الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


انطون سعادة وفلسفة الفكرة القومية السورية(5)

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2021 / 3 / 2
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


حقيقة العقل السوري القومي

وحدد هذا بدوره مقومات الوجود الثقافي الخاص للفكرة القومية السورية. فقد اتجه الكنعانيون اتجاها جديدا في الرقي الثقافي عما كان سابقا، كما يقول انطون سعادة. فعلى خلاف غيرهم اهتموا "بالتغلب على صعوبات الحياة العمرانية بترتيب ثقافتهم الاقتصادية على أساس زراعة راقية غنية جدا حتى سمي وطنهم الأرض التي تفيض لبنا وعسلا" . واستكملوا ذلك بفكرة وأسلوب التجارة، بوصفها أحد العوامل العظمى في تفاعل الثقافات. إذ مكنت التجارة السوريين من التعويض عن فقر أراضيهم من المعادن ونقص المواد الخام. وبهذا يكون السوريون الكنعانيون والآراميون قد خطوا إلى التجارة وثقافة الإنتاج التجاري . ولازم ذلك تشكل مؤسسة ما أطلق عليه انطون سعادة عبارة "الاستعمار السوري". وكتب بهذا الصدد يقول، بأن الثقافة السورية كانت الأصل في وضع "طور الاستعمار" الذي ادخل البحر المتوسط كله في "نطاق الثقافة السورية الجديدة التي هي بدء التمدن الحديث" . وقد يكون صنع الإمبراطورية من بين أكثرها جلاء، بمعنى كيفية بلورتها للنموذج السوري الخاص القائم توحيده النموذجي بين النزعة القومية والكونية. فقد ساهمت سورية أيضا في إرساء أسس الدولة البرية. ففي مشرقها نشأت الإمبراطورية الأكادية والإمبراطورية الكلدانية، وفي شمالها الإمبراطورية الآشورية والحثية . تماما كما أدى إدراك الفينيقيون ممكنات البحر إلى إنشاء الإمبراطورية البحرية. فالإمبراطورية البحرية السورية كانت أول إمبراطورية بحرية في العالم، والتي بلغت أوجها في صور وقرطاجة . ذلك يعني أنهم جمعوا بين قوى عديدة جرى توليفها في قوة كبرى أصيلة وهي الدولة البرية والبحرية، والسياسة والاقتصاد، والإنتاج والتجارة. أما ذروة كل هذا الإبداع التاريخي الهائل فقد وجد انعكاسه فيما أطلق عليه انطون سعادة عبارة "الثورة الثقافية" التي استكملها الكنعانيون (الفينيقيون) عبر "استنباط الأحرف الهجائية". وبهذا تكون "ثورتهم الثقافية التي فتحت طريقا جديدا للارتقاء الثقافي" أن ترسي قواعد "التمدن الحديث" . الأمر الذي يجعل من الممكن القول بالقيمة الجوهرية والتأسيسية للسوريين في وضع أسس الحضارة العالمية. ووضع انطون سعادة هذا الاستنتاج في عبارة تقول:"متى القينا نظرة على هذا الصرح الضخم من الحياة المدنية التي تحرز بعد كل فترة نصرا جديدا للإنسان على أسرار الطبيعة، أدركنا قيمة الثورة السورية ومعناها الكبير" .
ووضع انطون سعادة هذه الأفكار في أساس استنتاجه النظري العام القائل بإبداع العقل السوري نماذجه الخاصة في كل شيء. وقد يكون موقفه من نموذج النظام السياسي والدولة الصيغة الأكثر جوهرية. فالعقل السوري العملي لم يكن يميل إلى تخيلات فاسدة من الوجهة العملية وخيال سخيف كالقول بأن يكون كل فرد من أفراد المدينة المعترف بهم "شريكا" فعليا في إدارة الدولة، كما يقول انطون سعادة. ذلك يعني أن المدينة السورية ظلت محافظة على الفرق بين السياسة والاجتماع. وهذا الفرق هو ما مكّن الدولة من اطراد تقدمها . فإذا كانت التجربة الإغريقية التي ألغت الدولة، فإن التجربة السورية على العكس من ذلك قد كانت على الدوام الممثل النموذجي للدولة. وبهذا يكون النموذج السوري الأكثر تماما وديمومة وتأثيرا بما في ذلك بالنسبة للدولة الحديثة. وذلك لأن "الأسلوب الذي جرت عليه الدولة في تقدمها وارتقائها كان الأسلوب السوري الذي ارتقى في قرطاجة إلى الديمقراطية ووضوح الحقوق المدنية والحقوق الشخصية، مع بقاء الدولة شيئا متميزا عن الشعب" . وينطبق هذا أيضا على مقارنة العقل السوري بالروماني في مجال الشرع. فإذا كان "تاريخ روما الثقافي هو تاريخ حقوقها"، وأن "الشرع الروماني هو أتقن ما تركته روما للبشرية"، فلأن الشرع في روما ابتدأ "على مثال دولة المدينة السورية" .

فلسفة القومية السورية وآفاقها

ذلك يعني، إن الفكرة القومية (السورية) الاجتماعية لها تاريخها وصيرورتها الثقافية، ومن ثم خصوصيتها السياسية. وبالتالي فإنَّ حصيلة تداخل أسسها ومصادرها التاريخية والثقافية والسياسية قد أدى إلى تفردها بسرّها الخاص، الذي علق عليه انطون سعادة بعبارة "الإثم الكنعاني". وهذا بدوره ليس إلا السرّ الذي ألزم ويلزم الكينونة السورية بالرجوع إلى ذاتها بوصفها أسلوب ديمومتها الفاعلة. وقد يكون حلها لإشكالية المادي والروحي هو الأسلوب الأكثر تحقيقا لها. فالحركة القومية الاجتماعية لم تأت لسورية بالمبادئ المحيية فحسب، بل وأتت العالم بالقاعدة التي يمكن عليها استمرار العمران وارتقاء الثقافة. مع ما ترتب عليه من "رفض فكرة الصراع بين المادة والروح. وبالتالي الإقرار بمبدأ الأساس الروحي- المادي للحياة الإنسانية ووجوب تحويل الصراع المميت إلى تفاعل يحي ويعمّر ويرفع الثقافة ويسير الحياة نحو ارفع مستوى" . ووجد في هذا الأسلوب طريق إنهاض "الأمة السورية". بمعنى تحويل صراعاتها الداخلية إلى أسلوب رقيها الذاتي. وليس هناك من أسلوب ونموذج يمكنهما الارتقاء إلى هذا المستوى بوصفه رؤية وبديل وحل بالنسبة لسورية سوى الفكرة القومية الاجتماعية. من هنا استنتاجه عن أنه في حال بلوغ "الاتحاد القومي المسالم كل المسالمة في الداخل، حينئذ يمكن أن تنهض الأمة السورية كرجل واحد وتسير إلى خلاصها. فلا تكون وحدتها هذه محمدية ولا مسيحية، بل قومية اجتماعية ينظر أفرادها إلى الحياة نظرة واحدة، ويفهم كل منهم رسالة الدين بهذه النظرة" . بعبارة أخرى، لقد أراد انطون سعادة القول، بأن الدين الجديد الذي ينبغي أن ينقذ سورية والعالم العربي ككل يكمن في اعتناق مبادئ وحقيقة الفكرة الاجتماعية القومية السورية. من هنا توكيده على انه "بهذا التعليم السوري القومي الاجتماعي تنهض الأمة السورية وكل أمة عربية تتخبط في محاولة عقيمة للتوفيق بين حزبية الدين والواقع الاجتماعي" .
احتوت الفكرة القومية السورية كما أسس لها انطون سعادة على البذرة العقلانية الكبرى القائلة، بأن الأساس المتين للفكرة القومية يقوم في أبعادها الاجتماعية. وعليها بنى إمكانية نهوض سورية، بوصفها الأمة الوحيدة القادرة من بين "أمم العالم العربي" على بناء قوة اقتصادية اجتماعية. وذلك لأنها الوحيدة التي تمتلك النفط والأملاح الكيمياوية وبعض المعادن. كما أنها الوحيدة القادرة على بناء صناعة ثقيلة من بين الأقطار العربية. مما حدد بدوره فكرته القائلة، بأن استقلال سورية الموَّحدة في نهضة قومية أكثر إمكانية واقرب منالا من استقلال جميع الأقطار العربية دفعة واحدة بحركة واحدة. فسورية بوضعها الجغرافي ومقدرتها المادية والروحية أقوى سياسيا من جميع الأقطار العربية متحدة .
من هنا أصبح البعث القومي "للأمة السورية" مضمون الفلسفة العملية السياسية للحزب القومي السوري. وكّثف انطون سعادة مضمون هذه الفلسفة من خلال معادلة العقيدة والسياسة. فإذا كانت السياسة عند "رجال السياسة اللاقوميون" هي الغاية والعقائد ليست لهم سوى وسائط، فإن الأمر مغاير تماما بالنسبة لفلسفة الحزب السوري القومي. بمعنى أن العقيدة هي الغاية والسياسة وهي الواسطة. وذلك لأن هذه الفلسفة ترمي أساسا إلى خدمة العقيدة القومية المشتملة على قضية واضحة معينة وليست لمجرد السياسة أو القضية الشخصية . من هنا جوهرية وضرورة وعي الذات القومي. إذ لا يعني وعي الذات القومي عند انطون سعادة سوى بلوغ الجماعة مرتبة الوجدان القومي والشعور بشخصية الجماعة. وذلك لأن "كل جماعة ترتقي إلى مرتبة الوجدان القومي، والشعور بشخصية الجماعة لابد لأفرادها من فهم الواقع الاجتماعي وظروفه وطبيعة العلاقات الناتجة عنه. وهي هذه العلاقات التي تعين مقدار حيوية الجماعة ومؤهلاتها للبقاء والارتقاء" . لاسيما وأن هذا الفهم يتسم بضرورة قاهرة في مراحل الصعود (مرحلة الانتقال) التي عادة ما تتميز بالبلبلة الفكرية. فهو الأسلوب الذي يعيد لها توازنها الداخلي ورؤيتها الواقعية. وبانعدام ذلك فأنها سوف تكون فريسة ما اسماه انطون سعادة "بفوضى العقائد وبلبلة الأفكار" .
وتراكمت فكرته بهذا الصدد بالهبوط من علياء الفكرة الشرقية العالمية إلى الفكرة القومية العامة ومنها إلى الفكرة القومية السورية. فقد كانت فكرة الشرق والشرقية في البداية الإطار العام لوعي الذات القومي. وفي مواجهتها للغرب والهيمنة الغربية (الأوربية) كانت جزء من طبيعة ومستوى الصراع الدائر آنذاك. غير أن فكر انطون سعادة بهذا الصدد لم يكن محكوما بفكرة الاستفادة أو التأثر أو الإعلاء للشأن الأوربي (الثقافي). على العكس، انه واجه كل ذلك بفكرة وأسلوب النقد الذاتي وتجميع القوى في مواجهة الغرب الكولونيالي عبر صقل الفكرة القومية. من هنا اعتباره الصيغ النمطية للغرب الكولونيالي تجاه حركات النهضة الوطنية في الشرق الرامية إلى الحرية والاستقلال مثل اتهامها بالهمجية وتهديدها للمدنية الأوربية وما شابه ذلك، مجرد فلسفة عقيمة. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن هذه الاتهامات والمغالطات لا تتعدى كونها "فلسفة تاريخية عقيمة أنتجتها أدمغة المؤرخين الغربيين المتعصبين". وأغرب ما فيها هو اعتبارهم إياها "إحدى الحقائق التاريخية". وبالضد من ذلك نراه يدعو إلى شعار "الرجوع إلى الشرق". وانطلق في شعاره هذا من انه إذا كان التاريخ قد اثبت في الماضي أن النهضات الوطنية في الشرق لا تهدد المدنية بل تهدد البربرية الغربية المندغمة في المدنية، فإنَّ ذلك يعني أيضا أن الشرق سيكون مهبط مدنية جديدة لا تقل شأنا عن المدنية التي أعطاها الشرق للغرب فيما مضى . بل ونرى صيغا خطابية جياشة لا تقل بهذا الصدد من خطباء المغامرات الحربية، كما في قوله، بأن "الجيوش الجرارة" سوف تنطلق من الشرق لإرجاع الغرب إلى مكامنه الأولية. فإذا كانت بعض الألسنة الصغيرة من النار الشرقية قد التهمت نصف أوربا فيما مضى، فما بالك في حال اشتعال النار الشرقية.
غير أن النزعة الخطابية المتأججة لم تكن في فلسفة الحزب القومي السوري سوى التعبير الوجداني العارم للانتقال إلى واقعية الرؤية التاريخية والسياسية المتفائلة بصدد المستقبل. من هنا دعوته للارتقاء الذاتي بمعزل عن التأثر السلبي بالغرب أيا كان شكله ومحتواه. بعبارة أخرى، إن المهمة الجوهرية للصعود الشرقي تقوم في تنفيذ مهمة الخروج من أثر الحضارة الغربية . وقد شدد في احد مواقفه بهذا الصدد على أن الشرق "لا يجب أن ينتظر إنصافا من الغرب أو من التاريخ الغربي القائل، بأن أوربا فوق الجميع". وبالتالي، فإنه "لا سبيل إلى نيل الشرق حقوقه إلا بالاعتماد على ذلك السند الطبيعي الذي يلجأ إليه كل حي للدفاع عن نفسه وحقوقه، وهو القوة. فإن شرائع البشر كلها كانت نتيجة استعمال القوة، ولم تتعدل إلا بالقوة. والثورات العظيمة في العالم تثبت هذه النظرية إثباتا لا سبيل معه إلى الجدل" . واختتم ذلك بشعار "وجوب إضرام الثورة العامة في الشرق"، بحيث يمكن معها القول:"اليوم لكم يا أهل أوربا، وأما الغد فهو لا شك لنا" .
لا تعني عبارة "الغد لنا" سوى الشعار الداعي لاستعادة ما مضى ولكن بمعايير الفكرة الجديدة. ذلك يعني انه وثيق الارتباط ببعث الفكرة القومية بوصفها "رسالة"، والأمة بوصفها اتحادا جديدا، والدولة بوصفها "متحدا" راقيا، والروح القومي بمختلف أشكاله ومستوياته بوصفه وعيا سوريا اجتماعيا.(يتبع...).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كاميرات مراقبة ترصد فيل سيرك هارب يتجول في الشوارع.. شاهد ما


.. عبر روسيا.. إيران تبلغ إسرائيل أنها لا تريد التصعيد




.. إيران..عمليات في عقر الدار | #غرفة_الأخبار


.. بعد تأكيد التزامِها بدعم التهدئة في المنطقة.. واشنطن تتنصل م




.. الدوحة تضيق بحماس .. هل يغادر قادة الحركة؟ | #غرفة_الأخبار