الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شروط الاجتهاد المطلق

سامح عسكر
كاتب ليبرالي حر وباحث تاريخي وفلسفي

2021 / 3 / 6
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


يَكثُر مفهوم "المجتهد المطلق" عند الفقهاء المسلمين بإشارة إلى الإمام الذي لديه القدرة على التجديد خارج المذاهب، أو بمعنى آخر متحرر من قيود واجتهادات من سبقوه ولديه العلم الكافي لإنشاء مذهب جديد أو مدرسة خاصة به، لذا فيُعَدّ الأئمة الأربعة وفقا لمذهبهم هم مجتهدين بالإطلاق وينسحب ذلك على أئمة آخرين لهم مدرسة ومنهجية خاصة كابن حزم الظاهري وابن تيمية وأبي حامد الغزالي وغيرهم..

نجد من تلك الشروط التي وضعوها أن يكون المجتهد المطلق" مسلما مصدقا بالله ورسوله، وعالما بالأحكام الشرعية وطرق إثباتها وأدلتها، وبالأحاديث النبوية والقدسية وأحوال الرواة والجرح والتعديل، وباللغة العربية والنحو والصرف والبلاغة" وكما نرى فتلك الشروط مرتبطة ارتباطا وثيقا بمذاهب واجتهادات وأقوال القدماء لا تنفك عنها ولا تغادرها أبدا، فالعلم بالحديث - كشرط للاجتهاد - يعني أن المجتهد ينبغي أن يكون مقلدا لأئمة الحديث ومصدقا لهم، وكذلك لعلماء اللغة الذين اختلفوا في موسوعاتهم لطرائق شتى، وللفقهاء السابقون في أحكامهم وأدلتهم ..فكيف يكون المجتهد مطلقا وهو ملتزم بمناهج ومدارس من سبقوه؟؟

هذا ليس كافيا في الاجتهاد المطلق، فلو كان ذلك أليق بالأزمان السحيقة فلا يليق الآن في عصر العلم، فعلى فرضية صدق ذلك وأن المجتهد يجب عليه الالتزام بتلك الشروط فنجن نتعامل مع مقلد في الحقيقة، والقاعدة الأصولية في الفقه أنه (لا تقليد لمقلد) بل لمجتهد، ولأن للاجتهاد شروط وأدوات مناسبة لعصر الفقيه الباحث فلا يمكن الثقة بتلك الشروط القديمة، أي لابد ولكي يُصبح الإمام "مجتهدا مطلقا" أن يتصف بصفات ويحصل على شروط لم يبلغها الأسبقون لعوامل كثيرة منها تطور العلوم والبشرية والحروب العالمية وتراكم المعارف والتجارب..إلخ، كل هذه الأمور تصنع تحديا لدى المجتهد أن يتجاوزها ويناقشها في أبحاثه الفقهية التي يفترض أنها تناقش الإنسان بالعموم وليس فقط المسلم فضلا عن السني أو الشيعي.

ومبعث الخطأ لدى الفقهاء أنهم لا زالوا يحصرون مفهوم الاجتهاد والتجديد داخل مذاهبهم الضيقة، فيقولون لكل مُقلّد داخل السنة (مجدد مجتهد) برغم أنه مقلدا لم يخرج بمنهجية وفتاوى ومدرسة جديدة خارج الصندوق، مثلما أطلق البعض هذه الصفة على الشيخ "محمد متولي الشعراوي" تأثرا بالهالة الإعلامية والشعبية التي حصل عليها في زمنيّ مبارك والسادات، وقد سبق القول أن تلك الهالة للشعراوي مفتعلة بأثر السياسة والدعم الذي تلقاه من السلطات والمساحة الإعلامية التي حصل عليها دونا عن غيره ممن يفوقونه عقلا ومعارف، فالرجل ليس مجتهدا فضلا على أن يقال عليه مُطلقا، وظل يردد فتاوى المذاهب الأربعة ومنهجية الشافعي وابن تيمية طيلة حياته، ولم يخرج من المدرسة السنية أبدا، فضلا على أنه جاهل بالتاريخ والفلسفة والأدب ومقارنات الأديان والمذاهب..ولم يخض أي مناقشة للعلم التجريبي.

