الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من أقترف الجريمة في مطار عدن؟ 3/3

منذر علي

2021 / 3 / 4
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


استعرضتُ في الحلقتين السابقتين الجريمة التي اُقْتُرِفَتْ في مطار عدن في ظهيرة 30 ديسمبر المنصرم. كما ناقشتُ بإسهاب ثلاث مقاربات بغية الوصول إلى الحقيقة بشأن مَنْ أقترف تلك الجريمة. كانت المقاربة الأولى تتصل بالشهود الذين كانوا حاضرين في المطار في أثناء الجريمة، وشملت إعلاميين، وأمنيين، وسياسيين يشغلون مناصب رفيعة في الحكومة أو ناطقين باسمها. وكانت المقاربة الثانية تتصل بهوية الضحايا من حيثُ خلفياتهم القبلية والجغرافية، وانتماءاتهم السياسية، وعدم صلاتهم الوثيقة بالأحداث وبالأطراف السياسية المتصارعة، واختتمت المقاربة باستنتاج منطقي مشروع وهو أنَّ عدم صلة القتلى بالأطراف السياسية المتصارعة، ونظرًا لأنهم مواطنون عاديون، ربما يفسر جعلهم هدفًا سهلًا للقتل، والتضحية بهم وليس بأعضاء الحكومة، لتحقيق غاية الموجهين للجريمة والمستفيدين منها وهو التخويف والإرهاب وإن بثمن باهض. ولذلك كانت المقاربة الثالثة تتصل بالتعرُّف على القاتل عبر معرفة القوى المستفيدة من القتل. وخلصت إلى أنَّ هذه المقاربة تشير إلى أنَّ القوى الإقليمية وأتباعها من القوى المحلية، هي المستفيدة من القتل. وكان لابد لهذه المقاربات الثلاث أنْ تُقرِّبنا خطوات من الحقيقة، ولكي تكتمل الصورة لديكم أعرض عليكم المقاربة الرابعة والأخيرة:

***

المقاربة الرابعة: وتتصل بالوصول إلى الحقيقة عبر التحقيق العلمي المُستقل.
وأقصد بالتحقيق العلمي المستقل هو ذاك الذي يستند على الأدلة المادية المنبثقة من مسرح الجريمة والبيئة المحيطة بها من خلال دراسة الوقائع العينية، والاستناد على أجهزة الرقابة والرصد. وهنا أشير إلى تسجيلات التواصل اللاسلكي والكشوفات الرادارية، أو ما يُسمى بالعلم العسكري: الكشف وتحديد المدى بالموجات اللاسلكية، Radio detection and ranging؛ أي الرادار الذي يمكنه عبر الموجات الكهرومغناطيسية التعرف على اتجاه وسرعة حركة المقذوفات الموجهة صوب مطار عدن. وهذه المقاربة من شأنها أن تتيح للخبراء معرفة أتجاه المقذوفات وزاوية سقوطها، وما إذا كانت المقذوفات قادمة من الشرق، أم من الغرب، من الشمال أم من الجنوب؛ أي من جهة البحر. كما أنَّ الدراسة العينية العلمية لبقايا المقذوفات من شأنها أن تمكن المحققين من معرفة نوع المقذوفات، ومن يمتلكها.
كما أنَّ أنظمة كاميرات المراقبة في المطار airport cctv systems، تتيح معرفة حركات الناس في المطار والسلوك المشبوه، وتمكن المحققين من التعرف على الزوايا المعتمة للجريمة، وما إذا كانت قد زُرعت بعض القنابل الموقتة أو الموجهة عن بعد في أماكن مختلفة من المطار.
ومن أجل الوصول إلى الحقيقة بأوجهها المختلفة، لا ينبغي الاكتفاء بالجانب التقني للتحقيق وحده، ولكن يجب أن يتعمق التحقيق والتحري في مسرح الجريمة ومحيطها، من خلال أخذ البصمات، وفحص الحمض النووي للزائرين خلال فترة معينة، للعاملين ورجال الأمن في المطار.
كما أن في مقدور أجهزة الرادار التابعة للتحالف، والأقمار الصناعية التابعة للقوى الكبرى، في البحر العربي والبحر الأحمر، أن تكشف ما إذا كانت المقذوفات صادرة عن مدفعية ثقيلة، أم كانت صواريخ كاتيوشا روسية، أم صواريخ بالستية تكتيكية قصيرة، Short Range Ballistic Missile، أُطلقت على المطار، أطلقت على المطار من مسافة بعيدة.
إنَّ معرفة نوع المقذوفات يتيح لنا معرفة مداها. المدفعية الثقيلة مثلا يتراوح مداها بين 5 إلى 8 كم، وصواريخ الكاتيوشا لا يزيد مداها عن 8.5 كم، والصواريخ البالستية التكتيكية يتراوح مداها بين 150 إلى 300 كم.
كما يشمل التحقيق العلمي التحليل الفيزيائي للمقذوفات وطريقة سقوطها، وتحليل ميكانيكي لحجم الخراب الذي خلفته في المطار، ودراسة بقايا المقذوفات لمعرفة الجهة المصنعة لها، مثلًا: هل هي صناعة إيرانية أم روسية أم أمريكية، بريطانية، ألمانية أم فرنسية أم غيرها من الدول، ومن ثم البحث عن الجهة التي تمتلكها والقادرة على استخدامها سواء في محافظة عدن أو خارجها.

***

إذا تبيَّنَ، وفقًا للتحقيق العلمي وليس للتخمين الوهمي، أنَّ الانفجارات كانت عبارة عن قنابل مزروعة في زوايا مختلفة داخل المطار، فهذا يعني أنّ التهمةَ يمكن أن توجه للجهة المسموح لها بالتحرك والعمل داخل المطار سواء كانت قوى أمنية أو موظفين في الجمارك وخدمات المطار المختلفة، أو زائرين للمطار والقوى الموجودة خارج مسرح الجريمة المساندة لهم. وإذا تبينَّ أنَّ المقذوفات المُطلقة على مطار عدن مُنحصرة في المدفعية الثقيلة، أو بصواريخ الكاتيوشا، أو بهما معًا، فهذا يعني أنَّ القذائف انطلقت من منطقة ما في عدن، أو من محيطها القريب، وليس من ذمار كما قال ، بشكل مضحك أحد المحللين الاستراتيجيين العرب، وأنَّ الاتهام في هذه الحالة يمكن أن يوجه للقوى المتصارعة في عدن، وأنَّ الحوثيين لا شأن لهم بجريمة مطار عدن لأنَّ وجوهم العسكري لا يقع في عدن أو محيطها. وإذا تبيَّنَ من التحقيق أنَّ المقذوفات انحصرت في الصواريخ البالستية التكتيكية، يبقى السؤال الأخر من أي أتجاه أتت تلك الصواريخ؟ هل أتت من الشرق، أي من شبوة التي تبعد 250 - 272 كم عن عدن، أم أتت من الشمال، أي من تعز التي تبعد حوالي 170 - 200 كم عن عدن؟ فإذا ثبت بالملموس أنَّ الصواريخ قدمت من شبوة، فالنتيجة تبرر توجيه الاتهام لحزب الإصلاح، وإذا ثبت أنها قدمت من تعز، فالنتيجة تبرر توجيه الاتهام للحوثين وفي الحالتين على المحقق أن يثبت ذلك؟ ولكن هل الإصلاحيون يمتلكون صواريخ بالستية؟ الجواب لا، أو لنقل من باب الحذر وتوخي الدقة، الجواب غير معروف. إذن ليس هناك ما يمنع من الافتراض أن التحالف أو أجنحة من أتباع التحالف السعودي الإماراتي هم من أطلقوا الصواريخ على مطار عدن. وهذه ليست أحكامًا ولكنها فرضيات، Hypothesis، قابلة للأثبات أو النفي، وعلى المحققين المحايدين معرفة نوع الصواريخ والتحري من أجل معرفة الحقيقة التي لا تقبل الشك. ومن جانب آخر، هل الحوثيون يملكون صواريخ بالستية؟ الجواب معروف، وهو أنَّ الحوثيين يمتلكون صواريخ بالستية، ولكن هذه الحقيقة لا تبرر الاستنتاج، بخفة، أنَّ الحوثين هم من أطلق الصواريخ على مطار عدن أو أنهم أبرياء وخارج دائرة الاتهام. إذْ يتوجب علينا أن نتريث كما قال، مُعلن نفير الحرب الشهير، الشيخ هاني بن بريك. لماذا لا نستمع إلى نصيحة الشيخ هاني بن بريك على الأقل في هذه المسألة!؟ ونترك فرصة للتحقيق لكي يأخذ مجراه دون تشويش، ذلك أنَّ من واجب المحقق الحصيف أنْ يتأكد من نوع الصواريخ قبل الوصول إلى استنتاجات وأحكام قاطعة. هل حقًا كانت صواريخ بالستية تكتيكية؟ إذا كانت كذلك، فأن الأسئلة الذي يمكن أن يوجهها الخبراء العسكريون النابهون هو: ما الآثار المدمرة التي تركته تلك الصواريخ على موقع الجريمة في المطار بحيث تدل النتيجة على نوع الصواريخ؟ ولماذا لم تصب الصواريخ الطائرة، وهي الصواريخ المعروفة بدقتها، وقد سبق أنْ برهنت على دقتها في إصابة محطة أرامكو النفطية في جدة في 24 نوفمبر 2020؟ وهنا يبرز أمامنا سؤالان: سياسي وعسكري. السؤال السياسي هو: لماذا يطلق الحوثيون صواريخ بالستية بشكل عشوائي على مطار مدني؟ ما المكسب السياسي الذي يمكنهم تحقيقه من جراء ذلك؟ حسنًا، لنفترض أنهم اغبياء وحساباتهم غير دقيقة، وهم من أطلق تلك الصواريخ على المطار، وهنا يدخل السؤال العسكري ومفاده : لماذا لم يتم اعتراض تلك الصواريخ الغبية من قبل قوات التحالف الذكية في عدن ومحيطها، وهي القوى التي تمتلك صواريخ باتريوت، Patriot، وقادرة على تأمين المطار في خور مكسر، وتأمين مدينة عدن وكل محيطها!؟
إنَّ تصريحات وزير الداخلية اليمني يوم الخميس 14 يناير، المزعومة أنها قائمة على تحقيق علمي مستقل للجريمة شارك فيه السعوديون، كذبة كبرى، صُوبت نحو الحوثين ولكنها لم تقدم أدلة حقيقية على زعمهم. ولذلك فأنها لا تعدو أن تكون مجرد امتداد هزلي لتصريح معمر الأرياني مع بعض الإضافات السعودية التجميلية التي أمْليت على الوزير المغلوب على أمره بهدف إضفاء مصداقية كاذبة على وقائع مفبركة، لكي تُلصق صفة الإرهاب على جماعة الحوثيين واقتصاره عليها وحدها دون غيرها من القوى الإرهابية المتصارعة واسيادها الإقليميين، كما ترغب المهلكة السعودية و حلفيها الساقط دونالد ترامب.

