الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل تًخترع الاوطان/ ايزابيل الليندي في (بلدي المخترع)

حسن كريم عاتي
روائي

(Hasan Kareem Ati)

2021 / 2 / 28
الادب والفن


هل تُخترع الأوطان
إيزابيل الليندي في (بلدي المخترع)*



- ((من بقوا في تشيلي وعانوا، يعتبروننا، نحن الذين غادرنا، خونة)).
- ((لا يخلو الأمر من منفيين يتهمون الذين بقوا في البلد بالمتعاونين مع الديكتاتورية)).
أن تخترع بلداً: يعني أن تبني وطناً على وفق مقاسات نفسية واجتماعية وسياسية واخلاقية وجغرافية، تحققها الأماني أكثر من أن يحققها الواقع الفعلي.
أن تخترع وطناً: يعني أن تبني مستقبلاً ملائماً لشعب مخترع أيضاً.
أن تخترع وطناً: يعني أن تبني أفقاً فكرياً ومعرفياً لحياة تتمناها لنفسك ولغيرك ممن يماثلك في هذا الأفق. فمن غير المعقول أن تدخل في مملكتك من تعدهم دخلاء عليها.
إنه الإختراع المحكوم بقيم خلقتها المعرفة المسبقة بالأوطان التي ننتمي إليها، وبالشعوب التي نُعد جزءاً منها، فيكون الوطن المخترع وطناً جديداً معاراً من الوطن الأصل، وإن كان مناقضاً له.
فكيف تُخترع الأوطان؟ ولمَ تُخترع أصلاً؟ وهل بنا حاجة لإختراعها؟ وهل يكون البلد المخترع بديلاً من الوطن الأصل؟
من المؤكد ان أحد الأسباب التي تدفعنا إلى ذلك، هو الحنين إلى دفء وطن، أو الشوق إلى وطن أكثر جمالاً، أو أكثر رفاهية، أو أكثر أمناً، أو أكثر ثراءً، أو أكثر إنسانية، أو...، أو...، وبتعدد خيارات (الأكثر) تزداد الرغبة لبناء وطن في المخيلة.
ولكن ما الذي يدفع إلى ذلك الحنين؟ أهي الغربة فيه أو التغرب عنه؟
إنها أسئلة تنفتح بسعة حجم المعاناة، وتفتح جراحات الذات الغريبة، أو التي أُجبرت على التغرب في فضاء الوطن أو في أفق الإغتراب. وهو ما حاولت الروائية التشيلية (إيزابيل الليندي) الإجابة عنها في كتابها (بلدي المخترع) عبر تجربة شخصية إتسمت بالصبر والمجالدة في مواجهة طغيان الإنتكاسة السياسية التي عصفت بالديمقراطية في بلدها، إثر صعود العسكر وتحكمهم بمقدراته سنة 1973م، بعد إغتيال الرئيس (سلفادور الليندي) وتزعم (بينوشيت) الإنقلاب الذي أطاح به، وأدى من بين نتائجه إلى هجرة كثير من مثقفي تشيلي إلى بقاع واسعة من الأرض، من بينهم الروائية (إيزابيل الليندي) التي عانت الغربة في وطنها قبل مغادرتها له، واضطرارها إلى التغرب عنه لاحقاً.
وعلى الرغم من أن الكتاب الأصل تم تأليفه في تاريخ لاحق على إنهيار الدكتاتورية التي كانت سبباً في غربتها، وإنحراف التجربة التي قادتها جبهة الوحدة الشعبية، وبعد عودة الديمقراطية، إلا أن مرارة تلك التجربة لم تترك مداد قلم الروائية من دون أن تغمس فيه. فيختلط التاريخي بالشخصي، والعام بالخاص، عبر تواصل الإحساس بالمذاق المر لتلك المدة: ((لأنني لا أستطيع أن أفصل موضوع تشيلي عن حياتي الخاصة)) (ص 135). وهو ما دفعها إلى أن تجعل من بلدها المرجع لجميع تفاصيل البلد المخترع الذي تتمناه، وحاولت أن تشيده: ((سافرت في سفن وطائرات وقطارات وسيارات، وأن أكتب دائماً رسائل اقارن فيها ما أراه بمرجعي الوحيد والخالد: تشيلي)) (ص 107). وبذلك لا يكون (البلد المخترع) سيرة ذاتية لتجربة شخصية خاضتها الروائية. بل تاريخ مرحلة حرجة من تاريخ بلدها. غير أنه لا يعتمد التوثيق بقدر إعتماده، في أغلب الأحيان، الإحساس بهول الفاجعة التي عصفت بها وببلدها، فتشكلت صورته في الذات الباحثة عنه بعد إحساس فقده، بالإعتماد على الذاكرة والعاطفة، اللتين دفعاها إلى الكتابة أيضاً: ((ملكت على طاولة المطبخ روايتي الأولى (بيت الأرواح)، ولو طلبوا مني في ذلك الوقت أن أعرفها، لقلت إنها محاولة لإستعادة وطني الضائع)) (ص 167).
تلك الذاكرة المفعمة بشوق إسترجاع حلم وطن في غياب الوطن الذي تبحث عنه في حلم يقظة أو حماس إنتماء له. فتفاجئنا الذاكرة بقدرات مخالفة لتوقعاتنا: ((عندي صورة رومانسية مجمدة عن تشيلي في بداية عقد السبعينيات، إعتقدت لسنوات انه عندما تعود الديمقراطية سيعود كل شيء كما في السابق، لكن حتى هذه الصورة المجمدة كانت وهمية)) (ص167). فيكون وهم الرؤية أحد أسباب الإندفاع على رسم ملامح تلائم عشقها الذي يكاد يفلت من بين خيوط الذاكرة التي لا تنتج الأشياء إلا على وفق الإحساس بها، فترسم خارطة الوطن عبر ذلك الإحساس: ((لقد رَكبتُ فكرة بلدي مثل أحجية، مختارة تلك القطع التي تنطبق على تصميمي ومتجاهلة ما عداها. بلدي تشيلي شاعري ومسكين)) (ص168).
فالذاكرة هنا مرهونة بالعاطفة، والعاطفة دفق متواصل من حنين مر إلى واقع خلقته احداث مؤلمة، تكون الروائية أحد ضحاياها. فيتداخل العاطفي بالموضوعي للتعبير عن الحالة الحرجة: ((الذاكرة مرهونة بالعاطفة، فنحن نتذكر أكثر أو أفضل الأحداث التي تثيرنا)) (ص168).
غير أن الذاكرة وحدها لم تعد كافية لدى (إيزابيل الليندي) لتعتمد عليها في إستحضار وقائع وأحداث تُعد الأهم في تغيير مسار حياتها وحياة شعبها: ((نثق بالذاكرة كي نمنح الاستمرارية لحياتنا، لكن الذاكرة ضبابية دائماً لا نستطيع أن نثق بها)) (ص81). وهو ما جعلها تدخل في تصورها عن تشيلي، قبل مغادرتها له، الزخم العاطفي لعشقها له، ليحدد ملامح ذلك الوطن: ((لا أتمكن من الشعور بتشيلي كمكان جغرافي، له بعض الخصائص الدقيقة، مكان محدد وواقعي. أراه كما تُرى دروب الريف في المساء، حين تخدع ظلال الحور البصر، ويبدو المشهد مجرد حلم)) (ص82). بل عن لحظة المغادرة إلى المنفى أدت بها إلى أن تشيد وطناً تتمناه: ((منذ اللحظة التي عبرت فيها جبال الأند، ذات صباح شتوي ماطر، بدأت دون وعي عملية إختراع بلد)) (ص155). وهي محاولة للتعويض عن الإحساس بضياع الوطن الأصل، ومحاولة الحفاظ عليه، عبر إعادة خلقه، والإستمرار في تشييده في الذات على وفق الأماني، وإن خالفت الواقع المعيشي في ذلك الوطن. وهو ما حدث لتشيلي التي لم تتمكن من النهوض من كبوتها إلا في عام 1989م، وهو عمر الإنتكاسة للديمقراطية فيها.
لقد كان (بلدي المخترع) محاولة جادة في إستحضار إحساس الإنتماء للوطن؛ أكثر من إستحضار الوطن نفسه، عبر إختراعه من جديد في الذات المبدعة لرسم مستقبل أفضل عبر الأمنيات، في أغلب الأحيان، وإن كان ذلك من السير في دروب الذكريات الموصلة إلى تخوم الوطن.
لذلك لا يعول كثيراً على وثائقية الوقائع، وإن إستخدمت فيه، وإن كان المراد ترسيم ملامحه، ولكن ليس الواقعية فعلاً. فوثوقنا مؤكد من إحساسها بالحب له، أكثر من الإحساس بجغرافيته المعروفة. فكان الكتاب وكما صرحت المؤلفة: ((ألاحظ أنني ذاتية النزعة عند الكتابة عن هذه الأحداث. علي أن أحكمَ لكم دون عاطفة، ولكن هذا سيكون خيانة لقناعتي ومشاعري)) (ص150). وهو ما جعل من القناعات السابقة على تشييدها بلدها المخترع يعتمد الوطن المشيد اصلاً في واقع بلدها. فمالت باتجاهات ترغب فيها، وأشارت إليها: ((الكتاب لا يحاول أن يكون كتاب أخبار سياسية تاريخية، بل سلسلة من الذكريات، التي هي دائماً مختارة ومصبوغة بصبغة التجربة الخاصة وبالإيديولوجيا)) (ص 150).
إن الافتراق المادي عن الوطن، وإن لم يكن خياراً مريحاً، يؤدي بالنتيجة إلى الدخول في مرحلة الغربة عنه، فإنه لا يولد طلاقاً روحياً معه. وإن كان يثير أسئلة ملحة، تنحصر بين رغبة البقاء فيه، على حراجة هذا البقاء وبين قرار التغرب عنه، على قسوة معاناة الغربة هو ما تثيره (إيزابيل الليندي) عبر تساؤلها: ((لقد سألت نفسي ألف مرة: ما الذي كان سيحدث لو أنني بقيت مثل الكثيرين الذين أداروا المعركة ضد الديكتاتورية من الداخل)) (ص154).
وعلى الرغم من انفتاح الإجابة عبر تعدد الاحتمالات التي يتعرض لها من كان قرر البقاء أو أُرغم عليه. غير أنها لم تكن متأكدة من أية إجابة تتصل بها عنه، سوى إجابة واحدة: ((ما كنت (لأصبح) كاتبة لو لم امر بتجربة المنفى)) (ص155). وهي إجابة تتصل بقدراتها الشخصية، ولا يمكن عدها الإجابة الأنجع عن سؤالها، الذي من المؤكد، يراود غيرها ممن تركوا أو أُرغموا على ترك بلدانهم في سنوات المحن.
وقد يصبح السؤال موجعاً حين يولد أسئلة آخر تتصل بالولاء للوطن من عدمه عبر الإقامة فيه أو التغرب عنه، من خلال الفجوة التي يخلقها القرب من الفجيعة والعيش في إتونها أو الاكتواء بلظاها وبين من يبتعد عنها، وان كان ذلك البعد لا يمثل إنسلاخاً عن الوطن لمجرد البعد نفسه. فأوار الحنين إليه لا تخمده الغربة، إن لم تكن حطباً يزيد من اشتعالها: ((لاحظت أن الكثيرين، ممن بقوا في تشيلي وعانوا، يعتبروننا، نحن الذين غادرنا البلد، خونة، ويفكرون بأن الحياة في الخارج أسهل، ومن ناحية ثانية، لا يخلو الأمر من منفيين يتهمون الذين بقوا في البلد بالمتعاونين مع الديكتاتورية)) (ص 180). وهو تساؤل واستنتاج يخلقه الظرف المماثل للشعوب التي تمر بتجاب متقاربة من حيث الاسباب، ويؤدي إلى النتائج عينها بسبب القسوة والطغيان. فيكاد ينقسم الوطن بين الداخل وبين الخارج. غير أن الشعوب على قناعة من أمكانية تخطي هذا الإحساس بزوال مسبباته.
إن ما يؤدي إلى إختراع الأوطان، هو الغربة فيها أو التغرب عنها. سواء اتخذ ذلك صفة النفي الاختياري أم النفي القسري. وسواء كان بإرغام أم برضا. وسواء إتسم بطول المدة أم قصرها. فالنفي يولد الحنين. والحنين يدفع إلى الإرتباط بالمعشوق/ الوطن، الذي نستحضره عبر العيش فيه أو البحث عنه، وهو ما حاولت (إيزابيل الليندي) في كتابها (بلدي المخترع) الوصول إليه والتعبير عنه بإحساس يتسم بالوله، وإن هدأت فورته لطول زمن مفارقة عذاب المرحلة الحرجة التي أدت إليه. لكنه في جميع الأحوال لا يخلو من عشق متجذر في روحها، وان فارقت وطنها إلى أرض أخرى.
إنه إختراع تمتلك (إيزابيل الليندي) شهادة الإنتماء إليه، ولكنها لا تمتلك حق الادعاء لوحدها احتكاره. فهو اكتشاف أزلي يتعلق بشغاف القلب، وإن كان التعبير عنه غير متاح للجميع، غير أن الإحساس به متيسر للجميع.
*بلدي المخترع/ إيزابيل الليندي/ ترجمة: رفعت عطية/ ورد للطباعة والنشر والتوزيع/ سوريا/ ط 1/ 2004.
** فصل من كتاب (تخطيطات بمداد الراوي).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي


.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع




.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج