."
وآخر يقول :" قبل ان يعم الدين والصحوة الدينية لن ينطق الشجر والحجر ويقول" يا مسلم ورائي يهودي" ، وهذا لا يكون قبل ان يخرس البارود ويعود حرب السيف .. "
ويجادلهم آخرون بعقم هذه الافكار واستحالة ان يعود القتال بالسيف .. حتى ان احدهم متعلم قال: ب"ان الشجر والحجر لن ينطقا ابدا وانما الكلاشن كوف هو الذي ينطق ،وهو الذي سوف يجبر اليهود على لملمة متعلقاتهم والرحيل .. "
والبعض كان يدعمون فصائل المقاومة ،وآخرون يقفون على الحياد ..
تذكرت كل هذا وقالت في نفسها :"لقد جاءت مرحلة الدين والقتال تحت راية لا اله الا الله ولم ننتصر كذلك ،هل هناك راية أخرى لله سبحانه وتعالى؟ انني ارى قيادات تنشأ من العدم وتكبر ،بينما نحن نتراجع، ويقتل الامل والحلم في قلوبنا "هؤلاء الزعماء .. لا يصلحون"
وتذكرت ما كان يقول والدها يوم رحلوا من البلاد"القيادات خانتنا ،والله ماكانوا على مستوى القضية ،بينما كنا نغني لهم وكأن الغناء والهتاف باسمهم نوع من العبادة .. كنت اعتقد ان عمق الوفاء لهم يعطيهم قوة وصلابة ،ولم أكن اعلم انهم يسيرون على ارجل من قش ..اما ملوك العرب فقد صدق الشاعر الشعبي الذي قال فيهم :
ظنيت النا ملوك تمشي وراها رجال
تخسى الملوك ان كان هيك الملوك أنذال
والله تيجانهم ما يصلحولنا نعال .."
وتفائل بشكل هائل قبيل حرب عام 1967 م ثم وبعد الحرب انعقل لسانه ولم يكن ينطق كثيرا سوى انه كان يخاطب شخصا آخر يدعوه للذهاب للحصاد قبل "السّموم ".
هي لم تتذكر ! هي لم تنس شيئا ابدا ..ان كل تفاصيل عمرها حاضرة في مخيلتها .
كان ابنها البكر مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وكانت اخته الاصغر تتعاطف معه فانساقت الام داعية لهم بالتوفيق .وكان واحد من اخوتها مع قوات التحرير الشعبية والآخر مع حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح .وتقسم ابناء الحارة على هذه الفرق الوطنية ،واغلبهم مع الجبهة ،وكان قد ارتفع صيتها ودعايتها بفعل نجاح العديد من العمليات العسكرية ضد الاحتلال وبفعل مناصرة العديد من رجالات المجتمع الغزي لها ،ولأنها امتداد لحركة القوميين العرب التي كانت تحظى بشعبية واسعة قبل الاحتلال اصلا ،وقد ذكّرتها بنتها مرة بأنه ظهر لهم رموز متميزون .
وقد تميزت في نهاية ستينات القرن الماضي وبداية السبعينات بنشاطها العسكري الكثيف هي وفتح مما اقلق الاحتلال نوعا ما قبل ان يتسلم شارون ادارة القطاع،وكانت قوات التحرير الشعبية قد صفيت تماما والتحق كادراتها في السجون بحركة فتح .
هي تذكركل ذلك وقد وعته اكثر فأكثر مع مرور الزمن ,وتتذكر الانتفاضة الفلسطينية الكبرى عام 1987 ،ووعت ظهور حركة المقاومة الاسلامية حماس .يومها قالت لها ابنتها ببرود:
"هاهم تحولوا من المجمّع الى المقاومة.."
فردت عليها :"يعني ستكون مقاومة باسم الاسلام ..."
سمعهم قريب لهم ورفع صوته بافتخار :
"بل قولي ها هو الاسلام يتسلم الراية ،وقد قرب الوعيد ،وسوف ينطق الشجر والحجر ويقول يا مسلم ورائي يهودي تعال فاقتله.. ان النصر قريب ..وتحرير كل فلسطين سيكون على ايدي هؤلاء ..انهم مخلصون ولن يتنازلوا عن شبر واحد من فلسطين .."
-"لا تسمعي هذا الكلام يا امي فهذه تخاريف .ان الشجر والحجر لا ينطقان ."
وقد جلسن بعد بضع سنوات واستعادن ذكريات مثل هذا اليوم ،حيث لم يتحرر شبر واحد من فلسطين لا على ايدي هؤلاء ولا على ايدي اولئك..ولم يعد التنازل عن اراضي 1948 مقصورا على قيادة المنظمة .."
لقد استعادت بناء كل تجربتها الماضية وبأدق التفاصيل وتذكرت يوم اعتقل ابنها تحت عنوان تحرير فلسطين وعودة اللاجئين ولكن يا حسرة .. وفجأة شعرت بوخزة خفيفة في صدرها ..
***
ستذهب لزيارته اذن ..ستذهب وهي تحمل ما يثاقل العالم من الاشواق والحنين لفلذة كبدها ،ولكن فكرها قد تشوش الى حد بعيد . لقد أخذ ينتابها شيء كما لو كانت في وضع مأساوي ..ان روحها قد تمزقت ..تضحيات وراء تضحيات .. بطولات يتبعها بطولات .. وحلم العودة وبرغم من عمقه وتجذره الا انه أخذ يتكلس في روحها ..
"لا بد ان ينجلي الصدأ"قالت في نفسها "ولكن متى يظهر الناس الذين ..."
نادت على ابنتها وأدخلتها فورا في تفاعلاتها النفسية كما لو كانت اصلا تتحدث بصوت مسموع .
"ما العمل ..جدك ..ابوك..اخوتك..اخوالك .. ورايات سوداء وحمراء وخضراء وكل الوان قوس قزح ..وكل هذا لم ينفع مع هؤلاء الملاعين ..كل ما قدمنا من تضحيات وتكسرت الرايات ولم يبق سوى الزعماء حفظهم الله وهم بصحة جيدة ..كيف؟ لماذا ؟ ما الذي جرى؟ ..وفوق كل هذا قسّموا الوطن بينهم بدون حياء وكأن البلاد محررة .."
تفاجأت البنت ولكنها لم تندرج معها في الحديث ..
***
قرب اليوم ..
ازف الليل..
اقتربت الساعة ..
هي لم يغمض لها جفن ..انها تعيش معه لحظة بلحظة ..هي لا تريد ان تغمض عينيها ..هي تراه امامها ..هي تتحسّسه .وتخيلت كما لو سمحوا لها ان تلقاه بدون شبك الزيارة فضمته الى صدرها المشتاق بلوعة وحزن ولهفة ،دمعت عيناها ... مسحت دموعها ... دفنت رأسها تحت اللحاف بالرغم من الحر الشديد والرطوبة العالية ، كي تعيش لحظاتها بسرية تامة ودون ان يراها احد فيقطع عليها خلوتها الحبيبة ولقائها الحبيب..
احتضنته ونامت والبسمة مشرقة على وجهها ...
وعندما احضروا لها الطبيب ليكشف عليها قال في نفسه" انها تحلم !هذا الفلسطيني يعيش حلمه حيا وميتا!"..وغطى وجهها ..
لا تأخذوه


محمود فنون
5|4|2012

لم اكن طفلا حينها ولا غرا .. كنت قد اعتقلت في 18|10| 1969م وقد افرج عني في 26|5|1972 م وكنت قد تنقلت من سجن الخليل الى رام الله الى الخليل ثانية ثم الى سجن نابلس المركزي ومن هناك نقلا الى بئر السبع اثر اضراب مفتوح عن الطعام احتجاجا على اعتقال "رعايا الجبهة الشعبية "خلال احداث ايلول الاسود في الاردن ومن هناك افرج عني قبل نهاية فترة الحكم في سياق افراجات واسعة في حينه .
كنت رجلا في الثامنة والعشرين من عمري ومجربا وقائدا في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين..
بعد حالة اختفاء ثم حالة تيقظ مع عدم المبيت في البيت .وفي نفس الليلة التي" ارتأينا"فيها ان اعود للحياة الطبيعية كي لا ألفت الانتباه ، وبعد مضي سبعة عشر يوما من التيقظ العالي وعدم التردد على البيت ، وقعت المداهمة !.
طرقوا الباب بقوة كما قالت امي .. يتقدمهم المختار..دخلوا البيت وحضروا الى غرفتي حيث انام .
نهضت وحينما رأيتهم .. لم يشغل بالي شيء سوى امي .
*******
- والله خايف يا يما رجعت لعوايدك..
- لا يا يما،انا مشغول بدراستي كما ترين ، بل انني افضل ان ابيت عند اصدقائي حيث اتفرغ للدراسة .. بيتنا مليء بالضيوف باستمرار .
اذا حبسوك مرة ثانية .. لا سمح الله ..بموت ,وانهارت الدموع من عينيها .
حضنتها واقسمت لها اغلظ الايمان انني مشغول فقط بدراستي وكنت قد التحقت بجامعة بيت لحم واكمل دراستي التي بدأتها في بيروت في تخصص ادارة اعمال .
- والله يا يما ما بدري ، قلبي بقول ان في فراسك عملة كبيرة.
***
كنت قد غادرت الى الاردن مرتين: ومن هناك في عام 1974 م الى لبنان للدراسة حيث التقيت الرفيق الحكيم جورج حبش لأول مرة ، وقد اقر الفكرة التي اردنا ان نعمل بها في الداخل وفي المرة الثانية في نهاية 1974 م الى العراق حيث التقيت الرفيق الشهيد ابو علي مصطفى والرفيق عبد الرحيم ملوح وتداولنا في شؤون العمل التنظيمي والسياسي في فلسطين، وكانت امي معي في هذه المرة وشاهدت الرفيق ابو علي والرفيق ملوح ، وكان الذهاب الى بغداد لزيارة اخي الذي انهى دراسة الدكتوراة في الهند وقد حصل على عمل في العراق.
- "الظاهر يا اخي انك لم تأت لزيارتي ، فأنت معظم الوقت تذهب ولا ادري الى اين تذهب ".قال أخي معاتبا.
وبعد ان شاهد ملوح وابو علي ،لم يعد يقل شيئا.
كان لي عالمي الخاص والسري ..كنت اعيشه وانا في ذات الوقت مندمجا في العالم الذي يحيط بي .
فعالمي الخاص هو عالم النضال السري بما له من انشطة وعلاقات ومواقف وافكار .التقي مع من توجب اللقاء بهم في حصن من السرية التامة .
والعالم العادي حيث الدراسة الجامعية ومختلف اشكال العلاقات مع تنوع واسع من الناس ،ومعهم يحلو السهر ولعب الورق والتمشي في الطرقات والذهاب الى الكروم.
كنت مشغولا جدا واجد الوقت الكافي لفعل كل شيء سياسي واجتماعي ومتفوق في الدراسة ، ذلك ان عقلي في ذلك الوقت كان منظما وقيل عني انني زمبرك ومواظب على واجباتي بكل الحرارة المطلوبة .
لم اسمع الطرق على الباب ، فقد كنت نائما نوما عميقا بعد سهر وتعب متواصل مشبوب بالقلق .
فقد كانت منظمة الخليل قد تعرضت لضربة قوية بسبب تداخلات وانماط عمل تحتاج الى تصويب، وبسبب عدم الدقة في اتباع السرية اللازمة .هنا تكون الخشية من انقطاع التواصل وربما تتعرض التجربة برمتها الى مخاطر القمع والضربات الاعتقالية .
نهضت حينها، ولم يشغل بالي شيء سوى امي ،فهي بحاجة لي لمئة سبب وسبب بالاضافة الى ما يعرف بقلب الام وما يزفره من حسرات على فلذة كبدها الذي تريد ان تراه رجلا ومتزوجا وتحمل احفاده..
***
-"تعال ..شوف شو شريت اليوم "..وتعرض علي صرة من ملابس الاطفال قطعة قطعة وتشرح لي عن كل قطعة وفي أي مرحلة سيلبسها ابني حالما اتزوج وانجب الاطفال
-"والله يا يما خايف اموت بحسرتي زي ما مات ابوك وما تهنّا بشوفتكو ولا شوفت اولادكو ..انتو قاسيين.."وتغطي وجهها تداري دموعها .
***
لم نكن نحن القساة ..ان الحياة من حولنا قاسية ..فقد سافر اخوين لي وجائت حرب عام 1967 وهما في الخارج وبهذا اصبح الاثنان خارج الوطن ومحرومين من العودة ،وانا ذهبت بي الحياة الى العمل النضالي وكنت اشتغل مدرسا وتعرضت للاعتقال ،وأخوي الآخرين اصغر مني سنا وقد جئنا الى الحياة في الجزء الاخير من عمر والدي الذي كان مثل اقرانه يتمنى الاولاد الصبيان ومات عام 1967م ولم يكن أي منا قد تزوج.
لم يكن في البيت أي شيء من الممنوعات ولذلك واثناء التفتيش لم اكن منشغلا بمثل هذا الامر ..
***
تخيلت بأنهم ذهبوا بدوني .
-"قلت لك يا أمي ما في شيء ..ها هم ذهبوا "
-"اولاد الحرام !..والله يا يما ما ظل فيّ مفصل مع مفصل..قالت ذلك وهي تحضنني تكاد تعيدني الى جسدها مرة ثانية"بينما دموع غزيرة تنهمر من عينيها وتبلل وجهي.
-"لماذا البكاء وقد ذهبوا وها انا بين يديك.."
"هذه دموع الفرح" قالت وهي تتحسس وجهي بيديها المرتعشتين" انا مبسوطة ..وبكرة نشتري افراخ حمام ونحشيها ،وانت تشرب شوربتها ".
-"خفت يوخذوك..سوارة الذهب والدبل اللي من اخوك هدية عرسك بتستنى ..كل يوم بفتح العلبة وبقول ابصر حظ مين ؟ والله يا يما بعيط وانا حاملهن ونفسي اشوفك بتلّبسهن لعروستك.."
***
-"وقع هنا ..لم نأخذ شيء من البيت "نبهني قائدهم بجلافة
كتبت على الورقة بخطي انني اوقع انهم لم يجدوا عندي شيئا.
امسك بي اثنان وقد وضعوا قيدا في يديّ الى الخلف واقتادوني خارجا.
شعرت انهم انما ينتزعوني من أحشائها ،ليتركوها جثة هامدة ، كل شيء فيّ يتمزق .
****
- ماذا قدمت لها حتى اسبب لها كل هذه الحسرة؟
- انت لم تسبب لها شيئا..ان الاحتلال هو الذي سبب لها الحسرة والالم سبب لها ولكل الامهات .
- لو لم تنكشف الامور في الخليل ..لو انهم حموا اسمي ..
-هذه حقائق النضال ..ان التضحيات اضعاف اضعاف الانجازات التي تحققت ..
-ولكن هذا النضال ليس ممنهجا ..ان اغلبه لا زال على طريقة الفزعة ..فما ان ينتمي الواحد حتى يطلب السلاح ..وقبل ان يصل بعضهم الى تنفيذ العمليات ضد جيش الاحتلال حتى يكون المئات قد وقعوا في يد العدو نتيجة السذاجة والتهور واحيانا التباهي والانكشاف بلا سبب و...
***
-اطلع في الجيب .نهر احدهم .واخذ الاثنان يدفعان بحقد تلمسته من حيث انهما يدفعانني لأقع على وجهي حيث يداي مربوطتان الى الخلف ، وهما ينهران وأنا لا استطيع ان افعل شيئا .انها عنجهية الغالب مشحونة بدرجة عالية من اللؤم.
ان عقلية المتعالي لا ترى كل الصورة،انهم لا يرون رجل مربوطا .انهم يرون ضرورة ان يكون في الجيب وعليه ان يتدبر نفسه.
-اطلع ..اطلع..
ادخلوني اللى السيارة واذا بامي تقف خلفها مباشرة ..
-"ما الذي يجري ؟"تقول في نفسها "معقول هذا ابني يقتادوه مرة أخرى من بين يدي ؟ هذا لن يكون "
وما ان تحرك الجيب حتى امسكت به وهي تصيح:"لا تأخذوه لا تأخذوه ..لن تأخذوه " وقبضت على الباب الخلفي للجيب العسكري وهم كلهم من حولها .
تدبر العسكر امرها بمساعدة المختار .
صوتها يلاحقني يا يما .. يا يما
توجه الرتل العسكري الى الخليل عن طريق الجبعة وانا لم اعد اعلم شيئا انني في عالم آخر.ان صوتها يملأ اذني وروحي "لا تأخذوه...قويا صلبا حزينا باكيا متحديا عاجزا ..عاجزا ..عاجزا ثم يائسا ..ثم مع ابتعاد الرتل صار خافتا .
صار خافتا؟ انه يتردد كالصدى في اعمق اعماقي .كيف يكون خافتا وانا لا زلت اسمعه حتى بعد ان قطعنا مسافات في الطريق؟
لا تأخذوه ..كلمة هي ليست رجاء ..لقد امسكت بالجيب بيديها المصممتين وأخذ الجب يتحرك وكأنه يعبر عن اصرار لا رجعة عنه مع محاولات فك يديها القابضتين ،إصرار الام الذي لم يكن أي من الجوقة يعرفه او يكترث له .ان الذي يحزن علينا منهم مستعد لاطلاق النار وعيناه تدمعان .هذا حال من يقبل الخدمة العسكرية .
عادت الى نفسها بعد ان قطعت مسافة ليست قليلة وهي تركض وراء الرتل العسكري .كانت الساعة قبل منتصف الليل بقليل،الطريق فارغة الا منها ..وهي تسير ..هي تمشي وتمشي وقد اختفت كل آثار السيارات العسكرية.
* * *
مشت الى خلف التلة المواجهة للقرية وهي تصيح بصوتها المخنوق:
"يا يما ..وين رحت وخليتني ..خليتني وحيدة ..خليتني يتيمة .. خليتني تعيسة ..خليتني حزينة . تعال .."والحسرة تنهش صدرها وتعصر روحها"لو انك متجوز ..وخليتلي نتفة ولد من ريحتك اتسلى عليه.."
"طيب ليش بسرعة بحبسوكو؟..طيب بعد ثمن سنين واليهود بتقدموا واحنا بنتأخر ؟..والسجون مليانة ..والله يما بعرف من زمان و قلبي حاسس وعارف انك ماشي في هالطريق ودعيت لك ان الله يقف معك انت ورفايقك "
ثم قالت لنفسها وقد غمرها اعتزاز يكفي لأمة بأسرها "بكرة بروحوا اليهود ..انشاء الله ياربي انشاء الله يا ربي ،وانا بكون ام المناظل "وأخذت تمسح دموعها ويملأ قلبها الامل المنعش .ثم دهمها الشوق وقسوة الفراق .
الفراق؟ ..ليس فقط الفراق "يا حسرتي عليه يا حسرتي عليك يا يما ..شو بصير معك هالحين ..الضرب والتعذيب ..يما ..يما لو أنا ولا أنت "وملأ خيالها صورته وهو يتعذب بالضرب المبرح بالعصي ، واخذت تلوح بيديها عن رأسها وكأنها تتلقى الضربات القاسية عن فلذة كبدها . ثم أخذت تلطم خديها بقوة وبغير وعي وهي لا ترى سوى العصي والركل والدفع وكل أشكال الضرب التي سمعت ان العدو يستعملها في تعذيب المناضلين الفلسطينيين ، تلطم تلطم تلطم حتى تنهدّ وهي وحدها جالسة في عرض الطريق، والليل من حولها ساكنا إلاّ من نواحها المخنوق ،وعبراتها المنهمرة سيولا جارفة .
"وين راحوا وين حباب قلبي يا يما...يا حسرتي عليك وحسرة خواتك"
"طيب انت مناظل وافهمنا واحنا ليش بندفع كل هالثمن؟ الاخوة والاخوات والقرايب بيدفعوا الثمن ،كل شيء ممنوع ونسفوا دارنا في المرة اللي فاتت".
تخيلته يجلس عاريا في البرد ويدلقوا على رأسه الماء ،فأخذت ترتعش وتلملم نفسها على نفسها ،تتحسر ,وترجف وتحاول ان تفرك شيئا من جسدها .انها في الحقيقة قد توحدت مع ابنها واندمجت مشاعرها الحقيقية مع مشاعره كما تخيلتها ..انها لم تتخيلها انها تعيشها ،ما اعظم الامهات.

* * *
-" ما اعظم امهات المناضلين"خطر ببالي وانا في الطريق الى سجن الخليل "وما اعظم معاناتهن ،وما اثقل الصبر عليهن"
-"لو انهم نسوا وجودي ولم يتكلموا.. هؤلاء الرفاق ! من الذي دلهم عليّ؟ فأنا لست من الخليل وما كان اذكى المحققين ليسألهم عني ..لكنت الآن مع امي واكمل دراستي واتابع مهماتي لأكون عند حسن ظن الرفاق ""لن اعترف على احد...لن أعترف على أحد""
قلت في نفسي "يجب ان يطمئن الرفاق ،ويبقوا في عملهم ..فخطوط المهمة واضحة .."
ولكن خيالي قد امتلأ من جديد بأمي الحزينة ..المنكوبة بي ..اعلم انها تفتخر بي وبطريقي ..ولكنها في هذه اللحظات ليست اكثر من ام مجروحة ..لا زال صوتها يملأ رأسي "لا تأخذوه" لقد كانت تعلم ..تعلم بقلبها واحساسها ..تعلم من خلال بعض المهام الصغيرة والهامة التي كانت تقوم بها من غير ان تعلم "نعم ..نعم..ان الام اعظم حليف للمناضل وأقرب مساند له والاقدر على القيام ببعض الخدمات .
-"دعك من هذا الآن ..لهذا متسع آخر وربما بعد النصر يمكن ان تكتب وتملأ ما شئت من الصفحات عن فضل الام والزوجة والاخت والبنت على المناضل بالاضافة لدور الواحدة بوصفها مناضلة . ان الاهل خير حليف وسنيد.."
"ماذا فعلت ؟..هي عزيزة النفس جدا ..هي لا تظهر حزنها وألمها امام اقرب الناس ..هل ضعفت؟هل سيطرت عليها الامومة وحنوها وكشفت عن ألمها امام الناس ؟"
هي مريضة بالأزما ،وأخذ ابنها بهذه الصورة سيسبب لها نوبات متصلة من الأزما.
- الموضوع لا يقف عند الأزما وتوابعها ، فهذه يعالجها الطبيب مهما كلف الثمن ولكن كيف سيعالجوا الفرقة وهي من اعظم الآلام عند الفلسطيني منذ بدأت النكبات والسجون؟كيف وخاصة ان احساس الام بالفرقة يكون اضعافا مضاعفة اذا كانت الفرقة مقرونة بالتعذيب والسجون .
فكر في نفسه :كيف يساندها ؟كيف يقف الى جانبها وهو بعيد عنها .
-"قسما يا امي سأظل مناضلا حتى الانتصار عليهم ، وانا اعلم ان كل اموال الدنيا ورياشها وكل شيء ممكن ،لا يمكن ان يوازي صبرك وعذابك،ولا شيء يعوضك سوى طرد الاحتلال والانتصار عليه وسحقه تحت الاقدام."
اعدك يا امي ان اصمد في التحقيق ولا أشي بأحد ،وان استمر في السجن في القيام بالواجبات الثورية وان استمر في النضال وبعد السجن حتى ندحرهم" قلت هذا وانا اتمدد على جنبي الايسر في زنزانتي العارية من كل شيء ،قلت هذا وكأن نفسي هدأت كمن قام بواجب مهم على أحسن حال ولا أدري ان كنت غفوت في ظلام الزنزانة الدامس.

من التحقيق

محمود فنون
2011 / 12 / 19



سمعت خطوات خفيفة تقترب مني ،فانا لم اكن نائما ، كيف انام في شهر كانون الثاني في المسكوبية وانا اجلس على كرسي خشبي قديم ومجلسه شديد الصلابة ،كيف ينام امثالي بجسد اكبر قليلا من الكرسي ،ويدي اليسرى مشدودة خلفي من تحت مسند الكرسي ويدي اليمنى مشدودة الى الخلف من فوق مسند الكرسي ومربوطة مع اليد الاخرى بقيد قصير يشد اليدين الى بعضهما البعض وهو قد كرز اسنانه في لحم يدي الاثنتين ويدميان في البرد القارص.
اخذ يقترب قليلا قليلا ثم شعرت بيديه تشدان حلقة القيد من اليمين ويضغطها ثم يشد الاخرى من جهة اليسار ويشدها
-"اضغط كمان شوية ربما اعترف.. اضغط مرة اخرى ولا تهب ربما بعد ضغطة اخرى اصرخ عليك مناديا لتفك قيدي مقابل الاعتراف"
انسحب كما اتى وقد تركني وحلقات قيدي وكانهما مسننات تنغرس في لحمي بل في روحي
ووجدتني اتنفس واحاول الاسترخاء قدر المستطاع وقد تقلصت كل عضلات وجهي الممتليء قليلا وكيف يسترخي جسمي المشدود حول الكرسي ومجلسي المتصلب ويمر الزمن ثانية اثنتان عشرة دقيقة اثنتان عشرة وكل ساعة تمر ويحيط بروحي كل جزء من كل ثانية فيها الى ان جاء موعد استدعائي للتحقيق ربما بعد خمس ساعات سبعة عشرة لا ادري .
جاء السجان وتأكد من سلامة وضع كيس الشادر على رأسي وانه يغطي رقبتي وتأكد انني لا استطيع ان ارى ،فاقتادني الى غرفة التحقيق طلب منه المحقق ان يفك قيدي وشاهد نتائج تعليماته وتظاهر انه لا يقبل القسوة بهذه الدرجة وصرخ فيه ليخرج
- لماذا تبقي يديك هكذا الى الخلف ؟
-لا جواب هما مشدودتان ومتصلبتان من استمرار الشبح بلا رحمة
بعد قليل
ادر يديك واجلس على الكرسي ،ان جسدك يرتعش من البرد
كتب شيئا وتشاغل واتصل بالهاتف متجاهلا وجودي فترة من الزمن .
وفجأة
-انظر الى وجهك! حرام ان تظل في هذا الوضع لم يبق منك شيء
توجهت الى المرآه قبالتي وقد شعرت ان دمي يحمى في عروقي وقفت قليلا.
- والله انك حلو ولا ينقصك غير العروس(لم اكن متزوجا).
طيب طيب اجلس لنتحدث وتناول علبة سجائر عن الرف كان كما فهمت قد صادرها مع كمية اخرى من احد المعتقلين اعتقل من المطار قادما من امريكا ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف يُفهم الفيتو الأمريكي على مشروع قرار يطالب بعضوية كاملة


.. كلمة مندوب فلسطين في الأمم المتحدة عقب الفيتو الأميركي




.. -فيتو- أميركي يفشل جهود عضوية فلسطين الكاملة بالأمم المتحدة


.. عاجل.. مجلس الأمن الدولي يفشل في منح العضوية الكاملة لفلسطين




.. رياض أطفال بمبادرات شخصية بمدينة رفح تسعى لإنقاذ صغار النازح