الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المثلية الجنسية تاريخيا لدى مجموعة من المدنيات الثقافية.

صفوان قسام
اختصاصي وباحث في علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي

(Safwan Qassam)

2021 / 2 / 27
حقوق مثليي الجنس


المثلية الجنسية تاريخيا لدى مجموعة من المدنيات الثقافية.
دراسة مقارنة بين: "الأشورية، الإغريقية، الرومانية، اليهودية، المسيحية، الإسلامية"

* صفوان قسّام.

* مقدمة:
عرف العالم القديم المثلية الجنسية وتباينت المواقف المجتمعية تجاه العلاقات الجنسية المثلية حسب الزمان والمكان، وحتى في الحضارة نفسها من حقبة لأخرى؛ من القبول بالمطلق وافتراض أن الجميع مارس علاقات مثلية، إلى التجريم بالمطلق وانزال أقصى العقوبات. فمن خلال دراسة تاريخية واثنوجرافية على مجموعة من المجتمعات ما قبل الصناعية، "رفض 41٪ من 42 مجتمع بشكل قطعي المثلية الجنسية؛ وقبلها أو تجاهلها 21٪، ولم يبلغ 12٪ عن وجودها لديهم. وذكرت المثلية الجنسية كحالة نادرة في 41٪. ومن أصل 70 من الأثنوجرافيات، قالت 59% منها أن المثلية الجنسية منعدمة أو نادرة لديها، فيما 41% منها أقرت أنها كانت موجودة أو شائعة" (ويكيبيديا، https://en.wikipedia.org/، 14/11/2019)
وقد يكون من الملفت أن يتم التعرف على قدم هذه الظاهرة تاريخيا وتطورها، وقد تم انتقاء ثلاثة مدنيات ثقافية قديمة قد تكون الأكثر حظوة في هذه الظاهرة وهي "الأشورية - الإغريقية - الرومانية"، وقد تداخلت تاريخيا وثقافيا فيما بينها وبين الديانات السماوية الثلاثة. وتم اعتماد الديانات السماوية بوصفها مصدر ثقافي تشريعي ولعبت دورا سياسا كبيرا في التاريخ وفي النظر إلى هذه الظاهرة. وتم الاستناد إلى النقاط الهامة والفاصلة في تواريخ هذه الحضارات أو المصادر والنصوص التشريعية أو القرارات أو الأحداث، التي يمكن أن يكون لها دلالات ثقافية فيما يتعلق بالمثلية الجنسية، ومن ثم تم الاستناد إلى مجموعة من التحاليل الاجتماعية المبينة على هذه الموافق الثقافية من الهوية الجنسية، التي تسنى لنا الاطلاع عليها؛ وجرت المقارنة بينها للوصول إلى النتائج.

1: اشكالية البحث ومنهاجيته:
سيقوم هذا البحث بتناول ثلاث مدنيات ثقافية تاريخية هي "الأشورية - الإغريقية - الرومانية" وثلاث تيارات ثقافية دينية هي العقائد الإبراهيمية "اليهودية - المسيحية - الإسلامية". والتعرف على موقف كل واحد منها تاريخيا وتشريعيا وتنفيذيا تجاه المثلية الجنسية، ومقارنتها من أجل الوصول إلى تحديد نقاط التوافق والاختلاف بينها تجاه الموضوع المذكور.
تكمن الأهمية إذا ما علمنا أن الأمر من بدايته واضح أنه غير قابل للنقاش فيما يتعلق بتجريم الديانات الابراهيمية للمثلية الجنسية، وادعائها القائل أن قوم لوط هم أول من قام بفعل المثلية الجنسية، علما أن في التاريخ ما يدل على عكس ذلك. وبالمقابل الحملة القانونية والحقوقية المستمرة منذ الجزء الثاني من القرن الماضي المؤيدة للمثلية الجنسية والتي تطالب بتشريع الزواج المثلي وحرية المثلية الجنسية، والهجمة المضادة لها التي تعتبر أن المثلية الجنسية صنيعة حديثة. رغم أن التاريخ حفل بقوانين وتشريعات وممارسات قديمة سمحت بزواج المثليين ونظمت ممارساتهم، وهو ليس بالأمر الجديد.
سيتم الاطلاع على الدراسات المكتبية التاريخية والاجتماعية والكتب والمقالات العلمية المتوفرة على الانترنت والتحليلات الاجتماعية التي قد تعطينا مؤشرا على بعض النقاط التوافقية والخلافية حضاريا، وتفسيرا للحركة الاجتماعية الحاصلة.

2: مفاهيم البحث:

2 - 1 : المثلية الجنسية Homosexuality:
هي توجه جنسي يتسم بالانجذاب الشعوري، الرومنسي، والجنسي بين أشخاص من نفس الجنس. وقد تُعتبر المثلية هويّة يشعر بها الإنسان بناءً على هذه الميول والتصرفات المصاحبة لها، بالإضافة إلى الشعور بأنه جزء من جماعة تشاركه هذه الميول. والتعريف العام للمثلي جنسياً هو الذي ينجذب بشكل أساسي إلى أشخاص يماثلونه في نوع جنسه، وقد ينجذب بصورة ضئيلة أو معدومة إلى الجنس الآخر. وليس من الضروري أن يعبّر الشخص عن ميوله الجنسية من خلال ممارسة الجنس فعلياً. (ويكيبيديا، https://en.wikipedia.org/ ، 14/11/2019)
وبالتالي تكون أنواع المثلية الجنسية:
- HETEROSEXUAL يفضل الجنس الآخر.
- HOMOSEXUALيفضل نفس الجنس.
- BISEXUAL مع النوعين أو مزدوج الميول. (منتصر، 19/4/2006)

2 - 2 : التوجه الجنسي:
هو الانجذاب الجنسي والحسِّي طويل الأمد، وقد يتضمن الأفكار، والتخيلات والعلاقات. ويعبر الشخص عن توجهه الجنسي من خلال الممارسات الجنسية أو الرغبة فيها. رغم أن توجه العلاقات والارتباطات لا تقتصر على السلوك الجنسي، فقد تشتمل على اتصال حميمي غير جنسي، كالأهداف والمبادئ المشتركة، والدعم المتبادل والالتزام. والميول الجنسية تُصنف على أنها مثلية أو مغايرة وفقاً لجنس كل من الأطراف المشتركة فيها. ووفقاً لـ "سلم كينسي"، تتراوح الميول الجنسية من الانجذاب المطلق للجنس المغاير (أي الدرجة 0) إلى المثلية المطلقة (الدرجة 6)، وما بينهما مثل ازدواجية الميول الجنسية؛ وقد أضيفت الدرجة "X" لتدل على اللا-جنسية. (ويكيبيديا، https://en.wikipedia.org/ ، 14/11/2019)
تصنيف العالم كينسي للاتجاهات الجنسية:
- لا يمارس الجنس إلا مع الجنس الآخر فقط .
- يفضل الجنس الآخر- مارس مرة عارضة مع نفس الجنس.
- يفضل الجنس الآخر - مارس مع نفس الجنس أكثر من مرة عارضة.
- الاثنان متساويان في الأفضلية - ليس هناك فرق بين أن يمارس مع نفس الجنس أو الجنس الآخر.
- يفضل نفس الجنس- مارس مع الجنس الآخر أكثر من مرة عارضة.
- يفضل نفس الجنس - مارس مع الجنس الآخر مرة عارضة.
- لا يمارس إلا مع نفس الجنس فقط.
- لا يوجد أي اتجاه جنسي .(منتصر، 19/4/2006)

مصطلح (homosexuality). هو كلمة مركبة من اليونانية واللاتينية، إذ الجزء "هومو" مشتق من الكلمة اليونانية هوموس (ὁμός)، والتي تعني "نفس" (ولا علاقة لها بهومو اللاتينية التي تعني "إنسان" أو "رجل"). والتوجه الجنسي المثلي بين النساء يسمى السحاق (lesbiansim)، وهو مشتق من اسم الجزيرة اليونانية "لسبوس"، حيث عاشت الشاعرة اليونانية "صافو" التي كانت مشهورة بعشقها للنساء ونظم الشعر لهن، ولذلك سميت الجزيرة باسمها؛ وسميت النساء العاشقات للنساء باسم "السحاقيات" أو "الصافية". وللإشارة لأشخاص ميولهم الجنسية مثلية تستعمل المصطلحات: "كوير" (queer)، أو "فاغوت" (faggot)، والأكثر شيوعاً "غاي" (gay)، ومعنى هذه الكلمة الأصلي هو "سعيد، مرح"، ولكن في القرن التاسع عشر في بريطانيا اتخذت الكلمة دلالة على "العاهرة، المرأة غير الأخلاقية"، وبعد ذلك صارت تدل على "الشخص المثلي جنسيا، الشبيه بالنساء". واليوم، في الدول المتحدثة بالإنجليزية، يعتبر المصطلح "غاي" مصطلحاً حيادياً ويستعمل للإشارة للمثليين الرجال والنساء. والحروف الأولى من الكلمتين (lesbian) و(gay) وُحدت مع الحروف الأولى للكلمتين ثنائي الجنس (bisexual) و المتحولين جنسيا (transgender) لاستحداث الاختصار (LGBT). (ويكيبيديا، https://en.wikipedia.org/ ، 14/11/2019)
هناك فرق بين الميول الجنسية والهوية الجنسية؛ فالميول الجنسية هي التوجه الجنسي نحو الآخرين (مثلي، مزدوج، مغاير) بينما الهوية الجنسية هي شعور الإنسان بانتمائه إلى جنس معين. وفي العلم والطب لا يُعْتَبَر التوجه الجنسي اختياراً، وإنما تفاعلاً معقداً لعوامل بيولوجية وبيئية. ورغم وجود اعتقاد شائع بأنَّ السلوك المثلي هو شذوذ أو اختلال؛ أظهرت الأبحاث أنَّ المثلية الجنسية هي إحدى التنوعات الطبيعية في الميول الجنسية الإنسانية. وأنها بذاتها لا تشكل مصدراَ للمؤثرات النفسية السلبية على الفرد المثلي. ولوحظ ووُثِّق السلوك الجنسي المثلي أيضاً لدى أنواع مختلفة من الحيوانات. (ويكيبيديا، https://en.wikipedia.org/ ، 14/11/2019)



3: الشواهد التاريخية قبل الميلاد على المثلية الجنسية:

3 - 1 : المثلية الجنسية عند الآشوريين:
تعتبر الاشارات التي تدل على المثلية الجنسية في حضارة ما بين النهرين نادرة، لكن أكثرها ورودا وردت في الحضارة الآشورية. فحوالي 1775 - 1761 قبل الميلاد - تم تدوين وجود عشاق ذكور للملك" زيمري ليم" من مملكة "ماري - دير الزور حاليا". ويدعي بعض العلماء وجود حالات من الحب المثلي أو السلوك المثلي في الأدب القديم، مثل ملحمة "جلجامش" والقصة التوراتية "دافيد و جوناثان". ففي ملحمة جلجامش، رأى البعض أنَّ العلاقة التي تربط بين البطل "جلجامش" والشخصية "أنكيدو" هي بطبيعتها مثلية. وفي المجتمع الآشوري القديم، كانت المثلية الجنسية شائعة، ولم تكن ممنوعة، وبعض النصوص الدينية الآشورية القديمة تتضمن صلوات وتبريكات إلهية على العلاقات المثلية. الكثير من الكهنة الآشوريين كانوا مثليين أو مغايري الهوية الجنسية. (ويكيبيديا، https://en.wikipedia.org / ، 15/10/2019)
لكن حوالي 1500 - 1101 قبل الميلاد - نص قانون آشور من الإمبراطورية الآشورية القديمة أو الإمبراطورية الآشورية الوسطى على ما يلي فيما يخص اغتصاب الذكور:
قانون آشور رقم 18 : "إذا كان رجل قد بدأ شائعة في السر عن جاره قائلا: "لقد سمح للرجال بممارسة الجنس معه"، أو في شجار قال له في وجود الآخرين: "الرجال يمارسون الجنس معك" سأوجه الاتهامات ضده بنفسي (المتحدث هو الملك - ممثل القانون)، لكن إذا كان المدعي غير قادر على إثبات التهمة، ولا يمكن إثبات ذلك، فسيتم ضرب الرجل، والحكم عليه بالعمل الشاق لمدة شهر لصالح الملك، وأن يتم تغريمه، ودفع (طالن) "talent" (واحدة قياس من الرصاص)".
قانون آشور رقم 19 : "إذا كان رجل يمارس الجنس مع جاره فقد وجهت إليه تهمة وإدانة، فإنه سيتم اعتباره مدنسا وسيعاقب بجعله مخصيا". (Nissinen، 2004، 24-28)
وحوالي 700 قبل الميلاد جرت عادة عرفت بإخصاء العبيد المثليين وخدام المنازل في إمارة أنشان (الأحواز حاليا) في الإمبراطورية الآشورية الوسطى والإمبراطورية الحديثة. (Wilhelm، 5/8/2014)

كما يظهر هناك تفاوت في السرد حول حقيقة موقف الحضارة الآشورية من مسألة المثلية الجنسية، ففي الطور الأول من عمر الإمبراطورية لم يكن هناك معارضة لها بل دخلت في صلب العبادة والتقرب من الآلهة، لكنها في طور الإمبراطورية المتوسطة والحديثة؛ ظهرت تشريعات وممارسات سلبية تجاه هذه المسألة. ولم نوفق بمصدر يدلنا على المثلية الجنسية بين الإناث عند الآشوريين رغم أننا نعرف أن الأنثى في حضارات ما بين النهرين كانت جزء من العبادة المقدسة للتقرب من الآلهة وأن هناك ممارسات مثلية بين كاهنات معبد "عشتار" (الآلهة الأنثى وآلهة الخصب والجمال) كجزء من طقوس العبادة لها.


3 - 2 : المثلية الجنسية عند الإغريق:
لم يكن زواج المثليين بين الرجال في اليونان معترفاً به قانونياً، لكن الرجال قد يشكلون علاقات طويلة الأمد تبدأ منذ العلاقة الجنسية المثلية بين بالغ ومراهق. ولم تكن هذه الشراكات مختلفة عن الزواج بين رجل وامرأة باستثناء أن الشخص الأكبر سنا كان يعمل كمعلم أو مرشد للمراهق. (ويكيبيديا، https://en.wikipedia.org/ ، 15/10/2019) وفي عام 630 قبل الميلاد تبنى الأرستقراطيون "الدوريون" في "جزيرة كريت" علاقات رسمية بين الأرستقراطيين البالغين والأولاد المراهقين. وهناك نقش من كريت يعتبر أقدم سجل للعلاقات الجنسية المثلية الغلمانية بين رجلين أحدهما بالغ والأخر مراهق. (Dover، 1978، 205) وفي عام 385 قبل الميلاد نشر "أفلاطون" كتابه "الندوة" وفيها تناقش كل من "فيدروس و إريكسماكيس و أريستوفان" ومثقفون يونانيون آخرون يقولون" "أن الحب بين الذكور هو الأعلى، بينما الجنس مع النساء هو شهواني ونفعي". رغم أن معلمه "سقراط" يختلف مع ذلك، وقد سيطر على نفسه، عندما حاول "ألكيبيادس" أحد أرستقراطي عصره والمعروف بجماله أن يغويه ويتقرب منه. (ويكيبيديا، https://en.wikipedia.org/ ، 15/10/2019)
ولقد كان لبعض الناس خلال حقبة أفلاطون "الجرأة للقول" بأن الجنس المثلي مخزي بأي حال من الأحوال، وثبُت أفلاطون نفسه على هذا الرأي في نهاية المطاف. (ويكيبيديا، https://en.wikipedia.org/ ، 27/9/2019) ففي عام 350 قبل الميلاد نشر "أفلاطون" حواره "القوانين" وفيه ينتقد الغريب الأثيني وأصحابه المثلية الجنسية باعتبارها شهوانيًة وخاطئة للمجتمع لأنها لا تؤدي إلى زيادة البشر وقد تؤدي إلى مواطنين غير مسؤولين. (ويكيبيديا، https://en.wikipedia.org/ ، 15/10/2019) رغم أنه تحدث في إحدى أعماله عن مدى البركة التي يحظى بها العاشقون المثليون، فرأها تفوق في مقدارها ما يحظى به غيرهم من الفانون. (ويكيبيديا، https://en.wikipedia.org/ ، 27/9/2019)
وفي عام 338 قبل الميلاد تم تدمير كتيبة ثيفا المقدسة، وهي كتيبة النخبة التي لم تهزم من قبل، والتي تتكون من مائة وخمسين من الأزواج المتحابين الذين يقيمون علاقات جنسية مثلية بين بالغ ومراهق، من قبل قوات فيليب الثاني المقدوني الذي تحسر على خسارتهم ومدح شرفهم. (George، 2000، 418)
وفيما يخص المثلية بين الإناث تندر المعلومات في العصور الإغريقية القديمة. ولعل أشهرها تعود إلى الشاعرة "صافو" كما ذكرنا في فقرة التعاريف، التي ولدت في جزيرة "لسبوس"، كان شعرها يتمحور حول الشغف بكلا الجنسين، والمصطلحين "ليزبيانيزم" و"الصافيَّة" اشتقا من اسمها واسم مسقط رأسها، وهما يدلان على المثلية الجنسية بين النساء (Denys، 1959، 142–146) ومن غير الواضح كيف كانت نظرة المجتمع في اليونان تجاه العلاقات المثلية بين النساء، و تم توثيق علاقات شبقية في أسبرطة، ويتحدث أفلاطون في مؤلفه "الندوة" عن نساء "لا يأبهن بالرجال، ومرتبطات بالنساء". ولكن تبقى السجلات التاريخية حول الحب والعلاقات الجنسية ما بين النساء شحيحة نسبياً. وغدا الزواج مع تطور المجتمع نظاماً متكاملاً، وأصبح يجري تعليم الفتيات منذ نعومة أظافرهن عن واجبهن ومصيرهن الكامن في منح حبهن للرجال وبذلك أصبح مصير النساء يرتبط بالزواج، وأصبح الحب المثلي بين النساء خارج أعراف وبنية التنظيم الاجتماعي الجديد. (ويكيبيديا، https://en.wikipedia.org/ ، 27/9/2019)
لم يكن التوجه الجنسي مُحدِداً اجتماعياً في اليونان القديمة، حيث لم يميز اليونانيون القدماء السلوك أو الرغبة الجنسية استناداً على جنس الشخص المشارك في العلاقة، وإنما تبعاً لدور كل طرف منهما في العلاقة، هل هو طرف موجب أم أنه طرف سالب. فتحتم على الطرف السالب تحمل الأعراف الاجتماعية في العلاقة، فهذه الحالة من التمييز كان يصاحبها حالة من "الوصم الاجتماعي"، وتحديد الدور في المجتمع، ففي الوقت الذي ارتبط فيه كون المرء موجباً بالرجولة والحالة الاجتماعية العالية والرشد، ارتبط الطرف السالب بالأنوثة والحالة الاجتماعية المتدنية وصغر السن. ويعتقد بعض الباحثين المعاصرين أن العلاقات المثلية مع الأطفال في اليونان القديمة، اقتصرت على الطبقة الأرستقراطية، ويرون في الإهانات الموجهة إلى الذكور في كوميديات "أريستوفان" مثالاً على نفور عامة الشعب من هذه الممارسة. لكن باحثون آخرون يؤكدون على كون المثلية الجنسية جزءاً من "الإيديولوجيا الجنسية للديموقراطية" في أثينا، والتي حظيت بها النخبة وعامة الشعب على حدٍ سواء؛ وحتى الباحثون الذين رأوا اقتصار العلاقات المثلية مع الصبية على الطبقات العليا أقروا بكون هذه الممارسة "جزء من البنية الاجتماعية للمدينة". (ويكيبيديا، https://en.wikipedia.org/ ، 27/9/2019)

من الواضح تأثر اليونان بالفلسفة في عصرهم، والتي بدورها كانت تؤثر على بنية المجتمع، وبالتالي كان العرف الفلسفي يمجد الذكر على حساب الأنثى، وهذا انعكس على نظرة العلاقة نفسها، فالطرف السالب يمثل الأنثى والموجب يمثل الذكر، وبالتالي هو المتفوق؛ ومنه لم يتم التطرق إلا ما ندر لمثلية الأنثى اليونانية، ورغم أن هناك انتشارا للمثلية بين الذكور البالغين والمراهقين لكنها لم تكن عبارة عن اتجاه جنسي بل تقليد، وهذا التقليد على ما يبدو كان مستنكرا اجتماعيا رغم انتشاره. والأكثر من ذلك ما تذهب إله الحضارات التي بنت موقفها من المثلية الجنسية على هذه النظرة كما سنرى في الحضارة الرومانية وكما سنرى في تحليل هذه الحضارات لاحقا.

3 - 3 : المثلية الجنسية عند الرومان:
تقول إليزابيث أبوت، مؤلفة كتاب ”تاريخ الزواج“ إن الرومان القدماء أو على الأقل الرجال أصحاب الثروة والنفوذ كان بإمكانهم الزواج من شركاء من نفس نوعهم. ورغم ذلك يبدو أن زواج المثليين لم يكن منتشراً في روما القديمة. فهو بطريقة أخرى كان فكرة لدى الناس. لكن كان القليل فقط منهم قادر على تنفيذها. (جيجل، 16/4/2015، https://zahma.cairolive.com/ ) وقد توزع النشاط الجنسي في روما القديمة إلى فرعان أولهما اتصف بكونه الطرف النشط / المهيمن / الذكوري وثانيهما كان الطرف السلبي / الخاضع / "المؤنث". كان المجتمع الروماني يتبع النظام الأبوي، وقد تمتع المواطنون من الذكور المولودين كأحرار بالحرية السياسية، والحق في حكم أنفسهم وأهل بيتهم. كان للرجال الرومان حرية الاستمتاع بممارسة الجنس مع الذكور الآخرين دون وجود أي نظرة تشير لخسارة الرجولة أو الوضع الاجتماعي، طالما أخذ الرجال الأحرار دوراً مهيمناً في العلاقة المثلية. كان الشركاء الذكور المقبولون هم من "العبيد والعاهرين والعاملين في مجال الترفيه مثل الممثلين المسرحيين والراقصين والمصارعين"، وقد وضعهم نمط حياتهم في المجال الاجتماعي الغامض المعروف باسم " infamis" (غير مرغوب بهم)، وقد اُستثنوا من الحماية الطبيعية الممنوحة للمواطنين، حتى ولو كانوا أحراراً بطبيعة الحال. رغم أنه يبدو تفضيل الرجال الرومان للشباب الذين تراوحت أعمارهم ما بين الثانية عشرة والعشرون عاماً، لاتخاذهم كشركاء جنسيين عموماً، إلا أن الصغار من الذكور الأحرار كانوا خارج الحدود المسموحة. (Craig، 1999، 304) (James، 2005، 231)
ومن الشواهد على موقف الحضارة الرومانية من المثلية الجنسية، أن الإمبراطور "إيلاجابالوس" (حكم من 218 إلى 222 قبل الميلاد) تزوج من "زوتيكوس"، الذى كان رياضياً شهيراً. كما أشار إلى عبد يملكه يدعى "هيرقليز" باعتباره زوجه. (جيجل، 16/4/2015، https://zahma.cairolive.com/ ) وفي عام 227 قبل الميلاد وخلال الجمهورية الرومانية، فرض قانون سكانتينيا (Lex Scantinia)عقوبات على من يرتكبون جريمة جنسية "الاغتصاب" ضد شاب حر. ولم يتم ذكره أو تطبيقه بشكل متكرر، ومن غير الواضح ما إذا كانت العقوبة هي الموت أو الغرامة. وتم استخدامه أحيانا لمقاضاة المواطنين الذكور، الذين مارسوا عن عمد الدور السالب في العلاقات الجنسية المثلية. (Thomas ، 1998، 140-141) وتم إحياء قانون "سكانتينيا" لاحقا من قبل الإمبراطور "دوميتيان" كجزء من برنامجه للإصلاح القضائي والأخلاقي. (James، 2005، 231)
في عام 27 قبل الميلاد تم تأسيس الإمبراطورية الرومانية تحت حكم الإمبراطور "أغسطس"؛ وفي فترة حكمه تم تسجيل أول حالة زواج للمثليين، وتم فرض ضرائب على الدعارة المثلية بين الذكور، وإذا تم القبض على مواطن حر أخذ دور السالب في العلاقة الجنسية مع ذكر حر آخر، فيمكن أن يفقد المواطن الروماني مواطنته. بمعنى جرى تحريم للمثلية الجنسية بين الذكور الرومان الأحرار. وفي عام 37 - 41 تم فرض ضرائب على الدعارة في أرجاء الإمبراطورية الرومانية في عهد الإمبراطور "كاليغولا"، والذي إما أخرج أو فكر في إخراج نقود تستعمل للدعارة حينها في روما. وفي عام 54 أصبح "نيرون" إمبراطورا لروما. وقد تزوج نيرون رجلين، هما: (pythagorus - Sporus )، في احتفالات رسمية قانونية، وتم منح "سبوروس" ما يشبه التاج الذي ترتديه زوجات القياصرة. و أقاموا مراسم زواج تقليدية. (ويكيبيديا، https://en.wikipedia.org/ ، 15/10/2019) شمل فستان الزفاف والمهر الذي يقدم للعروس. وقام نيرون بعملية إخصاء لـ "سبورس" ليكون أشبه بالنساء (جيجل، 16/4/2015، https://zahma.cairolive.com/ )
حوالي عام 195 قام "كلاوديوس ألبينوس" (Cloduis Albinus) أحد القادة البارزين في الجمهورية الرومانية وحاكم الجيوش الرومانية في بريطانيا، بمعاقبة من يقوم بالعلاقات الجنسية المثلية الغلمانية. (ويكيبيديا، https://en.wikipedia.org/ ، 15/10/2019) وفي عام 193 - 211 وضع الإمبراطور الروماني "سيبتيموس سيفيروس" زوج "جوليا دومنا" (امبراطورة رومانية من سورية - حمص، ووالدة الإمبراطور كركلا) عقوبة الإعدام على حالات الاغتصاب المثلي في أرجاء الإمبراطورية الرومانية. وهو ما عرف بـ "قانون جوليا" في فترة الجمهورية الرومانية، والذي عرّف الاغتصاب بأنه: "عمل جنسي قسري ضد صبي أو امرأة أو أي شخص" والمغتصب عرضة للإعدام. والرجال الذين تعرضوا للاغتصاب كانوا لا يفقدون مكانتهم القانونية أو الاجتماعية؛ على عكس أولئك الذين قدموا أجسادهم لاستخدامها من أجل متعة الآخرين كالعاهرين الذكور؛ حيث كانوا يعتبروا "infamis" (غير مرغوب بهم)، وكانوا يستبعد من الحماية القانونية المقدمة للمواطنين ذوي المكانة الجيدة، كما سبق وذكرنا. ولا يمكن اغتصاب العبد؛ ورغم أنه كان يعتبر ملكية وليس إنسانا بالقانون فقد كان يحق لمالك العبد مقاضاة المغتصب عن الأضرار التي لحقت بممتلكاته (بعبده). (ويكيبيديا، https://en.wikipedia.org/ ، 15/10/2019)
وفي عام 218 - 222 تزوج الإمبراطور الروماني "إيل جبل" رجل رياضي يدعى ( Zoticus)، في احتفال عام فخم في روما وسط فرحة وقبول المواطنين. ويبدو أن هذا الزواج دفع المثلين إلى النشاط في الحياة العامة؛ فقام الإمبراطور الروماني "سيفيروس ألكسندر" بعدها بسنوات بترحيل المثليين الذين كانوا ناشطين في الحياة العامة. وزاد العقوبات ضد المثلية الجنسية في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية. ووفقا لكتاب "التاريخ الأوغسطي"، قرر ألكسندر أن الضرائب على القوادين والعاهرات لا ينبغي أن تودع في المال العام. بل أمر بأن تستخدم في ترميم بعض المنشآت. وقيل بأن ألكساندر فكر في جعل دعارة الذكور غير قانونية. وبين أعوام 244 - 249 حاول الإمبراطور الروماني فيليب العربي منع ممارسة الدعارة الذكورية في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية. (ويكيبيديا، https://en.wikipedia.org/ ، 15/10/2019)
ورغم أن النساء الرومانيات اللواتي انتمين للطبقات العليا من المجتمع كانوا من المتعلمات وعرفن بكتابتهن للشعر، إلا أن أجزاء قليلة للغاية نجت من أية أعمال يحتمل أنها كتبت على يدهن. ولم يعطي الكتاب الرومان الذكور أي اهتمام لكيفية ممارسة النساء للنشاط الجنسي بشكل عام. (ويكيبيديا، https://en.wikipedia.org/ ، 3/6/2019) وبالمقابل هناك إشارات إلى وجود علاقات مثلية بين النساء في روما القديمة، لكن الأمر لم يصل إلى الزواج، فربما لأن تلك النسوة لم تمتلكن السلطة الكافية أو النفوذ للزواج بشكل فعلي. (جيجل، 16/4/2015، https://zahma.cairolive.com/ )
من الواضح تأثر المجتمع الروماني بالحضارة الإغريقية على صعيد فكرة "الفاعل والمفعول به" في العلاقة المثلية بين الذكور، وربطها بالوضع الاجتماعي للذكر الحر ذو المكانة الاجتماعية العليا في الإمبراطورية الرمانية والذي يجب أن يأخذ الدور الإيجابي - الفاعل في العلاقة وإلا فإن حقوقه كمواطن روماني تسقط عنه، وتأثرت نظرتهم أيضا بالإغريق فيما يتعلق بالإهمال التام لموضوع المثلية بين الإناث. وقد تفاوتت التشريعات المتعلقة بالسماح بالمثلية عبر تاريخ روما، لكنها في الفترة الأخيرة وتحديدا بعد صدور قانون جوليا بدأ يتجه اتجاه تحريم وتنظيم هذه العلاقة.

وبعدها دخلت الإمبراطورية الرومانية في انقسام ديني/سياسي بين الوثنية والمسيحية، فالشق الغربي منها ظل يحمل اسم روما وعاصمته روما وديانته الوثنية الرومية، والقسم الشرقي صار اسمه الإمبراطورية البيزنطية وديانته المسيحية وعاصمته القسطنطينية (استنبول اليوم)، وهو ما يدخل تحت بحث جديد في بحثنا حيث صار للثقافة الدينية المسيحية دورها في هذه الإمبراطورية فيما يتعلق بالموقف من المثلية الجنسية.

3 - 4 : المثلية الجنسية عند الديانات الإبراهيمية:

3 - 4 - 1 : المثلية الجنسية عند اليهودية:
ما بين 538 - 330 قبل الميلاد تمت كتابة التوراة وتحديدا "سفر اللاويين"، وقد اعتبر التوراة "اللواط" "شناعة" يجب أن يعاقب عليها بالموت. فقد ورد في التوراة: "لا تضاجع ذكرا مضاجعة امرأة، إنه رجس" ( اللاويين 18: 22) وكذلك ورد أيضا في السفر نفسه: "إذا اضطجع رجل مع ذكر اضطجاع امرأة فقد فعل كلاهما رجساً. انهما يُقتَلان. دمهما عليهما" (اللاويين 13:20). وقد طبق "قورش" ملك فارس هذا القانون على اليهود حينها. (ويكيبيديا، https://en.wikipedia.org/ ، 15/10/2019) لكن يقول جون بوسويل (John Boswell): "... إن سفر اللاويين في التوراة يخص حياة الرهبان اليهود وقد حدد كثيراً من الممنوعات عليهم: منعهم من أكل المحار و من ارتداء ملابس فيها أكثر من نوع واحد من القماش ولكن لا أحد ينظر إلى تحريم أكل المحار أو ارتداء البذلة المخلوطة ويتّبع هذه التحريميات اليوم، بل الكل يصرون على ذكر تحريم المثلية بين الرجال ويرون أن هذا تحريم على الجميع الرجال والنساء أيضاً، وليس تحريما كان يخص الكُهان فقط." (حبيب، 3/2/2008، 15 - 16)
أما بالنسبة لليهود المعاصرين، فتنقسم آراؤهم حيال المثلية الجنسية إلى موقفين: موقف اليهود المتشددين الذين لا يظهِرون تسامحاً أبداً تجاه الجنسيين المثليين، ويمنعون عليهم ممارسة المهن القيادية ويصرون على معاملتهم على أساس أنهم مرضى. (الخرسة، 2009، 70) وموقف متساهل لليهود الربانيين والحركات المحافظة، الذين يدعمون مسألة المساواة المدنية للمماثلين للجنس، ويستنكرون العنف الموجه ضدهم. ويرفضون الرأي الديني المعارض لهم، ويطلبون من رجال الدين مباركة زواج الجنسيين المثليين. (الخرسة، 2009، 70 - 71)

لكن لم يرد شيئا يخص المثلية الجنسية بين الإناث، رغم أن التوراة لا يخلوا من مشاهد فيها تجاوز للأعراف الاجتماعية وخصوصا من الناحية الجنسية، وقد يتضمن بعض الصور من سفاح القربى.

3 - 4 - 2 : المثلية الجنسية عند المسيحية:
تدين المسيحية المثلية الجنسية، وتحذر من مغبة القيام بهذا الفعل. وقد جاء في الإنجيل: "لا تضلوا، لا زناة، ولا عبدة أوثان، ولا فاسقون، ولا مأبونون، ولا مضاجعوا ذكور.... يرثون ملكوت الله" ( الانجيل - كورنثوس الأولى 10، 6:9).
"... لذلك أسلمهم الله إلى أهواء الهوان، لأن إناثهم استبدلوا الاستعمال الطبيعي بالذي على خلاف الطبيعة. وكذلك الذكور أيضا تاركين استعمال الأنثى الطبيعي. اشتعلوا بشهوتهم بعضهم لبعض، فاعلين الفحشاء ذكورا بذكور ونائلين في أنفسهم جزاء ضلالهم المحق" (رومية 1: 24-27).
بعد انتشار المسيحية في جسم الامبراطورية الرومانية واعتناق الكثير من الأباطرة الرومان للمسيحية وانقسام الإمبراطورية بين شرقية مسيحية / بيزنطية، وغربية وثنية / رومية؛ بدأت تظهر النقاط الثقافية التي تدل على تأثر الحضارات الموجودة بالفكر المسيحي، فثلا: عام 314 أقر مجلس أنسيرا (أنقرة الآن - تركيا) استبعاد الأسرار المقدسة لمدة 15 عامًا عن الرجال غير المتزوجين تحت سن 20 عامًا الذين يتم القبض عليهم في علاقات جنسية مثلية، واستبعاد الرجال مدى الحياة إذا كانوا متزوجين وعمرهم أكثر من 50 عامًا. وقد كان هذا المجلس ممثلاً لكنيسة أوروبا الشرقية. وفي فترة حكم الإمبراطور "قسطنطين" 306 - 337 دمر معبد "أفقا" في "فينيقيا" (قمة نائية في جبل لبنان)، والتي يستخدمها الكهنة الوثنيون المثليون، وأصدر قسطنطين قانونًا يأمر بإبادة الكهنة الوثنيين المثليين في مصر. ومع ذلك في عام 337 خلال فترة حكم كل من الإمبراطور "قنسطانطيوس الثاني" و "قنسطنس"، قاما كلاهما بعلاقات جنسية مثلية. وعادا بعدها في عام 342 بإصدار قانون يحظر زواج المثليين في روما ويأمر بإعدام المتزوجين منهم. وفي عام 390 أصدر الأباطرة المسيحيون الرومانيون "فالنتينيان الثاني" و "ثيودوسيوس الأول" و "آركاديوس" قوانين تحظر العلاقات الجنسية المثلية وتقضي بعقوبة الحرق حيا أمام الملأ لمن عثر عليه مذنبا. وفي عام 529 جعل الإمبراطور المسيحي "جستنيان الأول" المثليين جنسياً قرابين لمشاكل مثل "المجاعات والزلازل والأوبئة" ودخل هذا القانون عام 533 حيز التنفيذ في الإمبراطورية البيزنطية. (ويكيبيديا، https://en.wikipedia.org/ ، 15/10/2019)
حديثا أصدر الفاتيكان وثيقة تمنع الشاذين جنسياً من كل الطقوس الدينية وحتى من الزواج. إلا أن هذا الرفض لم يمنع الكنيسة من إبداء بعض اللين، ففرقت بين من له مجرد ميل تجاه الجنسية المثلية دون ممارستها، وبين من يمارس الجنسية المثلية فعلياً، فحرمت هذا الفعل على الأخير، وأظهرت التسامح على الأول. والجدير بالذكر أن مما ساهم في تغيير الكنيسة لمواقفها ظهور آثار الشذوذ عند بعض الكهنة الذين اخذوا يبررون ميلهم الجنسي بقولهم: "إن البتولية موجهة بالذات إلى الكهنة المغايرين للجنس، وهي مطلوبة منهم فقط، وعليهم الحفاظ عليها حسب ما تسمح لهم قدرتهم على تحملها. أما الكهنة المماثلين للجنس فهم يفتخرون بهذا التوجه الجنس". والجدير بالذكر أن الكنيسة المسيحية الأرثوذوكسية تتعرض لضغوطات من قبل الشاذين جنسيا من أجل تغيير مواقفها من الشواذ، ومن هذه الضغوطات ما تعرضت له من أجل مباركة زواج المثليين والسماح بتغيير الجنس وغيره. ولكن الكنيسة حافظت على موقفها الذي يدين ممارسة الشذوذ واعتبرته خطيئة وفعلا لا أخلاقيا، وهي تعتقد بأن واجب الكنيسة هو السعي إلى إصلاح الشاذ عن طريق شفائه روحياً وجسدياً وليس مباركة ممارساته أو وإيجاد القوانين لتشريعها. (ملكي، https://www.orthodoxlegacy.org/. 30/12/2011) ارتبط تاريخ المسيحية بمناوئة المثلية الجنسية وقد كان قاسيا جدا في مواجهتها باعتبارها خطيئة لا تهاون فيها.

3 - 4 - 3 : المثلية الجنسية عند الإسلام:
1- موقف الشريعة الإسلامية من اللواط:
لم ترد لفظة لواط في القرآن الكريم بشكل مباشر، إنما ورد ذكر حكم قوم لوط عليه السلام الذين اجتمعوا على ارتكاب هذه الفاحشة. وقد ورد أيضاً وصف لحالتهم وسوء فعلتهم بقول الله عز وجل: ﴿ وَلُوطاً إِذ قَالَ لـِقَومِهِ أتَأتُونَ الفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِن أَحَدٍ مِّنَ العَالَمِينَ * إِنَّكُم لِتَأتُونَ الرِّجَالَ شَهوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ بَل أَنتُم قَومٌ مُّسرِفُونَ﴾ [ الأعراف /80-81] . كما جعل سبحانه عملهم من الخبائث بقوله :﴿ وَلُوطاً آتَينَاهُ حُكماً وَعِلماً وَنَجَّينَاهُ مِنَ الـقَريَةِ الَّـتِي كَانَت تَّعمَلُ الخَبَائِثَ إِنَّهُم كَانُواْ قَومَ سَوء ٍ فَاسِقِينَ﴾ [ الأنبياء /74] . وبيّن أيضا أنّ ما يعملونه عمل منكر، ووصفهم بالإفساد والفساد، قال تعالى: ﴿أَئِنَّكُم لـَتَأتُونَ الرِّجَالَ وَتَقطَعُونَ السَّبِيلَ وَ تَأتُونَ فِي نَادِيكُمُ المُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَومِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائتِنَا بِعَذابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ رَبِّ انصُرنِي عَلَى الـقَومِ المُفسِدِينَ﴾ [ العنكبوت / 29-30] . ووصفهم الله تعالى بالظلم بقوله :﴿ وَلَمَّا جَاءَت رُسُلُنَا إِبرَاهِيمَ بِالبُشرَى قَالُواْ إِنَّا مُهلِكُواْ أَهلِ هَذِهِ الـقَريَةِ إِنَّ أَهلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ ﴾ [ العنكبوت /31] .
يقول البعض أن في قصة قوم لوط في التوراة كان التشديد يقع على نقطة معاقبة قوم لوط بسبب محاولتهم لاغتصاب أحد زوار النبي لوط والذي كان ملاك ينزل من عند الله تعالى. ويقول جون بوسويل (John Boswell): "القصد من هذه القصة كان تهذيب القبائل باتجاه معاملة إنسانية مع الأغراب ومارّي الطريق". (حبيب، 3/2/2008، 15 - 16) وهناك ترابط بين أسلوب سرد قصة قوم لوط وقصة قوم ﺛمود في الكتاب الكريم، وأن قوم ﺛمود أبادهم الله لكفرهم وعدم قبولهم للرسول صالح، كما كان عدم قبول قوم لوط له كرسول. ولكن فقهاء اليوم يصرون على استخلاص العدوانية للمثليّة من قصة قوم لوط القرآنية، ويعمموا تلك العدوانية لكل المثليين في ﻛﻝ زمان ومكان. (حبيب، 3/2/2008، 14)
في السنة النبوية الشريفة، فإن الأحاديث التي وردت عن اللواط عديدة، منها قوله :(ملعون من عمل عمل قوم لوط) رواه الترمذي. وقوله :(لعن الله من عمل عمل قوم لوط ، لعن الله من عمل عمل قوم لوط ، لعن الله من عمل عمل قوم لوط) رواه احمد.
وهناك أحاديث صحيحة توجد في صحيح مسلم وصحيح بخاري تقول في فصل اللباس. فعند البخاري أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال "لعن الرجال المتشبهين بالنساء والنساء المتشبهات بالرجال." وهناك حديث آخر يتكلم عن مخنث في منزل أم سلمة (زوجة الرسول) وفي الحديث يمنعه الرسول (صلى الله عليه وسلم) من الدخول على الحرم كما كان يُسمح له سابقاً، بسبب وصفه الجنسي لإحدى النساء أمام الرسول وواحد من صحابته. فمنعه الرسول (صلى الله عليه وسلم) من الدخول على النساء ليس بسبب مثليّته بل بسبب غيرته على نسائه. ونشاهد هنا أن الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) ما كان يعاقب المخنثين. وإن كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) قد لعن النساء اللواتي ترتدين لباس الرجال والرجال اللذين يفعلون كذلك بثياب النساء، هذا الكلام لا يعني أنه ضد المثلية الجنسية. (حبيب، 3/2/2008، 14)
أما أصحاب رسول الله فقد اتفقوا على أن من يعمل عمل قوم لوط فإن جزاؤه القتل، وحجتهم في ذلك قول رسول الله : ( من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ) رواه أحمد.
وجاء الخلاف بين أصحاب رسول الله في كيفية قتله، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجماعة من الصحابة والتابعين: "يرمى بالحجارة حتى يموت أحصن أو لم يحصن". وحرق اللوطيين بالنار أربعة من الخلفاء: "أبو بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن الزبير وهشام بن عبد الملك". وقال عبد الله بن عباس: " ينظر إلى أعلى ما في القرية فيرمي اللوطي منها منكساً، ثم يتبع بالحجارة". وأخذ ابن عباس هذا الحد من عقوبة الله لقوم لوط. (الجوزية، 1987، 187)
عند البحث في هذا الموضوع تبين وجود رأي آخر يقول أن الشريعة تحكم على المثلية كجريمة لنفس الحادثة السابقة، لكن تنسبها إلى علي بن أبي طالب؛ وبالفعل فقد وجدت شبهة في نسب الحادثة بين الرواة إن كانت لعبد الله بن عباس أم لعلي. فبعد موت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أصبح علي بن أبي طالب في مكانة الحاكم لفترة قصيرة. وفي يومٍ من الأيام ألقي القبض على شابين يمارسان الجنس المثلي، وتبين للجميع حينها أن لا أحد من صحابة الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان يستطيع أن يذكر حديثاً له عن كيف تُعاقب المثلية أو إذ هي تُعاقب على الإطلاق. وحينها أمر ابن أبي طالب بإعدام الشابين من خلال رميهما من فوق سطح ورميهما بالحجارة. ويعد هذا الحدث، أول عقاب رسمي عند الإسلام. (حبيب، 3/2/2008، 12 - 13)
في القرون الإسلامية الأولى ما كان هناك اتفاق عالمي بين الفقهاء حول المثلية وبعضهم تقبلوا المثلية. "حسن البصري" مثلاً، أو "ابن الحزم" اللذان كانا يتعاملان مع رجال مثليين بشكل صريح وايجابي واللذان كتبا عن المثلية بشكل طبيعي ومسالم أو قاضي المسلمين "يحيى بن أكثم" في بغداد على عهد الخليفة "المأمون"، و" بن أكثم" كان مشهوراً لحبه للواط، وهو لم يكن يعاقب العلاقات والأفعال المثلية بل عاقب الزنا بشكل صارم. وهناك أيضاً ما شاهده "ابن حزم" في القرن الحادي عشر الميلادي عند بعض القبائل الإسلامية التي كانت تسمح بالمثلية، وبعض القبائل الأخرى التي كانت تحدها وتعاقبها كالزنا. وهو "ابن حزم" نفسه الذي يثير انطباعاً لقصة قوم لوط في القرآن الكريم. ويصر أن هذه القصة ليست قصدها عقاب المثلية بل عقاب الكفار. فلوط يعاتب قومه لأنهم قد هجروا نسائهم لحب الرجال وليس لحبهم للرجال فقط. (حبيب، 3/2/2008، 13)
2- موقف الشريعة الإسلامية من السحاق:
لم يذكر السحاق وحكمه بشكل صريح في القرآن الكريم، أما في السنة النبوية الشريفة فهناك أحاديث كثيرة تنهي وتحذر من عواقبه، فقال :(السحاق بين النساء زنا بينهن). رواه الطبراني في الأوسط. وقال رابطا هذا الفعل وبين اقتراب الساعة: ( إذا استحلت أمتي ستراً فعليهم الدمار: إذا ظهر فيهم التلاعن، وشربوا الخمور، ولبسوا الحرير، واتخذوا القيان، واكتفى النساء بالنساء والرجال بالرجال) رواه الطبراني في الأوسط. وقد استند فقهاء الإسلام على هذه الأحاديث من أجل تحريم السحاق واعتباره من الكبائر، وأوجبوا عليه التعزير، واعتباره معصية لا حد فيها ولا كفارة. (قاطرجي، 2017)
لقد لاحظ الفقهاء الأوائل أن القرآن الكريم لا يتكلم بسلبية واضحة أو صارمة عن المثلية وبدأ مشروع رفض ومعاقبة المثلية عند بعض الفقهاء كالزهري، أبو هريرة، السيوطي، المشتولي، واﻟﻤتقي الهندي والذهبي وغيرهم. وهؤلاء الفقهاء بحثوا ووجدوا بعض الأحاديث المقطوعة التي ادعت بأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان قد قال أن "السُحاق هو زنا النساء بينهن" وأنه قال أن "يقتل الفاعل والمفعول به" بالعمل اللواطي بين الرجال. (حبيب، 3/2/2008، 12 - 13)

هنالك اعتقادات متداولة في مجتمعاتنا الشرقية أن المثلية هي شيء مستورد من الغرب، ولكن الحقيقة أن المثلية الجنسية توجد في كل أنحاء العالم وفي معظم المجتمعات عبر التاريخ. وكان المفهوم عند الغربيين في أواخر القرن التاسع عشر أن بلاد العرب الصحراوية نابعة بهذه الممارسات والعلاقات. وكان الغربيون يعتقدون حينها أن المثلية أصلها عربية وأنهم استوردوها من الشرق، فهناك الكثير من الأدلة على وجود المثلية الجنسية في مجتمعاتنا الشرقية قبل الإسلام حتى. (حبيب، 3/2/2008، 17) وكما أوردنا من شواهد تاريخي إن صح ما تداولته الأبحاث حول عمر حادثة قوم لوط، فإن المثلية الجنسية تكون سابقة على قوم لوط وبالتالي لن تكون الرواية صحيحة أنهم أول من قام بفعل اللواط حسب المتعارف عليه استنادا إلى تلك الحادثة؛ والعديد من المسلمين يؤمنون أن الإسلام والمثلية لا يصلحان معًا، وإن اصطلحا يكون هذا مبني على خطأ كبير وتجني على الدين. ومن الممكن أن نرى أن أي محاولة لإنتاج إسلاميات قابلة للمثلية هي محاولة يائسة وحتى مستحيلة. ولن يكون هناك فلسفات إسلامية قابلة للمثلية تقبل الزواج بين المثليين، والإعلان عن العلاقة من خلال هذا الزواج، فمن الواضح أن الإسلام لا يسمح بأي علاقة جنسية خارج إطار الزواج، وسوف تبقى الزنا من أكبر الجرائم الدينية. بل لا وجود لنهج إسلامي قابل للمثلية فلا يزال يفرض على المؤمنين المثليين أدوار ذكورية وأنثوية بالمعنى التقليدي، لأن المجتمعات الإسلامية لا تزال تتطلب هذه الأدوار – من ست المنزل إلى رجل البيت - لتنظيم الحياة الزوجية والمنزلية.

4: المثلية الجنسية بين الذكور كرد فعل تاريخي على مكانة المرأة:
نتناول في هذه الفقرة مقتطفات من كتاب للدكتورة العربية المصرية "نوال السعداوي" بعنوان "الرجل والجنس - 1978" وفيه تحليل تاريخي للمثلية الجنسية بين الذكور كرد فعل اجتماعي ونفسي على مكانة المرأة منذ الفترة "الأمومية":
كما تحدثنا عن أفلاطون في فقرة الحضارة اليونانية فقد انتشر اعتقاد عند اليونان القدماء بأن عشق الرجل للرجل أعلى قدرا من عشق الرجل للمرأة، وعبد اليونانيون ذكورتهم وبالذات العضو الجنسي. وكانوا يفخرون بأن عشق الرجل للرجل كان يمارهم أجدادهم "الدوريون"، وكتب أفلاطون في محاوراته على لسان أرستوفان أن: "الرجال الذين يهبون أنفسهم للشذوذ الجنسي جسدا ونفسا هم الذين يصلحون للحكم فقط". ويفرق أفلاطون بين نوعين من الحب: الحب المدنس وهو لغاية الإشباع الجنسي؛ والحب المقدس وهو التوافق الروحي والفكري! ولا يمكن أن يحدث إلا بين الرجال. وبهذا لم يكن للنساء مكانا في الحب الأفلاطوني؛ ولا في مدينته الفاضلة! وهكذا يستطيع الرجل أن يضع دائما ثوب الفضيلة والقداسة على كل رغباته حتى الشاذة منها؛ أما المرأة فإن رغباتها الطبيعية مدنسة فقط لأنها إمرأة. (السعداوي، 1976، 28) وبالفعل فقد كان من النادر أن نجد توثيقا للنساء الذين اشتهرن بمثليتهن عبر التاريخ، وحتى في بحث الدكتورة حبيب قد أوردت أن هناك المئات من الشاعرات اللاتي نظمن الشعر عن معشوقاتهن وعن المثلية الجنسية لكن نادرا ما سلمت مثل هذه الملفات عبر التاريخ العربي والإسلامي بل إن الشاعرات عموما حتى السويات منهن لقين نفس المصير. وحتى بين الحضارات القديمة تم تجاهل أو إهمال أو اتلاف متعمد لكل توثيقات المثلية الأنثوية.
انتشر الشذوذ الجنسي بين الرجال في العصور الوسطى وازداد في الفترة التي حقرت فيها المرأة أو نادى فيها رجال الكنسية بالصوم الجنسي وتحريم الاتصال بالأنثى تشبها بالمسيح الذي لم يلمس امرأة؛ وتشبها بالعذراء التي لم يلمسها رجل؛ وفي هذه الفترات كان الانجذاب نحو الرجل يبدو أقل خطيئة! وانتشر الشذوذ الجنسي بين الرجال وبالذات رجال الكنسية الذين حرم عليهم القانون الزواج. (السعداوي، 1976، 29)
لكن تطور المجتمع الأوربي وازدياد احتياجاته اصطدم بالأفكار الدينية؛ ما أسفر عن صراع انتهى لصالح الأفكار الجديدة المرتبطة بالحاجات الاقتصادية والاجتماعية، وحتى لا تعترف الكنسية بالهزيمة طورت أفكارها واعترفت بالقيم الجديدة لتبقي الناس مؤمنين بها، واجتاحت أوربا موجة الانفتاح الجنسي، وصاحب هذا الانفتاح ظهور رجال مفاخرون بأي ممارسة جنسية حتى لو كانت شاذة! ومنهم علماء وفنانون وشخصيات هامة على كافة الصعد. (السعداوي، 1976، 30)
وبعدها حصلت شبه مباراة بين الدول الأوروبية لإعلان تحررها الجنسي بإلغاء القوانين القديمة التي تقيد سلوك الناس، وفرض سلوك معين عليهم، ومن بينها السلوك الجنسي الذي اعتبر مسألة خاصة بالناس، لا دخل للدولة فيها، إلا في حال الاعتداء على شخص آخر بالقوة. وكانت انجلترا أول دولة تلغي القانون المحرم للشذوذ الجنسي؛ وحتى رفض العلماء استخدام مصطلح الشذوذ الجنسي على اعتبار أن النشاط الجنسي ليس فيه ما هو شاذ وما هو سوي، وأن النشاط السوي هو الذي يحقق لصاحبه الإشباع بصرف النظر عن شكل الممارسة. (السعداوي، 1976، 32)
وقد وجد العلماء أن الطاقة الجنسية ﻻ تتحول إلى فكر خلاق عند عدم اشباعها، كما كان سائدا، بل تحرف إلى طرق أخرى، وتم تخطئة الفكرة القائلة أن الحاجة الجنسية مثلها مثل الحاجة إلى الطعام تحتاج إلى اشباع ليعود الفرد إلى الاستقرار؛ لأنها تساوي بين تعامل الإنسان مع الطعام وتعامله مع إنسان آخر. ولعل هذه هي أم مشكلات الحضارة التي نعيشها. لأن عملية تشيئ المرأة (تحويل المرأة إلى شيء) سلبت منها انسانيتها وسببت لها وللرجل المشاكل؛ ومنها تفضيل الرجل لعلاقته بالرجل بغض النظر عن طبيعة العلاقة. لأنه ينظر إلى الرجل كإنسان وليس شيئا كالمرأة. وهذه هي احدى الأسباب للشذوذ الجنسي، بل إن الرجال يفاخرون بعلاقتهم الشاذة مع الرجال لأنهم يعتبرون أنهم يتعاملون مع الجنس الأعلى أو الأقوى؛ وربما كان هذا هو السبب لاهتمام المجتمعات بشذوذ الرجال ببعضهم، دون الاهتمام بشذوذ النساء. فالجنس الأعلى دائما هو محط الأنظار على عكس الجنس الأضعف حيث لا وجود لما يلفت النظر إليه حتى لو كان الشذوذ عينه. (السعداوي، 1976،34- 35)
وجهة النظر هذه تعتمد على حقائق تاريخية وتحليل دورة الحياة من المجتمع "المتريركي" إلى المجتمع "البتريركي"، بحث يمكن القول أن النظر إلى المرأة بصورة فوقية انعكس تماما على مسألة الجنس وبالتالي تم التعبير عنه أن ممارسة الذكر المثلية هي الأرقى أيضا، لأنه المتفوق. لقد كان تحويل المرأة إلى شيء وربطها بالخطيئة مرتبط تاريخيا بالانتفاض على عبادة "الآلهة الأنثى" التي كانت المرأة فيها هي أداة لبلوغ الكمال الديني من خلال "الجنس المقدس"، وقد بدأت هذه الانتفاضة على العصر المتريركي مع الحضارات السومرية في عهد "أوروكاجينا" وتم تعزيزه مع قانون الملك البابلي "حامورابي" وظهور الأساطير البابلية كأسطورة "جلجامش"، وبعد أن ظهرت العقائد الإبراهيمية و"قصة الخلق" بل والفلسفات اليونانية، كلها حولت المرأة إلى شيء وصارت الممارسة الجنسية معها دون معنى أو قيمة في "المثلية الجنسية الشعائرية" وهو ما سنتناوله في الفقرة القادمة.

5: التحليل الاجتماعي في النظر إلى مسألة المثلية الجنسية ثقافيا:
تختلف المواقف الاجتماعية تجاه المثلية الجنسية اختلافا كبيرا في مختلف الثقافات والحقب التاريخية، كما هو الحال بالنسبة للمواقف تجاه الرغبة والنشاط والعلاقات الجنسية بشكل عام. فجميع الثقافات لديها قيمها الخاصة فيما يتعلق بالنشاط الجنسي المناسب و النشاط الجنسي غير اللائق; وحتى لديها بعض العقوبات للمثلية الجنسية أو النشاط الجنسي غير اللائق، في حين أن ثقافات أخرى قد لا توافق على هذه الأنشطة في جزء منها. لقد اعتبرت العديد من ثقافات العالم فيما مضى بأن الجنس الإنجابي (المغايرة الجنسية) ضمن علاقة مُعترف بها هو القاعدة الجنسية السوية، والتي تكون في بعض الأحيان بشكل حصري، وأحياناً أخرى إلى جانب معايير الحب من نفس الجنس سواء كانت هذه المعايير عاطفية أو حميمة أو جنسية. ولاحقت بعض الطوائف الدينية ولا سيما تلك المتأثرة بالثقافات الإبراهيمية، الأفعال والعلاقات الجنسية المثلية في فترات زمنية مختلفة، وعملت على تطبيق عقوبات صارمة في بعض الحالات.
وفي العلوم الاجتماعية، هناك خلاف بين وجهات النظر "الجوهرية" و "البنائية" حول المثلية الجنسية. حيث ينقسم النقاش بين من يستخدمون مصطلحات مثل "الشاذين" و "الأسوياء"، من حيث اشارتها إلى الخصائص الموضوعية والثابتة للأفراد المثليين عن الذين يعتقدون أنها ناتجة عن التجارب والممارسات الخاصة الثقافية والاجتماعية. بينما يعتقد "الجوهريون" عادة أن التفضيلات الجنسية تحددها القوى البيولوجية، بينما يفترض "البنائيون" أن الرغبات الجنسية مكتسبة. (Halperin، 1990، 15) وبعض العلماء مثل ميشيل فوكو اعتبروا هذا النوع من الجنس مخاطرة من ناحية إدخال مفارقة تاريخية على البناء المعاصر للجنس، (Boswell، 1989، 17-36 ) رغم أن علماء آخرين يؤيدون العلاقات المثلية. وصرح فيلسوف العلوم "مايكل روس" بأن مقاربة البناء الاجتماعي، التي تتأثر بفوكو ياما، تستند إلى قراءة انتقائية للسجل التاريخي الذي يخلط بين وجود أشخاص مثليين جنسياً بالطريقة التي يتم تصنيفهم بها أو معاملتهم. (Ruse، 2005، 399)
حيث يحذّر الباحثون المعاصرون من تطبيق الافتراضات الغربية الحديثة عن الجنس والنوع الاجتماعي على أوقات وأماكن أخرى، فإن ما يبدو وكأنه جنس مثلي لمراقب غربي قد لا يكون «مثليًا» أو «جنسيًا» على الإطلاق بالنسبة للأشخاص الذين يمارسون هذا السلوك. فعلى سبيل المثال، يُنظر إلى الأنثى التي تعمل وترتدي ملابسها على نحو ذكوري وتتزوج من امرأة في ثقافات شعب "بوقس" من "جزيرة سولاوسي"، بأنها تنتمي إلى "جنس ثالث"؛ لكن هذه العلاقة بالنسبة إلى بوقس ليست مثلية، وفي حالة تقاليد «شعب سامبيا» البدائي يبتلع الأولاد في "غينيا الجديدة" السائل المنوي من الذكور الأكبر سنًا، اعتقادًا منهم في تقاليدهم أن هذا سيساعد في نضجهم؛ ومن المثير للجدل أن فهم هذا الأمر كفعل جنسي بشكل مطلق كان موضع جدل. (ويكيبيديا، https://en.wikipedia.org/ ، 19/11/2019) فإن انتهاج نمط جنسي ذي صبغة طقوسية خالية من النزعة الشهوانية كهذه الممارسات ساعدت علماء السلوك والأنثروبولوجيا على فصل سلوك الفرد الجنسي عن توجهه الجنسي، ورغبته الجنسية عن هُويته الجنسية، ليصبح لكل منهم تعريفا مستقلا، عوضًا عن الخلط بينهم وإدراجهم جميعًا تحت مسمى «الهُوية الجنسية»، لشدة تشابههم. فالمثلية الشعائرية كان لها تأثير بالغ في شعوب "جزر المحيط الهادي" مثلا، لكن النموذج الأكثر تأثيرَا وانتشارًا كان في المجتمعات اليونانية القديمة، أو ما عُرف بالمثلية العرفية، فـفي قمة ازدهار الثقافة اليونانية، كان يُنظَر للجنس كسلوك مكتسَب أكثر من كونه غريزة فطرية، لذا كان شائعًا ظهور علاقات مثلية بين الصِبية والذكور الأكبر سنًّا، في إطار اجتماعي يتخذ فيه كل صبي منهم ما اصطُلح على تسميته بـ «المُعلِّم»، لتلقينه كل ما سيخوَّل إليه لاحقًا، فيعلمه كيف يتصرف بشجاعة، ويلقنه معنى الكرامة، وكذلك أصول ممارسة العلاقة الحميمية. (مقيدم، 6/1/2017، https://manshoor.com/ )

والنقطة المهمة تكمن في التمييز بين المحظورات الجنسية والمثلية الجنسية؛ فليس من الجائز خرق القوانين الاجتماعية تحت شعار الحرية الجنسية والهوية الجنسية. سابقا اختلفت الاتجاهات والمواقف الحضارية من المثلية الجنسية وممارستها، واليوم أصبح هناك قوانين تسمح بها بل وتعاقب من يقف في وجهها، ونفس الشيء هو الحال بخصوص المحظورات الجنسية كسفاح القربى؛ فكما هو الحال مع المثلية الجنسية تاريخيا يوجد في التاريخ الكثير من الشواهد على سفاح القربى، بين قانونية ومسموحة وممنوعة ومعاقب عليها؛ ولا أستبعد أن يصبح الأمر كما هو الحال بخصوص المثلية الجنسية أن يتم تشريعها والسماح بها تحت مسمى حرية الممارسة الجنسية.

* الخاتمة والنتائج:

تناولت هذه الدراسة ثلاث مدنيات ثقافية تاريخية هي "الأشورية - الإغريقية - الرومانية" وثلاث تيارات ثقافية دينية هي العقائد الإبراهيمية "اليهودية - المسيحية - الإسلامية". وتعرفت على موقف كل واحد منها تاريخيا وتشريعيا وتنفيذيا تجاه المثلية الجنسية. ومن خلال المقارنة بينها تم التوصل إلى مجموعة من النتائج منها:
- ارتبطت المثلية الجنسية في الدولة الآشورية القديمة بالعبادة عموما، وخصوصا عبادة "الآلهة الأنثى - عشتار"، وكانت المثلية الجنسية للكهنة الإناث هي السائدة كطقس مقدس أو مثلية شعائرية.
- تم تنظيم تشريعات تحمي من الاغتصاب المثلي وتحرم المثلية الجنسية بين الذكور في الدولة الوسطى والحديثة.
- لم يكن هناك زواج مثلي.
- تأثر اليونان بالفلسفة في عصرهم وتحديدا فلسفة أفلاطون، وكان العرف الفلسفي يمجد الذكر على حساب الأنثى، فالطرف السالب في العلاقة المثلية بين الذكور يمثل الأنثى والموجب يمثل الذكر.
- لم يتم التطرق إلا ما ندر لمثلية الأنثى في اليونان القديم. وتم توثيق الشاعرة المثلية "صافو" التي سميت المثلية الأنثوية "السحاق" نسبة لها.
- لم يكن هناك زواج مثلي لكن توجد علاقات مثلية طويلة زمنيا تشبه الزواج.
- تأثر المجتمع الروماني بالحضارة الإغريقية على صعيد فكرة "الفاعل والمفعول به" في العلاقة المثلية بين الذكور.
- الذكر الروماني الحر يجب أن يأخذ الدور الإيجابي - الفاعل في العلاقة الجنسية المثلية وإلا فإن حقوقه كمواطن روماني تسقط عنه.
- هناك ضعف في توثيق موضوع المثلية بين الإناث.
- كان الزواج المثلي موجودا في روما.
- تفاوتت التشريعات المتعلقة بالسماح بالمثلية عبر تاريخ روما، لكنها في الفترة الأخيرة وتحديدا بعد صدور قانون جوليا بدأ يتجه اتجاه تحريم وتنظيم هذه العلاقة.
- وفي الثقافات التي تتأثر بالأديان الإبراهيمية، أٌقر اللواط و السحاق كانتهاك للقانون الإلهي أو جريمة ضد الطبيعة. وتمت إدانة ممارسة الجنس المثلي، رغم أن المثلية، تسبق الاعتقادات الابراهيمية. وكانت موجودة في غالب الحضارات القديمة، وليس كما تدعي الديانات الابراهيمية.
- تعتبر احدى التحليلات أن الاهتمام بتوثيق المثلية الجنسية بين الذكور هي رد فعل تاريخي على مكانة الأنثى، لأن الذكر ذو المكانة الأعلى هو محط الاهتمام وبالتالي لا يتم اعطاء أي أهمية للمرأة إن هي مارست المثلية أم لا.
- هناك فارق بين المثلية الجنسية من حيث الممارسة إن كانت ممارسة نابعة عن ثقافة اجتماعية سائدة، أم أنها نابعة من اتجاه ورغبة جنسية.
- ما يعتبر مثلية جنسية في مجتمع ما ليس بالضرورة هو مثلية جنسية في مجتمع آخر، فلا يجب التعميم.
- ممارسة المثلية الجنسية والزواج المثلي والتشريع القانوني للمثلية تاريخيا موجود في كل المجتمعات والثقافات ولو بشكل متفاوت.

يبقى أن نحاول الاجابة على سبب الملاحظة العامة حول زيادة أعداد المثليين هذه الأيام؛ فقد يكون لنوع التربية الجنسية دور مهم في التوجيه الجنسي، فالأنثى والذكر الغيريان جنسيا عندما يقومان بتربية أطفالهما، ستكون تربيتهم على أساس الغيرية الجنسية على الأغلب والعكس صحيح. وقد يكون لموضوع الثقة بالنفس جنسيا دور مهم في التوجيه الجنسي، خصوصا مع الإعلام الذي يروج لمثل هذه الممارسات، وبالتالي ينبه أصحاب الاتجاهات الجنسية المثلية إلى اتجاهاتهم، ويبالغ بما يتعلق بالقدرات الجنسية الخارقة، ويظهر أبطالا خارقون جنسيا، كما في أفلام الجنس، وهو من الأمور غير الشائعة، والذي قد يصيب البعض بالإحباط من مسألة الغيرية الجنسية، لشعورهم بالنقص تجاه اشباع رغبة الجنس الأخر، أو عدم الكفاءة الجنسية نتيجة مقارنتهم لأنفسهم بالممثلين، وبالتالي قدي يكون الانطواء مع عدم وجود داعمين أو مرشدين وموجهين لهم بداية للاتجاه نحو اشباع الغريزية الجنسية بطريقة مثلية.

المراجع:
1. الجوزية، ابن قيّم، (1987)، "الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي"، مكتبة التربية، القاهرة، مصر.
2. الخرسه، هدى، (2009)، "الشذوذ الجنسي عند المرأة"، دار النفائس، بيروت ، لبنان.
3. السعدواي، د. نوال، (1976)، "الرجل والجنس"، كتب عربية، https://www.kotobarabia.com .
4. جيجل، لورا، (16/4/2015)، " زواج المثليين عبر التاريخ.. من نيرون إلى قبائل إفريقيا "، live science، ترجمة: محمد الصباغ، https://zahma.cairolive.com/ .
5. حبيب، د. سمر ( 3/2/2008)، "الشذوذ الجنسي لدى النساء في الشرق الأوسط: التاريخ والمفهوم" ، بيت أصوات ، حيفا ، فلسطين .
6. قاطرجي ، د. نهى (2017) ، "الشذوذ الجنسي في الفكر الغربي" ، مركز الفكر الغربي ، الرياض، السعودية.
7. مباردي، رويدا، (4/6/2009)، "المثليون في سورية يخرجون من الظل بوقع الكتروني وبيان يدعو إلى التسامح"، https://www.hdhod.com/ .
8. مقيدم، إسراء، (6/1/2017)، "عندما كانت المثلية واجبا اجتماعيا"، https://manshoor.com/ .
9. ملكي، أنطوان، (30/12/2011)، "موقف أرثوذوكسي من الشذوذ الجنسي"، مجلة أرثوذكسية شهرية – ISSN 1814-7038، https://www.orthodoxlegacy.org/.
10. منتصر، د خالد، ( 19/4/2006)، "قراءة فى تاريخ الشذوذ الجنسي - الفصل الثالث"، إيلاف جريدة يومية إليكترونية تصدر من لندن منذ 21/4/2001.
11. ويكيبيديا ، (3/6/2019)، "المثلية الجنسية في روما القديمة"، https://en.wikipedia.org/.
12. ويكيبيديا ، (27/9/2019)، "المثلية الجنسية في اليونان القديمة"، https://en.wikipedia.org/.
13. ويكيبيديا ، (15/10/2019)، "التسلسل الزمني لتاريخ المثليين"، https://en.wikipedia.org/.
14. ويكيبيديا ، (14/11/2019)، " Homosexuality"، https://en.wikipedia.org/ .
15. ويكيبيديا ، (19/11/2019)، "المواقف الاجتماعية تجاه المثلية الجنسية"، https://en.wikipedia.org/.
16. Boswell, John (1989). "Revolutions, Universals, and Sexual Categories" (PDF). In Duberman, Martin Bauml; Vicinus, Martha; Chauncey, Jr., George (eds.). “Hidden From History: Reclaiming the Gay and Lesbian Past”. Penguin Books.
17. Craig, Williams, (1999), “Roman Homosexuality”, Oxford University Press.
18. Denys، Page (1959). “Sappho and Alcaeus”. Oxford UP.
19. Dover, Kenneth, (1978), "Greek Homosexuality", (Harvard University Press, 1898).
20. Haggerty، George E. (2000). “Gay histories and cultures: an encyclopedia”. Routledge is an imprint of Taylor & Francis, UK Informa company, https://taylorandfrancis.com/.
21. Halperin, David M. (1990). “One Hundred Years of Homosexuality: And Other Essays on Greek Love”. New York: Routledge.
22. Hubbard Thomas K (22 September 2003). "Review of David M. Halperin, How to Do the History of Homosexuality.". https://gayglobe.net/blog
23. James, L. Butrica, (2005) "Some Myths and Anomalies in the Study of Roman Sexuality," Philadelphia, Pennsylvania, United States, Haworth Press.
24. Nissinen, Martti, (2004), “Homoeroticism in the Biblical World: A Historical Perspective”, Fortress Press, Wayback Machine, https://web.archive.org.
25. Ruse, Michael (2005). Honderich, Ted (ed.). “The Oxford Companion to Philosophy”. Oxford: Oxford University Press.
26. Thomas A.J. Mc Ginn, Prostitution, (1998),“Sexuality and the Law in Ancient Rome”, Oxford University Press.
27. Wilhelm، Amara Das, (8 /5/ 2014). "A Timeline of Gay World History". Gay & Lesbian Vaishnava Association.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القسام تنشر فيديو أسير إسرائيلي يندد بتعامل نتنياهو مع ملف ا


.. احتجاجات واعتقالات في جامعات أمريكية على خلفية احتجاجات طلاب




.. موجز أخبار الرابعة عصرًا - ألمانيا تعلن استئناف التعاون مع


.. بدور حسن باحثة في منظمة العفو الدولية: يستمر عقاب الفلسطينيي




.. تدهور الوضع الإنساني في غزة وسط تقارير بشأن عملية برية مرتقب