***
التحقيق الجنائي العلمي المستقل في ظروف طبيعية كفيل بأن يميط اللثام عن الذين اقترفوا الجريمة بحق الشعب في مطار عدن الدولي وقتلوا وجرحوا أهلنا الأبرياء وبعض أعضاء المنظمات الإنسانية. ولكن في ظروف الحرب والتجاذبات السياسية والصراعات القبلية والطائفية والجهوية الملتهبة، وتحكم القوى الخارجية بمسار الأحداث في بلادنا، تجعل المتصارعين، وبتوجيه من أسيادهم الإقليمين يلقون التهم جزافًا هنا وهناك، حيث يسعى كل طرف لتلبيس الجريمة على الطرف الآخر وتبرئة نفسه. وبالتالي يكون من المتعذر الوصول إلى نتيجة موضوعية للتحقيق وكشف الجريمة ومعاقبة مرتكبيها.
ولهذه الأسباب قد لا يعنينا كثيرًا الجندي الشقي الذي أطلق المقذوفات على المطار، ولكن الذي يعنينا أكثر هو المهندس للقتل والمستفيد الحقيقي منه. وهنا من المرجح أن تكون الأداة المنفذة للجريمة هي طرف من الأطراف المتصارعة في الساحة اليمنية، هي التي قامت بالعملية بمساعدة وتوجيه من القوى الإقليمية المُستفيدة من إضعاف الدولة اليمنية.
إنّ الأخبار التي روجتها وسائل الإعلام والتصريحات التي أطلقها مسؤولون من كافة الأطراف المتصارعة كثيرة، منها ما يدخل في دائرة الاتهام والاتهام المضاد، وقليل منها مجرد فرضيات في حاجة أثبات بشأن من اقترف هذه الجريمة المروعة. لن نتمكن، مع الأسف، من الأثبات ومعرفة الفاعل بشكل يقيني إلاًّ عند أخذ كل هذه المقاربات السابقة في الاعتبار، وبعد التحقيق العلمي المستقل في ظروف سياسية طبيعية. غير أنَّ التحقيق العلمي المستقل مُستحيل في الظروف الراهنة لأنَّ المحققين سيكونون في الجنوب الغربي والشرقي تحت أشراف السعوديين والإماراتيين وأتباعهم، وسيكونون في الشمال الغربي والشرقي تحت نفوذ الإيرانيين، ونفوذ أتباع قطر وتركيا، بحسب توزيع النفوذ بينهم في المناطق الشمالية والشمالية الشرقية والغربية، وهؤلاء لن يكشفوا الحقيقة إلا إذا كانت في صالح الطرف الاقليمي المهيمن مالياً وعسكريًا، الذي يحظى بعلاقات دولية واسعة، وقوى دولية كبرى مساندة له. وحتى مع الاستعانة بخبراء دوليين، كما ألمح مارتن غريفيثس، Martin Griffiths، عند زيارته الأخيرة إلى عدن في مطلع الأسبوع الماضي، فأنَّ كل طرف اقليمي سيسعى للهيمنة على المحققين، وتوجيه التحقيق باتجاه معيَّن، وتوظيف نتائجه، بما يبرأه من الجريمة ويخدمه سياسيًا حتى لو كان هو المجرم الحقيقي.

***
وهكذا من خلال المقاربات الأربع مجتمعة، التي تشمل الشهود، وخلفية القتلى، وهوية القتلة وأهدافهم والتحقيق العلمي في الجريمة نكون قد وصلنا إلى ما يشبه الحقيقة. ومع ذلك يمكن القول إننا مع إدراكنا الرابحين والخاسرين من الجريمة، فأن كشف الحقيقة كاملة، وبكل تفاصيلها، للشعب ستظل مؤجلة، على الرغم من معرفتنا بالموجهين والمستفيدين من القتل، وعلينا أن نتسلح بالشجاعة اللازمة لتوجيه أصابع الاتهام إليهم دون تردد. نحن نعرفهم. ألا تعرفونهم؟ إنهم، بصريح العبارة، الأعداء الإقليمين المتحكمين بوطننا بشكل مباشر وغير مباشر، وعلينا أن نتخلص منهم ونتحرر من سطوتهم. وبهذا الموقف لن نعيد الحياة للقتلى، ولكن يمكننا أن نتجنب المزيد من القتل فقط إذا تحررنا من النفوذ الإيراني والسعودي والإماراتي والتركي، وغلَّبْنا الروح الوطنية على الروح الطائفية والقبلية والجهوية، وأوقفنا الحرب، وتصالحنا، وتجاوزنا العنف وانتهجنا الوسائل السلمية في حل خلافاتنا، ووضعنا عقدًا اجتماعياً، Social contract، جديدًا، يضع إطارًا للمواطنة المتساوية بين اليمنيين، ويُبيِّن حقوق وواجبات كل مواطن، ويترك للشعب حرية اختيار حكامه على قاعدة العقل والعدل والحرية.
***
في الختام، بودي الإشارة إلى أنَّ هذه المقالة ليست وثيقة اتهامية ضد أحد، وإنما محاولة لكشف الحقيقة عمن أقترف الجريمة بحق الشعب في مطار عدن في 30 ديسمبر من العام المنصرم، وقتل وجرح أكثر من 135 مواطنا يمنيًا وأجنبيًا. إنَّ ما دفعني لكتابة هذه المقالة هو ضميري، وشرف البحث عن الحقيقة. لم أهدف إلى توجيه الاتهام لجهة يمنية بعينها، خدمة لجهة يمنية أخرى، ذلك أنَّ المرتزقة المحليين الأوغاد المتاجرين بدم الشعب اليمني ليسوا جديرين حتى بالاتهام، ولا بد أنهم سيحاكمون يومًا ما في محكمة التاريخ جراء ما اقترفوه من خيانات وجرائم بحق الشعب، وسينالون عقابهم، ولكن كان هدفي هو الوصول إلى الحقيقة، إنصافًا للضحايا الأبرياء، ومنافحة عن حقوق الشعب وكرامته، ودفاعًا عن الوطن المُنتهك من قبل أعداء الوطن، ورغبة في استنهاض الروح الوطنية اليمنية الأبية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احمد النشيط يصرح عن ا?ول راتب حصل عليه ????


.. تطور لافت.. الجيش الأوكراني يعلن إسقاط قاذفة استراتيجية روسي




.. أهم ردود الفعل الدولية حول -الرد الإسرائيلي- على الهجوم الإي


.. -حسبنا الله في كل من خذلنا-.. نازح فلسطين يقول إن الاحتلال ت




.. بالخريطة التفاعلية.. كل ما تريد معرفته عن قصف أصفهان وما حدث