الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مشكلة سبينوزا

آرام كربيت

2021 / 2 / 28
الادب والفن


مشكلة سبينوزا، رواية، للكاتب والروائي، والطبيب النفسي الأمريكي، إيرفن ديفيد يالوم، الذي ولد في وشنطن، لأبوين يهوديين من روسيا. حاول هذا الروائي أن يقدم لنا عملًا روائيًا غريبًا في شكله ومضمونه عبر تجسيد أو تعويم، شخصيتين رئيستين فيها على طول مسارها، في انتقاء عجيب لشخصيتين متناقضتين في السطح والعمق، الفيلسوف سبينوزا، الثائر على الخزعبلات في التوراة، وألفريد روزنبرغ، المنظر السياسي للحزب النازي، الذي أسس عدة مذاهب أيديولوجية نازية منها نظرية إستمرار البشرية، وإضطهاد اليهود.
لقد ظلمهما معًا، سبينوزا، وروزنبرج، المتناقضان جوهريًا وظاهريًا، في الفكر والممارسة، اللذان سارا معًا طوال مدة الرواية، في الزمن والمكان والحياة، أحدهما عاش في القرن السابع عشر، والأخر في القرن العشرين.
فسبينوزا كان حرًا ثائرًا متمردًا على الفكر الديني، خاصة لكونه جزء من تكوينه النفسي، خاصة التوراة:
ـ إن على اليهود أن يميزوا بين السياسي، ويسميه المدني، والقانون الأخلاقي. وإن القانون الأخلاقي هو السمو، يتركه اليهود ليلجأوا إلى السياسي، المدني لتسويق الحاخامات مصالحهم وشريعتهم ليكون بديلًا عن الأخلاق. تراهم يقاتلون اي إنسان إذا لم يلتزم بالشعائر، والطقوس المقدسة، ويهربون من حقائق الدين العميقة.
بينما روزنبرغ كان خاضعًا، عبدًا لسلطة مجرمة، وهو إنسان مجرم، ومتعصب للقومية الألمانية والعرق الأبيض، قميئًا، يدعو إلى اجتثاث الشعوب الأقل تطورًا، وتصفيتهم جسديًا.
المقارنة بينهما، لا يجوز أدبيًا وإنسانيًا وأخلاقيًا، بيد أن الروائي أراد أن يعوم الاضطهاد اليهودي سابقًا ولاحقًا، ليبين لنا وجع هذه الملة، آلامها، وليبرز لنا المصائب التي حلت بهم خلال آلاف السنين من خلال تسليط الضوء على النازية.
لم تعجبني الرواية، الكاتب لم يكن حياديًا، ولم يكتب رواية، أنما بكائيات.
لقد رأيت عقدة الاضهاد في كل سطر من أسطر العمل، حالة مرضية فاقعة في تذمرها، كأنه لا يرى هذا العالم الظالم إلا من خلال نفسه وملته.
قلت، وسأقول، لا أرى مصداقة في عمله، وليس شريفا في أدبه، وأكره البكاء على الأموات. وعاهدت نفسي أن لا أعود إلى الوراء، ولن أبكي على الموتى الميتين، ولن أبكي على الأحياء الميتين الذي يدمرون هذا العالم.
لماذا لم يذكر الغجر الذي حرقهم هتلر، وماذا عن آلام الأخرين، وماذا عن ممارسة اليهود في فلسطين، تشريد هذا الشعب المسكين المشرد في اصقاع العالم؟ هل حقيقة أن اليهود وحدهم تعرضوا للأذى الجسدي والنفسي والوجودي في العالم؟
إلى الأن لم تعترف إسرائيل، واليهودية العالمية بالإبادة الأرمنية، بله أن أغلب منظريها وقفوا وما زالوا يقفون إلى جانب الأتراك، ويدعموهم بكل السبل، السياسية والاستراتيجية والوجودية، كبرنار لويس وبريجنسكي وكيسنجر وغيرهم. وأغلبهم نظروا للفظائع على المستوى العالمي.
عمليًا، اليهودية لم تعد دينًا كما كنّا نعتقد قبل أكثر من مئتي سنة وإلى اليوم، بله تحولت تحولات نوعية في شكلها ومضمونها، تحولت إلى شبكة علاقات سوقية، تستثمر السياسة لحيازة المجال العام في العالم.
لا يمكن لإنسان عاقل أن يؤمن بهكذا دين، المملوء بالخرافات والأساطير الذي لا يبلعها عقل عاقل، وأغلب القائمين عليها انفصلوا عنها لمصلحة السوق، بل تحولت إلى استثمار سياسي على مستوى العالم، لتعويم النخب المالية، وتثوير مصالحها، وترسيخ مكانتها.
تعرض اليهود للاضطهاد في أسبانيا والبرتغال في القرن الخامس عشر، وما تلاه، هذه حقيقة، ولا يمكن نكرانها، بله ندين بشدة من ارتكب الاضطهاد بحقهم في الحياة والحرية، بيد أن المظلوم يتوجب عليه أن يتحول إلى إنسان رقيق، متسامح، ينبذ العنف والظلم، ويعطي البشرية دروس في القيم والمبادئ، ليكون نبراسًا وهدى للأخرين، لكن ما فعلوه بإنسان مفكر وباحث عن الحقيقية كسبينوزا مخجل بكل المقاييس. لهذا نقول، كان الأجدر بهم أن لا يظلموا إنسانًا منهم وفيهم، لكونه يفارقهم في الفكر والرؤية. لقد ظلموا هذا الإنسان الطيب الرقيق، حجروا عليه، عزلوا، ذلوه، حرموه من أهله وناسه، حولوه إلى نكرة.
منعوا على جميع اليهود السلام عليه أو التعامل معه، وشاركت الكنيسة والكنيس في رجمه إنسانيًا، بسبب أراءه الفلسفية والفكرية. ومات وحيدًا، أعزل يكتنف حياته الصمت والمرض، ولم تقبل به أية عائلة أن تزوجه امرأة، ولم يعرف المرأة طوال حياته، عاش مع كتبه ومؤلفاته، والجدران والفقر والقهر والحرمان.
ما أقسى ما عاناه، فقدانه للحب والعاطفة، ورائحة الأهل، لم يسمحوا لأخته ربيكا أن تلتقي به أو أخوه، وكلما نقرأ عن حياة هكذا ناس نشعر بالغربة، بالمزيد من الحزن عليهم، ومن يقرأ تاريخ حياة ماركس سيرى ما يراه في سبينوزا، شهامة وشموخ وعزة نفس وثقة بالنفس والتضحية بالحياة من أجل الفكر ومستقبل الإنسانية.
صحيح أننا لا نسمع أصواتهم، بيد أننا نلمس أوجاعهم، أوجاع المفكرين والمبدعين الذين قدموا أجسادهم قربانًا في البحث عن الحقيقة.
يقول سبينوزا:
أنا الأن أعيش حياتين، ففي النهار، أشعر بأنني رجل جديد خلع جلده القديم، ويقرأ اللأتينية واليونانية، وتراوده أفكار حرة ومثيرة. أما في الليل، فأنا باروخ، يهودي جوال تهدهدني أمي وأختي، ويطرح علي الشيوخ أسئلة حول التلمود، ويتعثر في خرائب كنيس متفحم.
وكلما ابتعدت عن وعي اليقظ، عدت إلى بداياتي وتشبثت بأطياف طفولتي.
لقد نبذه الكنيس وهو في الرابعة والعشرين من العمر، شاب في بدايات حياته، لم يشفقوا على شبابه سواء من أهله وناسه أو غيرهم، أداروا له ظهرهم، ورموه إلى الضياع والجوع والفقر.
هل هناك أقسى من هكذا جلد وتقطيع لاوصال الإنسان، وهكذا دين شمولي، أن يقول أما أن تكون معنا او أنك عدونا؟
إن العقل لا يرقى إلى مستوى الانفعالات، كما يقول سبينوزا، وكأنه يساير نفسه أو يعزيها في وحدتها وحزنه، وإن سبيلنا الوحيد لتحرير أنفسنا من الانفعالات والعاطفة هو أن نجعل العقل هو العاطفة.
بمعنى، يستحيل التمييز بين العقل واللاعقل في كل الحالات، لهذا يمكننا تحييد العواطف والانفعالات عندما يكون العقل مهددًا، أي في حالة الغضب أو الخوف او الحرمان أو النبذ.
إن الغضب والانفعالات السلبية لا تظهر إلا عندما يكون العقل مهددًا، أي ليس في وضعه الطبيعي، وإن مساومة العقل ضرورية في اللحظات الانفعالية، بتحييده عنها.
لو ان الرواية أخذت مسارها في الحديث عن سيبنوزا لكانت جميلة جدا، لو أكتفى الروائي في تعويم سبينوزا كمفكر من طراز رفيع وفيلسوف كبير لكنّا أمام عمل عظيم وراقي، بيد أن ربطه بروزبرغ والنازية أساء للعمل ولعقل القارئ. لقد أساء إلى هذا العمل، بله قزمه وشتت العمل كله، وجعلنا ننتقل من التعرف على هذا الفيلسوف، الى متابعة أحد مجرمي الحرب الحرب العالمية الكبار، توجسهاته واضطراباته وأمراضه.
في الحقيقة، هناك أسئلة كثيرة حول هذا الإقحام، مع أن العقل اليهود عصبوي بامتياز، منغلق على نفسه، باطني، يمارس التقية، لا يستطيع أن يكون علنيًا في وضوحه، عقل شمولي منتج للاستبداد والديكتاتورية، لهذا نراه يحاول أن يحارب كل من يحاول الخروج عنه، مثل أغلب الأديان، انه يشعر أن وحدته في تجمعه، وأن يساندوا بعضهم في كل الظروف، وأن يكونوا كتلة واحدة، أحدهم يشد أزر الأخر.
الكتابة عن هذه الرواية غير مشجع، إنه عمل قبيح، فيه تكلف، ادعاء، تعويم، اجهاد أدبي لتعويم اليهود كفئة مضطهدة مظلومة.
ويستعرض وضعهم، الاضطهاد الذي تعرضوا له، وبتقديري أن جميع الشخصيات في الرواية مجرد أدوات، جرى إقحامهم بالقوة لتمرير الشأن الأيديولوجي والفكري للمؤلف مستخدمًا قدراته الفلسفية والنفسية في رصد الأحداث وتحليلها.
صحيح أنه عرى اليهودية كطقوس، بيد أنه أراد أن يقول لنا، أن سيبينوزا، يهودي ثوري، ولا يمكن أن يمحى أصله، انتماءه الديني اليهودي سيبقى، حتى لو تمرد على رجال الدين، فهذا لن يغير قناعته بوجود الله، وإنه شخصية شامخة في تاريخ الفكر، وأنه كان رجلًا وحيدًا، وأن اليهود والمسيحيون حضروا كتبه، بيد أنه غير العالم، وإنه أدخلنا إلى العصر الحديث، وإلى عصر التنوير، وإن نشوء علم الطبيعة بدأت معه. وإنه أول شخص غربي عاش علنًا من دون أي ولاء أو ارتباط ديني، وإنه أذكى رجل مشى على وجه الأرض.
إنه التماهي من بعده التماهي في الشخصية اليهودية، مستخدمًا تمرد سبينوزا ليقول لنا هذا الروائي، أن لليهود الفضل الأول في دفع الحضارة الغربية إلى المدنية الحديثة، وكأن أوروبا كانت عرجاء قبله؟
بتقديري، أن الروائي دخل جنون الارتياب في عشقه ليهوديته، وأنه جير جميع التحولات التاريخية كلها، لهذا الفيلسوف، وكأن الأرض في أوروبا لم تكن معبدة للخروج من ظلام القرون الوسطى؟
يصف إيرفين، الروائي، كتاب الأخلاق لسبينوز بالجملة، مثل أي طفل، عندما يقيم أي شيء يراه لأول مرة، أنه جميل وشيق دون طرح أي فكرة.
وينتقل في التماهي معه إلى القمة في تقييم الكتاب، بإعطاءنا شهادة حسن سلوك شاملة دون مراعاة آراء الأخرين في المواقف المتناقضة أو المختلفة في الآراء الفلسفية والمدارس الفلسفية:
ـ إن كتاب الأخلاق يفوق الوصف، ويتطرق تقريبًا إلى جميع الجوانب المهمة في الفلسفة، كالفضيلة والحرية، والحتمية، وطبيعة الله، والخير والشر، والهوية الشخصية، والعلاقة بين الحسد والعقل. وقد لا يوجد كتاب بهذه الشمولية غير كتاب الجمهورية لأفلاطون.
يشعر المرء ان هذه الرواية تجميعية، إدارة ملف سياسي بقالب أدبي، معتبرًا أن ألفريد روزنبرغ، إنسانًا مريضًا منذ طفولته المبكرة، مضطرب الشخصية، يقول عنه:
ـ إنه قلق متوتر حتى في عز نضوجه السياسي والفكري ونجاحه في المجال الصحفي، وكذلك والده وشقيقه وزوجة أبيه، وعمته، أي أنها عائلة مريضة منذ الجذور، لهذا أصبح نازيًا، ولهذا قتل اليهود تحت هذه الدوافع.
يا لبؤس هذه الرواية البائسة، لقد استخدم علمه، علم النفس، فكره في تقييم النازية على اساس أنها نبعت من موقع مريض، وليس لكونها نظامًا سياسيًا رأسماليًا عالميًا، يطمح إلى استغلال الشعوب الأخرى لمصلحة النخبة السياسية والاجتماعية والمالية الألمانية.
إن هذه الرواية السياسية بامتياز، قزمت الصراع في الحرب العالمية الثانية، وكأن بقية دول العالم لم يكن لهم طموحات سياسية للسيطرة على العالم. ماذا يقول عن الولايات المتحدة التي انشأت نظامًا عالميًا أمنيًا منذ العام 1945، وجيرت كل طاقاتها لتبني وحدات أمنية على مدار الكرة الأرضية، وساهمت بالانقلابات العسكرية وأنتجت نظامًا أمنيًا عسكريًا في أغلب دول العالم المتخلفة، سواء في الدول العربية أو أمريكا اللأتينية.
إن المحاكمة الأولى يجب أن تكون للسياسة، للدولة، ككيان قائم على إدارة مصلحة النخبة المهيمنة ؟أو المسيطرة. وإن جميع الأمراض التي نعشيها على الصعيد الإنساني هو نتاج سيطرة النخبة على المجال الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في العالم كله.
وهل يوجد في عالمنا اليوم إنسان طبيعي، أليست هذه المدنية منتج حصري للاضطراب؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال


.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81




.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما