الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الملليين - دراسة عامة وشاملة-

رستم محمد حسن

2021 / 2 / 27
القضية الكردية


الملليين
(نظرة عامة وشاملة) :

طبيعة الاتحاد المللي :
تذكر بعض المصادر ان الموطن الأصلي للملي كان حول مدينة وان الا انه في حوالي القرن السادس عشر هاجرت هذه العشيرة إلى جنوب غرب كردستان نتيجة لبعض المشاكل هناك .
ولا تشير المصادر المتناولة إلى تاريخ تشكيل اتحاد عشائر المللي واهم العشائر المنضوية إلى هذا الاتحاد في القرن التاسع عشر، الا ان مارك سايكس الذي زار إبراهيم باشا في بداية القرن العشرين ودرس حياتهم الاجتماعية ذكر أن عشيرة المللي كانت تتكون من ثلاثين أسرة فقط وتمكنت هذه العشيرة من تكوين اتحاد عشائري سميت في التاريخ الحديث باتحاد عشائر الملي، وضم الاتحاد القبلي المللي العديد من القبائل الكردية والعربية كما استقطبت عددا من القبائل التركمانية القاطنين داخل وبجوار جغرافية الاتحاد الملي ، هذا وكان الاتحاد القبلي اتجادا دفاعيا واجتماعيا في الأساس، ومن جهة أخرى اتسع الحلف لمذاهب وأديان متنوعة فلقد كانت الغالبية من المسلمين السنة إضافة إلى الايزيدين والمسيحيين , ولم يكن تأثير الدين قويا على نواة الحلف الملي ولا على زعاماته ، مما اتصف الحلف بالتسامح الديني والمذهبي النسبي طوال تاريخه ، وقد يعود ذلك أساسا إلى أن الملية كانوا من أنصاف الرحل ولم يكونوا مرتبطين بوشائج قوية بالدين الإسلامي، علماً أن قادة الملان قد بسطوا سلطتهم على العديد من القبائل والعائلات الحضرية الريفية .
فالاتحاد القبلي ضم الرحل " Kocer " والفلاحون المستقرون " kurmanc " . وقد حدد مارك سايكس في مراحل متأخرة عدد القبائل الملية الكردية منها بأربع وأربعين قبيلة إضافة إلى عدد من القبائل العربية أنصاف الرجل والمستقرين على ضفاف نهر الفرات والخابور والبليخت، وظل الحلف القبلي الملي فعالا حتى أواسط القرن العشرين ، كما حدد العلامة أحمد وصفي زكريا عدد القبائل المنضوية ضمن إطار الحلف الملي أواسط القرن العشرين بخمسين قبيلة كردية وعربية، وفي الواقع لا يمكن حصر وتحديد عدد القبائل المنضوية تحت لواء الحلف بدقة , لأن عدد القبائل كان يتغير من مرحلة الى أخرى ، يزداد عددها وينقص، وسمي نواة هذا الحلف ب (bemirî _ بامري) وهم سبعة افخاذ :
1_الباشوات : اي أسرة العبدي.
2_ خضركان :( يسمون ميلان و ملانه كبير) لأن أباهم هو العم الأكبر لكلش عبدي ، وكان وصيا عليه ، وقطن مع بعض أفراده نواحي عاموده ويسمون الآن بملية الخضر
3_ کوران .
4_ کم نقش .
5_ جمكان
6_ هاجکان
7_ جبگان

اماكن الانتشار :
ينتشر الملليون في شمال وغرب كوردستان، يحدها قوس يمتد من بلدة الجزيرة ونهر الخابور الى بينغول صاعداً ، والى بلدة سفريك نازلاً، ومن هناك الى بيره جيك واورفة غرباً، والى الحسنجة وجبل سنجار جنوبا، ومن هناك الى ماردين والجزيرة شرقا ، فتقع مواطنها في الجنوب من جبال طوروس الشرقية وعلى نهر دجلة نحو الشرق والغرب، وتقع بلدة ويران شهر - مركز رؤساء هذه الطوائف - في وسط الخط بين ماردين واورفه . وهكذا يجعل موقعهم هذا من تاريخ الملي نموذجاً حياً لتاريخ الطوائف الشرقية العثمانية وصورة معبرة لكل العلاقات القائمة بين الدولة ورعاياها وطراز الحكم ومستواه السياسي والاجتماعي والاقتصادي والروحي.

المللية في وجدان الكورد :
يطلق على أجداد وأحفاد الأمير إبراهيم باشا لقب الباشوات ، وذلك لكثرة تتالي الباشوات في هذه العائلة قبل إبراهيم باشا وخلال عدة قرون متتالية ، حيث لم يعرف التاريخ الكردي عائلة استمرت في توليها الزعامة على مناطق واسعة من كردستان وعلى امتداد مئات السنين ، وفي مختلف الظروف كهذه العائلة فضلا عن ذلك فإن عائلة الباشوات لم تهادن يوماً القوى التي حاولت السيطرة على كردستان ، فقد انتفضوا تارة ضد الفرس وتارة ضد الأتراك وكان الهدف الأول هو محاولة الاستقلال عنهما ، وفي بعض الأحيان نجحوا في ذلك ولفترات طويلة وفي بعض الأحيان لم ينجحوا وكان مصيرهم آنذاك القتل والاعتقال والتشريد.
وكثيراً ما تصف المصادر زعماء الملي وإبراهيم باشا على انهم كانوا لصوصاً وقطاعي طرق وسفاكي دماء ، الا انه يظهر بأن العديد من هذه المصادر قد تحاملت على المليين ، وكانت ظروف المنطقة والظرف الزماني تفرض عليهم القيام بذلك للحفاظ على سلطتها في المنطقة ، وفي الوقت نفسة كانت تلك الأعمال صفة اعتيادية يتحلى بها جميع العشائر ، بل كانت مفخرة للعشائر كعشيرة الملي انذاك.
وبسبب وضعهم هذا فإن الكورد كانوا يبجلونهم تبجيلا كبيراً وقد كونوا من حولهم وضعا أسطورياً مهيباً ، وتناولهم الفلكلور الشعبي الكردي بمختلف أشكاله وصوره بالأناشيد والأغاني والمرائي التي تؤرخ لبطولات بعض الشخصيات وكرمهم ، وكذلك لبعض الأزمات التي حلت عليهم ، كما إن قسماً كبيراً من الكورد كانوا يعتبرونهم ( باني كرد ) أي أبو الكورد ، وكذلك ( ديركي كردستان ) أي عامود كردستان .
والخلاصة : إن عائلة الباشوات كانت سباقة في إعلان الانتفاضات والثورات ضد الفرس والأتراك منذ أكثر من خمسة قرون ، وقد عدد أمين زكي في كتابه ( تاريخ الكرد وكردستان ) خمس ثورات كردية ضد الأجانب ، كانت اثنتان من هذه الثورات من نصيب الباشوات هما ثورة تيمور باشا وثورة إبراهيم باشا.
وقد اعتبر بيير روندو بأن الاتحاد القبلي الملي هي أحد الحالات والمحاولات الكبرى لتوحيد الكورد على أساس قومي على الرغم من بداياتها القبلية، وبخاصة في مطلع القرن العشرين فيقول :
“هذه المحاولة التوحيدية فريدة من نوعها ومثيرة من جوانب عديدة… لأنها ظهرت في أقصى منطقة من كردستان بين دياربكر وحلب. خارج المراكز الاعتيادية للحركة الكردية. أضف الى ذلك قيام قبيلة ملي بها وهي نفسها عبارة عن اتحاد عشائر ومزيج لعناصر كثيرة التباين، وحيث الكثير منها ليس من أصل كردي بل عربي”.
لقد كانت نزعة الاستقلال والتوحيد هذه ذات محتوى قبلي في الأساس ثم تطورت وارتقت نحو صيغة قومية أثنية مبسطة لاحقا. لقد كانت نزعة الاستقلال لدى الملية بزعامة آل كلش عبدي تنبع من مصالح الاتحاد الملي وأخذت نسغها من الشعور القومي، فالتمايز عن الأتراك، ورغبة في امتلاك السلطة والسيطرة على طرق التجارة والأراضي والمراعي الشاسعة وتنمية الثروة الحيوانية والتأسيس لأعمال المهن اليدوية والحرف. وربما لهذه الأسباب الاقتصادية والمتطلبات الاجتماعية ظلت القيادة القبلية الملية متسامحة دينيا وحافظت على المسيحيين أيام المحن والفتن والفوضى، فلم تتأثر بالأفكار الداعية لتصفية واضطهاد المسيحيين. هذا ولم تلتقي نزعة الاستقلال الملية مع الاتجاه القومي التحرري الكردي إلا في فترة متأخرة.

نبذة تاريخية عن باشوات المللية:
مر سابقاً بأن الموطن الأصلي للملي كان حول مدينة وان الكردية على الحدود العثمانية الإيرانية ، وبرز اسم زعيم قوي منهم هو ( عمر أغا ) الذي ما لبث أن قتل في إحدى المعارك بين العشائر هناك ، ونتيجة لهذه الحوادث ترك المللي موطنهم وسكنوا في أقصى جنوب غرب كردستان.
وهذه نبذة حول الباشوات الذين توالوا على قيادة المللين:

_ كلش عبدي :
بعد تشتت شمل الملليين لجأ كلش عبدي إلى الجبال المحيطة بأورفا وجمع حوله عدداً كبيراً من الكورد ثم بدأ بالتعرض للقوافل الحكومية المتجهة من أورفا إلى الشرق وكذلك القوافل القادمة إليها ، وبعد أن استفحل أمره وذاع صيته بين الناس حاولت الحكومة العثمانية القضاء عليه ولكن دون جدوى ، وبسرعة امتدت منطقة نفوذه لتشمل مناطق واسعة تمتد بين ديار بكر وأورفا وسويراك ، وفي أحد الأيام أسر رجاله مفتشاً حكومياً مع زوجته كان قادماً من الأستانة لتفقد أحوال المنطقة ، وعندما قابله كلش عبدي ، أعجب به المفتش كثيراً وقال له : ( إن والي أورفا قد صورك لي كقاطع طريق ومتوحش جبلي ولكن حسن استقبال ومعاملتك الجيدة لي دلت على عكس ذلك ) .
وبعد أن فك كلش عبدي أسره وعاد المفتش إلى الأستانة أبلغ الباب العالي بأن الحاكم الفعلي للمنطقة هو كلش عبدي وليس والي أورفا المعين من قبل السلطة العثمانية وأنه من الأفضل للدولة أن تكسب وده وترضيه لأن ذلك سيساعد على استتباب الأمن في المنطقة ، حيث إن الدولة عاجزة عن فرض إرادتها على كلش عبدي بالقوة العسكرية ، وبالفعل أصدرت السلطة العثمانية أمراً عينت بموجبه كلش عبدي والياً على أورفا ومنحته لقب ( الباشوية) وخلعت والي أورفا السابق ، وبذلك استطاع كلش عبدي أن يفرض نفسه على السلطة العثمانية وأخذ يعمل من خلال مركزه الجديد على توطيد نفوذه ونفوذ عائلته وأتباعه في المنطقة ويعد العدة للتمكن من التحرر من الأتراك وسيطرتهم .

_ بشار باشا :
هو حفيد كلش باشا حاول السير على خطى جده ومتابعة مد نفوذه وسلطته ، ونجح في ذلك فأصبحت أقسام واسعة من الأناضول تحت سيطرته ، اشتهر بالحزم والعدل ويعتبر أقوى أمير ظهر في عائلة الباشوات وأكثرهم طموحا ، فإذا كان بقية الأمراء من الباشوات يسعون إلى الاستقلال عن السلطة العثمانية وتأسيس إمارة أو مملكة كردية مستقلة إلا أن بشار باشا كان يسعى إلى تقويض دعائم السلطنة العثمانية ذاتها وتنصيب نفسه سلطاناً بدلاً عن السلطان العثماني، فخاض معارك كثيرة ضد الأتراك وانتصر في معظمها حيث ألحق خسائر فادحة بهم وحرر مناطق واسعة وسيطر على مناطق واسعة يسكنها الأتراك ولكن وبسبب عوامل متعددة ولجوء السلطة العثمانية إلى الحيلة والخداع تمكنت من إلقاء القبض عليه في مدينة قونية وأعدم هناك على ( الخازوق ) ليكون عبرة لغيره ومن الجدير بالذكر أن تنفيذ الإعدام بهذا الأسلوب كان يتم فقط للأشخاص الذين سببوا ضيقا وإزعاجا شديدين للسلطة العثمانية .

_ تيمور باشا :
لقب بـ ( زنكي زيرين ) أي ذي الكعب الذهبي ، قضى الشطر الأول من حياته في استانبول وتقلد هناك مناصب عدة ، الا انه ترك استانبول لحدوث بعض المشاكل وتوجه إلى كرد الملي الذين كانوا أحوج ما يكونوا اليه لانه قائد قوي يجمعهم ويبعد الظلم عنهم ، فسرعان ما تزعمهم وتمكن من بسط سيطرته على شمال الجزيرة الفراتية وتوسع هناك كثيراً حتى هدد آمد نفسها، لتشمل منطقة نفوذه جميع أنحاء كردستان الشمالية كأمير مطلق الصلاحية، وشملت منطقة نفوذه أيضاً جنوب سوريا وترك آثاراً تدل على ذلك في مدينة الزرقاء في الأردن ولا زالت تذكر باسمه حتى الآن، كما قاد حملة عسكرية مؤلفة من الكورد ضد نابليون بونابرت عندما حاصر مدينة عكا بقيادة واليها أحمد باشا الجزار (الكردي الأصل ) وكانت حملته تضم أكثر من ستين ألف مقاتل كردي واستطاع أن يحاصر بدوره قوات نابليون ، وكانت لحملته الأثر الحاسم في اندحار قوات نابليون وتراجعها عن متابعة سيرها براً باتجاه فرنسا وعودتها إلى مصر منهارة المعنويات بعد أن خسرت أكثر من أربعة آلاف جندي فرنسي ، وبعد هذه الحملة عاد إلى منطقة سويراك قبل ثورته على الأتراك ، وخاض حروبا كبيرة ضد بعض القبائل العربية كقبيلة العبيد في العراق والموالي في سوريا وفي إحدى غزواته ضد العبيد أحضر أعمدة بيت شيخهم عبد الله الشاوي إلى منطقة سويراك واستخدم هذه الأعمدة في بناء طاحونة آثارها لا زالت موجودة .
و بعد أن أعد جيشه الإعداد المناسب أعلن الثورة على الأتراك وطالب باستقلال كافة المناطق الكردية عن الدولة العثمانية واستمرت هذه الثورة سبع سنوات تكبدت فيها السلطات العثمانية خسائر فادحة مما اضطرت معها إلى الاعتراف باستقلاله واقتطعته كافة المناطق التي كانت تحت سيطرته ومنحته لقب أمير أمراء كردستان وقلدته الوشاح الممتاز، إلا أن الدولة العثمانية كانت تتحين الفرص للقضاء على إمارة تيمور باشا فقررت تعيين سليمان باشا الكبير والي بغداد قائداً عاماً للجيوش الزاحفة ضده، وقد ضم الوالي إلى جيوشه الألوف من الفرسان غير النظاميين من الكورد وغيرهم منهم قوات كوسة مصطفى باشا والي حلب وأزون وإبراهيم باشا والي الرقة وعمر باشا متصرف ملطية ، وزحفت هذه القوات بقيادة سليمان باشا على ماردين، وواجه بها تيمور باشا الذي عجز عن مغالبة ومقاومة هذه الجيوش الجرارة ، فأخلى هو قلعة موك ، بعد ذلك أخذ سليمان باشا يقمع الانتفاضة بقسوة ويعاقب عشائر الملي ، وأعدم أكبر رؤسائهم وقادتهم منهم ( سعدون بك ) أخ تيمور باشا و ( محمود بك ) ابن عمه وعين ( إبراهيم بك ) أخا تيمور رئيسا أعلى للعشائر المللية وعزل حاكم ماردين من منصبه، عند ذلك قرر تيمور باشا الذهاب إلى سليمان بك أمير قبيلة العبيد العربية طالباً مساعدته ضد العثمانيين أعداء العرب والكورد معا ، وعلى الرغم من الخصومات السابقة بين تيمور باشا وأمير العبيد إلا أن أمير العبيد هب مباشرة لمساعدته حيث أبقى تيمور باشا في ضيافته وسافر إلى بغداد فقابل واليها وأنذره بأن القبائل العربية والكردية قد قررت العمل معاً ضد السلطة العثمانية في حال عدم العفو عن تيمور باشا وهنا اضطر والي بغداد إلى رفع كتاب إلى الباب العالي شارحاً الموقف للسلطة العثمانية ومطالباً إياها بإصدار عفو عام عن تيمور باشا ،
وبالفعل أصدر الباب العالي فرماناً يقضي بالعفو عن تيمور باشا كما أصدرت فرمانا آخر قضى بتسمية تيمور باشا والياً على أورفا وملاطية سنة ( ۱۸۰۰ م ) ، ومن جديد بدأ بتجهيز نفسه مرة أخرى وأخذ يتحين الفرص وينتظر الظروف المناسبة لإعلان ثورة أخرى ضد السلطة العثمانية فأعاد قلعة موك من جديد ، "وهذه القلعة لا زالت قائمة حتى الآن ومعروفة باسمه" ، إلا أن الدولة العثمانية شعرت بخطره المتزايد وخشيت من إبقائه في هذه المنطقة فأعلنت تسميته واليا على سيواس سنة ( ۱۸۰۲ م ) وثم واليا على الرقة وبقي في منصبه إلى أن توفي

_ أيوب بك :
في عهد السلطان محمود الثاني ( ۱۸۰۸ - ۱۸۳۹ م ) لم يكن للسلطة العثمانية أي نفوذ فعلي على جنوب الإمبراطورية بل كان يحكم هذه البلاد ثلاثة أمراء ، اثنان منهم كورد والثالث عربي وهم : أ . الأمير أيوب بك وكان يحكم المنطقة الممتدة بين بحيرة بنغول وجبل سنجار.
ب. محمد باشا راوندوزي سيد البلدان الممتدة بين الموصل والحدود الشرقية للإمبراطورية
ج . أما الشيخ صفوك ( شيخ شمر ) فكان يحكم المراعي الجنوبية .
وكان هؤلاء الثلاثة يحكم كل واحد منهم منطقته دون الالتفات إلى رغبات السلطة العثمانية وأوامرها ، وفي مرات كثيرة خاضوا حروباً مع السلطة العثمانية وهزموا قواتها واستطاعوا توسيع حدود إمارتهم ، وبعد أن استفحل أمر هؤلاء الثلاثة ولم يعد بإمكان الأتراك تحمل تصرفاتهم أكثر من ذلك ، جهزت السلطة العثمانية حملة عسكرية كبيرة ضدهم بقيادة رشيد باشا وبعد حروب طويلة استطاع رشيد باشا إلقاء القبض على محمد راوندوزي ثم قتله ، كما استطاع من إلقاء القبض على كل من أيوب بك والشيخ صفوك حيث نقلا إلى آمد وسجنا هناك وبقيا في السجن حتى توفيا فيه، وبذلك استطاعت السلطة العثمانية إعادة فرض نفوذها على هذه المناطق مرة أخرى ، ومن الجدير بالذكر أن أيوب باشا لم ينجب ذرية فاستلم قيادة الإمارة من بعده الأمير تيمور الملقب بـ ( تيماوى بك ) حفيد تيمور باشا .

_ تيماوي بك :
أشعل تيماوي بك ثورة جديدة ضد العثمانيين في محاولة أخرى للاستقلال عنهم ، وقد تزامنت ثورته مع وصول قوات إبراهيم باشا ابن محمد علي الكبير والي مصر إلى منطقة الأناضول عام 1833 وهي تحارب قوات السلطان العثماني وتدحرها وهي في طريقها إلى عاصمة السلطنة وهنا تحالف تيماوى بك مع إبراهيم باشا المصري ضد السلطنة العثمانية لأن عدوهما كان واحداً فزحف تيماوى بك على الجيوش العثمانية المرابطة في ماردين لكي يمنعها من الالتحاق بالقوة الرئيسية التي كانت تزحف من ملطية باتجاه ماردين، وبعد فترة قصيرة تم الانسحاب المصري وعودة السلطة العثمانية إلى البلاد ، وهاجم عمر باشا والي آمد على ماردين وقتل تيماوي باشا في إحدى المعارك حيث أدى ذلك الى اصابة المليين بشقاء ومجاعة كبيرين ، ولم يكن هناك أحد يقودهم، فأخذوا يتنازعون فيما بينهم ويتعرضون على الدوام إلى النهب ، وبالتحديد من قبل عشيرتي طي وشمر العربيتين فقد استولتا على العديد من القرى والبلدات التي كانت تابعة للمليين.
وبقيت الحالة على هذه الصورة لفترة من الزمن إلى أن كبر محمود بك والد إبراهيم باشا وأصبح رئيساً للقبيلة، إلا أن القبيلة كانت على حالة من البؤس والضعف في ذلك الوقت بحيث لم يستطع محمود بك فعل أي شيء يذكر إلا أنه استطاع إبعاد البدو وجمع شمل قبيلته في ويران شهر، ولم تمض إلا بضع سنين حتى حقق ثروة وجاهاً كبيرين إلا أن عمر باشا حاكم ماردين سحق هذه النجاحات بسرعة واعتقل محمود بك وأحرق قلعته، وكان إبراهيم باشا يومها شاباً يافعاً، فلجأ إلى الحكومة المصرية والتمس من الخديوي إسماعيل باشا ( ۱٨٦٣ - ۱٨٧٩) حاكم مصر ان يسعى لإطلاق سراح والده من السجن فساعده الخديوي ، واستصدر من السلطان عبد العزيز فرمانا بالعفو عن محمود بك الذي أطلق سراحه فعلا (ولكنه توفي بعد ذلك لسوء حالته في السجن) وتم إعادة كافة أموالهم المنقولة وغير المنقولة إليهم ، كما أوعز الباب العالي إلى والي آمد بجمع شمل قبيلة المللية التي كانت قد تفرقت نتيجة الضربات الكثيرة التي أنزلت بها وبأمرائها
والت زعامة المليين إلى ابنه إبراهيم في بداية عهد السلطان عبد الحميد الثاني.

_ ابراهيم باشا :
كانت محاولة السلطان عبد الحميد الثاني جذب القبائل الكوردية الى صفه ، وارسائه للإدارة المحلية، هي التي مهّدت الطريق لإعادة ظهور الملية وتأكيد وجودهم في شمال سوريا. فظهر في هذا الوقت ابراهيم باشا المولود عام (1845) والذي تسلم زعامة المليين في عام 1877، فأخذ كأسلافه يتوسع في المنطقة في بداية عهده خاصة في المناطق الواقعة بين ماردين وآمد مما أزعج السلطات الحكومية كثيرا والتي ما لبثت أن جردت حملة عسكرية وألقت القبض عليه ونفته إلى سيواس ، ولكنه تمكن بعد ذلك من الهروب من منفاه والرجوع إلى مسقط رأسه ويرانشهر، حيث صب اهتمامه على الشؤون الداخلية لقبيلته، وعرف كيف ينال حظوة في القصر الامبراطوري وكذلك في نفس الوقت يثير إعجاب الأوروبيين بمعاملته المثالية للسكان المسيحيين في المنطقة. وكانت النتيجة أنه كُرّم ليس فقط بغض طرف إسطنبول عنه، ولكن أيضاً حصل إبراهيم على لقب “الباشا” وقائد على خمسة أفواج حميدية في جنوب شرق الاناضول. مع وجود ستة آلاف من رجاله الذي تسلّحوا من قبل الحكومة، وبحلول عام 1901، تكلم المراقبون الغربيون عن اعجابهم ب “الإمبراطورية الصغيرة” التي كان إبراهيم باشا يديرها من معقله في ويران شهر والتي امتدت جنوباً وصولاً إلى مصيف جبل عبد العزيز، فقال عنه السير مارك سايكس :
"كان إبراهيم باشا شخصية عجيبة حقا فكان بلا شك قائداً طبيعياً للرجال يمتاز بمقدرة عجيبة على ضبط النفس كما هي صفات أولئك الرجال الذين اختبروا الجوانب الأكثر قسوة واضطرابا في الحياة ، مع ذلك فقد كان في بعض الأحيان عنيداً في عناد الطفل ، فهو يشكل لي أهمية كبيرة لدراسته كشخصية ففيه نرى صفات الوروبك الإنكليز ، من ذلك الطراز الذين لا يجدون لأنفسهم مكاناً لهم حتى في تركيا ، فنرى فيه البارون الإقطاعي والمستبد الشرقي ورئيس الرحالة ففي معسكره بين الخيام نستطيع أن نتخيل بعض أوجه الحياة في معسكرات تيمور وأتيلا ، وفي صعوده إلى السيادة هناك بعض ملامح نجاح العثمانيين الأوائل ، ففي قوته وضعفه تكمن بعض ميزات ومعايب ميرناد " .
وكان له عدة ألقاب منها : أمير أمراء كردستان ( مير ميران ) ، و ( سلطان البحر ) و ( ابن السلطان عبد الحميد ) ، وكان العرب يسمونه ( الحوت ) و ( أخو نورة ) و ( خيال الشعلة ) ، أما كورد الشام فكانوا يدعونه ( برهو باشا ) .
ان المتتبع لحياة إبراهيم باشا المللي يرى بان نجمه قد سطع من خلال محطتين رئيسيتين ، الأولى : هي الحرب الروسية العثمانية سنة 1877 التي شهدت بروز معظم الزعامات الكردية التي لعبت دوراً أساسياً في الحياة السياسية الكردية أواخر القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين أمثال الشيخ عبيد الله النهري والشيخ سعيد البرزنجي وكذلك إبراهيم باشا . فقد أصبح من احد سياسات السلطان عبد الحميد الثاني بعد هذه الحرب هو التقرب إلى الكرد قدر المستطاع ودمجهم بالدولة العثمانية لأهداف سياسية عليا . .
اما المحطة الثانية : فهي قيام السلطان عبد الحميد الثاني بتشكيل الفرسان الحميدية في عام 1891، والتي انضم اليها إبراهيم باشا الملي بكامل قواته وشهد نفوذه بعد ذلك توسعاً كبيراً . وفي سعيه لبناء إمارته اتخذ ابراهيم باشا سياسة مبنية على القواعد الثلاث التالية : مصادقة القوي ، إرضاء الضعيف ، وإرهاب الأضعف للخضوع له . فمثلا كان أول عمل قام به إبراهيم باشا بعد انتهاء الحرب العثمانية الروسية 1877 انه عقد صداقة متينة مع طائفة الشركس المقيمة في رأس العين ، ثم بدأ يجمع رؤساء وشيوخ من العشائر المجاورة تحت جناحه ويضمهم اليه، وتمكن إبراهيم باشا من خلال مزيج من القوة والمحسوبية، من إخضاع كورد كيكية (Kiki) وقرهكيجي (Karakeçi) والعرب القيس (الجيس) والطي بالكامل وحتى استيعاب جزء من الشمر في الاتحاد الملي. وبذلك تمكن من توفير مستوى غير مسبوق من الأمن لتجارة القوافل المربحة في المنطقة، وقد أتقن هذا الفن الدبلوماسي لدرجة انه لم تمض إلا بضع سنين حتى أصبح كرد الملي قوة لا تقاس بما كانوا عليه في السابق . وقد تحقق ذلك عن طريق الدراية والمكر والمؤامرة في المقام الأول ولم يكن يدرك كنه هذه السياسة الآخرون الذين كانت تشغلهم نزاعاتهم وعصبياتهم .
وكان لظهور التشكيلات الحميدية سنة 1891 الأثر الأكبر في تقوية إبراهيم باشا الملي وساعدته هذه القوات غير النظامية في أن يصبح الرجل الأول في المنطقة دون منازع ، ونتيجة لاشتراكه في هذه القوات والحرب العثمانية اليونانية سنة 1897 رفعت رتبته إلى ( مير ميران - امير الأمراء ) ، وعرف بذلك باسم ابراهيم باشا الملي .
ازداد نفوذ إبراهيم باشا يوماً بعد يوم وبدأ باستعمال سياسة العصا والجزر مع القبائل الكردية والعربية الساكنة بين آمد واورفة . إذ قتل وشرد البدو والعشائر العربية في البادية كشمر والعنزة ، وتزوج من بنت شيخ طي العربية المتنفذة وبذلك افسد مشروع القبائل الكردية والعربية المنافسة له ، خاصة عشيرة البرازي الكردية ، حتى انه الحق هزيمة قوية بشمر في نهاية المطاف ، كما قطع الطريق على خصومه من أعيان آمد والموصل واورفة وحلب المتربصين به ، لأنه كان يهدد مصالحهم الاقتصادية ويفرض عليهم ضريبة الحماية على القوافل في المنطقة والتي كانت العشائر ترفضها .
وعلى الرغم من العلاقة القوية بين إبراهيم باشا وبين السلطان عبد الحميد الثاني حتى ان السلطان كان يدعوه ب ( ابني إبراهيم باشا ) وتيمناً به أسمى إبراهيم باشا أحد أبنائه باسم عبد الحميد . الا ان إبراهيم باشا عارض السلطان في مرات عدة منها على سبيل المثال : اتخاذه موقفاً إيجابياً للغاية من الأرمن اثناء المرحلة الأولى من المذابح، إذ تمكن من إنقاذ حوالي عشرة ألاف ارمني . وكذلك في سنة 1905 عندما أمره السلطان بالتوجه مع لواءين من الحميدية إلى اليمن للقضاء على تمرد وقع هناك ، الا ان إبراهيم باشا رفض هذا الأمر بحزم .
وتعاظمت قوة إبراهيم باشا يوماً بعد يوم فقد امتلك مئات الألوف من رؤوس الأغنام وعشرات الآف الخيول وألأف الجمال وخمسة آلاف قطعة سلاح . وامتدت سلطته على مساحة 400 قرية ، وبلغ عدد أفراد العشائر الخاضعين له عشرة الآف عائلة ، وقدم الأتاوات ليس كرد عشيرة ملي وحدهم بل والكثير من القبائل المجاورة التي ضمن هو حمايتها والدفاع عنها من العشائر الأخرى ومن السلطة العثمانية . حيث ألزم جميع أفراد العشائر الخاضعة له بالتزامات معينة لكونه خلفاً للخليفة وكان يأخذ الزكاة وعشر مدخول الفلاحين سنوياً ، إضافة إلى ذبيحة تسمى ( خير صدقة ) . . وصار يقود لوحده خمسة ألوية حميدية من مجموع سبعة ألوية وكان ذلك قوة عسكرية كبيرة ، حيث أن كل لواء حميدي كان يتكون من مجموع 1000_1200 فارس . وتحول إبراهيم باشا بفعل هذه القوة إلى ثاني أغنى رجل في الدولة العثمانية بعد السلطان .
لذلك جمع بين الإرادة السياسية والقوة العسكرية والاقتصاد القوي لبناء إمارته حتى وصل الأمر بإبراهيم باشا الملي إلى أن قال عنه السفير الروسي في استانبول ي . أ . زينوفييف :
" كان يتمتع بنفوذ كبير في المنطقة ، لدرجة أن مطاليبه تحظى بالاحترام أكثر من أوامر السلطان نفسه ".
وكتب فيديمان الرحالة الألماني :
"أن الباشا كان في هذا الوقت في قمة جبروته وسيطرته تمتد بلا منازع من بيرجيك على نهر الفرات إلى الموصل على نهر دجلة . وبصدق كامل أطلقوا عليه آنذاك لقب ( ملك كردستان غير المتوج ) ".
نهايته:
حدث في يوم 23تموز 1908 ان قام الاتحاديون بانقلاب ضد السلطان عبد الحميد الثاني واجبروه على الحكم وفق دستور على غرار الدول الأوربية . وسرعان ما أدى هذا الانقلاب إلى سقوط معظم الرموز والقوى التي كانت تدعم السلطان عبد الحميد الثاني ويأتي على رأسهم إبراهيم باشا الملي . فبعد أن سيطر الاتحاديون على الحكم كان من أهم أولوياتهم ، كما يذكر احد قناصل السفارة البريطانية في استانبول ، هو القضاء على إبراهيم باشا نجم القصر والولد المدلل للسلطان، بدوره كان إبراهيم باشا هو أول من قام بحركة ضد الاتحاديين ، فقد كان قريبا من دمشق عندما وصلته أنباء هذا الانقلاب حيث كان في طريقه للقضاء على العشائر العربية الذين يعرقلون بناء خط سكك حديد الحجاز ، فأعلن الثورة وأراد تحويل سوريا إلى قاعدة للتحرك ضد الاتحاديين وجمع حوله خمسة الاف فارس حميدي ، وخلال أيام وقعت المنطقة الممتدة بين ارزنجان ودير الزور تحت سيطرته، ولكن الحكومة الجديدة حرضت عليه العشائر العربية وعلى رأسها عشيرة شمر . كما هاجمت قوات من الجيش العثماني مركز حكمه ويرانشهر فقرر عدم دخولها . وأرسل خبرا لأولاده بالزحف بقواتهم الحميدية وأسلحتهم للانضمام اليه خارج ويرانشهر . وبعد معارك كبيرة قرب ويرانشهر انسحبت قوات الحكومة بعد أن تركت ورائها ۳۰۰ قتيل وجريح . ولكن ما لبث أن وصلت إمدادات إلى القوات الحكومية من عدة ولايات قريبة اضطر على أثرها إبراهيم باشا إلى الانسحاب والتوجه إلى الجبال المحيطة بمنطقة سنجار للتحصن فيها ، املا في الحصول على دعم حلفائه من الايزديين ، لكن أضطر فيما بعد أن يعود باتجاه اورفة واصطدمت قواته في منطقة قريبة بالقوات الحكومية التي كانت تلاحقه . وتوفي إبراهيم باشا في هذه المنطقة ، ووفق اغلب الروايات كانت وفاته نتيجة إصابته بالديزانتري ووفق أخرى توفي اثر نوبة قلبية ، وهناك من يقول انه قتل في المعركة أو سمم في ظروف غامضة . وبعد موته استسلمت اغلب قواته من الحميدية إلى القوات الحكومية
وتم قمع الملية بقسوة من قبل الاتحاد والترقي على مدار السنوات اللاحقة، ولم يلعبوا أي دور مهم في الحرب العالمية الأولى، وعلى الرغم من أنهم في عام 1919 حصلوا على شكر من السلطنة العثمانية، لآخر مرة، لدفاعهم القوي عن منطقة ويران شهر ضد هجوم لقوات التحالف، ومشاركة أبناء إبراهيم باشا في حرب البلقان بحوالي (1500) ألف وخمسمائة خيال، حيث تمكنوا بهذه القوة من تحرير مدينة أدرنة، كما انه في الفترة نفسها كلفتهم حكومة استانبول بصد هجمات البدو من عنزة، خاصة الغزوة الكبرى بقيادة ابن مجلات وابن كعيشيش، فتمكنوا من إرجاعهم إلى ما وراء نهر الفرات.

_ مصير ابناء إبراهيم باشا :
بعد وفاة إبراهيم باشا، أضطر أولاده وهم : عبد الحميد ومحمود وإسماعيل وخليل وعبد الرحمن وتيمور بالتوجه شمالاً بعد أن كانوا قد وصلوا قرب الحسكة ( صفيا ) وعندما وصلوا شمال نصيبين وبالقرب من زين العابدين حاصرتهم القوات التركية حيث دارت رحى معركة بين قوات عبد الحميد بك ( الابن الأكبر لإبراهيم باشا ) والقوات التركية وبسبب التفوق التركي الكبير في العدد والعدة كانت الغلبة لهم ، وهنا أشارت زوجة إبراهيم باشا ( خنسا باشا ) على أولادها بضرورة إنهاء الثورة بغية الحفاظ على ما تبقى من القوات والأموال لأن استمرارها في مثل هذه الظروف يعني الانتحار للجميع . ومن الجدير بالذكر أن هذه المرأة وتمشياً مع الأخلاق الكردية كانت ذات مكانة عالية وكان نفوذها يوازي نفوذ زوجها إبراهيم باشا وهي كردية من قبيلة خلجان وابنة كبيرهم ( بيت داود ) ، وفي أيام إبراهيم باشا كانت تجلس في ديوانها الخاص بها حيث تستقبل كبار الزوار من رسميين وشيوخ وأغوات ومن المعروف عنها أنه كان يشترط فيمن يزورها من كبار الشخصيات القبلية أن يقبل رأسها تعبيراً عن الاحترام والولاء لها . وبالفعل فقد عملوا بما أشارت عليهم والدتهم ( خنسا باشا ) واستسلموا للأتراك فاعتقلتهم السلطات التركية ومعهم قادة الثورة ومنهم حسين قنجو وبشار أغا ومحمد بك شقيق إبراهيم باشا ومحمد أغا وعمر أغا كوران وسنان أغا وخلف العلو كبير عدوان، وتم اطلاق سراح النساء والاطفال.
فتسلمت خنسة خانم قيادة القبيلة، فقادت ما تبقى من الاتحاد القبلي الملي، وأحسنت إدارة شؤون القبيلة من بعده واتصلت بالقناصل الأوربيين خاصة الفرنسي والبريطاني طالبة العون لإطلاق سراح أبناءها، لكن الاتحاديين سمموا عبد الحميد أكبر أبناء إبراهيم باشا. وتعرضت العائلة لمحنة كبيرة إلى أن تم الإفراج عن الصغار، أي من كان دون سن الثامنة عشرة، فأطلق سراح خليل بك أولا، الذي كان عمره 18 عاما سنة 1909، وبقي كل من محمود بك وإسماعيل بك في السجن. واستطاع خليل بك ابن إبراهيم باشا أن يحسن وضعه الاجتماعي والسياسي فتزوج بنت عبد القادر باشا، وهو احد المقربين من الاتحاديين وكان كرديا متنفذا من آمد، وتمكن الرجل من التوسط لإطلاق سراح إخوته.
وبقيت خنسة خانم تقود القبيلة فعليا مع ولدها محمود حتى مطلع العشرينات من القرن الماضي، وقد بقي العديد من الوثائق والمراسلات من القادة الفرنسيين إليها تشير إلى بعض المسائل السياسية، وتهدف لتحسين العلاقة مع العائلة، وتفيد مضمون هذه الوثائق بان درجة التنسيق وصلت بينهم وبين القادة الفرنسيين في سورية إلى مستوى سياسي وعسكري متقدم، وثمة رواية تفيد بأن الفرنسيين وعدوا أبناء إبراهيم باشا بإنشاء دولة كردية من أورفا حتى الموصل عاصمتها ويران شهر. إلا انه لا يتوافر من الدلائل والنصوص ما يؤكد ويوثق ذلك سواء على شكل وعد أو خطة عمل، كما اقترح خبير بريطاني وعلى الأرجح هو الميجر نويل الذي اختار عام 1919 محمود بك بصفته أحد أنسب مرشحين اثنين لحكم المملكة الكردية التابعة التي كان البريطانيون ينوون تأسيسها آنذاك.
واستقر أفراد عائلته إبراهيم باشا والحاشية المتبقية في ويران شهر من جديد، وحاول محمود بك النهوض بالاتحاد الملي عن طريق تحسين العلاقة مع الاتحاديين، لكن المحاولات باءت بالفشل، فقد كان الاتجاه الطوراني المعادي للكورد يترسخ ويتمسك بزمام السلطة في استانبول يوما بعد آخر، لذلك كان الهدف الرئيسي هو التخلص من مراكز القوة الكردية ومنها قيادة الاتحاد القبلي الملي، رغم وعدهم ل محمود بك بفرض سلطته على معظم كورد الملي الذين عاشوا إلى الغرب من الفرات، فيما إذا قام بتنظيم المقاومة ضد الانكليز وطردهم من منطقة أورمية. إلا أن محمود بك لم يبد استعدادا للقيام بهذه المهمة الملقاة على عاتقه. وفضلا عن ذلك أقام علاقات مع الانكليز وبدأ يبرز بصفته مرشحا لمنصب فرضي لحاكم كردستان موحدة، لكنه لم يفلح هنا أيضا وبالتحديد بحكم افتراضية هذا الإجراء كله.
وفي عام 1920 كانت القوات الفرنسية قد وصلت إلى لبنان وقد أعلن الفرنسيون أنهم سيساعدون العرب والكورد ضد الأتراك وما أن سمع الباشوات بذلك حتى توجه إسماعيل بك وتمر بك بأمر من محمود بك لمقابلة الجنرال دولاموت قائد القوات الفرنسية في حلب ، وبالفعل تمت المقابلة وعقدوا معه اتفاقا ينص على ضرورة التعاون بين الطرفين ضد الأتراك كما نص الاتفاق على تعهد فرنسا بتحقيق استقلال كردستان وإعلانها دولة مستقلة بقيادة الباشوات ، وهناك في حلب قدم الفرنسيون للباشوات كميات هائلة من الأسلحة ومساعدات مالية أيضاً ، وحيث إن المخافر التركية كانت لا تزال متواجدة في مناطق دير الزور ونواحيها ، فتوجهت قوات الباشوات من حلب نحو دير الزور للقضاء على تلك المخافر وهناك وقعت معارك بين الباشوات من جهة والعكيدات من جهة أخرى انتصر فيها الباشوات حيث دخلوا دير الزور والبصيرة والبو كمال والميادين وتم القضاء على النفوذ التركي هناك واستلموا السلطة بمدينة دير الزور أكثر من عام وبعد ذلك تابعوا تقدمهم باتجاه الحسكة ورأس العين وهم في طريقهم إلى عاصمتهم ويران شهر ولكن ما أن وصلوا رأس العين حتى أعلمهم الفرنسيون بضرورة التوقف عن محاربة الأتراك وذلك نتيجة لتحسن العلاقات بين الأتراك والفرنسيين ، وعندما ذكرهم الباشوات بوعودهم بتأسيس دولة كردية اعلن الفرنسيون لهم ان الاوضاع الدولية قد تغيرت،
وهكذا ونتيجة لخيبة الأمل التي أصابت الباشوات من جراء عدم تنفيذ الفرنسيين لاتفاقهم السابق فضل الباشوات العودة إلى عاصمتهم ويران شهر على البقاء تحت نفوذ الفرنسيين، وقد تم ذلك في عام 1922 نتيجة الاتفاقية التي عقدت بين الأتراك والفرنسيين وسميت اتفاقية ( عفو بيروت . أنقرة ) وبموجبها أصدرت الدولة التركية عفواً عن الباشوات وسمحت لهم بالعودة إلى ويران شهر وذلك بعد أن تم تسليم كافة الأسلحة التي بحوزة الباشوات إلى السلطات الفرنسية عند نقطة الحدود السورية _ التركية في تل أبيض ، وهنا ضعفت قوة الباشوات كثيرة نتيجة لتخليهم عن أسلحتهم، وتخلي حلفائهم عنهم بما في ذلك أعداد كبيرة من عشائرهم حيث فضلوا البقاء في سوريا وحتى الذين عادوا إلى تركيا انضم قسم كبير منهم إلى أبناء عمهم من غير أبناء إبراهيم باشا ، هؤلاء الموالون أصلا للسلطة التركية ، وفي هذه المرة بقي الباشوات في ويران شهر حتى عام ( 1926م ) وفي هذه الفترة توترت العلاقات بين سائر الكورد من جهة والفرنسيين من جهة أخرى وذلك بسبب وقوف الكورد في سوريا بوجه السياسة الفرنسية "الاستعمارية " ولئن ساد هدوء نسبي على الحدود الجنوبية الشرقية لكردستان التركية في صيف عام 1923 فقد ازداد التوتر بالمقابل في حدودها الجنوبية من سوريا التي كانت محتلة من قبل الفرنسيين وكان سببه اضطرابات العشائر الكردية الدائمة ، ويعود ظهور المسألة الكردية في سوريا إلى هذه الفترة الزمنية التي أصبحت تحت حكم الانتداب الفرنسي ، فقد تبين أن عدداً من المناطق التي يسكنها الأكراد بصورة كثيفة ( في مقاطعات الجزيرة وجبل الكرد وعين العرب الواقعة شمال البلاد ) قد انضمت إلى الأراضي السورية وأدت الحركة القومية للكورد فيها إلى ظهور مسألة كردية مستقلة نسبياً في سوريا ، ويكمن في أساسها كفاح الكرد السوريين ضد المحتلين الفرنسيين كما شارك الكرد في عدد كبير من الحركات التي قادها الشعب السوري ضد الاستعمار.
وكانت الحدود الدولية الجديدة التي قررتها الحكومة الفرنسية والكمالية في أنقرة في تشرين الأول/ أكتوبر 1921 قد قسّمت هذه المنطقة بشكل مباشر، تاركةً جزء كبير من أراضي أجداد الملية داخل أراضي الانتداب في سوريا.

العلاقات المللية - الانكليزية والفرنسية في القرن العشرين :
ذكر ستيفان وينترفي دراسة له ان دبلوماسيون بريطانيون في عام 1919 حصلوا على موافقة الملية لإمارة كردية - أرمنية برعاية الانتداب البريطاني؛ وحاول الفرنسيين ايضا جذبهم اليهم فتم تصويرهم على أنهم مؤيدون مبكرين ومتحمسين للحكم الفرنسي في سوريا، وكان محمود آغا الملّي أحد الموقعين على تشكيل الامارة الكردية-الأرمنية التي اقترحها البريطانيون، ولكن وعلى الأرجح اتفق الفرنسيون مع الاتحاديين بعد انتهاء الحرب الأولى وحدثت ترتيبات محددة، فأبرمت صفقات سياسية كبرى على صعيد المنطقة والعالم، وتخلت بموجبها كل من فرنسا وانكلترا عن أبناء إبراهيم باشا. وبالتالي لم يعد يلزمهم دعم وفعالية الكورد في المنطقة.
ورغم تلك الوعود الآنية بتشكيل تلك الامارة المزعومة فقد تجنب الملّليون الاتصال برابطة خويبون وكذلك تجنبوا الاتصال بالطاشناق، على الرغم من علاقاتهم بالمجتمع الأرمني، ولم يقدموا سوى دعم رمزي لثورة آغري داغ، رغم ان محمد أغا، كان احد مهندسي الرئيسيين للثورة، وتم تعيينه قائداً للعمليات في المنطقة الرابعة (حول ويران شهر)، لكنه فشل، على الرغم من الوعود والتأكيدات المتكررة، في التحرك شرقاً لمساعدة قوات المتمردين الرئيسية خلال فصل الصيف الحاسم لعام 1930.
وفي نفس الوقت، كان رجال القبائل من الملية في حي الأكراد يشاركون بنشاط في الأنشطة المعادية للفرنسيين هناك. وبقدر ما كان الخيار العسكري لإعادة خلاصة الأراضي الكردية داخل تركيا قد استنفد بحلول عام 1930، فقد تجنب الملّيون عموما الاشتراك في الأنشطة الثقافية والسياسية التي يقودها البدرخانيون بتوجيهيهم الدولي وبدلاً من ذلك ركزوا على إعادة بناء موقعهم التقليدي داخل سوريا، في وقت كان الجزء الأكبر من قبيلة الملية قد استقرّ في نهاية المطاف على الجانب السوري من الحدود في رأس العين (سرى كانيه)، ومن المفارقات أن إعادة تأسيس مدينة الرقة من قبل السلطات الفرنسية عززت من فرص الملّية للظهور مجدداً داخل المجتمع السوري. نظراً لوجودها الطويل في المنطقة وخاصةً ارتباطها الوثيق بالعديد من المجموعات البدوية المحلية البارزة، كما أنهم تواجدوا في بلدة القامشلي، التي بناها الفرنسيون في عام 1926 حيث استولوا فيها على أراضي زراعية يملكها الملّيون.

اوضاع المللية في سوريا :
بعد انسحاب ابناء ابراهيم باشا الى رأس العين اعتمد أبناء إبراهيم باشا بعد ذلك على الجناح العربي في الحلف الملي، وتبدلت علاقاتهم الاجتماعية والسياسية وكذلك تحالفاتهم عاما بعد آخر، كما تزاوجوا من عرب المنطقة،. ويقول المؤرخ أحمد وصفي زكريا بهذا الخصوص:
“ولكن بعد وفاة الباشا المذكور، واحتلال الفرنسيين، وتقسيم المناطق بين العشائر، خفت العداوة بين القبائل بالتدريج إلى أن زالت بتاتا، وانقلبت إلى صداقة ومصاهرة قويتين، بزواج الشيخ ميزر عبد المحسن رئيس شمر الزور بابنة خليل بك ابن إبراهيم باشا وحاربت الملية عنزة الجزيرة أيضا، ونعني بها عشيرة الفدعان، وكانت الوقائع بينها سجالا، وهاجموا مرة شاشان رأس العين، كما أن أبناء إبراهيم باشا مشوا عام 1921مع الحملة الفرنسية التي يقودها الزعيم دبيوفر في هجومها على قرى خشام والبصيرة وضربها عشيرتي العنابزة والبكير من العقيدات, وقد انقسمت العشيرة الملية بعد تحديد الحدود إلى قسمين. فبعضها داخل الحدود التركية برئاسة عبد الرحمن بك، وبعضهم داخل الحدود الشامية برئاسة محمود بك…وكان يقطن محمود بك في قصره الذي شيده في ويران شهر، وبعد أن انتقل إلى قضاء رأس العين، ظل يتبدى في مضربه العظيم ذي العواميد الستة عشرة إلى أن شاخ وهرم وتوفي في صيف عام 1945م … ولما توفي محمود بك استقرت الرئاسة إلى خليل بك إلا أن خليل بك قد شغل عن العشيرة بالنيابة في البرلمان السوري، فصار يعاونه في إدارة العشيرة الباقية في قضاء رأس العين ابنه محمد علي بك، وهو شاب ذكي همام، متعلم كان يجيد اللغة الفرنسية كإجادته التركية فضلا عن العربية.”
هذا ومع ذلك ظل موقف أبناء إبراهيم باشا من المسالة الكردية في سورية غير متبلورا خاصة بعد تثبيت الحدود بين تركيا ودولة الانتداب الفرنسية، فقد انحاز كل من محمود وخليل بك بشكل صريح إلى الاتجاه الوطني السوري وابتعدا عن الحركة القومية الكردية ذات النزعة الاستقلالية في الجزيرة السورية، واتضح ذلك في أحداث عام 1939، إذ كانا يميلان إلى تثبيت سلطة دمشق المركزية، على حساب توسيع صلاحيات السلطة المحلية. والتقوا بذلك مع موقف القبائل العربية، في حين كان رأي أغلب القبائل الكردية والعائلات والطوائف المسيحية تميل بل تدعوا إلى سلطة محلية تحت وصاية فرنسية.
هذا ويعتبر كل من محمود وخليل بك من مؤسسي البرلمان السوري، وقد حصل خليل بك على نوت الشرف السوري تقديرا لخدماته الوطنية. إلا أن الأحداث والتطورات السياسية في العقود الأخيرة أظهرت بأن أحفاد إبراهيم باشا قد تم إقصاءهم عن الحياة السياسية، وتم الاستيلاء على مئات الألوف من الدونمات من أراضيهم نتيجة الإصلاح الزراعي. وتم اضطهادهم قوميا في السنوات الأخيرة على أساس أنهم أيضا من الزعماء الكرد، لدرجة أن قتل أحد أبنائهم في مدينة رأس العين في الأحداث الأخيرة عام 2004

المصادر :
_ مير ميراني كوردستان ( ابراهيم باشا المللي) ل محمد علي بك ابراهيم باشا
دراسة وتحقيق : د . عبدالفتاح علي البوتاني - علي صالح الميراني
من منشورات الأكاديمية الكردية
_ الاثار الكاملة للدكتور احمد عثمان ابو بكر ج١ (اكراد المللي وابراهيم باشا)
تحقيق: د. ازاد عبيد صالح
_ الدور السياسي لعائلة ابراهيم باشا ل ازاد علي الطبعة الاولى من منشورات مركز آشتي للبحوث والدراسات
_ دراسة بعنوان :النهضة الأخرى: البدرخانيون، والمِلّيون، والجذور القَبليّة للقومية الكردية في سوريا*
ستيفان وينتر / STEFAN WINTER
ترجمة: محمد شمدين
مجلة الحوار- العدد 74- عام 2020








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيطاليا.. مشاريع لمساعدة المهاجرين القاصرين لإيجاد عمل وبناء


.. مصادر فلسطينية: عمليات اعتقال إسرائيلية جديدة شملت قلقيلية و




.. الجيش الإسرائيلي يحذر النازحين من العودة إلى شمال غزة


.. يونيسف: نحو 4 ملايين طفل دون الـ 5 يعانون من سوء التغذية




.. مراسل الجزيرة: أي غارة إسرائيلية على رفح توقع شهداء وجرحي لت