الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إبن خلدون الصائغ الأول لقانوني القيمة وفائض القيمة 4-5

حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي

(Hussain Alwan Hussain)

2021 / 3 / 3
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


المتبقي من النص الأول المقتبس سابقاً من مقدمة أبن خلون الذي بفيض في وصف كون العمل البشري الغائي هو خالق القيمة هو هذه الفقرة :
"وقد تكون ملاحظة العمل ظاهرة في الكثير منها ، فتجعل له حصة من القيمة عظمت أو صغرت . وقد تخفى ملاحظة العمل كما في أسعار الأقوات بين الناس ، فان اعتبار الأعمال و النفقات فيها ملاحظ في أسعار الحبوب كما قدمناه ، لكنه خفي في الأقطار التي علاج الفلح فيها و مئونته يسيرة ، فلا يشعر به الا القليل من أهل الفلح . فقد تبيَّن أن المفادات و المكتسبات كلها أو أكثرها إنما هي في الأعمال الإنسانية ، و تبيَّن مسمى الرزق و انه المنتفع به . فقد بان معنى الكسب و الرزق و شرح مسماهما . واعلم أنه إذا فقدت الأعمال أو قلت بانتقاص العمران ، تأذّن الله برفع الكسب . أترى إلا الأمصار القليلة الساكن كيف يقل الرزق و الكسب فيها أو يُفقد ".
في النص أعلاه يقدم ابن خلدون لواحدة من عديد التطبيقات الاجتماعية التي تزخر بها مقدمته لقانون "الوضع الاجتماعي هو الذي يحدد الوعي الاجتماعي" عندما يقول : "وقد تخفى ملاحظة العمل كما في أسعار الأقوات بين الناس ، فان اعتبار الأعمال و النفقات فيها ملاحظ في أسعار الحبوب كما قدمناه ، لكنه خفي في الأقطار التي علاج الفلح فيها و مئونته يسيرة ، فلا يشعر به الا القليل من أهل الفلح ."
في الجملة أعلاه يضع إبن خلدون يده على مفتاح اللغز الذي جعل ارسطو و توما الأكويني و سواهم الكثير من المفكرين غير واعين للدور الحاسم الذي يلعبه العمل البشري في خلق القيمة للإنتاج المادي للقوت لكونهم عاشوا في " الأقطار التي علاج الفلح فيها و مئونته يسيرة " بحيث تغيب عنهم ملاحظتها عكس المناطق التي يكون فيها الانتاج الزراعي للحبوب أعلى كلفة (سأعود لهذه النقطة) .
ثم يأتي هذا الربط الخلدوني الألمعي بين درجة الكثافة السكانية للمجموعة البشرية و بين قيمة العمل : "واعلم أنه إذا فقدت الأعمال أو قلت بانتقاص العمران ، تأذّن الله برفع الكسب . أترى إلا الأمصار القليلة الساكن كيف يقل الرزق و الكسب فيها أو يُفقد ". من الواضح من هذه الجملة أن أبن خلدون كان يعي أن القيمة هي جوهرياً علاقة اجتماعية تضمحل و تختفي باضمحلال و باختفاء المجتمع .
في النص الخلدوني الجديد أدناه يفصل لنا ابن خلدون فيه – من بين أشياء عديدة أخرى – كيف أن قيمة إنتاج القوت تنخفض في الأمصار ذات الكثافة السكانية الكبيرة لانخراط الكثير منهم في العمل بهذا القطاع الإنتاجي الحيوي ، فيزداد انتاجهم بما يجعل كلفة تجديد "قوة العمل" البشري للمشتغلين فيه يومياً أقل كلفة :
"الفصل الثاني عشر في أسعار المدن
إعلم أن الأسواق كلها تشتمل على حاجات الناس فمنها الضروري و هي الأقوات من الحنطة و ما معناها كالباقلاء و البصل و الثوم و أشباهه و منها الحاجي والكمالي مثل الأدم و الفواكه و الملابس و الماعون و المراكب و سائر المصانع والمباني فإذا استبحر المصر و كثر ساكنة رخصت أسعار الضروري من القوت و ما في معناه و غلت أسعار الكمالي من الأديم و الفواكه و ما يتبعها و إذا قل ساكن المصر و ضعف عمرانه كان الأمر بالعكس من ذلك. و السبب في ذلك أن الحبوب من ضرورات القوت فتتوفر الدواعي على اتخاذها إذ كل أحد لا يهمل قوت نفسه و لا قوت منزله لشهر أو سنته فيعم اتخاذها أهل المصر أجمع أو الأكثر منهم في ذلك المصر أو فيما قرب منه لا بد من ذلك. و كل متخذ لقوته فتفضل عنه و عن أهل بيته فضلة كبيرة تسد خلة كثيرين من أهل ذلك المصر فتفضل الأقوات عن أهل المصر من غير شك فترخص أسعارها في الغالب إلا ما يصيبها في بعض السنين من الآفات السماوية و لولا احتكار الناس لها لما يتوقع من تلك الآفات لبذلت دون ثمن و لا عوض لكثرتها بكثرة العمران. و أما سائر المرافق من الأدم و الفواكه و ما إليها