فكانت النتيجة أن نسخة الدين التي أطلقها الشعراوي مُكذّبة للعقل والتاريخ والطبيعة وحقائق العلم، وهي نفس النسخة التي تلقاها العوام بالقبول في زمن الصحوة الوهابية منذ السبعينات، ووجدت طريقها بأثر السلطة والأعيان دون النظر لطعون وانتقادات المثقفين لها في حياة هذا الشيخ، ولا زالت سببا رئيسيا لعدم مواكبة المسلمين عصرهم وجمود العقيدة عن الانفتاح وشيوع يقين راسخ بضرورة كراهية الغير التي كان يصدرها الشيخ في فتاويه وجلساته التفسيرية على مدار أكثر من 20 عاما في التلفزيون المصري..

لذا..ولوضع النقاط على الحروف ومناقشة البدائل وأن لا نكتفي بالنقد دون بيان البرنامج والماهية أرى أن المجتهد المطلق يجب أن يحصل على ثلاثة شروط هي (العالمية – والتسامح المطلق – والواقعية العلمية) أستعرضها لحضراتكم بشئ من التفصيل:

أولا: العالمية..ويعني أن تبلغ علوم المجتهد ورجاحه عقله مستوى العالَم دون تمييز، فيكون اجتهاده ليس فقط لصالح المسلمين بل للمسيحيين واليهود أيضا، للملحدين واللادينيين، للسنة والشيعة والإباضية..إلخ، الجميع يجب أن يحصل على مساحته الخاصة في ذهن الفقيه، ليس من باب المنافسة والإنكار بل من باب الشروح والتواصل وحفظ الأنفس والمصالح، وهذا يعني أن المجتهد المطلق يجب أن يكون عارفا بمقارنات الأديان والمذاهب ولديه علم كافي بالتاريخ والفلسفات الحديثة وطيف واسع من الأدب الشعبي والثقافات عند مختلف الشعوب ليحقق شرط ذلك التواصل من باب العلم بالأشياء، وكما ترون أن ذلك الشرط صعب جدا إن لم يكن مستحيل أن يحصل عليه فقيها ذلك الزمان لعوامل متنوعة منها تقبيح العقل والانغلاق وخضوع المؤسسات الدينية الفقهية للسلطة السياسية..

فالذي يعيق المجتهد عن أبحاثه ليس قصوره الذاتي فحسب بل ضغوط الساسة والأمراء والأعيان عليه، مما يعني أن صناعة المجتهد المطلق هي مناسبة أكثر لعصور السلام لا الحرب، ولأن عوامل الحرب تخلق في النفس مشاعر عدوان وأحقاد وضغينة يصعب التخلص منها مع الزمن، فيكون السلام شرط أساسي لحركة فقهية اجتهادية واسعة تغير من الفقه التقليدي برؤى ومباحث عصرية للإنسان الحديث، والأغرب في ذلك أن شرط العالمية متفق تماما مع مصطلح "عالِم" فلا يحصل على صفة العالِم ليكون من زمرة العلماء إلا من بلغ العالمية، وإلا استبدلنا هذا المصطلح بمفهوم "سني أو شيعي" وكفى بل الأئمة أنفسهم يطلقون لفظ العلماء على أنفسهم وأقرانهم تيمنا منهم بذلك المعنى.

فالأصل أن العلم لا يجري تديينه أو تسييسه، فالعلم للعلم وكفى، ليس للسنة أو الشيعة أو المسيحية، هذه قيود على العلم مشهورة وسجون للعلماء تظل مهيمنة على حركة الفكر والاجتهاد دون توقف إلى أن يُسخّر لها من يكسر حوائطها وثوابتها لينطلق إلى فضاء العلم والإنسانية، بينما التاريخ يُصدق ذلك أنه ما من حركة علمية وتطورا للإنسان يحدث في التاريخ إلا ويكسر الثوابت ويهدم أركان الفكر القديم أو يُظهره معيبا على الأقل بحاجة لإصلاح مثلما فعل مارتن لوثر مثلا وجاليليو وديكارت وفلاسفة المسلمين وفقهاء الاعتزال وبعض فقهاء الأشعرية نفسهم الذين علموا قيمة العقل في ميزان الدين والعلم كالفخر الرازي وأبي حامد الغزّالي..وغيرهم..

ثانيا: التسامح المطلق..وهو الغاية من التنوير الذاتي وإضاءة النفس بمشاعل الحب والتواصل كأساس للعلم والاجتهاد، فالمجتهد غير المتسامح ليس مجتهدا، والمتسامح جزئيا ليس مجتهدا أيضا، كتسامح بعض المسلمين مثلا مع المسيحية دون الشيعة والعكس..هذا ليس تسامحا بل مصالح خاصة لفئة ومجاميع، كذلك فأن يخرج الإمام مُحرّضا ضد طوائف بعينها أو أحزاب ثم يوصف ذلك الإمام بالمجتهد هو (نوع من الهَزَل) منتشر جدا في التراث الإسلامي وتشبعت به عقلية الفقهاء، فيقولون لكل مخطئ في دينهم ومذهبهم أنه "مجتهد" حتى ألصقوا صفة الاجتهاد على مجرمين حرب وزعماء وحكام أبادوا قرىً بأكملها على أن ما فعلوه كان اجتهادا لكنه (مخطئ) حسب زعمهم، فتسبب هذا الهزل بتشويه الاجتهاد نفسه ونفي أهم صفة من صفات المجتهد وهي (التسامح)

هنا القاعدة الأساسية التي يُقام عليها الاجتهاد وهي (حفظ النفس والعدالة الكلية) منتفية، فالمجتهد يجب أن يحفظ نفوس الناس وأن يعدل بينهم دون شُبهة، وأن يدور مع الحق أينما كان، لكن ما نراه في الحقيقة هو تناقض وازدواجية عانى منها المسلمون طيلة قرون، ففي الوقت الذي يرفعون فيه دعايا التسامح مع بعضهم يرفعون دعايا الجهاد ضد الآخر، والوقت الذي يُنصفون فيه أقرانهم ومحبيهم يُجيّشون العامة والدهماء ضد من يختلف معهم وينقدهم أو يطعن في مذاهبهم، وقد حرص الفقهاء المسلمين ممن سموا زورا بالمجتهدين على تبويب عدة أبواب للآخرين في كتبهم ومصنفاتهم ، بلغ التحقير فيها وازدراء الآخر مبلغا عظيما حتى يبعث الشك لدينا أن هذا التحقير مدفوع الثمن كونه لا يقوم على أساسات صلبة ودعائم فكرية قوية بل على انحيازات طائفية وسياسية قبيحة تمتلئ بها كتب التراث.

ولا يُستثنى من ذلك من يسمون أنفسهم بالتنويريين، فالبعض منهم ينحاز طائفيا وسياسيا بشكلِ فج، حتى صار اتهام الآخرين بالنصرانية والتشيع والإلحاد أمرا طبيعيا وواجبا من واجبات التنوير لديهم، وقد سبق القول أن التنوير الذي يرفض مبادئ الصلح والسلام هو تنوير مزيف، فالأصل أن تدعو للسلام والتعايش...يقبل من يقبل..ويرفض من يرفض، وأي تنوير يسير بمنطق العامة وسلطة الجمهور وحشد البسطاء هو أيضا تنوير مزيف...ولكن هذه المرة يعلوه مسحة نفاق لحرصه على ترجيح الأغلبية على المبادئ، وأي تنوير يضعف بمجرد الدعايا أو الإعلام هو عمل سفيه كونه يفضل مبدأ القوة على الحق، وأي تنوير يخلط الدين بالسياسة هو عمل أهوج وتصرف طائش لا يفعله إلا الجاهل ولو زعم أنه تنويرا..

فالتنوير يعني التسامح وقبول الآخر قبل نقده أو نصحه، وهذا يعني أن رفض الآخر لا يجوز لاعتقاده ..بل لعمله أو أفكاره التي لا تؤمن بالتسامح دون تعميم، فالناقد الذي لديه موقفا دينيا من المسيحية أو اليهودية أو السنة أو الشيعة هو ليس ناقدا بل طائفي منتفع من عمل مغشوش يقصد به الرفعة والمصلحة الذاتية، وكذلك فأي تنوير لديه موقف عنصري من العرب والكورد والفرس والأمازيغ والسريان....شرحه، ذلك أن الاستنارة تحدث بالسلام الروحي والصدق مع النفس..ويصل مجدها بالاطلاع والعدل والزهد عن رغبات الدنيا، فكل من يسعى إلى سلطة ويحرص عليها ويدافع عنها هو كذاب...فالسلطة نهاية كل ظالم وطريق دائم للنفاق والكذب، وعليه فأي مجتهد يعادي لمجرد الدين والقومية والجنس واللون واللغة هو أفّاق جاهل أفضل له أن يصمت على أن يبث سمومه بين الناس..

فالسلطة عمل دنيوي له مهارات وأشرطة يجب أن تتوفر أهمها على الإطلاق.."سعة القلب والعقل"..من كان صدره ضيقا حرجا أو يخاصم لمجرد الدين أو الشكل. فليجلس في بيته أفضل، وعندي أن فلاّحا مسلما من البيت للغيط للجامع أفضل من ١٠٠ شيخ ومثقف..فقط تميز عنهم بسعة صدره وحكمته وتواضعه والأهم أنه يؤمن بالسلام والتعايش..وأن الله لم يخلق الكون له والبشر لخدمته كي يستعبدهم، وخلاصة هذا الشرط أن الاجتهاد المطلق في جزئية التسامح في كلمتين اتنين: .."كن عادلا واعط كل ذي حق حقه"..وهذا ليس بالأمر السهل، فالعدل يلزمه السلام الروحي..وهذه صفة للخاصة ليست متاحة للجميع، أما الحقوق فيلزمها المعارف والاطلاع..وهذه صفة من يجيد القراءة أو السماع وحسن توظيف أي معلومة..

وهنا قاعدة هامة في التسامح ، أن المجتهد يجب أن يكون وطنيا..لا قوميا، فالوطنية تعني حب الوطن والانتماء له بما يمثله من أهل وعشيرة ومصالح وثقافة وتراث وتاريخ ومجتمع ، إنما القومية تعني تحويل هذه الأمور لنزعة عدوانية تجاه الغير واستثمار الحب والمشاعر المكنونة للوطن في التحشيد السياسي ومصالح القوى النافذة التي تتغذى على هذه الشعارات، وشخصيا لم أعرّف نفسي من قبل أنني قومي..بل أضع أفكاري الوطنية في سياق معرفي شامل ينتمي لمجتمع عالمي يدين له بالتسامح، لذا فالأقرب إلى توجهي – كسامح عسكر – هو الاتجاه (الكوزموبوليتاني) أي مجتمع العالم والانتماء للبشرية أولا ثم الإيمان بحقوق الحيوان والطبيعة..

شخص بهذه الصفات مرغوب بشدة من مجتمع التسامح، ومكروه بشدة أيضا من مجتمع الأيدلوجيا العنيفة خصوصا (الطائفية –والقومية –والشوفينية) لذا فالأكثرية لا تستطيع تصنيفي وكلما وضعتني في صندوق خاص بها يُصدَمون بأفكار تنسف هذا الصندوق، فكتاباتي كلها تصب في هذا الاتجاه ولا تفرق بين البشر على أساس الدين والعرق واللون..عدا فئة مثقفة زاهدة عن حظوظ الدنيا وترغب في المعرفة هي التي تصل روابطها بي لشعورهم بالاطمئنان نحوي، أو لأنهم رأوا في شخصي رجلا مسالما لا يضرهم بل ينفعهم بمعلومة أو تحليل، وأذكر جيدا أنه عندما انتقلت من الفكر الإخواني للعلمانية حدث ذلك لبحثي عن العدل والمساواه التي فقدناها في مجتمع الإخوان بعد تحوّلهم الوهابي السريع، ولا يدرك البعض أن للعدالة شروط أهمها (الموارد) يعني الاقتصاد الجيد، لذلك مثلما انتقلت وبحثت عن العدالة كنت أكتب في الاقتصاد لتوفير هذا العامل الضروري لأي دولة عادلة، فالدولة الفقيرة ظالمة، والغنية ستكون ظالمة بدون حريات..لذا فأهم شرطين عندي لعدالة الدول هي (الموارد والحريات) كثوابت بعدها تأتي أمور أخرى كفروع مثل التوزيع والمواطنة وحقوق الإنسان..

كذلك فالمجتهد لو كان قوميا عدوانيا ضد الغير سيوظف تلك الموارد لإرضاء شهواته ونزعاته الصدامية، ولو كان وطنيا سيوظفها فقط لخدمة شعبه وأمته، والفارق الكبير بين الأمرين أن القومية شعار غضب أكثر منه تسامح، بينما الوطنية العكس أي هي تسامح أكثر منها غضب..والإنسان مطالب بفك الارتباط بين الغضب والتسامح في سيكولوجيته قبل أن يبحث عن منهجيته في الحياه، وخلاصة ذلك أن المجتهد يجب أن يدرك حقيقة هامة أن الوطن مهم لاستقلال الإنسان وشعوره بذاته وتفرده، لكن الإيمان به لا يعني أن تؤذي الآخرين..وهنا الحد الفاصل بينه وبين القومية التي ترفع شعارات وتُحيي مبادئ سياسية تاريخية خلقت في أجواء صراع..فعندما يستدعيها يُشعل صراعاته فورا بطريقة تشبه المبادئ التي استدعاها..وقد يكون مثقفا قديرا لكنه لا ينتبه لهذه الخدعة التي انطلت عليه في لحظة غضب، فأهم شروط المجتهد لكي يتسامح أن ألا يغضب، فالكاتب سريع الغضب ليس بمجتهد ولا صاحب رأي بل تحول لفرد من القطيع مُسيّرا لصالح الأقوياء، وإذا همّ بكتابة أعمالة وهو غاضب يُفسد ويصبح قلمه نقمة على العالم..

ثالثا: الواقعية العلمية..وتعني اعتراف الفقيه والمجتهد بحقائق العلم الحديث، وأن لا يحارب تلك الحقائق بناء على تفكيره الديني والمذهبي، فالأصل هنا أن يكون المجتهد لديه حياد إيجابي ناحية العلم..بمعنى إذا همّ باكتشاف العلم ودراسة بعض هذه الحقائق وفقا لقدراته المعرفية أن لا يسارع بالإنكار أو يأخذ موقفا عدوانيا منها، هنا يقع المجتهد فريسة للدوجما التي تخرجه من حالة الإبداع المطلق والحرية التي تمتع بها ليعود كما كان مجرد فقيه ومقلدا في المذهب ، فالفقيه إذن يجب عليه دراسة علوم العصر بمنظور إيجابي وأن لا يحمل عليها لمجرد انحيازه وميوله الشخصي، فإذا لم ينجح في فهم تلك العلوم فلا يُحرّض عليها ويحترم المتخصصين فيها، فالله لم يرسل الدين لتعليم الناس كيفية عمل الأرض والمواد وخصائص العناصر والمركبات..إلخ، هذه من وظيفة العقل برؤية تلك الأمور وفقا للزمن.

إنما الذي يحدث من أغلب أئمة المسلمين أنهم يسارعون بإنكار حقائق العلم التي يرونها تتعارض مع مذاهبهم وأديانهم ، وحين ينقدهم أحد المفكرين المجتهدين يرفعون سلاح التخصص أن ذلك المفكر ليس خريجا للأزهر أو جامعة إسلامية مثلا..فالمنطق إذن أن لا ينكروا العلوم الأخرى التي لم يتخصصوا فيها، فهو مجرد شيخ وفقيه درس الشريعة وأصول الدين ولم يدرس الطب والبيولوجيا وعلوم الأحياء والفيزياء ليتحدث في التطور الدارويني مثلا أو النسبية لإينشتاين..لكنه يسارع باحتكار وادعاء فهم العلوم الأخرى وبنفس السرعة ينفي حق الآخر بالتفكير في مذهبه الديني، وهذه الازدواجية شائعة الآن بين شيوخ الأزهر والسلفية الذين يتصدرون ساحة الفتوى.

