الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في انتظار … كوكو!

فاطمة ناعوت

2021 / 3 / 3
حقوق الانسان


لو سألتَ أيَّ إنسان الآن: "ماذا تنتظر؟" سيجيبُك: "اختفاء كورونا!"، في أوقات الأوبئة والحروب، تتفقُ أحلامُ البشر. فيما عدا هذا، فكلُّ إنسان ينتظرُ شيئًا “مختلفاً”. الإنسانُ يحيا حالَ انتظار دائمة. إما ينتظرُ شيئًا ماديًّا: رسالة، مال، حبيب، أو معنويًّا: ترقية، نجاح، عدالة، ميلاد، أو موت. وإن زعمتَ عزيزي القارئ أنكَ الآن (في هذه اللحظة) لا تنتظرُ شيئًا، فأنتَ تنتظرُ انتهاءَ المقال؛ لتعرف: عمَّ سيُسفر؟ وإن كنتَ لا تنتظرُ شيئًا، فأنتَ تنتظرُ أن تنتظرَ شيئًا. أي تنتظرُ "الانتظارَ". جميعُ الأحياء ينتظرون شيئًا ما. الموتى فقط لا ينتظرون. مَن يدري؟ ربما ينتظرون.
حالُ الانتظار والترقّب هي دليلُنا على أننا نحيا. وهي ما يمنحنا الشغفَ بالأشياء. أو الرهبةَ منها. والشغفُ والرهبةُ والتوجّسُ والقلقُ والترقّب، جميعُها مشاعرُ إنسانيةٌ وصحيّة وضرورية من أجل انتظام الحياة وجوديًّا، على مستوى الروح؛ وبيولوجيًّا على مستوى الجسد. وبينما يمارسُ البشرُ تفاصيلَ حياتهم وهم ينتظرون، ثمّة بشرٌ يؤجلون حياتَهم انتظارًا لهذا الذي سوف يأتي. أو لا يأتي. هناك من يرهنون أعمارهم ولا يفعلون شيئًا إلا الانتظار، إن كان الانتظارُ شيئًا يُفعل.
عبّر عن هؤلاء البشر الكاتبُ المسرحي الأيرلندي "صمويل بيكيت" في مسرحيته الفاتنة "في انتظار جودو"، التي صُنِّفت نقديًّا ضمن مسرح العبث أو اللامعقول أو Absurd. رجلان لا يجمع بينهما شيءٌ إلا انتظارهما شخصًا اسمه "جودو" سوف يحلُّ لهما جميعَ أزماتهما. لن نعرف أبدًا طبيعة تلك الأزمات، ولا كيف سيحلها "جودو"، ولا مدى صلاحيات ذلك الجودو. فهو شخصية افتراضية لن تطأ خشبة المسرح أبدًا. لا نعرف عنه إلا اسمه الذي يتكرر على لساني الشخصين المنتظريْن: استراجون وفلاديمير، اللذيْن ينتظرانه منذ نصف قرن دون يأس ولا ضجر. يقتلان الوقتَ بثرثرة مفككة تنحو نحوًا سرياليًّا كوميديًّا. وهو أجمل ما يميز أدب "بيكيت"، من حيث تصدّع البِنية وعبثية الحوار وانهيار هيكل الحبكة الدرامية، وجميع ما سبق مُتعمّد وفنيّ وباهر. إذ لا حبكة ولا دراما تسير في خط متنامٍ تصاعديّ شأن المسرح الأرسطيّ المعتاد. بل ينحو "الحكي" نحوًا دائريا "عبثيًّا" مُفرّغا لا يؤدي إلى معنى. "اللامعنى" هو في ذاته "المعنى". ومن هنا كان مُسمى "مسرح العبث". لكن الفكرة من وراءه عميقة على المستوى الفنيّ والمضمونيّ على السواء. إذ تشير إلى عجز اللغة، كلّ لغة، عن التعبير الكامل الحقيقي عما يمور داخل النفس البشرية من أفكار ومشاعر.
كلَّ يوم منذ خمسين عامًا، يأتي الرجلان، من مطلع الشمس وحتى غروبها، إلى ذات البقعة الجرداء، إلا من شجرة يفكران كثيرًا في شنق نفسيهما عليها ولا ينفذان قرارهما أبدًا. يثرثران بتوافه الكلام، وينتظران. يسأل أحدُهما الآخر: "ماذا نفعل الآن؟" فيجيبُ الآخر: "ننتظر”. "هيا نمضي!”، "لا نستطيع!” “ لماذا؟" "لأننا ننتظر جودو" "آه.” "لكنه لم يقل إنه سوف يأتي.” "وإذا لم يأت اليوم؟" "سوف نحضرُ إلى هنا في الغد". "ثم بعد غد.”
عشراتُ المدلولات والرموز يمكن أن تحلَّ محلّ "جودو" المُخلِّص المنتظَر أبدًا. حتى وإن خلا السرد من أي دليل على وجوده فيما عدا الغلام الذي يأتي ليخبرَ المنتظريْن أن "جودو" قادمٌ غدًا. والغدُ لا يأتي. فصارَ الانتظارُ هو الحياة، رغم أنهما عاشا نصف قرن دون جودو!
انتظارُ "المخلِّص" الذي طرحه "بيكيت"، يختلف عن انتظار "الهلاك" الذي طرحه "قسطنطين كفافيس" في قصيدة "في انتظار البرابرة". ليس فقط لأن "البرابرة" عدوٌ مخيفٌ عكس "جودو" رمز الخلاص. بل لأن "طبيعة الانتظار" مختلفة. انتظار استراجون وفلاديمير "سلبيّ" (لا يفعلان شيئًا سوى الثرثرة)، بينما انتظار سكان المدينة للبرابرة "إيجابيّ" وإن لم يخل من كوميديا وعبث كذلك. القومُ محتشدون في الأسواق، ومجلس الشيوخ متوقفٌ عن العمل مترقبٌ وصول البرابرة، والإمبراطور صحا من نومه مبكرا على غير عادته وارتدى أجمل ثيابه وجواهره، وتقلّد القناصلُ والجند بالصولجانات. لماذا؟ لأن البرابرة قادمون اليوم. الكلُّ خائفٌ والحكومةُ تتأهب للعدو الشرس منتويةً أن تُسلّمه القيادة. وفجأة تكتسي الوجوهُ بالوجوم. لماذا؟ لأن البرابرة لم يجيئوا كما هدّدوا. وكأن الإنسانَ ينتظرُ عدوا "مجهولا"، كي ينجو من عدو "معلوم"؛ هو الواقع. لهذا يقول السطرُ الأخير من القصيدة: "ماذا سنفعل الآن بلا برابرة؟ لقد كانوا حلاً من الحلول".
ولأننا ننتظرُ طوالَ الوقت، نحزن حين لا ينتظرُنا أحدٌ. لذلك تقول فيروز: "قديش كان في ناس/ عالمفرق تنطُر ناس/ وتشتي الدني ويحملوا شمسية/ وأنا بأيام الصحو ما حدا نطرني!". ونحن في انتظار انتهاء "كوكو 19"، نقول: “الدينُ لله والوطنُ لمن يُحبُّ الوطن.”
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غارتان إسرائيليتان تستهدفان خيام النازحين في حي زعرب برفح


.. اعتقال مؤيدين لفلسطين في جامعة ييل




.. الأونروا: ما الذي سيتغير بعد تقرير الأمم المتحدة؟ • فرانس 24


.. وكالة الأونروا.. ضغوط إسرائيلية وغربية تهدد مصيرها




.. آلاف المهاجرين في بريطانيا يخشون الترحيل إلى رواندا