لا تعم بها البلوى و لا يستغرق اتخاذها أعمال أهل المصر أجمعين و لا الكثير منهم ثم أن المصر إذا كان مستبحراً موفور العمران كثير حاجات الترف توفرت حينئذ الدواعي على طلب تلك المرافق و الاستكثار منها كل بحسب حاله فيقصر الموجود منها على الحاجات قصوراً بالغاً و يكثر المستامون لها و هي قليلة في نفسها فتزدحم أهل الأغراض و يبذل أهل الرفه و الترف أثمانها بإسراف في الغلاء لحاجتهم إليها أكثر من غيرهم فيقع فيها الغلاء كما تراه. و أما الصنائع و الأعمال أيضاً في الأمصار الموفورة العمران فسبب الغلاء فيها أمور ثلاثة: الأول كثرة الحاجة لمكان الترف في المصر بكثرة عمرانه، و الثاني اعتزاز أهل الأعمال لخدمتهم وامتهان أنفسهم لسهولة المعاش في المدينة بكثرة أقواتها، و الثالث كثرة المترفين و كثرة حاجاتهم إلى امتهان غيرهم و إلى استعمال الصناع في مهنهم فيبذلون في ذلك لأهل الأعمال أكثر من قيمة أعمالهم مزاحمة و منافسة في الاستئثار بها فيغتر العمال و الصناع و أهل الحرف و تغلو أعمالهم و تكثر نفقات أهل المصر في ذلك. و أما الأمصار الصغيرة و القليلة الساكن فأقواتهم قليلة لقلة العمل فيها و ما يتوقعونه لصغر مصرهم من عدم القوت فيتمسكون بما يحصل منه في أيديهم ويحتكرونه فيهم فيعز وجوده لديهم و يغلو ثمنه على مستامه. و أما مرافقهم فلا تدعو إليها أيضاً حاجة بقلة الساكن و ضعف الأحوال فلا تنفق لديهم سوقه فيختص بالرخص في سعره. و قد يدخل أيضاً في قيمة الأقوات قيمة ما يعرض عليها من المكوس و المغارم للسلطان في الأسواق و باب الحفر و الحياة في منافع وصولها عن البيوعات لما يمسهم. و بذلك كانت الأسعار في الأمصار أغلى من الأسعار في البادية إذ المكوس و المغارم و الفرائض قليلة لديهم أو معدومة. و كثرتها قي الأمصار لا سيما في آخر الدولة و قد تدخل أيضاً في قيمة الأقوات قيمة علاجها في الفلح و يحافظ على ذلك في أسعارها كما وقع بالأندلس لهذا العهد.و ذلك أنهم لما ألجأهم النصارى إلى سيف البحر و بلاده المتوعرة الخبيثة الزارعة النكدة النبات وملكوا عليهم الأرض الزاكية و البلد الطيب فاحتاجوا إلى علاج المزارع و الفدن لإصلاح نباتها و فلحها و كان ذلك العلاج بأعمال ذات قيم و مواد من الزبل و غيره لها مؤنة و صارت في فلحهم نفقات لها خطر فاعتبروها في سعرهم. و اختص قطر الأندلس بالغلاء منذ اضطرهم النصارى إلى هذا المعمور بالإسلام مع سواحلها لأجل ذلك. و يحسب الناس إذا سمعوا بغلاء الأسعار في قطرهم أنها لقلة الأقوات و الحبوب في أرضهم و ليس كذلك فهم أكثر أهل المعمور فلحاً فيما علمناه و أقومهم عليه و قل أن يخلو منهم سلطان أو سوقة عن فدان أو مزرعة أو فلح إلا قليلاً من أهل الصناعات و المهن أو الطراء على الوطن من الغزاة المجاهدين. و لهذا يختصهم السلطان في عطائهم بالعولة و أقواتهم و علوفاتهم من الزرع. و إنما السبب في غلاء سعر الحبوب عندهم ما ذكرناه. و لما كانت بلاد البربر بالعكس من ذلك في زكاء منابتهم و طيب أرضهم ارتفعت عنهم الهون جملة في الفلح مع كثرته و عمومته فصار ذلك سبباً لرخص الأقوات ببلدهم و الله مقدر الليل والنهار و هو الواحد القهار لا رب سواه."
إنتهى .
في النص أعلاه نجد وصفاً اقتصادياً دقيقاً و متقدماً عن اختلاف طبيعة العرض و الطلب للأنواع الثلاثة من السلع بين الأسواق المدينية و الريفية ، و لآلية المنافسة و الاحتكار في السوق ، و للأثر السلبي للضرائب على الأسواق ، و لنظرية التكاليف النسبية (هامش فرق كلفة إنتاج السلعة الواحدة في منطقتين - الأندلس و بلاد البربر- و التي تنسب لديفيد ريكاردو) ، و لنظرية الإنتاجية الهامشية المطورة في نهاية القرن التاسع عشر من طرف جون بيتس كلارك وفيليب هنري ويكستيد (ليس من مصلحة المُنتٍجين بيع منتجاتهم بأقل من قيمة كلفها لأن ذلك سيحرمهم من مدخول هامش قيمتها الإنتاجية) ، و لانتقال قوة العمل الاجتماعي من القطاع الانتاجي الأقل ربحية إلى القطاع الأكبر ربحية ؛ و لآليات تراكم الثروة الاجتماعية و اضمحلالها .. إلخ .
نظرية فائض القيمة الخلدونية
قبل تحليل مفهوم فائض القيمة لدى أبن خلدون ، ينبغي الايضاح بشكل لا لبس فيه كيف أن شكل و مضمون هذا المفهوم مختلف عن المفهوم الماركسي لفائض القيمة الخاص و المميز لنمط الانتاج الرأسمالي . من المعلوم أن مفهوم فائض القيمة مرتبط جدلياً بقانون العمل للقيمة إذ لا يمكن لفائض القيمة أن يتخلّق دون تواجد قانون القيمة النافذ المفعول ، و هو ما يستوجب منطقياً الاستنتاج بأن كل ثروة العالم انما هي نتاج العمل البشري فقط لا غير . طيب ما دام العمل وحده هو خالق القيمة فمن أين تتأتى و تتراكم رؤوس الأموال للرأسماليين الذين لا يعملون ؟ الجواب : من سرقتهم بموجب عقود العمل المشرعنة قانوناً و المفروضة من طرف واحد لنسب متفاوتة من قوة عمل أجرائهم المشتغلين في المرافق الانتاجية التي يمتلكها هؤلاء الرأسماليون . و لكن هل صحيح أن قانون القيمة فاعل المفعول في كل المجتمعات الطبقية ؟ في الجزء الثالث من كتاب "رأس المال" يوضح ماركس بنفسه بأن قانون القيمة يعمل في العالم القديم و الجديد ، فيقول :
"بصرف النظر عن الطريقة التي يحكم بها قانون القيمة الأسعار وحركتها ، من المناسب أيضًا أن ننظر إلى قيم السلع ليس فقط على أنها سابقة نظريًا على أسعار الإنتاج ، ولكنها سابقة عليها تاريخيا أيضًا . وهذا ينطبق على الظروف التي تكون فيها وسائل الإنتاج ملكًا للعامل ، وهذا الشرط موجود ، في كل من العالم القديم والحديث ، بين الفلاحين المالكين والحرفيين الذين يعملون لحسابهم ، وهذا يتوافق أيضًا مع الرأي الذي أعربنا عنه سابقًا بكون تطوير المنتجات إلى سلع ينشأ من التبادل بين المجتمعات المختلفة ، وليس بين أفراد المجتمع الواحد ".
فما دام قانون القيمة يشتغل في العالم القديم ، فإن هذا يستتبع تثبيت حقيقة أن ثروات الطبقات السائدة في أنماط الانتاج السابقة على نمط الانتاج الرأسمالي لا بد أنها كانت هي الأخرى فوائض قيمة مخصوصة غير مدفوعة الأجر لخالقيها المنتجين الفعليين . و من نافلة القول أن النظرية الماركسية ترى أن كل مجتمع طبقي لا بد أن يتميز بانقسامه إلى طبقتين متناحرتين : طبقة مستغِلة تستحوذ على فائض الانتاج الاجتماعي و طبقة مستغَلة تنتج هذا الفائض و لكنها محرومة بحكم القانون السائد من ثمار هذا العمل الفائض غير المدفوع الأجر سواء كان هذا في نمط إنتاج العبيد أو الإقطاع أو نمط الإنتاج الآسيوي أو الرأسمالي . فعلاوة على العمل المباشر غير المدفوع الأجر للعبيد و أنظمة السخرة الجماعية الآسيوية ، يمكن أن يأخذ فائض القيمة شكل السلع التي تستحوذ عليها الطبقة كما هو الحال في ريع الخراج أو في ريع الإنتاج في ظل الإقطاع عندما يتم دفع الريع الإقطاعي بمقدار معين من الإنتاج . كما يمكن أن يتخذ شكلاً نقديًا مثل الأرباح الرأسمالية . الفرق الجوهري بين فائض القيمة للمجتمعات الطبقية ما قبل الرأسمالية و فائض القيمة الخاص بنمط الانتاج الرأسمالي الذي اكتشفه ماركس هو أن النوع الأول يخلق المال أو الثروة ، في حين ان النوع الثاني ينتج رأس المال عبر احتكار الرأسماليين لوسائل الانتاج الاجتماعي لأنفسهم لأول مرة في التاريخ و تحويلهم قوة عمل المنتجين الى بضاعة تحدَّد قيمتها التبادلية (أجرها) بأدنى من قيمتها الاستعمالية (انتاجيتها) في موقع العمل . و هو ما يفرض اشتغال قانون الحركة الاول المميز لنمط الإنتاج الرأسمالي – و هو الآخر من اكتشافات ماركس – و المتمثل بلزوم الاندفاع الوجودي الدائم للرأسماليين إلى زيادة معدل تراكم رؤوس مالهم أكثر فأكثر . و لهذا فقد اعتبر ماركس نفسه أن نظريته عن فائض القيمة تُعد منجزه الأهم في تقدم التحليل الاقتصادي العلمي .
يتبع ، لطفاً .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - هبات الطبيعة مصدر اساسي للثروة
منير كريم ( 2021 / 3 / 3 - 06:54 )
تحية للبروفيسور حسين علوان
ليس العمل وحده مصدرا للثروة بل ان هبات الطبيعة من الارض وباطن الارض والريح والانهار والبحار والمحيطات كونت الجزء الاكبر من ثروات المجتمعات القديمة , ولا زالت هبات الطبيعة تدر على الانسان حتى في المجتمعات المتقدمة
وكما قال ادم سميث الارض والعمل مصدر الثروة
شكرا لك


2 - صحيح ؛ وفد أثبته أبن خلدون
حسين علوان حسين ( 2021 / 3 / 3 - 08:44 )
الأستاذ الفاضل السيد منير كريم المحترم
ت 1
تحية حارة و شكرا على تجديد الزيارة الكريمة
كلامكم صحيح و قد سبق و أن تمت الإشارة إليه في الحلقة الثانية من هذه السلسلة في قول أبن خلدون :-و يد الإنسان مبسوطة على العالم و ما فيه بما جعل الله له من الاستخلاف . و أيدي البشر منتشرة ، فهي مشتركة في ذلك . و ما حصل عليه يد هذا ، امتنع عن الأخر ، إلا بعوض-
و التي علقت أنا عليها بالقول :
-في هذا النص يضع إبن خلدون يده لأول مرة في التاريخ على المكونين الأساسيين لكل الثروة في المجتمع البشري : العمل البشري أبو القيمة ، و أمها الطبيعة (يد الإنسان المبسوطة على العالم) .-
و لكن الغرب يسمي هذا القانون بأسم قانون ساي و ليس بإسم مكتشفه الحقيقي إبن خلدون مثلما يسمى كولومبس مكتشفا للأمريكتين رغم أن البشر قطنوا فيها قبله بآلاف السنين . بالنسبة للانجلوسكسون وحدهم الأوربيون الغربيون هم البشر و بقية الناس همل .

اخر الافلام

.. سيارة تحاول دهس أحد المتظاهرين الإسرائيليين في تل أبيب


.. Read the Socialist issue 1271 - TUSC sixth biggest party in




.. إحباط كبير جداً من جانب اليمين المتطرف في -إسرائيل-، والجمهو


.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة كولومبيا




.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي