الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لا تقتلوا الكتب حرقاً

حسن كريم عاتي
روائي

(Hasan Kareem Ati)

2021 / 3 / 1
الادب والفن


سيان أن يكون صلصال طين تزخرف سطحه علامات تدونها يد خشنة، لا تعرف رقة تقليب الورق، ولا سهولة نقل الرؤى، وبلغة تدوين ساذجة، أو جلد ماعز يستهلك من الوقت في دباغته ما يعادل إنتاج كتب في زمن اختراع الطابعة، أو حروفاً ضوئية على شاشة عجيبة، تنقل السحر من زمن الأعاجيب إلى زمن تحقق السحر.
إنه الكتاب الذي يحار في سر قوته، وإن تغيرت الأزياء التي يرتديها من زمن إلى آخر. فبين تعويذة دفع الشرور، برسم الحاسد أو تجسيده في هيكل طين؛ تغرز العيدان في العينين منه حتى تُثقب؛ وبين المعاهدات الدولية من حقوق الأنسان، أو طفل، أو امرأة، أو منع تجارة العبيد، أو الرق الأبيض، أو زواج المثليين، وبين قصيدتي (الأعمى) هوميروس وملاحم العالم السفلي، وتراتيل الالهة. تأخذ المعلومة من الأهمية ما يتطلب نقلها من فكرة رجراجة في الذهن إلى شكل يأخذ قوامه من رقيم أو ورق أو حرف ضوئي يشهد على حقيقة وجود الفكرة، ويكون شاهداً على تطور الكتاب، من حاجة في زمن ما، إلى ترف في زمن آخر، ليعود كرة أخرى إلى صفة الحاجة الماسة لبناء إنسان عصري في زمن تختلف عصريته عن مفهومها السابق الذي نشأة فيه، ليبدو متخلفاً قياساً بوسائل أكثر حداثة لنقل المعرفة وتداولها للعبور من منطقة المجهول الواسعة في محيط الأنسان إلى ضفة اليقين التي تحاول أن تقضم من جرف المجهول الواسع ليضيق مع كل قضمة منه.
سيان، إن كان الورق صنع من الحلفاء أو من حرير الصين أو من جلد بعير، أو من قطعة تبر يُحفر على أديمها الحرف، هدية إلى بنت السلطان المدللة من عاشق يدعي الوله بها للوصول إلى عرش أبيها قبل عرش قلبها، أو غرين طين لم يجف بعد، يرسم فلاح تشققت الأقدام منه فوقه صورة القلب المطعون بألف سهم عشق وعشق.
سيان، إن حمل كلمات الرب، أو تراتيل القديسين، أو أدعية الأولياء، أو كلمات الشيطان، أو تراتيل الجن، أو توسلات المنافقين. سيان، إن كان زمن تدوينه قبل معرفة الأفق القادم لغد الإنسان، أو بعد معرفة التاريخ المنصرم وأهميته في بناء الغد نفسه. سيان، إن منحته هيبة الأنبياء، أو غشيته سحابة الدجالين.
ففي كل زمان هناك من يُخرج من (جراب) الحاوي، أفاعي تتلوى، يعلل بها أسباب حرقه. انه كتاب تأكله النار بنهم، أكثر ما فيه غرابة، احتفاظه بصورة الكتاب وإن كان هشيماً يتهاوى عند لمسه.
سيان، إن كنت غازياً أو مغزياً، فلابد أن تحرق كتب من غزوته، أو يحرق من غزاك كتبك. إنه الضحية الواهنة الأولى في جدول التضحيات والتنازلات في مفاوضات جرائم الشرف الحضارية لدى الشعوب. على الرغم من سموه وأهميته التي تتجلى في بعض ما كُتب فيه، وتفوقه على أكثر من كَتب فيه، والحاجة إليه من الجميع. إنه حامل صورة الإنسان، وأمسه وغده، وإن غادر الإنسان جسده. إنه إنتقال أرواح لا تمتلك قدرة تحقيق الخلود إلا به. فلم تُخلد العشبة جلجامش وإن حصل عليها. غير أن ملحمته خلدته حين تراقصت رمزها فوق رقيم طيني. انه التحايل على الطين والجلد والورق لتوقع بصمتها على دليل إنتماء إلى زمن الكتاب. إنه تحول معنوي من الذات البشرية إلى المادي من أوراق بين دفتي كتاب، لتعبر عند فتحها الروح الأولى التي دونت فيه، وتتراقص بلحن إلهي فوق من يقرأ فيه. أو بموسيقى الجنون، وإن غادرت جسدها ذلك الكتاب منذ ألف عام.
سيان بين صمت الكتاب وقوله، فهو عند الصمت على ما في جوفه، بين دفتيه، يكون (نمراً من ورق)، وحين يفتح ضلفتي باب المعرفة، يصبح (بأنياب نووية)، ليغادر عزلة الصمت ويدخل في ضجيج القول. وحيث (أن الخطر لا يحيط إلا بالذين يتكلمون)، فالكتاب في محل خطر دوماً، لخنقه بنار تتقد بين جوانحه.
سيان في الكتاب بين الصواب والخطأ، وبين الحق وبين الباطل، بين العدل وبين الظلم، بين الظالم والمظلوم، بين الأفراح والأتراح. فالكتاب لا ينطق إلا بما وضع فيه. فإن كان خيراً ينطق خيراً، وإن كان شراً ينطق شراً. لا يكذب وإن وضع فيه الكاذب كذبه، لأنه لا ينطق إلا عمن دون فيه. فيصدق وإن كذب المنقول. وفي ذلك محنة الكتاب التي تحيل الغضب عليه، من دون أن يكون له في ذلك قرار. بل هو من الصدق، بحيث لا يكذب ما كذب فيه عند النقل.
سيان أن تكتب فيه عن غيرك، أو تكتب فيه عن نفسك، أو يكتب عنك غيرك فيه أو يكتب غيرك عن نفسه. فهو ينسب القول لقائله، وإن اشتبك الموقف ينسب القول لمرحلته ويعد شاهداً عليها، فلا يحتال عليه وان كان المحتال بارعاً. فهو يفشي الأسرار وان كتمها فؤاد حاملها، أو حاول تعليقها برقبة غيره. وفي ذلك محنة أخرى للكتاب. فيحال إلى محرقة الحقد الكامنة في قلوب مبغضيه، لتلتهب بين وريقات صفر أو بيض ليحيلها اللظى إلى رماد ينهار بنسمة هواء وتختلط بأديم أرض تشهد جرائم دم رمادي مسفوح على أثرها في عملية جادة لكتم القول المبثوث فيه.
سيان أن تمنع شاهداً عن قول ما يعرف. بل أن تقتله كي لا يدلي بشهادته. وان تمنع كتاباً من البوح بما فيه. فإذا كانت الأولى جريمة محكومة بشخص المجني عليه، فإن الثانية جريمة بحق جميع من له حق الاطلاع. فالأولى على جسامتها محدودة الضرر. والثانية على سهولة استمرار وقوعها جسيمة الضرر. لان الأولى محكومة بزمن وقوعها في الجيل الذي حدثت فيه أو تمتد إلى جيل يليه، والثانية ممتدة في الزمن لجميع الأجيال اللاحقة على التأليف. غير أن خشية مرتكب الأولى أعلى من خشيته في الثانية. وفي ذلك محنة أخرى للكتاب. استسهال قتله حرقاً، لانعدام المدافع عنه أو ضعفه أو خوفه.
سيان أن تحرق كتاباً أو تقتل إنساناً مفكراً، فالاثنان يقترنان بعضهما ببعض، فيأخذ الثاني في إمتداده من الأول، ويأخذ الأول حضوره من الثاني. فأوقفوا قتل الكتب حرقاً، لأن بها يُقتل حق المفكر في التفكير وبها يُقتل حق المتلقي في الاطلاع، وبها ننحر ذواتنا من دون حياء.
* فصل من كتاب ( تخطيطات بمداد الراوي).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا