الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كتاب الارض والعمل في تراث الحركة العمالية والنقابية الفلسطينية

تيسير خالد

2021 / 3 / 6
القضية الفلسطينية


الأرض والعمل في تراث
الحركة العمالية والنقابية الفلسطينية
محمد سعادة عودة
(تيسير خالد)


الفصل الأول
الأنوية الأولى للطبقة العاملة الفلسطينية
خضعت فلسطين شأنها شأن الولايات العربية الأخرى زهاء أربعمائة عام للسيطرة العثمانية، التي استمرت حتى نهاية الحرب العالمية الأولى 1918، حيث بدأ الفصل الأشد مأساوية في تاريخ فلسطين الحديث، وكان لخضوع فلسطين للسيطرة العثمانية لمئات السنين آثار بعيدة المدى على أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية ومستوى تطورها. فقد تخلفت السلطات العثمانية كثيرا عن السير في طريق تطوير تلك الأوضاع في تركيا ذاتها كما الولايات العربية ومن ضمنها فلسطين. ولم تضع السلطات من القوانين والتشريعات ما يشجع على الانتقال من مرحلة البنى الاقتصادية – الاجتماعية المتخلفة إلى مرحلة أرقى تجاري مرحلة الانتقال إلى أساليب وعلاقات الإنتاج الرأسمالية، التي بدأت تنتشر بوتيرة سريعة في أوروبا وأمريكا الشمالية منذ القرن التاسع عشر. وفي الوقت، الذي تطورت فيه أساليب وعلاقات الإنتاج في بلدان أوروبا وأميركا الشمالية على نحو ساعد في القضاء على سلطة الإقطاع وعلى الإنتاج الصغير وساعد على نشوء الطبقة البرجوازية الصناعية ووضعها على أعتاب التمركز في الإنتاج والرسملة وولادة الرأسمال المالي والانتقال فيما بعد إلى مرحلة تصدير رؤوس الأموال والمرحلة الامبريالية، حافظت الأوضاع في الإمبراطورية العثمانية ومن ضمنها الولايات العربية، وفلسطين بينها، على اقتصاد شبه إقطاعي من حيث نظامه وقوانينه وشبكة علاقاته الإنتاجية.
وبالنسبة لفلسطين فقد سادها على امتداد فترة الحكم العثماني نمط من العلاقات شبه الإقطاعية كما سادها نمط الإنتاج الحرفي الصغير، الذي كان يغطي بعض الاحتياجات الاستهلاكية للسكان، أو فئات منهم، في ظل هيمنة واسعة للاقتصاد الطبيعي في الريف. فقد عاشت القرية الفلسطينية على امتداد سنوات الحكم العثماني وحتى نهاية النصف الثاني من القرن التاسع عشر تحت وطأة اقتصاد طبيعي مغلق إلى حد كبير، حيث بقيت المبادلات البضاعية محدودة، أما الحرف في الريف وفي المدينة كذلك فقد ارتبطت لفترات طويلة باحتياجات كبار ملاك الأراضي وجمهور الفلاحين إلى أبعد الحدود، ولم تحقق الحرف تحررها المحدود إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أي أنها بقيت تابعة للزراعة وخاضعة لاحتياجات أشباه الإقطاعيين وكبار الملاك بالدرجة الرئيسية. ثم بدأ استقلال الحرف يشق طريقه في فلسطين عبر الانفصال التدريجي للحرفيين عن أشباه الإقطاعيين وكبار الملاك وجمهور الفلاحين، خاصة بعد أن أصبح إنتاجهم يفيض عن احتياجات هؤلاء الإقطاعيين وكبار الملاك والفلاحين.
وقد لعبت عوامل متعددة دورا في عملية تحرر الحرف من التبعية الكاملة للزراعة، فمن ناحية اتسعت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الامتيازات التي كانت تخصها السلطات العثمانية للدول الأوروبية الرأسمالية في ولاياتها، الأمر الذي أحدث أولى العمليات الانقلابية الأساسية في سوق التبادل البضاعي وأقحم عليها عنصر التبادل السلعي النقدي على نطاق أخذ يتوسع باستمرار. دون شك كان لنظام الامتيازات الذي منحته السلطات العثمانية للدول الأوروبية الرأسمالية أثر لا يمكن التقليل من أهميته في تحويل أسواق الإمبراطورية العثمانية بما فيها أسواق ولاياتها العربية ومن ضمنها فلسطين إلى شبه مستعمرات، وقد أسهم ذلك في الانفصال التدريجي للحرف عن الزراعة. وقد بدأ هذا الانفصال يشق طريقه في الوقت الذي تحولت فيه الرأسمالية الأوروبية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر نحو مرحلتها الامبريالية وفي الوقت الذي بدأت فيه الأنوية الصهيونية تولي اهتمامها بفلسطين كمستعمرة مستقبلية للصهيونية.
ورغم ظاهرة الانفصال التدريجي للحرفيين عن شبه الإقطاعيين وكبار الملاك وجمهور الفلاحين وانتشار مؤسساتهم الإنتاجية في المدن والتطور الذي طرأ على إنتاجهم التقليدي أولا ، وغزو الدول الاستعمارية لأسواق الولايات العربية وتحول هذه الولايات إلى ما يشبه المستعمرات ثانيا، والاهتمام الصهيوني بفلسطين كمستعمرة مستقبلية وما ترتب على ذلك من هجرات يهودية إلى فلسطين ثالثا، فقد كانت وتيرة الانتقال بطيئة من نمط إنتاج متخلف إلى نمط إنتاج أرقى. فقد حافظ على نفسه نمط الإنتاج المتخلف، الذي عبر عن نفسه بالاقتصاد الطبيعي والاقتصاد المغلق في الريف وبمحدودية التبادل السلعي النقدي. وكان الانتقال إلى نمط إنتاج أرقى عبر استقلال أوسع للحرفيين عن الزراعة وعبر وتيرة توسع أفضل للفيض الإنتاجي وعبر تراجع الاقتصاد الطبيعي والاقتصاد المغلق أمام عمليات أوسع من التبادل السلعي النقدي، وما يوفره هذا كله من إمكانية أولية لبدء عملية تراكم رأسمالي، انتقالا بطيئا بحكم عوامل مختلفة ومتعددة، فالكوابح أمام هذه العملية التقدمية كانت متعددة.
فمن ناحية كانت سياسة السلطات العثمانية تنهك اقتصاد الولايات العربية ومن ضمنها فلسطين بالضرائب العالية على الإنتاج المحلي، هذه الضرائب التي بلغت في منتصف القرن التاسع عشر حوالي 40% من قيمة المنتجات المحلية(1). يضاف إلى ذلك أن السلطات العثمانية لم تكن تشجع نمو الصناعات في الولايات العربية، بل كانت تعمل على تركيز الصناعات الحرفية والمؤسسات الإنتاجية في مناطق آسيا الصغرى أساسا، ولم تكن تولي اهتماما بالزراعة أو بالصناعات الحرفية في الولايات العربية، هذه الصناعات، التي كانت تخضع لقيود محافظة وصارمة.
ومن ناحية ثانية تدفقت منتوجات البلدان الأوروبية الرأسمالية إلى أسواق الإمبراطورية العثمانية وأسواق الولايات العربية ومن ضمنها فلسطين، وكانت الرسوم الجمركية على هذه المنتوجات محدودة، حيث لم تكن تتجاوز 8%، وهي حدود لم تكن كافية بالتأكيد لحماية أي إنتاج محلي من المنافسة. ولذا أغرقت منتوجات البلدان الأوروبية الأسواق السورية ومنها سوق فلسطين بفيض إنتاجي حجز إمكانية تطور الصناعة الحرفية.
وهكذا وبفعل هذه السياسة، فقد ساد الركود الاقتصادي أسواق الولايات العربية وساد الكساد المعامل اليدوية والورش الحرفية. فالإنتاج الحرفي بقي محدودا بسبب النقص في رؤوس الأموال اللازمة والضرورية لأي تطور رأسمالي. كما استمرت الوتيرة بطيئة في تطور الإنتاج الحرفي باتجاه صناعي بسبب ضعف وتيرة انفصاله عن الزراعة وتشكله كقطاع صناعي قادر على إحداث تطور ملموس في الإنتاج السلعي وقادر على توسيع السوق وأحداث بدايات معقولة لعملية التراكم الرأسمالي وانتعاش التجارة والتبادل السلعي النقدي. ولذا استمرت الهيمنة واسعة للقطاع الزراعي على ما عداه من القطاعات الاقتصادية الأخرى واستمر الريف يستوعب 70% من السكان. واستمرت الزراعة تستوعب نسبة أعلى من القوى العاملة. يضاف إلى ذلك أن سكان المدن والبلدات كانوا كذلك يتعاطون الأعمال الزراعية وخاصة أعمال البستنة. وفي ظل هذه الأوضاع لم تتجاوز نسبة العاملين في الصناعة، التي كانت في معظمها بدائية وتعتمد على الإنتاج الصغير والمؤسسات الإنتاجية الصغيرة والموزعة، وفي التجارة والقطاعات الأخرى حدود 15% من إجمالي السكان (2) ، ومع نهاية القرن التاسع عشر أحرزت الصناعات الحرفية استقلالا أوسع عن الزراعة وإن اعتمدت بعضها على الإنتاج الزراعي كالصابون والخمور والزيوت وغيرها، وبدأت أنوية من المؤسسات الإنتاجية تستوطن عددا من المدن الفلسطينية في القدس والخليل وبيت لحم ونابلس والمجدل ويافا وحيفا. وكانت أهم الصناعات الحرفية المنتشرة في فلسطين في نهاية عهد الحكم العثماني.عصر الزيتون وصناعة الصابون والزجاج الفاخر والخمور ودباغة الجلود وصناعة الصدف والتحف الدينية المصنوعة من الخشب، هذا إلى جانب صناعة قلع المحاجر وقطع الحجارة وصناعة الحياكة والنسيج. فمن أصل 600-800 معصرة زيتون في أقاليم سورية كان في فلسطين وحدها أكثر من مائة معصرة ومن أصل 150 معمل صابون كان في فلسطين وحدها أكثر من ثلثي هذه المعامل وبشكل خاص في مدينة نابلس، وكانت هذه المصابن تنتج أكثر من ثمانية آلاف طن من الصابون سنويا(3)، وكانت معظم معاصر الزيتون تنتج محليا خاصة في يافا وفي حيفا"(4).
وقد تخصصت مدن فلسطين في الإنتاج السلعي دون أن يرتبط ذلك التخصص بسياسة حكومية. ولعل ذلك التخصص كان يعود في الأساس على اعتماد عدد من المدن على المواد الخام الموجودة في مناطقها أو على دور خاص متميز لها. كما هو الحال بالنسبة للمدن ذات المكانة الدينية، هذا إلى جانب اتفاقات كان تعقد بين الطوائف الحرفية ذاتها. كشيء من تقسيم العمل للحيلولة دون إغراق الأسواق بفيض من المنتوجات في سوق لم تتطور فيها المبادلات البضاعية على أسس رأسمالية واضحة ومتقدمة. وغني عن التأكيد أن مثل هذا التخصص، أو تقسيم العمل، المتفق عليه بين الطوائف الحرفية على مستوى المدينة وعلى المستوى الأوسع وطنيا، كان يقف حجر عثرة في وجه تطور الصناعات الحرفية باتجاه الاستقلال في قطاع صناعي قابل للتطور بوتيرة أسرع. وهكذا حافظ القطاع الصناعي حتى نهاية القرن التاسع عشر على بنيته التقليدية كقطاع حرفي تقليدي، يضع قيودا واسعة على تطور القوى المنتجة والعمل المأجور. في هذا الإطار تركز عدد من الصناعات الحرفية في عدد من المدن الرئيسية في صناعة الزجاج والفخار والبسط ودبغ الجلود والمصنوعات الجلدية والقناديل الزجاجية، التي كانت تصدر إلى تركيا ومصر والحجاز وإلى بقية الأقاليم السورية. واستمرت صناعة الزجاج ودبغ الجلود والمصنوعات الجلدية تحافظ على مكانتها التقليدية في مدينة الخليل حتى عهد قريب . كما اشتهرت نابلس هي الأخرى بمعاصر الزيتون وصناعة الصابون والزيتون، ولازالت هذه الصناعات تستوطن مدينة نابلس حتى اليوم. كما اشتهرت بيت لحم وبيت جالا بمعاصر الخمور وأجهزة التقطير للمشروبات الروحية ولا زالت تواصل تقاليدها في هذا المجال. أما صناعة الصدف والتحف الدينية المصنوعة من الأخشاب فقد اشتهرت بها مدن القدس وبيت لحم وبيت جالا وفي حدود معينة كذلك مدينة الخليل بسبب المكانة الدينية وكذلك السياحية لهذه المدن. أما الحياكة والغزل فقد كانت من الصناعات الحرفية القديمة في فلسطين وقد انتشرت بالدرجة الرئيسية في غزة والمجدل. حيث ضمنت ورشها حوالي 500 نول(5)، ثم انتشرت في القدس بمساعدة جمعية الصليب الأحمر أثناء الحرب العالمية الأولى لمساعدة واستيعاب اللاجئين الأرمن، الذين وصلوا فلسطين هربا من عمليات الاضطهاد التركية آنذاك(6).
هذه كانت بالدرجة الرئيسية أنوية " القطاع الصناعي" في فلسطين في نهاية عهد الحكم العثماني، وشكلت هذه الأنوية من ناحية وغزو المنتوجات الأوروبية لأسواق الأقاليم السورية ومن ضمنها فلسطين من ناحية ثانية و بداية ظهور المؤسسات الصهيونية في فلسطين من ناحية ثالثة الأساس الذي استندت عليه العلاقات الرأسمالية، التي بدأت تتبلور بشكل واضح في مطلع القرن العشرين، حيث تطور الإنتاج البضاعي واتسع نطاق التبادل السلعي النقدي وأحرزت الصناعات المتواضعة استقلالها من الزراعة، وعن أشباه الإقطاعيين وكبار الملاك وجمهور الفلاحين، وبدأت التجارة في الانتشار على صعيد وطني توسع عما كان في السابق وبدأت عملية التحويل في التركيب الطبقي الاجتماعي للمجتمع في فلسطين.
وهكذا بدأت العلاقات الرأسمالية تغزو أسواق المدينة والريف في فلسطين، وإن كانت وتيرة غزو علاقات الإنتاج الرأسمالية للريف بطيئة بفعل عوامل متعددة أهمها أشكال تحدد الحيازات الزراعية في فلسطين، ومساحة الأراضي الزراعية . فقد احتلت الأراضي الأميرية المكان الأول وشكلت في مساحتها حوالي نصف مساحة الأراضي الزراعية وكانت مملوكة للدولة وقابلة للاستثمار الزراعي من الأفراد مقابل أتاوة تدفع للدولة بالإضافة إلى العشر الذي كان يدفعه المستثمر كذلك للدولة. كما احتلت أراضي الوقف الإسلامية والأراضي الكنسية كذلك جزءا آخر من مساحة الأراضي الزراعية. أما أراضي الملك حسب القوانين العثمانية التي صارت عام 1858 فقد كانت حيازاتها الفردية تتراجع مع الزمن لصالح كبار الملاك، الذين كانوا ينتزعون بوسائل متعددة لسنا هنا بصدد معالجتها، الأراضي من الفلاحين الفقراء، الذين كانوا يعانون من الفقر والاضطهاد ومن الضرائب الجائرة، التي كانت ترهقهم وتدفعهم قسرا لرهن أو بيع أراضيهم لكبار الملاك، والتحول إلى عمال زراعيين أو إلى العمل المأجور في المدينة. وعشية الاحتلال البريطاني لفلسطين وفرض الانتداب عليها كانت فقد نمت في فلسطين طبقة من كبار الملاك وأشباه الإقطاعيين لم تتجاوز 1% من إجمالي السكان، ولكنها كانت تستحوذ على ثلث الأراضي الزراعية وخاصة الخصبة منها، وبدأت منذ النصف الثاني من القران التاسع عشر تظهر في الزراعة أشكال وأنماط من علاقات الإنتاج الرأسمالي وخاصة في قطاع الحمضيات الذي نما وتطور كقطاع اقتصادي هام في فلسطين في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، كما هو واضح من جدول صادرات الحمضيات الفلسطينية بين عام 1885 وعام 1913 (7).
" صادرات الحمضيات الفلسطينية بين عام 1885 وعام 1913"
السنة عدد الصناديق المصدرة السنة عدد الصناديق المصدرة
1885 106,000 1905 456,000
1890 200,000 1906 548،000
1893 316,000 1907 631,000
1894 465,000 1908 676,000
1895 260,000 1909 744,000
1898 435,000 1910 854,000
1900 251,000 1911 870,000
1903 448,000 1912 1,418,000
1904 468,000 1913 1,609,000
ويشير جدول صادرات الحمضيات الفلسطينية إلى نمو متسارع في هذا القطاع ضاعف إنتاجه خمسة عشر مرة في أقل من ثلاثين عاما وإلى تطور محلي الإنتاج على أسس رأسمالية. وكانت عائدات قطاعات الحمضيات عالية آنذاك قياسا بعائدات القطاعات الإنتاجية الأخرى وتسمح بتحولات واسعة في هذا القطاع. كما استقطبت زراعة وإنتاج الحمضيات أعدادا كبيرة من العمال الزراعيين. وإلى جانب منتوج الحمضيات، الذي تطور حتى الحرب العالمية الأولى على أسس رأسمالية، نما كذلك إنتاج فرع زراعي آخر في فلسطين. وكان لنموه أثر في تطور الصناعة الناشئة. فقد فاقت مساحة المزروعة بأشجار الزيتون مساحة الأراضي المزروعة الحمضيات، وساعد ذلك على تصنيع الزيتون وتحوله إلى الفرع الاقتصادي الأهم في الصناعة الفلسطينية الناشئة. ووصل إنتاج الزيتون حدودا متقدمة ساعدت على تطور صناعة الصابون، الذي بلغ إنتاجه في العام 1912 حوالي ثمانية آلاف طن وبلغت صادراته ما قيمته ربع مليون جنيه إسترليني، وهي قيمة كبيرة قياسا بأسعار السوق آنذاك، وازدادت معاصر الزيتون في فلسطين حتى بلغت حوالي 400 معصرة قبيل الحرب العالمية الأولى استوعبت عددا جيدا من العمال الموسميين، وازداد عدد مصانع ومعامل الصابون وبلغت حوالي خمسين مصنعا ومعملا استوعبت عددا جيدا من العمال الدائمين. وبلغت حصة صادرات الصابون والزيتون من إجمالي الصادرات الفلسطينية أكثر من 21% في العام 1912.
وهكذا أحدث تطور الاهتمام ببعض فروع الزراعة كالحمضيات والزيتون، كما أحدث انفصال الحرف التدريجي عن الزراعة، أي استقلالها أساسا عن احتياجات أشباه الإقطاعيين وكبار الملاك وجمهور الفلاحين، واتجاهها لتشكيل قطاع اقتصادي مستقل انتقالا متقدما إلى الأمام في توسع الإنتاج السلعي وفي التقسيم الاجتماعي للعمل وفي تطور التجارة واتساع سوق السلع المتداولة وفي نمو العلاقات السلعية النقدية وبدء عملية التراكم الرأسمالي في فلسطين. ورغم استمرار هيمنة الإنتاج الحرفي، فإن تطورا هاما حدث على وضعية المهن ذاتها، أي الصناعات الحرفية، حيث تحرر الحرفي من العديد من القيود التقليدية الثقيلة المتوارثة وتحول إلى منتج حر ومستقل للسلعة في السوق. وعبر هذه العملية بدأت تنمو في أحشاء المجتمع الفلسطيني القديم قوى اجتماعية يزداد التمايز الطبقي في إطارها بمقدار التوسع في الإنتاج البضاعي وفي التقسيم الاجتماعي للعمل وبمقدار التوسع في سوق السلع المتداولة. وإذا كان من سمات الاقتصاد الطبيعي في فلسطين تجزئة السوق الوطني إلى أسواق متعددة متجاورة في ظل اعتماد كل سوق منطقة معينة على المواد الخام في المنطقة ذاتها وكذلك على المستهلكين في المنطقة، فإن التطورات التي حدثت في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وجهت ضربات واسعة لذلك الاقتصاد الطبيعي، إذ هي وحدت السوق على المستوى القطري، وفتحت المجال أمام بعض الصناعات الحرفية للتطور في سوق أوسع بكثير من السابق وفي ظل نمط جديد من الإنتاج يختلف تماما عن النمط السابق. ومع هذا التطور بدأت بالظهور الأنوية الأولى للطبقة العاملة الفلسطينية. وما أن حل العام 1912 حتى وصل عدد العاملين في صناعة الصابون في نابلس وبعض المدن الأخرى 600 عاملا وفي صناعة النسيج في غزة والمجدل والقدس حوالي 500 عاملا وفي صناعة الخزف في القدس والرملة وغزة 260 عاملا وفي دبغ الجلود في الخليل ويافا والقدس حوالي 100 عاملا وفي صناعة البسط والسجاد في القدس ويافا حوالي 160 عاملا وفي صناعة الزجاج في الخليل حوالي 40 عاملا (8). وفي صناعة الصدف والتحف الدينية في منطقة بيت لحم 1500 عاملا (9) . وفي صناعة الخمور في بيت لحم وبيت جالا حوالي 360 عاملا، هذا إلى جانب أنوية أخرى في الصناعات الغذائية، وقطاع الحمضيات، وقطاع البناء كمقالع الحجر والاجر والطوب المشوي وغيرها من الصناعات الأخرى، التي بدأت تنشا وتتشكل وتتطور على أسس رأسمالية. صحيح أن الصناعات الحرفية والمنزلية الريفية قد حافظت مع مطلع القرن العشرين سنوات طويلة على وضعيتها وهيمنتها، غير أن الوضع الجديد الذي نشا عن تحرر الحرفيين واستقلالهم وتحرر الحرف واستقلالها عن الزراعة وتشكلها في قطاع اقتصادي جديد وضع فلسطين والمجتمع الفلسطيني على أبواب مرحلة تطور جديدة أسهمت بفعالية في تكوين اجتماعي طبقي جديد، فعلى أنقاض الاقتصاد الطبيعي والاقتصاد المغلق في الريف نما اقتصاد جديد على أسس رأسمالية. صحيح أن الطابع الحرفي للصناعة كان واضحا ومسيطرا على أبواب الانتداب البريطاني على فلسطين، وذلك واضح من ضالة حجم الإنتاج وبدائية أدواته، غير أن فلسطين دخلت دون شك مرحلة تاريخية جديدة مع هزيمة الدولة العثمانية وانحسار الحكم التركي عن الولايات العربية بعد الحرب العالمية الأولى، إذ أزيح عاتق رئيسي من طريق التطور الرأسمالي في فلسطين ومن طريق بلورة القوى الاجتماعية في المجتمع الفلسطيني. ويتضح الطابع الحرفي للصناعة في فلسطين على أبواب عهد الانتداب البريطاني من حجم العمالة في المؤسسات الإنتاجية الفلسطينية ومن شروط وعلاقات العمل في هذه المؤسسات. فحوالي 31.4 بالمئة من المؤسسات الإنتاجية لم تكن تعرف العمل المأجور، أي لم تكن لتدفع أجورا لعمال، بل كان أصحاب المؤسسة أنفسهم يقومون بالعمل، وحوالي 20.1 بالمئة كانت تدفع أجورا لعامل واحد وحسب، وحوالي 26.2 بالمئة كانت تدفع أجورا لعدد من العمال يتراوح من عاملين أو ثلاثة عمال للمؤسسة الواحدة، وحوالي 13,3 بالمئة كانت تدفع أجورا لعدد من العمال يتراوح بين أربعة او خمسة عمال، حوالي 9 بالمئة، أي 317 محلا وورشه كانت تدفع أجورا لستة عمال أو أكثر (10). ومن الصعب العثور على إحصاءات دقيقة وموثوقة حول الحجم الإجمالي للعمالة في فلسطين قبل الحرب العالمية الأولى، غير أن التقديرات التقريبية تشير أن نمو أنوية للطبقة العاملة لا تتجاوز بضعة آلاف موزعين على عدد من المهن الإنتاجية البدائية والمتناثرة في المناطق المدنية والريفية كصناعات الخزف والنسيج ودبغ الجلود وصناعة البسط والصناعات الغذائية وصناعة الزجاج والصناعة الكيماوية وتحديدا صناعة الصابون. وكانت مدن القدس ونابلس ويافا وحيفا وغزة والمجدل والخليل من أهم المراكز الإنتاجية التي استوعبت الأغلبية الواسعة من حجم العمالة الفلسطينية قبيل الحرب وبداية عهد الانتداب. وكانت صناعة الصابون تستوعب عام 1912 حوالي 37.4 بالمئة من حجم العمالة، وصناع النسيج حوالي 29.1 بالمئة والخزف حوالي 16.25 بالمئة من إجمالي حجم الطبقة العاملة في بداية تشكلها(11). وتقود أقدم الإحصاءات عن عدد المؤسسات الإنتاجية في فلسطين إلى العام 1918، حيث بلغ عددها حوالي 1236 مؤسسة إنتاجية، كان ثلاثمائة منها ملكا لليهود في فلسطين، أي حوالي 24 بالمئة، بينما 76 بالمئة في حيازات عربية في معظمها.

وقد توزعت تلك المؤسسات الإنتاجية على الفروع التالية:
الصناعة الفلسطينية عام 1918 (12)
الفرع عدد المؤسسات الإنتاجية الفرع عدد المؤسسات الإنتاجية
المطاحن 95 الصباغة 20
معاصر زيت الزيتون 239 أدوات الزينة والأدوات الدينية 12
معامل الصابون 30 المطابع 23
معامل الخمر 21 التجارة 67
معاصر السمسم 25 الخياطة 45
دكاكين للحياكة 42 السروجية 13
دبغ الجلود 13 المخابز 35
الأحذية 114 الحلويات 14
القرميد والأجر 8 الثلج وماء الصودا 9
الأدوات المعدنية 101 متفرقة 43
الخزف 43
المجموع (1236) المجموع (1012)
الطبقة العاملة تنمو في ظل الصراع على الأرض، وضد الانتداب البريطاني والعمل العبري
في ظل هذه اللوحة لوضع المؤسسات الإنتاجية والطبقة العاملة الفلسطينية حديثة التكوين دخلت فلسطين مرحلة جديدة في تاريخها الحديث وخضعت بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى قسرا ورغم إرادة سكانها لتجربة استعمارية استيطانية فريدة من نوعها في تاريخ المجتمعات البشرية في القرن العشرين. فهذه اللوحة كانت تعطي صورة واضحة عن أمور كثيرة :
فمن ناحية كانت تقدم صورة واضحة عن مستوى التطور الاجتماعي – الاقتصادي للمجتمع الفلسطيني وعلاقات الإنتاج السائدة فيه. فالمجتمع كان مجتمعا زراعيا متخلفا، وأدوات الإنتاج فيه كانت دون شك بدائية، وكان من حيث تشكيلاته الاجتماعية الطبقية يدخل ببطء في مرحلة انتقالية أهم مميزاتها تحرر واستقلال الحرف وبداية تشكيلاته الاجتماعية الطبقية يدخل وببطء كذلك في مرحلة جديدة ونوعية من حيث انخراطها في تقسيم جديد للعمل الاجتماعي بين قوى اجتماعية بدأت تتمايز تدريجيا وبوضوح عن بعضها البعض في المصالح والغايات.
ومن ناحية ثانية كانت هذه اللوحة تقدم كذلك صوره عن التركيب القطاعي للطبقة العاملة حديثة التكوين وظروف وشروط استخدامها هذا إلى جانب صلتها ودورها في الحركة والحياة السياسية العامة في فلسطين على أبواب الانتداب البريطاني. فالطبقة العاملة الفلسطينية كانت في بداية الصراع مع الاستعمار البريطاني ومع الحركة الصهيونية ضعيفة من حيث العدد وموزعة على مؤسسات إنتاجية ذات طابع حرفي أساسا وكان ينقصها دون شك عامل التماسك الاجتماعي وعامل الشعور بالوحدة كطبقة عاملة في مواجهة الأخطار التي بدأت تتهدد البلاد منذ مطلع العشرينات.
أما الريف الفلسطيني، الذي أسهم بفعالية عالية وبوتيرة عالية خلال العشرينات والثلاثينات في تشكيل الطبقة العاملة الفلسطينية فقد كان يخضع على أبواب عهد الانتداب البريطاني لتلك التركة الثقيلة التي خلفها العهد العثماني، حيث كان التفاوت واسعا للغاية بين من يملك مساحات واسعة من الأراضي من ناحية وجماهير الفلاحين وخاصة الجماهير التي لا تملك شيئا أو التي تملك حيازات زراعية محدودة للغاية من ناحية ثانية. وفي ظل الصراع على الأرض ، الذي سيطر على فلسطين بين عرب فلسطين والحركة الصهيونية منذ السنوات الأولى للانتداب البريطاني، بدت واضحة مخاطر الهوة الواسعة التي كانت تفصل بين أشباه الإقطاعيين وكبار الملاك وبين الجماهير الفلاحية، التي وجدت نفسها في مواجهة مباشرة ليس فقط مع الاستعمار البريطاني والحركة الصهيونية بل وكذلك مع أشباه الإقطاعيين وكبار الملاك، الذين تساوقوا مع حكومة الانتداب والحركة الصهيونية في عمليات بيع للأراضي وفي عمليات اقتلاع أوسع للفلاحين من الريف وفي تحويلهم إلى سوق العمل المأجور، دون أن يترافق ذلك مع توفير قاعدة اقتصادية وطنية ثابتة قادرة على استيعابهم في مؤسسات إنتاجية وطنية. ويكفي في هذا السياق الإشارة إلى بعض التقديرات حول الحيازات الزراعية في مطلع عهد الانتداب وحول صفقات البيع للأراضي لتوضيح الصورة التي كان يعيشها الريف الفلسطيني من ناحية وللوقوف على أرضية عملية التحويل البروليتاري في المجتمع الفلسطيني وما ترتب عليها من آثار ونتائج سلبية واسعة لاحقا من ناحية أخرى.
لا توجد إحصاءات دقيقة وموثوقة حول ملكية الأراضي في فلسطين في العهد العثماني، كما لم تتوفر مثل هذه الإحصاءات في العشرينات. وما توفر في هذا الشأن في العشرينات لا يعدو ان يكون تقديرات أولية بحاجة إلى المزيد من التدقيق. ومع ذلك فحسب بعض التقديرات ل عام1909 يتضح ان 116 من كبار الملاك كانوا يملكون حيازات زراعية تتجاوز في مساحتها 1.133.000 دونما في المناطق الوسطى والشمالية في فلسطين وان 28 من كبار الملاك كانوا يملكون حيازات زراعية في المناطق الزراعية (غزة وبئر السبع) تتجاوز مساحتها مليوني دونم، وهذه حيازات كبيرة جدا. إذا قورنت بمساحة الأراضي القابلة للزراعة والأراضي المزروعة في تلك الفترة (13). خاصة وان تقديرات الأراضي القابلة للزراعة كانت بحدود 47 مليون دونما والأراضي المزروعة بحدود 12.2 مليون دونما في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. (14). أما التقديرات الأولية في العشرينات فكانت تشير أن حوالي 250 عائلة كان تملك حوالي ثلاثة ملايين دونما بينما بقية الفلاحين من الملاك يملكون بحدود المساحة التي تملكها تلك العائلات. وحسب تقديرات أولية كذلك للعام 1930 فقد كان 56 بالمئة من الفلاحين يملكون أراضي وان 54 بالمئة من هؤلاء لم تتجاوز ملكية الفلاح بينهم أكثر من أربعة دونمات فقط، هذا في الوقت الذي لا يملك 29.4 بالمئة من الفلاحين أي حيازة زراعية، بل كانوا يعملون في الأرض أما بالمشاركة أو كعمال زراعيين (15). ومن أبرز العائلات التي كانت تملك حيازات زراعية كبيرة في فلسطين عائلة الشوا في منطقة غزة وكانت تملك بحدود مئة ألف دونم وعائلة الحسيني وكان تملك في فلسطين بحدود خمسين ألف دونم، وعائلة التاجي الفاروقي في منطقة الرملة، وكانت تملك بحدود خمسين ألف دونم وعائلة الطيان في منطقة يافا، وكانت تملك بحدود أربعين ألف دونم وعائلات أخرى عديدة تراوحت حيازاتها الزراعية بين عشرة آلاف وثلاثين ألف دونم (16). كما كانت عائلات عربية لبنانية وسورية ومصرية وأخرى إيرانية تملك حيازات زراعية واسعة في فلسطين، وكان من أهم تلك العائلات وأكثرها خطرا وتساوقا مع الحركة الصهيونية عائلة سرسق اللبنانية، التي كانت تملك حتى نهاية القرن التاسع عشر أراضي عشرين قرية في مرج ابن عامر تبلغ مساحتها حوالي 180 ألف دونم، وكان يقيم عليها ويعمل بها آلاف الفلاحين الفلسطينيين. وازدادت مساحة الأراضي التي تملكها عائلة سرسق في فلسطين حتى بلغت في العشرينات أكثر من 260 ألف دونم، وانتقلت مليكتها بالبيع إلى الحركة الصهيونية (17). وتبلغ مساحة الأراضي التي باعها مواطنون عرب غير فلسطينيين في فلسطين للحركة الصهيونية حتى الثلاثينات حوالي 460 ألف دونم، باع منها اكثر من 388 ألف دونم كبار ملاك لبنانيين، وأكثر من 56 ألف دونم كبار ملاك سوريين وحوالي 16 ألف دونم كبار ملاك مصريين وإيرانيين (18)".
وهكذا دخلت فلسطين تحت الانتداب البريطاني في ظل هذه اللوحة، التي تعكس وضع الطبقة العاملة الفلسطينية ووضع الريف الفلسطيني. فالطبقة العاملة كانت في بداية تشكلها كطبقة مستقلة وكانت في غاية الضعف من جميع النواحي. إذ لم تكن الطبقة العاملة قد تشكلت بعد في مؤسسات إنتاجية صناعية وطنية بقدر ما كانت تتشكل في إطار عملية التحول التي طرأت على الصناعات الحرفية وهذه العملية كانت في بداياتها الأولى. وهذا يعني أن الطبقة العاملة لم تكن تتمتع آنذاك بالمزايا، التي تؤهلها للاضطلاع بدورها الوطني والاجتماعي والمطلبي في مواجهة الأخطار التي بدأت تهدد فلسطين منذ نهاية الحرب العالمية الأولى وما تلاها من فرض قسري للانتداب البريطاني ومن هجوم كولونيالي للحركة الصهيونية، أحد أهم وأبرز أهدافه اقتلاع شعبه بكامله من وطنه وتوطين مستوطنين مستعمرين محله. وبسبب ضعفها العددي وعدم تمتعها بالمزايا التي تتمتع بها كل طبقة عاملة من شعور متزايد بالوحدة والانسجام في المصالح وأهداف النضال، فقد غاب دورها في البداية على الصعيد الوطني كما غابت مشاركتها في الأطر الحزبية والنقابية التي بدأت تتشكل في فلسطين منذ عام 1919، فحزب العمال الاشتراكي الذي ظهر إلى الوجود في فلسطين في آذار 1919 كان حزبا يهوديا بالأساس، كما كان حزبا مغتربا عن الحياة العامة في البلاد.
كما كانت تشير إلى ذلك مجموعة المواقف والممارسات التي صدرت عن الحزب في سنوات التأسيس الأولى. أما الأمثلة عن ذلك فكثيرة، ولعل ابلغها وأكثرها دلالة بيان الحزب من الأول من أيار 1921، الذي حث فيه العمال والفلاحين على استلام السلطة (19). ومعروف أن نواة من حزب العمال الاشتراكي كانت قد انفصلت عنه بعد الضربة القاسية، التي تعرض لها على أيدي سلطات الانتداب، وبعد انضوائه بعد ذلك تحت لواء المنظمة الصهيونية العمالية " بوعالي زيون"، هي التي شكلت فيما بعد الحزب الشيوعي الفلسطيني، الذي تم الاعتراف به عام 1924 من الأممية الشيوعية " كومنتيرن" باعتباره الحزب العمالي الأممي في فلسطين .
وعلى صعيد التنظيم النقابي كذلك لم تكن الطبقة العاملة الفلسطينية في وضع يفسح المجال أمام قيام حركة نقابية للعمال العرب الفلسطينيين. فقد كانت الطبقة العاملة، حديثة التشكيل، وتتوزع على مؤسسات حرفية متناثرة وكانت تنقصها مزايا أساسية يستحيل دونها الاضطلاع بدور ملموس في العملية التنظيمية النضالية كمزايا الشعور بالوحدة المتنامية بين أفرادها ومزايا التماسك الاجتماعي كطبقة مستقلة ومزايا الوعي العمالي، ومزايا وضع اقتصادي وعلاقات إنتاج أكثر تقدما من حيث قدرتها على تكريس تقسيم للعمل الاجتماعي يسهم في طرح العملية النقابية والتنظيمية برمتها كأمر حتمي على جدول أعمال الطبقة العاملة. كما كانت الطبقة العاملة الفلسطينية مجرد أنوية لتشكيلات حديثة بالأساس، وحزب العمال الاشتراكي، الذي بدأ آنذاك يطرح نفسه كحزب غير صهيوني، وكان يتحرك خارج الإطار العربي الفلسطيني عمليا وموضوعيا، وكانت مواقفه وممارساته تسبق بأشواط بعيده للغاية مستوى تطور الوضع الموضوعي والوعي الذاتي للطبقة العاملة الفلسطينية، وكان يتكلم بلسان يصعب على العامل الفلسطيني أن يستوعبه. صحيح أن الحزب في مواقفه كان يحرض ضد الانتداب البريطاني " الحكام الانجليز" وضد " الرجعية اليهودية" الذين "استطاعوا استخدام الأفندية العرب لتحقيق مآربهم" في فلسطين، ولكنه كان في مواقفه أكثر اهتماما برفع مستوى إدراك العامل للتفاعل مع مستوى متطور جدا من نضال الحركة العمالية والشيوعية العالمية، أي أنه كان يتحدث إلى العمال العرب الفلسطينيين بلغة مجردة تماما. ففي بيان الأول من أيار المشار إليه، خاطب الحزب العمال العرب الفلسطينيين باللغة التالية: " في هذا اليوم التاريخي، يوم أول أيار (مايو) نناديكم أن تنضموا إلى الإباحيين الروس للجهاد ضد قتلة باريس ولوندرا الذين يقررون مصيرنا كأننا غير موجودين أو كان لا سلطة لنا لتقرير مصيرنا. نناديكم للجهاد ضد الأغنياء الذين يبيعون البلاد وأهاليها للأجانب. اتحدوا مع الشعب الروسي، فهو يساعدكم لنيل حريتكم واستقلالكم الوطني(20).
ورغم كل هذا، فان حزب العمال الاشتراكي، قد بدأ نشاطا مشهودا لتأسيس منظمات نقابية عربية ويهودية، واصطدم أعضاؤه مع القيادة الرجعية للهستدروت، التي كرست جهدها منذ البداية لخدمة مصالح العمال اليهود على حساب العمال العرب الفلسطينيين. وقد أحرز الحزب نجاحات محدودة في هذا المجال وخصوصا في قطاع عمال السكك الحديدية، التي كانت نقابتها تضم عام 1925 حوالي 350 عاملا عربيا من أصل 650 عاملا شكلوا آنذاك مجموع أعضائها "21". غير أن هذا النشاط لم يتجاوز حدود المحاولات لبناء حركة نقابية موحدة للعمال العرب واليهود في فلسطين، هذه المحاولات التي كانت تصطدم بالسياسة الرسمية للهستدروت، القائمة على المواقف العدائية من العمال العرب، وكانت تصطدم بالتفاعلات الخطيرة، التي كانت سياسة حكومة الانتداب تخلقها وتحولها إلى تناقضات حادة بين مجتمع فلسطيني مستعمر وبين مجتمع يهودي في فلسطين يتطور تشكيله بتسارع عبر عمليات التهويد المكثفة واحتلال الأرض أو انتقالها إلى المجتمع الجديد وعبر احتلال العمل العبري واحتكاره من أبناء المجتمع اليهودي.
لهذه الاعتبارات، واعتبارات أخرى كذلك، لا مجال لمناقشتها تفصيليا، جاء تشكيل منظمات نقابية فلسطينية متأخرا لبعض السنوات. وقد اظهر أول تشكيل نقابي فلسطيني في آب 1925، حيث تشكلت آنذاك جمعية العمال العربية الفلسطينية، من نواة عاملة في مصلحة سكة الحديد الفلسطينية. وحددت الجمعية لنفسها مجموعة من الأهداف ضمنتها في نظامها الداخلي، وكانت تنص على " السعي لإيجاد تشريع خاص لحماية العمال إزاء أصحاب رؤوس الأموال والمصالح وأرباب العمل، وتحديد ساعات العمل وتعديل الأجور وترتيب لمعاشات والمكافآت والإعانات في حالة العجز أو العطل أو الإصابة، والإجازات والعلاوات ووضع أنظمة الترقيات وإعداد وسائل لتسهيل سكنهم وتعليم أبنائهم ووقاية صحتهم بشرط ان تكون ضمن دائرة القانون والنظام وألا تتناول الأمور الدينية والسياسية "22".
ومنذ تشكيلها كمنظمة نقابية للعمال العرب الفلسطينية لم تشكل جمعية العمال العربية الفلسطينية منظمة نقابية كفاحية للطبقة العاملة الفلسطينية، بل هي شكلت اتجاها إصلاحيا في الحركة العمالية والنقابية الفلسطينية. ويعود ذلك إلى العديد من الأسباب، منها طبيعة العناصر القيادية لهذه الحركة النقابية وتركيبة الحركة وتقاليدها النقابية المحافظة وغياب الحياة الديمقراطية داخل أطرها التنظيمية القيادية والقاعدية وابتعادها النسبي عن الحياة السياسة والعامة في فلسطين بقيود ذاتية ارتضتها القيادة النقابية للجمعية وموقفها الوسطي بين الاتجاه الوطني الجذري والاتجاه اليميني المحافظ التقليدي في الحركة الوطنية الفلسطيني وعوامل أخرى عديدة كان من أبرزها افتقار الحركة النقابية الفلسطينية لقوة حزبية طبيعية محركة لها من الداخل. ففي الوقت الذي كان الهستدروت وهي الحركة النقابية لعمال اليهود في فلسطين تطرح نفسها باعتبارها ليس فقط الممثل العريض للجماهير العمالية اليهودية في فلسطين بل وجيشها السياسي الواسع لتحقيق طموح الحركة الصهيونية في بناء مجتمع جديد ودولة جديدة في فلسطين، وفي الوقت الذي كانت الهستدروت فيه تحتضن القوى والتيارات الحزبية الصهيونية على اختلاف ميولها السياسة والفكرية، كانت جمعية العمال العربية الفلسطينية تطرح نفسها كمنظمة نقابية وحسب تعمل ضمن الأطر والقوانين السياسية والقانونية لسلطات الانتداب وتحصر المهام الوطنية للجماهير العمالية العربية في فلسطين، التي اتسعت صفوفها بوتائر سريعة منذ العشرينات، في إطار الاحتجاجات الشرعية المحدودة، وتطرح نفسها منظمة نقابية وحسب لا مجال فيها ولا متسع لنشاط القوى والأحزاب السياسة العربية في فلسطين. وعلى أي حال، ومهما كانت نواقص هذه الحركة النقابية، التي سنعود إليها فيما بعد، فقد شكلت أول منظمة نقابية عربية في فلسطين ومشروع عمل نقابي، كان عليه أن يستوعب الآلاف المتزايدة من العمال الفلسطينيين، الذين وفدوا من الريف الفلسطيني، بفعل سياسة التحويل القسري لجماهير الفلاحين إلى طبقة عاملة محرومة من المؤسسات الإنتاجية والصناعة الوطنية في وطنها الفلسطيني.
الطبقة العاملة تسبق البرجوازية الوطنية في نشأتها:
مع الانتداب البريطاني على فلسطين بدأ ينمو بتسارع حجم الطبقة العاملة، دون أن يترافق هذا النمو مع نمو في المؤسسات الإنتاجية والصناعية الوطنية الفلسطينية. فالبرجوازية الوطنية الفلسطينية كانت مع بداية الانتداب في طور جنيني ومرحلة انتقالية لم تستكمل، وكانت تشدها بقوة إلى تقاليد الإقطاع وكبار الملاك أساسا. ولم تتطور البرجوازية الفلسطينية بمستوى تطور البرجوازية السورية أو اللبنانية لان الانتداب البريطاني ومشروع الوطن القومي اليهودي قد وضعا في طريق تطورها سدودا وحواجز عالية لم تتمكن من تجاوزها ، بينما كانت البرجوازية السورية واللبنانية مثلا تتصادم مع مشروع السيطرة الاستعمارية الفرنسية، ولجأتا إلى تنظيم صفوفهما في أحزاب وطنية لإدارة الصراع ضد مشروع السيطرة الاستعمارية، أما في فلسطين فقد تخلفت البرجوازية الفلسطينية عن تنظيم صفوفها. ففي مطلع العشرينات تشكل في سوريا حزب الكتلة الوطنية بقيادة شكري القوتلي، ناظم القدسي، فايز الخوري وآخرين، وفي لبنان تأسس حزب الكتلة الوطنية برئاسة إميل اده والحزب الدستوري برئاسة بشارة الخوري (23). وسواء في لبنان أم في سورية وهما البلدان اللذان خضعا مع فلسطين لنفس الظروف القاسية في العهد العثماني، فإن البرجوازية الوطنية لعبت دورا لا يستهان به ضد الاستعمار الفرنسي ومن اجل الاستقلال. وكانت الخطوة الرئيسية على طريق ذلك دور الجهود المبكرة لتنظيم صفوفها في أحزاب سياسية. أما في فلسطين فإن البرجوازية استمرت حتى مطلع الثلاثينات تعمل بجهود مبعثرة وفي أطر وطنية فضفاضة جمعتها مع أشباه الإقطاع وكبار الملاك.
ووجدت البرجوازية الفلسطينية في المؤتمرات الوطنية الصيغة التنظيمية السياسة الملائمة لنشاطها، ومن هنا كان انخراطها مع أشباه الإقطاع وكبار الملاك في المؤتمر الوطني الأول في القدس 1918، والمؤتمر الثاني في تموز 1920، والذي منعته سلطات الانتداب، والمؤتمر الثالث الذي انعقد في كانون أول 1920 والمؤتمر الرابع في أيار 1921 ومن الملفت للانتباه غياب الريف الفلسطيني عن هذه المؤتمرات والحضور الرئيسي لكبار الملاك فيها. دون شك طالبت هذه المؤتمرات في تقاريرها ومذكراتها لسلطات الانتداب ووزير المستعمرات البريطاني بتشكيل حكومة وطنية ورفض الوطن القومي اليهودي وتأسيس جمعية وطنية – برلمان- في فلسطين، ولكنها لم تقف على الإطلاق موقفا حازما من الاستعمار البريطاني بل إن البعض لم يكن يعارض أصلا الانتداب أو الوصاية البريطانية على فلسطين، بل كان يطالب بمجلس تشريعي يحمي بقوانينه وتشريعاته " تخلصنا من الخطر الصهيوني"24". وكان الخطر الصهيوني خطر قائم بذاته ولا علاقة له بالهدف الذي من أجله أخضعت فلسطين رغم إرادة سكانها للانتداب البريطاني.
كما لم تقف هذه المؤتمرات موقفا حازما وعدائيا صريحا من الاستعمار البريطاني، وكانت في موقفها من الهجرة اليهودية إلى فلسطين تنطلق من مواقع الرفض الأيدلوجية وليس من مواقع الرفض والمقاومة الوطنية الحازمة لهذه الهجرة. ففي مذكراتها وتقاريرها إلى حكومة الانتداب ووزارة المستعمرات البريطانية كانت اللجنة المركزية المنبثقة عن هذه المؤتمرات، والتي تمثل البرجوازية وكبار الملاك تخلط بين الموقف الذي يستجيب لمصالح السكان من الهجرة وبين الموقف الذي يقربها هي ذاتها من الامبريالية البريطانية. فالهجرة الصهيونية إلى فلسطين مرفوضة لأنها ضد مصالح شعب فلسطين وهي مرفوضة بنفس المقدار لأن المهاجرين على حد زعمها من العناصر البلشفية الثورية. تقول اللجنة المركزية للمؤتمر العربي الفلسطيني الثالث في رسالة لها إلى وزير المستعمرات البريطانية آنذاك ونستون تشرتشل:" إن حكومة بريطانيا تسعى إلى إرغام أهل البلاد ضد رغباتهم على قبول هجرة واسعة النطاق من اليهود الغرباء الذي ينتمي أكثرهم إلى عناصر بلشفية ثورية ، وتضيف ، أنه بعد تحقيق وعد بلفور سيؤم فلسطين من روسيا وبولونيا نفاية القوم من الرجال والنساء المتشربين من مبادئ الثورة البلشفية "25". وهؤلاء سوف يشكلون خطرا ليس على فلسطين وحدها، بل وعلى البلدان العربية كذلك.
وهكذا دخلت البرجوازية الفلسطينية ميدان العمل السياسي وهي تضع على عملها قيودا سياسة ذاتية. فمن ناحية لم تميز نفسها عن أشباه الإقطاع وكبار الملاك، بل هي دخلت في حلف معهم من موقع ضعيف، وهذا ما ظهر واضحا وجليا من تركيبة المؤتمرات الوطنية الفلسطينية، التي انعقدت في السنوات الأولى للانتداب، حيث كان لعائلات الحسيني، والتاجي الفاروقي، والشوا، وعبد الهادي وغيرها ثقل رئيسي وبارز، وهي من ناحية ثانية تخلفت عن تنظيم صفوفها في حزبها السياسي المستقل، المؤهل للدفاع عن مصالحها في مواجهة الهجوم الواسع لرؤوس الأموال اليهودية على فلسطين، هذا الهجوم، الذي مكن البرجوازية اليهودية والحركة الصهيونية. كما سنرى من الهيمنة على اقتصاد فلسطين ومشاريعها الإنتاجية والاقتصادية الرئيسية. وهي من ناحية ثالثة كانت في اختياراتها للقوى الحليفة في فلسطين أسيرة تحالفها مع أشباه الإقطاع وكبار الملاك، ولذا أدارت ظهرها للطبقة العاملة الفلسطينية، التي أخذت تنمو بتسارع فائق منذ العشرينات، كما أدارت ظهرها لجماهير الفلاحين، التي شكلت الخزان الضخم لعملية التحويل البروليتاري في فلسطين، والتي كانت الهدف المباشر للسياسة المعادية، التي سارت عليها سلطات الانتداب وكافة مؤسسات الحركة الصهيونية في فلسطين.
ويعيد البعض ضعف دور البرجوازية الفلسطينية إلى ضعف حالتها البنيوية مع بداية عهد الانتداب، أي إلى "ضعفها الاقتصادي إذ لم تتوفر لها المصادر المستقلة الكافية لتراكم رأس المال، والأسواق اللازمة لتصريف إنتاجها، على خلاف ما حدث بالنسبة لكل من البرجوازية المصرية والسورية"26"، ذلك صحيح إلى حد ما، غير أنه لا يغطي كافة جوانب القصور في الدور المتخلف للبرجوازية الفلسطينية سواء على الصعيد الاقتصادي أم على الصعيد السياسي. فضعفها الاقتصادي كان حقيقة واضحة، فقد كانت تمر في مرحلة حساسة من مراحل التحول والتطور في تاريخ المجتمع الفلسطيني. وعوضا عن الصراع ضد حالة الضعف تلك بالاستقلال عن حركة ومصالح الإقطاع وكبار الملاك وبالتضاد معها والتحالف مع الطبقة العاملة الناشئة وجماهير الفلاحين لمواجهة خطر هجوم رأس المال اليهودي ولمواجهة التسهيلات الواسعة التي كانت تمنحه سلطات الانتداب لذلك الهجوم، انكفأت البرجوازية الفلسطينية على مؤسساتها الإنتاجية الضعيفة وحافظت على طابعها الحرفي واتجهت للاستثمار في أصول غير إنتاجية والى الادخار والاكتناز، في ظل الحفاظ على تحالفاتها مع الإقطاع وكبار الملاك، كما لم تشكل الأسواق اللازمة لتسويق الإنتاج الفلسطيني عقبة في وجه تطور الصناعة العربية والبرجوازية الفلسطينية، إذ لم تكن هنالك حواجز جمركية بين فلسطين وجاراتها، الأردن وسوريا وكانت حركة التجارة نامية نسبيا بين فلسطين والبلدان المجاورة وخاصة سورية، وكان ثلث الإنتاج الصناعي في فلسطين يسوق في البلدان العربية المجاورة، وكان المستفيد الرئيسي من هذه الأسواق وحتى العام 1946 الصناعة اليهودية وليس الصناعة العربية في فلسطين. ولم تتوجه البرجوازية الفلسطينية للاستثمار في الأصول المالية وفضلت الادخار والاكتناز على الاستثمار، رغم المزايا الواسعة التي كانت تتوفر في فلسطين للاستثمارات في الحقول الإنتاجية الصناعية. فمن مجموع الاستثمارات في القطاع الصناعي، والتي بلغت عام 1939 حوالي 11 مليون جنيه فلسطيني لم يتجاوز استثمار البرجوازية الفلسطينية ثلاثة أرباع مليون جنيه أي 6.5 بالمئة، ومن مجموع الاستثمارات في القطاع الصناعي، والتي بلغت عام 1942 حوالي 20،5 مليون جنيه لم يتجاوز استثمار البرجوازية الفلسطينية مليوني جنيه، أي 10 بالمئة من مجموع الاستمارات. وبالمقابل وصل مجموع الأموال المودعة (الودائع) في البنوك العربية لعام 1945 حوالي 39.3 مليون جنية فلسطيني مقابل 16.7 مليون جنيه في البنوك اليهودية، ووصل فيه احتياطي البنوك العربية حوالي 9.3 مليون جنيه فلسطيني، مقابل 50.3 مليون جنيه قيمة احتياط البنوك اليهودية "27".
وهذا هو الذي يفسر النمو المضطرد في حجم العمالة اليهودية في القطاعات الإنتاجية الصناعية الأساسية وخاصة في قطاع الصناعة والتعدين، ويفسر وتيرة النمو البطيئة في حجم العمالة العربية في قطاعات إنتاجية أساسية تملكها وتديرها البرجوازية الفلسطينية، فقد نمت العمالة اليهودية في قطاع الصناعة الأساسية والتعدين من 15800 عام 1931 إلى 18300 عام 1935حتى وصلت 21 ألف عامل عام 1942(28). بينما لم تشهد العمالة العربية في الصناعات العربية مثل هذا التطور بل هي بقيت موزعة على عدد كبير من المؤسسات الإنتاجية الصغيرة، وغير القادرة على الوقوف في وجه الصناعة اليهودية.
