الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فوقَ أرضِ الذاكرة

حازم شحادة
كاتب سوري

2021 / 2 / 24
الادب والفن


لم أكن مُدمناً على لعبِ الورقِ بل على أجوائهِ فأقصى ما يمكنُ للواحدِ منّا أن يربحهُ خلالَ السهرةِ بضع كؤوسٍ من لترِ العرقِ مع قليلٍ من المُكسّرات الرخيصة يدفعُ ثمنها الخاسرُ وشريكهُ في الهزيمَة.

تلكَ الغرفة في كرمِ الزيتون الذي يملكهُ والدُ عزّام، أنتم لا تعرفونَ كم كانت دافئة رغمَ عُري جدرانها والحفرِ الصغيرةِ المُنتشرة في أحجارها التي اعتادت ضمَّ أربعة رجالٍ عتاةٍ ينفثونَ دخانَ التبغِ وهم يرمونَ أوراقَ اللعبِ بتوترٍ حيناً وقهقهةٍ في أغلبِ الأحيان.

قلّما اجتمعنا فيها صيفاً فلكلِّ واحدٍ سبلهُ أما شتاءً كانَ الأمرُ مختلفاً.

نُمضي النهارَ في تصريفِ شؤوننا أو تصريفها لنا وما أن يأذنَ المساءُ حتى نجتمعَ فيها تِبَاعَاً كأنّنا على موعدٍ وقد كنّا كذلكَ بحق.

للشتاءِ في اللاذقيةِ القديمةِ أسرارٌ ليسَ بمقدوركَ كشفُ سِترها دونَ القدرةِ على فهمِ ما تقولهُ قطراتُ المطر العالقة بحوافِ النوافذِ وأوراقِ الشجر.

بعد أحد عشر عاماً ستنشبُ حربٌ ويستشهدُ اسماعيل في مكانٍ ما شمال البلاد.. أشجارُ الكرمِ عن بكرةِ أبيها سيتمّ اقتلاعها والغرفة العتيقة لن يعودَ لها أثر سوى فوقَ أرضِ الذاكرة المنكوبة.

ذاتَ مساء فاجأنا عزّام بمصباحٍ مُحاطٍ بقمعٍ علّقه فوقَ الطاولةِ وهكذا أصبحت جودة الإضاءة أفضل.
يومها قال اسماعيل:

ـ من أجلِ هذه المبادرة الطليعية، السَّكرة اليوم على حسابنا حتّى إن خسرتم ومسحنا بكم هذه الأرضية التشكيلية الجميلة.
إثر ضحكةٍ ساخرة، وبينما كنتُ اتخذُ مكاني إلى الطاولةِ قبالة شريكي عزام وأشعلُ سيجارة تبغ عربي قلت:

ـ أكثرُ ما يعجبني بهذا الشاب سرعة الثقة في العودةِ إليهِ بعدَ كلِّ إذلالٍ نلحقهُ به وبشريكه.

في لعبة (التريكس) ثمّة أربعة ممالكٍ واحدة لكل لاعب وفي كلِّ واحدة خمسة تسمياتٍ يحقُّ له أن يختار بينها بما ينسجمُ مع طبيعة أوراقه وهذه التسميات هي (ختيار الكوبة، البنات، التريكس، اللطوش، الديناري).

كمحترفٍ أنتَ وشريككَ عليكما أن تتجنبا في تسميةِ الختيارِ حملهُ وإلا احتسبَ عليكما (75 -) وفي تسمية البنات حملهنّ وإلا احتسبت الواحدة بـ (25-) وفي تسمية الدينار حمل أراق الديناري أما في تسمية التريكس فيبدأ صاحب المملكة بوضع ورقة الشاب على الطاولة، ومن ثم يبدأ الآخرون بوضع العشرة ومن ثم التسعة... إلخ.. من ينهي أوراقه أولًا يحصل على 200 نقطة موجبة ومن ثم 150 للثاني، و100 للثالث، و50 للرابع.

وفي لعبةِ التريكس كما في رقصةِ السامبا.. التفاهمُ بين الشريكين أساسُ الجمالِ والنجاح أما سوء التفاهم فأساسُ الصراخ والشتائم الأرضية و.. السماوية.

بعدَ ثمانية أعوامٍ سيصبحُ عزام مقاولاً ويغتني بفضلِ الأرضِ التي استثمرها والده وحولها إلى عمارات مستفيداً من تداعيات موجاتِ النزوحِ التي ستخلفها الحربُ تالياً.. الأخبارُ بيننا ستنقطعُ بشكلٍ نهائي.

في ذلكَ المساء اشتدَّ عصفُ الرياحِ وتساقطَ المطرُ كما لم يفعل منذ سنين.. قُطِعت الكهرباء.

ـ خسارة.. لم يتركوا لنا فرصة الاستمتاع كثيراً بمصباحِ (عزّام الدين)..

قالَ زكريا ساخراً وهو يشعلُ لفافة ويرشفُ ما تيسَّرَ له من الخمر.

ـ لو أحضرتَ معكَ صلعة أبيكَ لأنارت المكانَ دونَ الحاجة ِإلى مصباحي..
أجابَ عزام وهو يشعلُ قنديل الكاز ثم أردف:

ـ لن ندع طارئاً تافهاً كانقطاع الكهرباء يمنعنا عن الاستمتاعِ بتهزيئكم.

بعد تسعِ سنوات سيكون زكريا زوجاً مطيعاً لزوجته لا يخرجُ من بيته إن لم تسمح له ولن يقولَ مرحباً لأبيهِ الأصلع إن لم تأذن بذلك وسيكون مثالاً جيداً لكلِّ باحثٍ في علومِ الهندسةِ الجينية عن كيفية تحوّلِ الإنسانِ إلى كلب.

كانت الكوؤس تُقرعُ والمشادات تحتدمُ وتتلاطمُ عندما يسيءُ أحدنا فهمَ شريكه أو يعاكسهُ الحظّ وعلى الرغمِ من الهواءِ المُتسللِ من شقوقِ جدران الغرفةِ لم نكن نشعر بالبرد..

بعدَ سبعِ سنواتٍ سأحزمُ حقيبتي وأرحلُ بحثاً عن الكنزِ خلف الحدودِ البعيدة وقد أكتبُ بعض القصص التي تتحدثُ عن أماكن لا تشعر فيها بالبرد...

ثمة أماكن تبثُّ الدفءَ دونَ الحاجةِ سوى للأصدقاء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الصدمة علي وجوه الجميع.. حضور فني لافت في جنازة الفنان صلاح


.. السقا وحلمى ومنى زكي أول الحضور لجنازة الفنان الراحل صلاح ال




.. من مسقط رأس الفنان الراحل صلاح السعدني .. هنا كان بيجي مخصوص


.. اللحظات الأخيرة قبل وفاة الفنان صلاح السعدني من أمام منزله..




.. وفاة الفنان المصري القدير صلاح السعدني عن 81 عاما