ولعل ما فعله الشيوخ كان نتيجة "لوهم الإعجاز العلمي" الذين ظلوا يرددونه على أسماع الناس وينشروه بين العامة طيلة عقود حتى ترسخت لدى المسلم حقيقة أن القرآن والحديث وفتاوى الأئمة متفقة مع العلم ..برغم أن الدين له سياقه المعرفي المختلف عن العلوم، من وجهين، الأول: أن الأديان ثابتة إنما العلوم متغيرة، وحين يُخضع الفقهاء أديانهم لحقائق العلم فهم ينسفون الدين من جذوره بعدما يتبين لدى الناس في عصر لاحق أن ما اعتقدوه بتوافق العلم مع الدين كان مجرد وهم، والثاني: أن رسالة الدين لا تهتم بالذرات والمركبات والعناصر والمواد..هذه من خصائص العلم، إنما اهتمت رسالة الدين بتطوير العقل وتهذيبه للقيام بدوره في فهم العلوم، وهنا الفارق أن العلم بالنسبة للدين هو حالة واقعية - وضعتها شرطا للاجتهاد المطلق- من حيث تشجيع الدين في جوهره على فهم العلوم ، وهو ثمرة العلاقة بين الثابت والمتغير، فالثابت يأمر بفهم المتغير ولا يرتبط به.

وفي تقديري أن قصة الإعجاز العلمي بدأت قديما بحواديت القصاصين والرواه في زمن التدوين الذين نقلوا تنبؤ الرسول بأحداث النهاية وعلامات الساعة ومآل دولة الخلافة وترتيب الخلفاء..إلخ على نحو ما يؤمن به السنة والجماعة، يعني فكرة الإعجاز العلمي نفسها قديمة ، ولأن لها وقعا حسنا في نفوس المسلمين صدقتها الجماهير لتصبح من ثوابت الدين في تطوره المعاصر لدى الفقهاء، وقد ظلت فكرة الإعجاز بهذا الشكل (الروائي) إلى أن جاءت صدمة الحداثة في القرنين 19 و 20 فاكتشف المسلمون فروقا هائلا في القوة العسكرية والسياسية والصناعية والعلمية والعقلية لصالح الغرب بعد أن عاشوا قرونا يعتقدون فيها بأفضليتهم وحضارتهم.

وبعد حدوث الصدمة طبيعي أن تحصل مقاومة، فانتشرت مفاهيم.."المؤامرة الغربية- التغريب- المد الإلحادي"..بالتزامن مع مقاومة الاستعمار، حتى خلطوا بين ظاهرتي الاستعمار والحداثة، وبالتالي أصبحت الحضارة نفسها مؤامرة تستوجب الشك والمقاومة، حتى انتشرت الجماعات الإسلامية لتعمل في هذا السياق مستفيدة من كراهية العرب للاستعمار مما أدى لتمكين الوهابية من مفاصل الدولة والمجتمع.

أما الإعجاز العلمي بشكله الحالي - والذي يحاول التوفيق بين النص الديني والعلم الحديث- ظهر بعد ما فشل العرب والمسلمين في معركتهم ضد الحداثة، أي أن ظهوره كان مجرد (رد فعل) على شيوع التكنولوجيا والتفكير العلمي، فكان المسلم بقرارة نفسه على يقين بوجود أزمة فعلا بين العلم والدين، وجهوده في قضية الإعجاز كانت لإقناع نفسه لا أكثر، أما الغرب فقد تعامل مع جهود المسلمين في الإعجاز العلمي باستخفاف وسخرية، وكم مرة يضبط أحدهم قادة الإعجاز متلبسين بالكذب والتدليس على العلماء ونتائج أبحاثهم كما حدث مع زغلول النجار وعبدالمجيد الزنداني وهارون يحيى ومحمد العريفي وغيرهم، وفي المحصلة عزز ذلك من ضعف الإسلام كدين حتى انتشر الإلحاد بين الجاليات المسلمة في الغرب ومنهم إلى شباب العرب بسبب هذا الوهم الذي حرص الفقهاء على تعليمه للأجيال..

لكن الواقعية العلمية تظل أصعب الشروط في رأيي التي يجب على المجتهد المطلق أن يحصل عليها، فسياق عمل المجتهد هو الإسلام..بينما حقائق العلم وتناولها بواقعية سيجبر الفقيه على مراجعة ثوابت كثيرة في الدين كأفضلية الذكر مثلا في الولاية والشهادة والميراث على الأنثى..فحقائق العلم تقول أنه لا فارق بين ذكر وأنثى في الواقع، الإنسان هو إنسان بخيانته وأمانته، بكذبه وصدقه، بجريمته وتسامحه، بذكائه وغبائه..هذه أمور يستوي فيها الأنثى مع الذكر، بل إذا تطرقنا لبعض إحصائيات الجرائم نجد أن أكثرها تحدث على أيدي الذكور، مما يعني وفقا لتلك الإحصائيات أن الأفضلية السلوكية للأنثى وأن احتقارها في الدين واعتبار شهادتها نصف شهادة عمل غير علمي وغير أخلاقي وضد مصالح البشرية، مما يعني أنه وَجَب على المجتهد مناقشة ذلك بانفتاح، وثقتي أن كثيراً من الفقهاء والمثقفين يملكون الآن تلك القدرة على الغوص في بحار الفقه واستخراج ما يدل على تغير الأحكام وإمكانية تعديل الرأي ليصبح موافقا للعلم دون المساس بجوهر الدين نفسه.

وأذكر هنا لفتة هامة: أن الاجتهاد المطلق لا يعني التملص والثورة على كل آراء واجتهادات القدماء، بل دور المجتهد المطلق أن يعمل لصالح البشرية بما أن الدين نزل لصالح البشرية أساسا، ولا يلزم ذلك رمي القديم في سلة المهملات بل بالكشف والتدقيق والتمحيص والمقارنة بين الجديد والقديم يحصل المجتهد على رأي وأدلة وحجج مناسبة لعصره، وقد فطن مجتهدي الشيعة لهذه المسألة في أصول الفقه فرأوا أن تقليد الحي أولى من الميت، ليس بمعنى ترك الأموات بالكلية ولكن حسب رأيهم فالأحياء لديهم فرصة أفضل للاجتهاد والرأي العلمي لصالح المجتمع أفضل من الأموات من جوانب التعايش والواقعية والاحتكاك وخلافه، لكن تظل قدرات البشر العقلية محل شك لضرب ذلك المبدأ الشيعي..فقد يأتي زمان يتطور عقل الإنسان فيه للأفضل ثم يعقبه تخلفا عقليا بعوامل سياسية واجتماعية وبيئية لا يستدعي المقام ذكرها، فيكون تقليد الحيّ وقتها هو تقليدا للأغبى..

وهذه مسألة يجب أن يفطن إليها المجتهد وهي أن يجمع في اجتهادة ميزات التواصل والواقعية والاحتكاك مع دقة النظر والعمق والمكاشفة بوضوح، وبرأيي أن صعوبة ذلك الجمع لا تكمن فقط في أهلية وقدرات الفقيه ولكن في الأجواء المحيطة به والقيود التي يتعرض لها، مما يلزم النظر لأحوال المجتهد التي أتفق فيها مع من يقول بوجوب حصول المجتهدين على منزلة اجتماعية رفيعة تحميهم من بطش الأقوياء وضغوط النافذين وأصحاب المصالح، وأن المجتهد لو كان فقيرا معدوما لا نصير له ففرصته أسوأ بكثير مما لو كان عزيزا في قومه ثريا لا يحتاج للغير..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على حرب السودان.. كيف يعرقل تنظيم الإخوان جهود الحل؟ | #


.. خالد الجندي: المساجد تحولت إلى لوحة متناغمة من الإخلاص والدع




.. #shorts yyyuiiooo


.. عام على حرب السودان.. كيف يعرقل تنظيم الإخوان جهود الحل؟ | #




.. يهود #بريطانيا يعتصمون أمام البرلمان في العاصمة #لندن للمطال