وإذا كانت البرجوازية الفلسطينية قد دخلت ميدان العمل السياسي ضعيفة بسبب ضعفها الاقتصادي، فإنها لم تبذل جهدا كافيا لتعزيز مواقعها الاقتصادية في فلسطين بما يمكنها من الاضطلاع بدور أوسع وأفضل في المعركة الوطنية ضد الانتداب ومشروعه السياسي ، كما كان النمو المتسارع في حجم الطبقة العاملة الفلسطينية يتم بفعل عوامل متعددة لم يكن للبرجوازية الفلسطينية دور بارز فيها، فالطبقة العاملة لم تنمو في نطاق المشاريع الإنتاجية الوطنية، وعملية التحويل ، التي كانت تجري على نطاق واسع في الريف وتقذف بعشرات الآلاف من الفلاحين الفلسطينيين إلى سوق العمل المأجور ، الذي لم تشارك فيها البرجوازية الفلسطينية، أي أن هذه العملية لم تأت في سياق النشاط الاقتصادي للبرجوازية وفي سياق نمو مؤسساتها الإنتاجية الاقتصادية، بل هي جاءت في سياق عمليات انتقال أراضي أشباه الإقطاعيين وكبار الملاك العرب الفلسطينيين إلى الحركة الصهيونية ومؤسساتها وفي سياق العمليات الاقتصادية التي قامت بها سلطات الاحتلال لبسط سيطرتها على فلسطين ولتمهيد الطريق أمام مشروع الوطن القومي اليهودي.
فما أن أحكمت بريطانيا سيطرتها على فلسطين بعد أن كسرت أنوية المقاومة الوطنية الفلسطينية في مطلع العشرينات، حتى بدأت تولي اهتمامها لتأسيس البنى التحتية الأساسية لفلسطين بهدفين رئيسيين يخدمان سياستها الاستعمارية في فلسطين والمنطقة ويخدمان التزاماتها بالمساعدة على بناء الوطن القومي اليهودي على الأسس التي حددها وعد بلفور عام 1917 وصك الانتداب على فلسطين الصادر من مجلس عصبة الأمم عام 1921. فأخذت بريطانيا توسع وتبني الموانئ الفلسطينية في حيفا ويافا، وتحولت حيفا إلى مركز لتجمع القوات البريطانية في البداية وإلى مركز صناعي عمالي رئيسي خاصة بعد بناء أنبوب نفط كركوك – حيفا لتنقل النفط العراقي إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط وبعد بناء معمل التكرير في المدينة. كذلك تحولت يافا هي الأخرى إلى ميناء رئيسي في فلسطين والى مركز صناعي عمالي خاصة بعد توسيع الميناء في المدينة وبعد أن نمت على أطرافها مدينة تل أبيب اليهودية. كما قامت حكومة الانتداب البريطانية بتوسيع شبكة السكك الحديدية في فلسطين وتم استكمال هذه الشبكة بخط سكة حديد حيفا – القنطرة لربط فلسطين بمصر لخدمة مصالح الاستعمار البريطاني.
وبتوسيع شبكة خطوط السكة الحديدية نمت مدن أخرى وتحولت إلى مراكز صناعية عمالية في فلسطين، وأصبحت مدينة اللد مدينة صناعية عمالية باعتبارها قد تطورت إلى مركز التقاء خطوط السكة الحديدية. كما نشطت سلطات الانتداب البريطانية في شق الطرق لتسهيل سيطرتها على فلسطين ولخدمة مشاريع الوكالة اليهودية الاستيطانية في فلسطين. وإلى جانب هذا كله بدأت سلطات الانتداب ببناء الأجهزة الإدارية لحكومة الانتداب في عموم المناطق والمدن الفلسطينية. هذه النشاطات التي باشرتها سلطات الانتداب في فلسطين خلقت شروطا موضوعية ملائمة لنمو حجم العمالة الفلسطينية فازداد تدفق العمال الفلسطينيين إلى المدن الرئيسية بحثا عن العمل وخلقت نشاطاتها تلك فرص عمل جديدة استوعبت أعدادا كبيرة من العمال.
ومع تدفق المهاجرين اليهود ورؤوس الأموال اليهودية وفي ظل الصراع على الأرض وعمليات انتقال الأراضي من كبار الملاك العرب والفلسطينيين إلى الوكالة اليهودية جرت عملية تحويل قسرية للريف الفلسطيني، وكان تدفق جماهير الفلاحين الفلسطينيين إلى سوق العمل المأجور يتزايد كلما ازدادت مساحة الأراضي التي يتم نقلها من ملكية العرب إلى ملكية الوكالة اليهودية، فالوكالة اليهودية لم تكن تريد الأرض من أجل الأرض، بل كانت تخوض صراعا حول الأرض لاستقبال موجات الهجرة اليهودية التي تتابعت على فلسطين ولتحويل هذه الأرض إلى قاعدة حقيقية مادية لمشروع الوطن القومي اليهودي.
كانت ملكية اليهود من الأرض في فلسطين لا تتجاوز 650000 دونم عام 1920 ، وهي مساحة محدودة قياسا بمساحة فلسطين، التي تزيد عن 27 مليون دونم. ثم بدأت صفقات بيع الأراضي بين الوكالة اليهودية وكبار الملاك العرب والفلسطينيين، فانتقلت مساحات واسعة من الأرض في السنوات الأولى للانتداب إلى الوكالة اليهودية. ووصلت مساحات صفقات بيع الأراضي 1048 دونم عام 1920، ثم ارتفعت إلى 90785 دونما عام 1921، وحوالي 39359 دونما عام 1922، وحوالي 17493 دونما عام 1923، ثم ارتفعت إلى 44765 دونما عام 1924، وفي نهاية العام 1925 بلغت الحيازات اليهودية من الأراضي حوالي 1.19,574 دونما. بالتأكيد انتقل جزء يسير من هذه الأراضي في الفترة بين 1920-1925 مجانا إلى الوكالة اليهودية وبمساعدة مباشرة من سلطات الانتداب، التي بدأت تتصرف بالأراضي الأميرية لتوفير الأرضية الملائمة لانطلاقة مشروع الوطن القومي اليهودي، غير أن مساحات واسعة أيضا انتقلت ملكيتها إلى اليهود بصفقات بيع كانت تتم بين الوكالة اليهودية وكبار الملاك العرب والفلسطينيين وقد استمرت عمليات انتقال الأراضي في فلسطين بمساحات واسعة على امتداد سنوات العشرينات فانتقل إلى ملكية الوكالة اليهودية 38,978 دونما عام 1926، وحوالي 18955 دونما عام 1927، وارتفعت المساحة إلى 21515 دونم عام 1928، قم قفزت إلى 64517 عام 1929. وبلغت حيازات ملكية الوكالة اليهودية في نهاية ذلك العام 1.163.575 دونما حسب تقديرات حكومة الانتداب البريطانية "29".
أما النتيجة الطبيعية لعمليات انتقال الأراضي إلى الوكالة اليهودية فقد كانت تهجير الآلاف من الفلاحين الفلسطينيين منها وتحويلهم إلى عمال أجراء. فالوكالة اليهودية ما كانت لتشتري الأرض حتى تترك الفلاحين يعيشون عليها أو حتى يعملون فيها، بل كانت تشتري الأرض لتزرع فيها مجتمع المهاجرين اليهود، الذين بدأوا منذ مطلع العشرينات يتدفقون بموجات متتالية على فلسطين. ولم يجد هؤلاء الفلاحين. الذين فقدوا الصلة بالأرض وفرص العمل فيها كمزارعين، غير المدينة مأوى لهم ومصدرا لرزقهم.
وهكذا بدا تعداد سكان المدن يتزايد ليس فقط بسبب الهجرة الطبيعية من الريف إلى المدينة بحثا عن العمل، وبل كذلك بسبب التهجير القسري الذي كان يمارس ضدهم على نطاق واسع. فازداد عدد سكان 23 مدينة في فلسطين من 264000 نسمة عام 1922 إلى 387000 نسمة عام 1931 ووصل إلى 539000 نسمة عام 1935 (30)". ونمت نسبة سكان المدن من 34.9 بالمئة إلى 37.4 بالمئة إلى 42.7 بالمئة للأعوام المشار إليها أعلاه، قياسا بإجمالي عدد السكان. أي أن عدد سكان المدن تضاعف في فترة زمنية قياسية لا تتجاوز ثلاثة عشر عاما. إن مضاعفة عدد سكان هذه المدن خلال هذه الفترة الزمنية لا يعود فقد لعامل الهجرة الطبيعية من الريف إلى المدينة ولعامل التهجير القسري الذي مورس ضد الفلاحين الفلسطينيين، بل لابد كذلك من حساب دور الهجرة اليهودية إلى فلسطين في هذه الزيادة.
ومع حساب عامل الهجرة اليهودية إلى فلسطين، والتي لم تستوطن المدن فقط، بل وكذلك المستعمرات الصهيونية في الأرياف، فإن معدل الزيادة في حجم المدن الفلسطينية يبقى مرتفعا للغاية بفعل عوامل الهجرة الداخلية وحدها، أي الهجرة الطبيعية بحثا عن عمل في المراكز الإنتاجية الصناعية الجدية، التي نمت في العشرينات وبفعل عملية التهجير القسري للفلاحين. وقد نمت بعض المدن بشكل ملموس، كما تشير الإحصائية التالية:
المدينة 1922 1931 1939 1944 (31)
القدس 28600 39100 50000 78600
يافا 23400 47500 55000 66200
حيفا 18400 34200 51000 62500
ونتيجة لهذا كله فقد ارتفع حجم العمالة للعرب الفلسطينيين حتى وصل إلى 55 ألف عامل عام 1926 في مختلف القطاعات الاقتصادية وحجم العمالة للعمال اليهود حتى وصل إلى 25 ألف عامل لنفس العام. وكان توزيع العمال العرب على القطاعات الاقتصادية عام 1930 كما يلي: 15 ألف عامل في القطاع الزراعي كعمال زراعيين 15 ألف عامل في البناء والأشغال العمومية، 7 الآلاف عمال الفبارك والمعامل، 3 آلاف عمال السكك الحديدية، ألفين عمال الموانئ، وألفين من عمال النقل والمواصلات، وعدة آلاف أخرى موزعة على الفروع الاقتصادية الأخرى وعلى العديد من المؤسسات الإنتاجية والحرف والمهن المتنوعة"32".
هذا النمو في حجم الطبقة لم يكن بالدرجة الرئيسية نتاج النشاط الاقتصادي للبرجوازية الفلسطينية بقدر ما كان نتاج عوامل متعددة، كان للبرجوازية فيها دور ضعيف. ففي فلسطين تأسس بين الحرب العالمية الأولى والعام 1925 حوالي 150 مشروع اقتصادي، وبلغت الاستثمارات في هذه المشاريع حوالي 1.5 مليون جنيه (33). كانت حصة البرجوازية الفلسطينية منها محدودة جدا، إذ هي لم تتجاوز مئة ألف جنية "(34), ولم تتطور الصناعات العربية بمقدار النمو في حجم الطبقة العاملة العربية الفلسطينية، كما أنها لم تتطور بمقدار النمو الذي شق طريقه في فلسطين بعد خضوعها للانتداب وعلى امتداد سنوات العشرينات.
ولا يعود وضع البرجوازية الفلسطينية هذا إلى قصور ذاتي لدى البرجوازية الفلسطينية فقط، بل يعود كذلك إلى سياسة التمييز، التي كانت تمارسها سلطات الانتداب. فسلطات الانتداب كانت تمارس سياسة تشجيع واضحة للوكالة اليهودية والمشاريع اليهودية والمشاريع الاقتصادية اليهودية في فلسطين. فبعد أن قامت سلطات الانتداب بتثبيت وتطوير القطاعات الرئيسية الاقتصادية والبنى التحتية الأساسية كمشاريع الطرق والسكك الحديدية والموانئ والنقل والبرق والهاتف وما يتبعها من تطور على فروع الاقتصاد المختلفة بدءا من الصناعات الثقيلة الأساسية كالكهرباء والصناعات التعدينية وانتهاء بالصناعات المرتبطة بقطاع البناء، الذي ازداد نشاطه بصوره ملحوظة بفعل نمو المدن وتدفق موجات الهجرة اليهودية، فقد قدمت السلطات كل التسهيلات الضرورية للوكالة اليهودية والمهاجرين اليهود، الذين كان بينهم عدد لا يستهان به من أصحاب رؤوس الأموال.
وكانت هذه التسهيلات التي منحتها سلطات الانتداب للوكالة اليهودية، إضافة بمساعداتها الواسعة للوكالة في صفقات انتقال الأراضي، عاملا رئيسيا في التطور المتسارع للصناعة والبرجوازية اليهودية على حساب تطور الصناعة والبرجوازية العربية. كذلك مارست سلطات الانتداب تمييزا واسعا في شركات الامتياز، التي نشأت في فلسطين لصالح الوكالة اليهودية والبرجوازية اليهودية المهاجرة إلى فلسطين. الأمثلة على ذلك متعددة وملموسة، فقد نشا في فلسطين عدد من شركات الامتياز كان منها شركة كهرباء فلسطين المحدودة، شركة القدس للكهرباء، والخدمات العامة، شركة البوتاس المحدودة، شركة الملح المحدودة، شركة شكري ديب وأولاده للملح المحدودة، وشركة الكبريت، التي توقفت عن العمل في العام 1940. وكان للبرجوازية اليهودية الحصة الأكبر في شركات الامتياز هذه، وخاصة وأن قيمة استثماراتها في هذه الشركات كانت تعادل حوالي 90 بالمئة من قيمة رؤوس أموالها. يضاف إلى هذا كله أن الصناعة اليهودية كانت قد اعتمدت على دعم واسع من الوكالة اليهودية ومؤسساتها المالية كصندوق الائتمان اليهودي لاستعمار ( Jewish colonial trust ltd) الذي تأسس عام 1899، وبنك أنجلو – فلسطين، الذي تأسس عام 1903 (Anglo Palestine bank ltd) ، والصندوق القومي اليهودي (Jewish national fund ) الذي تأسس عام 1920 وغيرها من المؤسسات المالية اليهودية، واعتمدت كذلك على رؤوس الأموال، التي جاء بها أصحاب رؤوس الأموال من المهاجرين إلى فلسطين،
وبتكاثف جهود هذه المؤسسات البرجوازية اليهودية في فلسطين فقد وصلت حجم الاستثمارات اليهودية في فلسطين في الفترة بين 1921 -1926 حوالي 9.786.000 جنيه إسترليني "35". وهو حجم يفوق كثيرا القدرات والطاقات المالية، التي كانت تتوفر آنذاك للبرجوازية الفلسطينية، لا شك أن هذه الاستثمارات، التي كانت تشكل آنذاك في فلسطين مبالغ عملاقة لم توظف بكاملها في القطاع الصناعي، بل في قطاعات أخرى تخدم مشروع الوطن القومي اليهودي كاستقبال المهاجرين وشراء الأراضي والإسكان وغير ذلك، غير أن حصة الصناعة كانت كافية لتمكين الصناعة اليهودية من التفوق وبسرعة على الصناعة العربية.
وتطورت الصناعة في فلسطين في العشرينات بتسارع نسبي وبوتيرة أعلى من وتيرة تطور الصناعة العربية، وحسب أحد التقارير الرسمية البريطانية فقد تطورت أعداد المصانع والمعامل اليهودية في فلسطين من 102 معملا قبل الحرب العالمية الأولى برأسمال 376.000 جنيه "(36). إلى 276 معمل عام 1923 برأسمال قدره 966,548 جنيه ثم ارتفعت إلى الضعف ووصلت عدد المنشآت الصناعية اليهودية عام 1926 حوالي 592 برأسمال قدره 1.843.233 جنيه "37".
ومن خلال مراجعة لوضع الصناعة في فلسطين في نهاية العشرينات ومقارنتها بما كانت عليه، أوضاع الصناعة بعد الحرب العالمية الأولى مباشرة يتضح مدى التطور الذي أصاب الصناعة اليهودية. فحسب إحصاء الصناعات، الذي جرى عام 1928، وهو إحصاء يعكس الواقع إلى حد بعيد، توزعت الصناعة في فلسطين على الفروع التالية:
الصناعات الفلسطينية 1928 (38)
الصناعة عدد المحلات النسبة المئوية
المقالع 132 3.8
الصناعة المعدنية 327 9.3
الصباغة 60 107
المنسوجات 357 10.2
الملابس وأدوات الزينة 813 23.2
المأكولات والمشروبات والتبغ 473 13.5
الصناعات الكيماوية والملحق بها 581 16.6
الورق والقرطاسية والطباعة 103 2.9
الجلود والأحذية 67 1,9
التجارة والأخشاب 397 11,3
القرميد والحجارة والطين 148 4.2
متفرقة 37 1.1
الكهرباء 10 0.3
المجموع 3505 100
هذا ما كانت عليه الصناعات الفلسطينية عام 1928. ويلاحظ هنا زيادة واسعة على عدد المؤسسات الإنتاجية في فلسطين خلال عشر سنوات، أي منذ عام 1918، إذ ازداد عدد هذه المؤسسات بحدود 2969 منشأة تقريبا. وكانت حصة العرب من هذه المؤسسات حوالي 65 بالمئة وحصة اليهود حوالي 35 بالمئة، ذلك يعني تراجع نسبة ملكية العرب من المنشآت الإنتاجية وتقدم حصة اليهود. أما حجم العمالة في هذه المنشآت فقد كان بالأساس موزعا على المنشآت الصغيرة، إذ لم يزد عدد المنشآت، التي تستخدم خمسة عمال وأكثر من 27 منشأة وحجم المنشآت التي تستخدم عدد من العمال يتراوح بين 50-100 عامل عن 15 منشأة، وحجم المنشآت التي تستخدم عددا من العمال يزيد عن 100 عامل عن 12 منشأة. دون شك حصل تطور كبير على عدد المنشآت الإنتاجية التي كانت قائمة عام 1918، غير أن التوسع شمل بالأساس عدد الورش والمعامل الصغيرة، التي تستخدم عددا محدودا من العمال وتحديدا في الصناعات العربية. أما الصناعة اليهودية فهي وإن حققت زيادة كبيرة في عدد المنشآت بما فيها المنشآت الصغيرة، إلا أنها أدخلت إلى فلسطين عددا من المنشآت الصناعية ذات الطاقة العالية نسبيا على استيعاب القوى العاملة كما أدخلت صناعات غير تقليدية كشركة كهرباء فلسطين وصناعة الإسمنت والبوتاس وغيرها. وهكذا بدأت الحركة الصهيونية منذ العشرينات تسيطر على الصناعات الكبيرة والآلية.
وقد واصلت الصناعة اليهودية تقدمها بالاعتماد على التسهيلات التي تمنحها إياها سلطات الانتداب وبالاعتماد كذلك على دعم الوكالة اليهودية وعلى تدفق رؤوس الأموال اليهودية مع المهاجرين الجدد إلى فلسطين، بينما بقيت الصناعة العربية متخلفة عن مستوى التطورات الاقتصادية الواسعة وتدور أساسا في إطار التوسع في الصناعات التقليدية والصناعات الصغيرة والحرفية رغم الفرص المتاحة لها. ويشير إحصاء للصناعات عام 1937 على مدى التطور في الصناعات الفلسطينية اليهودية منها والعربية:
الصناعة الفلسطينية عام 1937 "39"
الصناعة عدد المنشآت عدد العمال رأسمال بالجنيه الفلسطيني
الصناعات الغذائية 383 3929 1.651.000
صناعة النسيج 116 1576 484.000
صناعة الملابس 1207 3450 286.000
الصناعة المعدنية 600 2765 710.000
صناعة الآلات 443 1476 255.000
صناعة الأخشاب 653 3011 482.000
الصناعات الجلدية 683 1830 199.000
الورق والطباعة 425 2821 583.000
الصناعة الكيماوية 91 2054 1.600.000
صناعة الأحجار والإسمنت 251 3286 1.322.000
صناعات متنوعة 122 539 115.000
الإجمالي 5602 28616 7.936.000
توليد الكهرباء 4 1570 3.701.000
المجموع 5606 30.186 11.637.000
وطبقا لمنحى التطور في الصناعات الفلسطينية فقد انخفضت حصة الصناعة العربية إلى 45 بالمئة من عدد المنشآت في حين ارتفعت حصة الصناعة اليهودية إلى 55 بالمئة. وكانت عدد المحلات والمعامل العربية، التي تستخدم عددا من العمال يقل عن خمسة على حوالي 75 بالمئة من مجموع هذه المحلات والمعامل، أي أن الصناعة العربية في حجمها الرئيسي قد حافظت على طابعها التقليدي والحرفي الصغير بينما تطورت الصناعة اليهودية نحو مؤسسات ذات طاقة استيعاب عمالية أوسع. المهم هنا في هذا السياق هو التعاون الواسع بين مستوى التطور في الصناعات بين البرجوازية العربية والبرجوازية اليهودية، فهل كان هذا التعاون حتميا، لا شك أنه قد توفرت للصناعة اليهودية فرص واسعة تمت الإشارة إليها بإيجاز، ولكن فرص التطور أمام الصناعة العربية لم تكن مقفلة لاعتبارات عديدة.
فالقوى البشرية العربية العاملة كانت متوفرة وتغص بها سوق العمل المأجور، وقد كانت قوى عاملة رخيصة الأجور بشكل عام ورخيصة الأجور مقارنة بالقوى البشرية اليهودية. وقد توفرت القوى البشرية العاملة هذه من مصدرين، الهجرة الداخلية الطبيعية الناجمة عن التوسع في المدن الفلسطينية وتحول عدد منها إلى مراكز صناعة رئيسية مثل القدس وحيفا ويافا واللد والمجدل ومدن أخرى كذلك، والهجرة القسرية من الريف الناجمة عن تهجير عشرات آلاف الفلاحين من أراضيهم أو الأراضي التي عملوا عليها في فلاحتها لسنوات طويلة بسبب صفقات بيع الأراضي التي كانت تتم بين الملاك العرب والفلسطينيين والوكالة اليهودية.
ورؤوس الأموال والمصادر المالية للاستثمار في القطاع الصناعي لم تكن شحيحة إلى هذا الحد، الذي يعيق نهضة أوسع في الصناعة العربية، وخير شاهد على ذلك الودائع العربية في البنوك العربية في فلسطين والتي زادت عام 1945 عن 39 مليون جنيه فلسطيني وهو رقم غير قليل قياسا بالأوضاع التي سادت فلسطين على امتداد سنوات الانتداب. لقد اتجهت البرجوازية الفلسطينية آنذاك اتجاها خاطئا في استثمار ما توفر لديها من رؤوس أموال وفضلت الاستثمار في الأصول المالية وفي العقارات وغيرها من أوجه الاستثمار التي تعطي أرباحا سريعة مضمونة ولكنها لا تبني أساسا اقتصاديا متينا وأرضية ملائمة للتراكم الرأسمالي الناجح، أي التراكم الذي يعطي أرباحا أفضل كذلك في المدى الزمني الأبعد ويطور في البنى الأساسية الاقتصادية ويعطي للبرجوازية دورا أوسع وثقلا أكبر في الحياة العامة والاقتصادية والاجتماعية والسياسية. كان دور البرجوازية الفلسطينية في الأصول المالية وفي العقارات نشطا دون شك. ولكن هذا الدور لا يبنى برجوازية وطنية نامية ومستقلة وفاعلة بل يبني برجوازية ضعيفة وتابعة وغير قادرة على التأثير في الحياة العامة في مرحلة من مراحل التطور وفي مرحلة من مراحل الكفاح الوطني من أجل الاستقلال. ودور البرجوازية في استثمارات الأصول المالية والعقارية لا يوسع القاعدة الصناعية ولا يركزها في صناعات ذات طاقة استيعاب عالية ولو نسبيا في استخدام العمالة الوطنية، بل على العكس من ذلك، فهو يبني قاعدة صناعية هشة وضعيفة، أبرز سماتها أن المؤسسات الإنتاجية تكون متناثرة، كثيرة العدد ضعيفة من حيث طاقة استيعابها للعمالة وضعيفة كذلك من حيث قدرتها على إحداث تراكم يمكن استثماره في الصناعات الإنتاجية الكبيرة، هذا إلى جانب ضعفها في الوقوف أمام منافسة الصناعات الصهيونية . ومثل هذه المؤسسات الإنتاجية المتناثرة، كثيرة العدد والضعيفة من حيث طاقة استيعابها للعمالة لا تحتاج إلى استثمارات كبيرة. بل تكفي الاستثمارات المحدودة لإدارتها، ولكنها بطبيعة الحال لا تبني اقتصادا ناميا ولا تستطيع الوقوف لمدة طويلة أمام الصناعة الكبيرة، وهكذا كان حال البرجوازية الفلسطينية.
وإلى جانب هذا كله كانت البرجوازية الفلسطينية غير مستفيدة من الأسواق المتاحة أمامها للنهوض بأوضاعها الاقتصادية، فالسوق المحلية كانت مفتوحة أمامها، كما كانت الأسواق العربية مفتوحة أمامها وخاصة أسواق شرق الأردن وسورية، حيث لم تكن تفصل السوق الفلسطينية عن أسواق الأردن وسورية أية حواجز جمركية. ففي العام 1929 تم عقد اتفاقية جمركية بين فلسطين وسورية ساعدت على تصريف الفائض من الإنتاج الزراعي والصناعي الفلسطيني في الأسواق السورية دون حواجز جمركية. وقد كانت الصادرات الفلسطينية إلى سورية تعفى من أية رسوم جمركية. إذا هي حملت شهادة منشأ تثبت أن الإنتاج من صنع فلسطيني خالص، وقد تطورت الحركة التجارية بين فلسطين والبلدان العربية وخاصة البلدان المجاورة، وكان المستفيد الرئيسي من حركة التجارة ومن الصادرات الفلسطينية إلى البلدان الأجنبية بما فيها البلدان العربية الصناعة اليهودية وليس الصناعة العربية.
أما حجم استفادة الصناعة اليهودية من أسواق البلدان العربية فيوضحه الجدول التالي بالجنيهات الفلسطينية (40):
الصادرات إلى البلدان العربية إلى البلدان الأخرى المجموع
1944 2.300.000 5.900.000 8.200.000
1945 2.700.000 8.400.000 11.100.000
1946 500.000 8.500.000 9.000.000
ومن هذا الجدول يتضح أن أسواق البلدان العربية وخاصة المجاورة كانت مفتوحة أمام الصناعة الفلسطينية وكانت تستوعب إذا استثنينا عام 1946، وهو عام بداية المقاطعة للصناعات اليهودية نسبة عالية من الصادرات الفلسطينية لا تقل عن الثلث. وكانت الصادرات الفلسطينية معفاة من الرسوم الجمركية لأهم سوقين مجاورين هما سوق شرق الأردن والسوق السوري كذلك. وكانت البرجوازية الفلسطينية أقل استفادة من هذه الأسواق من البرجوازية اليهودية لأن الصناعة العربية في فلسطين كانت ذات طابع تقليدي وحرفي ومحصورة في مؤسسات إنتاجية ضعيفة وكان لها مثيلاتها في الأسواق العربية، وهذا ما حرمها من الاستفادة من الأسواق العربية على عكس ما حصل بالنسبة للصناعة اليهودية حتى عام 1946
أما قدرة كل من الصناعات العربية والصناعات اليهودية على استيعاب العمالة من ناحية وعلى المضي قدما في أحداث عمليات التراكم الرأسمالي في المجال الصناعي فيمكن توضيحه بالأرقام التالية:
الإنتاج الصناعي عام 1939(41)
الصناعة العربية الصناعة اليهودية
الإنتاج القائم 1.545.413 6.045.715
قيمة المواد الأولية 1.232.264 3.590.733
الناتج الصافي 313.149 2.454.982
الإنتاج الصناعي عام 1942 (42)
الصناعة العربية الصناعة اليهودية
الإنتاج القائم 5.658.222 29.40.679
قيمة المواد الأولية 3.933.429 17.552.836
الرواتب والأجور 511.149 5.641.126
الربح الصافي 1.213.644 5.846.717
ومن حجم الإنتاج الصناعي لعامي 1939 و 1942 يتضح التعاون الواسع بين الصناعة العربية والصناعة اليهودية وتتضح المسافة الواسعة بين وضع البرجوازية اليهودية والبرجوازية العربية. فقد سيطرت الصناعة اليهودية على مجمل الإنتاج الصناعي في فلسطين وسيطرت على السوق الداخلي وكان طبيعيا أن تسيطر والحالة هذه على الأسواق الخارجية بما فيها أسواق البلدان العربية المجاورة والقريبة، والتي كان يمكن أن تتحول إلى سوق جيدة للصناعات العربية. أما حجم العمالة الذي استوعبته الصناعة اليهودية فقد كان متفوقا إلى درجة كبيرة عن حجم العمالة الذي استوعبته الصناعة العربية ويعادل ثمانية إلى عشرة أضعاف إذا أخذنا في عين الاعتبار الفروق في الأجور بين العامل اليهودي والعامل العربي. وجدير بالذكر أن العمالة في المؤسسات الإنتاجية اليهودية لم تكن يهودية خالصة رغم إصرار الوكالة اليهودية والهستدروت على تطبيق مبدأ العمل العبري، أي تشغيل العمال اليهود فقط فقد امتنعت البرجوازية اليهودية وماطلت في تطبيق هذا المبدأ لاعتبارات عدة منها اعتبار الكلفة الأقل لليد العاملة العربية والرغبة في تحقيق الحد الأعلى الممكن من الأرباح. وكذلك هو الحال بالنسبة للأرباح الصافية، فقد تفوقت الصناعة اليهودية على الصناعة العربية بشكل واضح وأصبحت في وضع أفضل يمكنها من استثمار هذه الأرباح في تطوير أوضاعها وفي مزيد من إحكام سيطرتها على اقتصاد فلسطين وأسواقها الداخلية وعلى الأسواق الخارجية كذلك وفي وضع يمكنها من استيعاب القوى البشرية العاملة على نحو يتفوق كثيرا على الصناعة العربية. أضف إلى ذلك سيطرتها على شركات الامتياز في فلسطين، التي بلغت أرباحها 832.003 جنيه فلسطيني عام 1939 وحوالي 1.020.383 جنيه عام 1942 (43).
ومن هذه المعطيات كلها نستنتج ليس فقط ضعف القوة الاقتصادية للبرجوازية العربية وبالتالي ضعف دورها السياسي في الحياة العامة في فلسطين، وبل كذلك ضعف هذه البرجوازية من حيث إسهامها في بناء الأساس الاقتصادي القادر على استيعاب الحجم المتزايد للطبقة العاملة الفلسطينية. فالطبقة العاملة الفلسطينية لم تنمو في أحضان الصناعة العربية بالدرجة الرئيسية بل هي نمت في أحضان مشاريع ومؤسسات حكومة الانتداب البريطاني، في الموانئ في يافا وفي حيفا وفي مصلحة السكك الحديدية، في الدوائر والمصالح الحكومية وفي معسكرات الجيش البريطاني وخصوصا في فترة النصف الأول من الأربعينات، كما نمت في عدد من المشاريع اليهودية، التي كانت تديرها البرجوازية اليهودية وخاصة القطاع الخاص اليهودي، الذي كان يقاوم انطلاقا من مصالحه الخاصة مبدأ تطبيق العمل العبري ويحاول التحايل عليه بطرق متعددة. ويوضح الجدول التالي المبني على إحصاء الصناعات في فلسطين في العام 1942 نسبة مساهمة الصناعة العربية في استيعاب حجم العمال العربية ، كما يوضح الوضع الذي كانت عليه هذه الصناعة "44".
العمال العرب في الصناعات العربية 1942
الصناعة عدد المحلات مجموع العاملين متوسط عدد العمال في المحل الواحد
الصناعة الغذائية 267 1708 6.2
المشروبات الروحية 16 133 8.3
الزيوت النباتية 23 170 5.2
الصناعة الكيماوية 30 191 6.4
صناعة الأخشاب 286 669 2.3
صناعة الورق 6 210 3.5
صناعة الجلود 45 213 4.7
النسيج 234 1766 7.5
الملابس 345 1330 3.9
التبغ 5 842 168.4
صناعة معدنية 221 1137 5.1
صناعة غير معدنية 59 269 4.6
أخرى 11 166 15.1
المجموع 1558 8804 5.7

وبالمقارنة مع ما كانت عليه الصناعة اليهودية في نفس العام يتضح التعاون كذلك بينها وبين الصناعة العربية. فقد شمل الإحصاء نفسه 1907 محلات ومنشآت صناعية يهودية، وكانت تستوعب حوالي 38 ألف عامل، أما متوسط عدد العمال في المنشأة الواحدة في الصناعات اليهودية فقد بلغ حوالي عشرين عاملا. ويتضح هنا أن الصناعات العربية لم تستوعب أكثر من 26 بالمئة من القوة العاملة البشرية في الصناعة في فلسطين، بينما استوعبت الصناعة اليهودية 74 بالمئة، ويتضح كذلك أن الصناعة العربية حافظت على طابعها التقليدي والحرفي، فمتوسط العمال في المنشاة الصناعية الواحدة لم يتجاوز ستة عمال ، وهذا يعني أن الأغلبية الساحقة من العمال كانوا يعملون في منشآت صغيرة يقل عدد عمالها عن خمسة عمال للمنشاة الواحدة بما فيهم أصحاب المنشاة بالضرورة، هذا في الوقت الذي تطورت فيه طاقة الصناعة اليهودية على استيعاب العمالة وبلغت حجما يشير إلى قدرتها على الاستخدام المكثف للقوى البشرية العاملة بكل ما لذلك من مزايا إيجابية على أكثر من صعيد. فالاستخدام المحدود للعمالة في المنشاة الصناعية يعني أن الصناعة لا زالت تعتمد على الورش أو المانيفاكتورة بكل ما في ذلك من ظروف وشروط استخدام بدائية وعلاقات بطريركية (أبويه) بين العمال وصاحب العمل. كما يعني الاستخدام المحدود للعمالة أن مستوى التطور لم يبلغ حد متقدما يسمح للصناعة بالنمو المتسارع بقدر ما يضع قيدا على نموها وتطورها، وخاصة إذا ما جابهت هذه الصناعة منافسة من صناعة أخرى ذات قدرة أعلى من استيعاب العمالة وتعمل في ظروف وشروط استخدام رأسمالية متطورة، وهذا ما كانت عليه الحال بالنسبة للصناعة اليهودية في فلسطين. وهكذا بينما بلغ حجم الطبقة العاملة في النصف الأول من الأربعينات عشرات آلاف، فإن ما استوعبته الصناعة العربية في منشاتها لم تتجاوز عددا محدودا من الآلاف موزعين على منشات متناثرة، كثيرة العدد وتتسع للمئات الكثيرة من الورش والصناعات الحرفية بالدرجة الرئيسية.
الطبقة العاملة الفلسطينية تنمو في ظل موجات الهجرة اليهودية والصراع على الأرض في حزيران 1920 عينت الحكومة البريطانية هيربرت صموئيل، وهو يهودي صهيوني، مندوبا ساميا على فلسطين، وقد استمر صموئيل في هذا المنصب خمسة أعوام، وما أن تولى صموئيل مسؤولياته حتى أصدر أول قانون للهجرة كما أصدر تشريعات أخرى فتحت أبواب فلسطين أمام المهاجرين اليهود. أما الهدف من فتح أبواب فلسطين أمام الهجرة اليهودية فقد كانت منذ البداية واضحا وهو الوفاء بالالتزامات التي قطعتها بريطانيا على نفسها أمام الحركة الصهيونية وبناء الوطن القومي اليهودي في فلسطين وتحويل فلسطين إلى دولة يهودية كما هي إنجلترا إنجليزية، كما عبر عن ذلك زعماء الحركة الصهيونية. وعلى قاعدة الوفاء بتلك الالتزامات بدا الاختلال في التوازن السكاني فلسطين يشق طريقه كما يوضح الجدول التالي:
سكان فلسطين في الفترة بين 1922 – 1925 "45"
السنة الإجمالي مسلمون مسيحيون يهود آخرون
1922 752.048 589.177 71.464 83.790 7.617
1923 778.989 609.331 72.090 89.660 7.908
1924 804.962 627.660 74.094 94.945 8.263
1925 847.238 75.512 75.512 121.725 8.507
وهكذا بدأت نسبة السكان اليهود إلى إجمالي عدد السكان ترتفع، إذ ازدادت هذه النسبة من 12.8 بالمئة عام 1922 إلى حوالي 16.7 بالمئة عام 1925. وبدءا من العام 1926 ظهرت في فلسطين بوادر أزمة اقتصادية خانقة عبرت عن نفسها بتراجع في مجمل إنتاجها الزراعي رغم التوسع في مساحة الأراضي المزروعة وبتراجع في قيمة إنتاج المنشآت الصناعية وفي تفاقم لمشكلة البطالة بسبب تدفق أعداد المهاجرين من اليهود إلى فلسطين وبسبب الهجرة الداخلية إلى المدن، سوء الهجرة الطبيعية للبحث عن العمل أم التهجير القسري للفلاحين بسبب صفقات بيع الأراضي، حيث نما بسببها حجم العمالة التي تبحث عن فرص عمل بين عرب فلسطين وارتفع من 45 ألف عام 1923 إلى 55 ألف عام 1926 "46". وجاء تقرير الحكومة البريطانية آنذاك يعكس تلك الأزمة الاقتصادية ويلقي على الهجرة اليهودية مسؤولية تفاقم الوضع إذ لم تتخذ المنظمة الصهيونية كل الاحتياطات اللازمة لحل مشكلات معقدة في بلد صغير ضعيف الإنتاج قدرته استيعابه الاقتصادية محدودة، ولم تكن البطالة تعم المحيط العربي فقط، بل وكذلك المحيط اليهودي لأن المنظمة الصهيونية العالمية وقفت بسبب بوادر الأزمة الاقتصادية العالمية عاجزة عن تقديم حلول واقعية لمشكلات الهجرة اليهودية إلى فلسطين. ففي أواخر العشرينات بلغ حجم البطالة بين العمال العرب حوالي 40 بالمئة "47"، ووصل عدد العمال العاطلين عن العمل بين اليهود حوالي ستة الآلاف وخمسمائة عامل يهودي "48".
ولم تكن الأزمة الاقتصادية التي بدأت ملامحها واضحة منذ عام 1926 أزمة عابرة بل هي امتدت لعدة سنوات وارتبطت بالأزمة الاقتصادية العالمية 1929/1930 واستمرت لسنوات أخرى. وهكذا بدأت تتناقص معدلات الهجرة اليهودية إلى فلسطين وبدأت تزداد معدلات رحيل المهاجرين اليهود عن فلسطين. فهبط معدل الهجرة من حوالي 27 ألف عام 1926 13ألف في العام التالي ثم إلى 2713 عام 1927 وحوالي 2200 عام 1928 وعاد للارتفاع فبلغ 5249 عام 1929 وحوالي 4944 عام 1930 "49". أما أعداد المغادرين لفلسطين من اليهود فقد بلغ في الفترة الواقعة بين 1926 إلى 1930 حوالي 18 ألف يهودي. وفي هذه الفترة بالذات تراجع عدد المهاجرين اليهود من أصحاب رؤوس الأموال نتيجة الأزمة الاقتصادية التي كانت تمر بها فلسطين.
ورغم حركة الصعود والهبوط في أعداد المهاجرين إلى فلسطين فقد استمرت عمليات انتقال الأراضي من العرب إلى اليهود. ومن أجل تسهيل هذه العمليات فقد أصدر هيربرت صموئيل، المندوب السامي البريطاني في فلسطين، أمرا في العام 1920 بتأسيس دائرة الطابو، أي إدارة لتسجيل الأراضي واستخراج سندات رسمية بملكيتها، خاصة وأن السلطات العثمانية كانت قد نقلت سجلات الأراضي الفلسطينية إلى سوريا قبل انسحابها من فلسطين. وعين صموئيل اليهودي الصهيوني نورمان بينتويتش مديرا لهذه الدائرة بهدف تسهيل عمليات انتقال الأراضي إلى الوكالة اليهودية. ثم أصدر هيربرت صموئيل في ابريل نيسان 1921 قانونا آخر بتشكيل محاكم الأراضي للنظر في النزاعات الخاصة بملكية الأراضي في فلسطين بهدف إعطاء الوكالة اليهودية مزيدا من التسهيلات للسيطرة على الأراضي وخاصة أراضي الفلاحين المتوسطين والصغار. وخولت المادة الأولى من قانون ملكية الأراضي " محاكم الأراضي" صلاحيات تجيز لها أن تآمر ببيع الأراضي أموال غير منقولة وببيع أراضي إذا عجز الفلاحون عن تسديد ديون أو رهونات خاصة بالأرض. وفي الوقت نفسه أمر بإغلاق البنك الزراعي العثماني ليضع الفلاحين الفلسطينيين تحت سيطرة المؤسسات المالية اليهودية والمرابين اليهود. ثم أصدر المندوب السامي قانونا يضع بموجبه جميع الأراضي الأميرية تحت سلطة وتصرف حكومة الانتداب وقانونا آخر في شباط 1921 عرف بقانون الأراضي الموات "50". الذي يحرم كل من زرع أراضا مواتا قبل الحصول على موافقة مدير الأراضي نورمان بينتويتش من الحصول على سند بملكية الأرض. أما الغرض من هذا القانون فقد كان حرمان الفلاحين العرب من تسجيل أراضيهم في دائرة الطابو، خاصة بالنسبة لأؤلئك الفلاحين الذين كانوا يتهربون من تسجيلها في العهد العثماني تهربا من الضرائب، التي كانت ترهقهم وتثقل كواهلهم. واستمرت حكومة الانتداب في سن العديد من قوانين ملكية الأراضي بهدف وضع اليد على الأراضي العربية، فصدر في العام 1926 القانون رقم 28 لتنظيم ملكية الأراضي وهو القانون الذي يلزم الفلاح ببيع أراضيها، إذا كانت تلك الأراضي صالحة لإقامة مشاريع معينة "51". كما أصدرت قوانين أخرى كثيرة تجيز نزع الملكية أو مصادرة الأراضي لأغراض العسكرية "52". وهي القوانين التي تستند إليها قوات الاحتلال الإسرائيلي وتسن مثيلاتها لوضع اليد على الأراضي العربية، وتسهيل انتقالها اللاحق إلى المستوطنين اليهود.
