الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أزمة الخطوط التونسية وشيطنة العمل النقابي

عبد القادر معيوف

2021 / 2 / 26
الحركة العمالية والنقابية


تعيش تونس هذه الأيام على وقع أزمة جديدة بطلتها المديرة العامة للخطوط التونسية والتي وقع تعيينها منذ بضع أسابيع، ولا يهمني هنا الغوص في كفاءة السيدة ومدى قدرتها على حل المشاكل المتراكمة لهذه الشركة ولست أصلا مخولا لهذا، بقدر ما يهمني تشخيص الحالة العامة للشركة وإيضاح الإطار العام الذي يحيط بهذه الأزمة.
يعود تاريخ تأسيس الخطوط التونسية لسنتة 1948 ميلادي ، تمتلك الدولة التونسية حوالي 74.4 % من رأس مالها الذي يفوق مليون دينار، وقد حققت المجموعة مرابيح معتبرة سنة 2009 فاقت 70 مليون دينار و مرابيح بحوالي 16 مليون دينار سنة 2010، وبإجمالي أسهم رأس مال (capitaux propres) يفوق 600 مليون دينار ، لتنقلب الحال تماما حسب آخر قوائم مالية مصادق عليها والتي تعود لسنة 2017 ، حيث بدل المرابيح بلغ مجموع خسائر الشركة للعام 236 مليون دينار ليتحول إجمالي أسهم رأس مال الشركة لقيمة سلبية يقارب الأربع مرات قيمة رأس مالها !
الأكيد أن مشاكل الشركة المتراكمة تعكس تماما حالة الفوضى التي يعيشها البلد منذ حوالي العشر سنين ، وكشأنها من مؤسسات القطاع العام خرجت من دورها كوسيلة لخلق القيمة المضافة لوسيلة بيد الدولة لإمتصاص الإحتقان الشعبي عبر إثقالها بالإنتدابات العشوائية الغير مدروسة ، فتحول عدد أعوان الشركة من حوالي 3700 عون أواخر سنة 2013 لأكثر من 7800 عون أواخر سنة 2019 بقيمة أجور سنوية يفوق 376 مليون دينار سنويا (حسب أرقام سنة 2017) !
وإذا ما أخذنا بالإعتبار إنخفاض إيرادات الشركة من 1228 مليون دينار سنة 2010 مقارنة بمجموع مصاريف الإستغلال (charges d’exploitation) بحوالي 1193 ملون دينار بلغت فيها نسبة الأجور 15 % من مجموع هذه المصاريف، إلإيرادات بلغت 1525 مليون دينار سنة 2017 يقابلها 1660 مليون دينار بلغت فيها نسبة الأجور حوالي 23 في المئة ! وإذا ما دققنا في قيمة الإيرادات سنجد أنها إنهارت بإنهيار سعر صرف الدينار حيث بلغت 877 مليون دولار سنة 2010 مقابل 677 مليون دولار سنة 2017 !
لاأحد يستطيع أن ينكر أنه كان لإنهيار القطاع السياحي الدور الأكبر في إنهيار إيرادات الناقلة الوطنية خاصة بعد الأحداث الإرهابية التي شهدها البلد خاصة سنوات 2012 و2015 ، لكن الملفت للإنتباه هو غياب سياسات وبرامج لإنقاذها بل العكس وقع إغراقها بالإنتدابات وبالديون ، فإرتفعت المديونية وفي المقابل لم يشهد أسطولها أي تحسن أو أي تطوير ! وفي الواقع أن ماتعانيه الناقلة وطنية جزء مما تعانيه مجموعة الشركات الوطنية التي كانت بالأمس القريب تمول الميزانية العامة للدولة بمرابيحها كالمجمع الكيميائي وشركة الكهرباء والغاز وشركة فسفاط قفصة وغيرهم ليتحولوا إلى أعباء على هذه الميزانية ، في تمهيد واضح لخوصصتهم تحت مسمى إعادة الهيكلة !
منذ الثورة ، عرفت الخوصصة توهجا لا سابق له في البلد ، وإن كان هذا التوجه قديما إلا أنه عرف نسقا سريعا في هذه السنوات خاصة عبر انبطاح الحكومات المتتالية لشروط صندوق النقد الدولي ، الممول الرئيسي لها خاصة مع تدهور الحالة الاقتصادية وإرتفاع كلفة التداين في الأسواق المالية. هذه الخوصصة شملت تقريبا كل المجالات الاقتصادية ، حيث فاق عدد الطلبة في الجامعات الخاصة مثلا 30 ألف سنة 2019 ، وأصبح عدد المصحات الخاصة يقدر بالمئات في الوقت الذي إنحدر فيه مستوى الصحة العمومية إلى الحضيض ، وإنتشر الإعلام الخاص وقنوات التلفيزيون الخاصة لتنشر ثقافة الخضوع وثقافة الإستهلاك ، وبيعت معظم الشركات التي صادرتها الدولة عقب الثورة في صفقات تطرح أكثر من سؤال ! اليوم أقولها دون مجاملات ، لقد تحول معظم الشعب إلى مجرد "خمَاسة" في بلده ، ففي الوقت الذي تزداد فيه أرباح الشركات الكبرى المملوكة لعائلات بعينها والتي تحتكر اليوم قطاعات بأكملها إظافة إلى تمتعها بدعم كامل من الدولة ، يزداد إنهيار الطبقة الوسطى وإرتفاع نسبة الفقر والتي وصلت حدود 21 بالمئة حسب آخر دراسات الصادرة عن البنك الدولي وفاقت نسبة البطالة 17 بالمئة حسب أخر أرقام المعهد الأعلى للإحصاء !
في المقابل عرف العمل النقابي في تونس طفرة غابت عنه منذ عشرات السنين ، ونشطت النقابات بكثافة ، لتدخل الإضرابات في الروتين اليومي للمواطن التونسي لمدى الفوضى التي لحقت هدا النشاط ولكثرة المتمعشين من ورائه ! فالمتأمل للقيادات النقابية في البلد يرى أنها مجموعة من البيروقراطية الكريهة البعيدة عن الممارسة الميدانية للعمل النقابي ، وماعليك إلا أن تنظر لأنواع السيارات الفاخرة لقياديي أكبر المنظمات النقابية لكي يفهم القارئ مغزى كلامي ! ولا أمل في الإصلاح إلا عبر تغيير حقيقي ثقافي بالأساس يدفع بالشباب العامل بكل أصنافه من عمال وكوادر للإلتحاق بالعمل النقابي وقيادته وتأطيره إسوة بالنقابات في الدول المتقدمة ، فالحلول الخارجية والسلطوية لن تقدم ولن تؤخر !
طبعا وأمام كل هذه الفوضى ، إنطلقت المكنات الإعلامية الخاصة والحكومية على حد السواء في تمرير أجنداتها الخفية وتحقيق أهداف مالكيها وأصحابها عبر الترويج لسياسات تهدف لتدمير ما تبقى من مؤسسات الدولة وبيعها للخواص ، والتسويق بأن ذلك هو الحل الوحيد لإنقاذ هذه المؤسسات ! أما عن الحكومات المتعاقبة منذ الثورة ، فالكل يدرك اليوم أن مشكلتها مع العمل النقابي تكمن في السيطرة عليه وجعله جزءا من وسائل سيطرتها على الطبقة العاملة إسوة بنظام بن علي الدي سبق له أن نجح بحد كبير في ذلك ، غير أن الأمور هده المرة مختلفة تماما حيث أننا وصلنا لدرجة إختلط الحابل فيها بالنابل ويصعب فيها حتى على النقابات الكلاسيكية السيطرة على الطبقة العاملة خاصة مع الإنهيار الغير مسبوق للمستوى المعيشي وللخدمات وغياب العدالة الاجتماعية.
إن التوافق على مشروع "الخمَاسة "وبيع ما تبقى من شركات السيادة للخواص بما في ذلك الشركات الأجنبية تحت مسميات إعادة الهيكلة وتحسين المردودية ، بين القوى الرجعية ورجال الأعمال والقوى الإمبريالية متمثلة في صندوق النقد ، هو ما يفسر طبيعة المرحلة الحالية والتحالفات والصراعات القائمة ، فقد نجح هذا التحالف في تحويل الدولة إلى أداة قمع للطبقة الوسطى لفائدة هذا المشروع ، ونشطت طبقة المثقفين التقنيين على رأي غرامشي ، لتعطينا دروسا في الاقتصاد والسياسة والمالية ، وسط بروباغندا إعلامية رهيبة جعلت المواطن البسيط المهمش والمدمر فريسة سهلة لابواق الدعاية التي تستمر بشيطنة الفكر والعمل النقابي ، وتقديمه على أساس أنه السبب الرئيسي للإنهيار الاقتصادي والإجتماعي ، فالحكومات المتعاقبة التي لم تحرك ساكنة أمام غلاء الأسعار (الذي لم ينزل عن نسبة 5 بالمئة سنويا منذ 10 سنوات) وأمام اللوبيات المتعددة التي تسيطر على كل القطاعات والتي كانت ولاتزال تعبث بالإقتصاد الوطني وتستفيد أكثر من الجميع من المالية العمومية، يزعجها المطالبة بزيادة الأجور وتحسين الظروف المعيشية للطبقة الشغيلة في بلد إنهارت القدرة الشرائية فيه بأكثر من 40 بالمئة في العشرية الأخيرة !
حسب آخر الأرقام ، ومع تأثير جائحة كورونا ، من المنتظر أن تكون نسبة النمو لسنة 2020 سلبية في حدود -8.2 بالمئة ، مع تطور نسبة الدين العام لحوالي 90 بالمئة من الناتج القومي الخام و ارتفاع عجز الميزانية لأكثر من 8 بالمئة وإرتفاع الأسعار بنسبة 5.4 بالمئة ! فالمرحلة القادمة ستكون مرحلة إدارة أزمة ومحاولة الخروج منها وهذا لايمكن أن يتحقق دون إستراتيجية واضحة و هدنة إجتماعية تضمنها الدولة عبر تثبيت الأسعار وعدم المساس بالدعم وإنقاذ مؤسسات السيادة الوطنية والضرب بيد من حديد على أيدي اللوبيات الفاسدة والشركات الكبرى وتثبيت نظام جبائي عادل لا يقوم على رواتب الموظفين.
الطرق أمام الحكومة الحالية والطبقة السياسية واضحة ، إما الإنحياز للطبقة الوسطى أو تواصل الإرتماء في أحضان السياسات اليمينية لرجال الأعمال ومن والاهم مع الأخذ في الأعتبار بإمكانية إنقلاب السحر على الساحر عبر إنفجار الوضع الاجتماعي وخروجه عن السيطرة وتدمير ما تبقى من الوطن...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صدامات بين طلبة والشرطة الإيطالية احتجاجا على اتفاقيات تعاون


.. التوحد مش وصمة عاملوا ولادنا بشكل طبيعى وتفهموا حالتهم .. رس




.. الشرطة الأميركية تحتجز عددا من الموظفين بشركة -غوغل- بعد تظا


.. اعتصام موظفين بشركة -غوغل- احتجاجا على دعمها لإسرائيل




.. مظاهرات للأطباء في كينيا بعد إضراب دخل أسبوعه الخامس