وقد كانت لموجة الهجرة الرابعة التي امتدت من 1924-1931، والقوانين الخاصة بملكية الأراضي التي أصدرها المندوب السامي سواء في عهد هيربرت صموئيل 1920-1925 أم في عهد لورد لومر، خليفته، وهجوم الوكالة اليهودية لشراء الأراضي آثار سلبية واسعة تركت بصماتها على التكوين الديمغرافي لفلسطين منذ نهاية العشرينات. ففي العشرينات عقدت صفقات بيع واسعة للأراضي وجرت عمليات انتقال للأراضي ساهمت فيها سلطات الانتداب البريطاني. وتطورت حيازات المستوطنين اليهود في فلسطين بشكل كبير، كما يوضحه الجدول التالي:

عمليات انتقال الأراضي للمستوطنين اليهود في العشرينات (بالدونم) "53"
السنة المساحة السنة المساحة
1920 1048 1925 176124
1921 90785 1926 38978
1922 39359 1927 18955
1923 17493 1928 21515
1924 44765 1929 64517
وأصبح في حيازة اليهود من الأراضي الزراعية عام 1929 حوالي 1163575 دونما من الأراضي الخصبة. وخلقت الهجرة من ناحية وعمليات انتقال الأراضي إلى اليهود من ناحية ثانية مشكلات كبيرة للسكان الفلسطينيين وخاصة للفلاح الفلسطيني، الذي كان الهدف المباشر للهجرة وعمليات انتقال الأراضي معا . فالهجرة كانت تعني الحاجة للأرض من أجل الاستيطان والاستيطان كان يعني انتقال ملكية الأراضي لليهود عبر الوكالة اليهودية، وسياسة الوكالة لم تكن تهدف إلى شراء الأراضي واستثمارها واستغلال قوة عمل الفلاح الفلسطيني بل كانت تهدف أساسا إلى اقتلاع الفلاح من أرضه واستبداله بالمستوطن اليهودي. ونتيجة للوقائع الجدية التي خلقتها الهجرة وعمليات انتقال الأراضي بالدرجة الرئيسية بدا عدد السكان يتناقص في الريف الفلسطيني. خاصة الريف الذي تعرض لهجوم مباشر من الوكالة اليهودية وسلطات الانتداب وبدا عدد سكان المدن يتزايد بوتيرة عالية في فترة زمنية وجيزة، كما يشير إلى ذلك الجدول التالي: (54)
1922 1932 1935
سكان 23 مدينة بالألف 264 387 539
النسبة المئوية لمجموع السكان 34.9 37.4 42.2
وهذا يعني أن عدد سكان هذه المدن قد تضاعف خلال ثلاثة عشر عاما، ليس نتيجة لهجرة وحدها، فهي لم تستوطن المدن فقط بل وفي الأرياف ( المستعمرات) كذلك، وليس نتيجة الهجرة الداخلية الطبيعية بل نتيجة سياسة التهجير كذلك، التي مورست ضد الفلاح الفلسطيني على أن هذا الجدول لا يعطي الصورة الدقيقة حول حجم عملية الاقتلاع والتهجير التي فرضتها سلطات الانتداب والوكالة اليهودية على الفلاح الفلسطيني لأن الأرقام تتوزع على عدد واسع من المدن خضعت بتفاوت ملموس لتأثيرات سياسة سلطات الانتداب والوكالة اليهودية . فالهجوم ضد الفلاح الفلسطيني ، الذي شنته سلطات الانتداب والوكالة اليهودية لم يؤثر على الأرياف والمدن في مختلف مناطق فلسطين بنفس المقادير ، فمناطق الوسط في فلسطين، وخاصة مناطق الضفة الغربية بوضعها الراهن، لم تتعرض لنفس المؤثرات، التي تعرضت لها منطقة القدس أو الساحل الفلسطيني، أو السهول الشمالية، فهذه المناطق تعرضت أكثر من غيرها للتغيرات الديمغرافية ونمت فيها المدن بمعدلات عالية ، إذ شكلت ثلاث مدن هي القدس ويافا وحيفا من حيث عدد السكان نسبة الثلث إلى إجمالي سكان المدن المشمولة في الجدول وكانت هذه النسبة منطقية باعتبار أن الجزء الرئيسي من الفلاحين المقتلعين من أرضهم قد توجهوا إلى القدس والمدن الرئيسية في الساحل أساسا . وتحول الفلاحون المقتلعون من أرضهم إلى عمال أجراء ونمت حول المدن الصناعية أكواخ الصفيح وأحياء الفقراء والكادحين والعاطلين عن العمل، الذين وصل عددهم في نهاية العشرينات إلى 30-35 ألف عاطل عن العمل وفقا لتقديرات المجلس الإسلامي الأعلى، التي أوردها جون هوب سمبسون في تقريره حول انتفاضة آب 1929 "55".
وجاء آنذاك في تقرير جون هوب سمبسون، الذي رفعه إلى الحكومة البريطانية حول الأوضاع في فلسطين أن أحوال العمال العرب قد ساءت كثيرا في العشرينات حيث امتلأت المدن الفلسطينية بالعاطلين عن العمل المنحدرين من أصول قروية ومن حرفيين سابقين وعمال الصناعات المحلية الصغيرة، وكان الكثير من هؤلاء العمال الوافدين إلى المدن ينتظرون فترة طويلة قبل الحصول على عمل، ولذا فقد انتشرت على نطاق واسع البطالة والبطالة المقنعة. هذا كان مصير الفلاحين المهجرين من الأراضي الواسعة في مرج ابن عامر (160 ألف دونم) من وادي الحوارث (أكثر من 30 ألف دونم) الذين تم ترحيلهم عن أراضيهم على أيدي القوات البريطانية وفرق المستوطنين المسلحة بالقوة العسكرية في نهاية العشرينات. ونتيجة لتدفق الفلاحين إلى المدن كايدي عاملة رخيصة فقد انخفضت الأجور على نحو ملموس، فبالنسبة لبعض المهن انخفضت الأجور حوالي 50 بالمئة وأصبح عدد غير قليل من الحرفيين المهرة يكتفون بأجر يومي يتراوح بين 15-20 قرشا، أما الفلاح المقتلع من أرضه، والي استوعب في أحياء الفقر حول المدن فقد كان عليه أن يكتفي بأجر يومي يتراوح بين 8-10 قروش "56".
موجة الهجرة الخامسة ومبدأ العمل العبري:
وعلى ضوء تقرير جون هوب سمبسون صاغت الحكومة البريطانية بيانا يوضح خطتها السياسية في فلسطين على ضوء التزاماتها للوكالة اليهودية بالمساعدة على بناء الوطن القومي ليهودي وعلى ضوء الأوضاع الاقتصادية المتردية والمتأزمة في فلسطين. وعرف ذلك البيان الذي صدر في تشرين أول 1930 بالكتاب الأبيض"57".
وجاء في البيان (الكتاب الأبيض) أن تحضير جدول العمال المهاجرين إلى فلسطين يجب أن يبنى على التثبت من مجموع عدد العمال من الطرفين في فلسطين العربي واليهودي العاطلين عن العمل وأن يربط بمقدرة فلسطين الاقتصادية على الاستيعاب، خصوصا وأن المادة السادسة من صك الانتداب على فلسطين تفرض عدم إلحاق أي حيف أو ضرر بحقوق ومصالح السكان من جراء الهجرة اليهودية . ونص بيان الحكومة البريطانية آنذاك ( الكتاب الأبيض ) على ضرورة ربط الهجرة اليهودية بالقيود، التي تفرضها قدرة فلسطين على الاستيعاب وحجم البطالة العمالية، دون أن يعني ذلك أي تراجع عن الالتزام بالمساعدة على بناء الوطن القومي اليهودي "58". وحاولت الحكومة البريطانية ببيانها أن تعطي الانطباع برغبتها في اتباع سياسة متوازنة تأخذ في الاعتبار مصالح كل من العرب واليهود في فلسطين، وجاءت نصوص الكتاب الأبيض تؤكد " أن المشكلات العملية، التي يجب التأمل بها هنا هي مشاكل الهجرة والأراضي والبطالة بشكل عام. فهذه المسائل الثلاث مرتبطة معا كل الارتباط، من كافة وجوهها السياسية والاقتصادية، وعلى حلها يتوقف كل تقدم يرتجى بشأن توطيد السلم وشمول الرخاء الاقتصادي في فلسطين" "59"
تراوح الموقف العربي من الكتاب الأبيض بين الارتياح من النوايا البريطانية بالحد من الهجرة اليهودية بسبب أوضاع فلسطين الاقتصادية وبين الرفض لهذا الكتاب، حيث لم تتخلى حكومة بريطانيا عن التزامها ببناء الوطن القومي اليهودي. اللجنة التنفيذية العربية أصدرت آنذاك بيانا تعقب فيه على الكتاب الأبيض تطالب فيه حكومة الانتداب بالعمل على الفور لمنع انتقال الأراضي إلى اليهود والعمل على إقامة حكومة وطنية نيابية تشرف على الهجرة اليهودية، إذ لا شيء يصون مصالح الأهالي العرب إزاء أخطار الهجرة سوى إقامة مثل هذه الحكومة "60". السيد أحمد الشقيري وصف الموقف آنذاك بكلمات معبرة حيث قال: لم نستطع أن نكتم سرورنا. فقد كان الكتاب الأبيض الخطوة على الطريق، إذ نص على إنشاء مجلس تشريعي ووضع قيودا على الهجرة وبيع الأراضي، ولم تكن هذه كل مطالبنا الوطنية، ولكن كنا في حاجة إلى وقف النمو الصهيوني ريثما نستطيع أن نجد سبيلا إلى الخلاص"61" وفي تحديدها لموقفها من الأوضاع من الأوضاع المتأزمة في فلسطين ومن الكتاب الأبيض لم تتجاوز اللجنة التنفيذية العربية كثيرا حدود الموقف الاحتجاجي، الذي ينتظر الحلول والخلاص الوطني كما لو كانت منحه من الاستعمار البريطاني، وكان هذا الموقف منسجما مع طبيعة تكوين تلك اللجنة، التي كانت تعبر عن تحالف بين البرجوازية الفلسطينية الضعيفة وكبار الملاك الفلسطينيين . فلم تلجأ اللجنة التنفيذية إلى وسائل العمل الجماهيري المباشر المستند إلى كفاح العمال والفلاحين وسائر فئات الشعب الوطنية ضد الإعلان الصريح للحكومة البريطانية بأنها ستمضي في مشروع الوطن القومي اليهودي حتى النهاية. ولم تعطي اللجنة العربية التنفيذية المسالة الفلاحية المتفجرة في فلسطين أهمية خاصة تتناسب مع خطورتها ومع درجة استعداد الفلاحين للدفاع عن مصالحهم اليومية المعيشة المباشرة، بل هي اكتفت في بيان ردها على الكتاب الأبيض البريطاني بفيض من الاستشهادات ، التي تحاول إنصاف السكان العرب على الورق، ولكنها كانت تخفي درجة عالية جدا من المراوغة السياسية لامتصاص نقمة جماهير العمال العاطلين عن العمل وجماهير الفلاحين، الذين تقتلعهم هي نفسها وبالتعاون مع الوكالة اليهودية من أراضيهم وتحولهم إلى جيش من الأيدي العاملة الرخيصة وجيش من العاطلين عن العمل. وكانت اللجنة التنفيذية العربية في موقفها الوسطي منسجمة مع مصالح كبار الملاك، الذين يتمثلون في اللجنة ويكرسون في الوقت نفسه عمليات بيع الأراضي للوكالة اليهودية. آنذاك كان الحزب الشيوعي الفلسطيني يعقد مؤتمره السباع في تشرين أول 1930، وقد أعطى ذلك المؤتمر المسألة الفلاحية أهمية خاطئة ووضع وثيقة برنامجيه تحت عنوان "العمل بين الفلاحين والنضال ضد الصهيونية" وتعرض لمسالة نهب الأراضي وواقع الجماهير الفلاحية ومواقف مختلف القوى في المحيط العربي من المسالة الفلاحية، وأبرز ما كان يلفت الانتباه في معالجة المؤتمر لهذه المسالة هو إدانته المباشرة لصفقات بيع الأراضي التي كانت تتم بين الملاكين العرب الممثلين في اللجنة التنفيذية والوكالة اليهودية. وبصرف النظر عن التدقيق في المحتوى الأيديولوجي لقرارات المؤتمر السابع للحزب الشيوعي الفلسطيني حول المسالة الفلاحية من الزاوية النظرية والعملية معا، فقد عبرت بعض معالجات مؤتمر الحزب للمسالة الفلاحية في فلسطين ومواقف القوى في المحيط العربي منها عن فهم متقدم في العديد من جوانب المعالجة، خاصة حين ربط المؤتمر بين النضال من أجل حل المسالة الفلاحية بالنضال ضد الامبريالية البريطانية والنضال ضد البرنامج الصهيوني، الذي كان في جوهره وتفاصيله يهدف إلى : تحرير الأرض من الفلاحين ونقلها إلى المستوطنين اليهود والصهاينة" "62"
إذ كانت اللجنة التنفيذية العربية المعبرة آنذاك عن تحالف البرجوازية الفلسطينية وكبار ملاك الأراضي، دون مستوى المهام التي كانت الأوضاع الاقتصادية تطرحها في فلسطين في نهاية العشرينات. بل إن قوى التحالف البرجوازي – كبار الملاك في فلسطين شكلت قيدا حقيقيا على ضرورة الربط الفعلي بين النضال من أجل حماية الفلاحين وحماية الأرض وبين النضال ضد الامبريالية البريطانية بشكل خاص وتحديدا.
موقف الوكالة اليهودية من الكتاب الأبيض البريطاني ابتعد عن الوسطية، إذ هي نددت بالكتاب الأبيض بحزم وبدأت بتنظيم حملة تشهير دولية واسعة واتهام مباشر للحكومة البريطانية بفتور جهودها وحماسها نحو مشروع الوطن القومي اليهودي. وتظاهرة 25 ألف يهودي في نيويورك احتجاجا على الكتاب الأبيض وخرجت مظاهرات أخرى عديدة في العديد من العواصم العالمية، وتم تنظيم إضرابات الاحتجاج قبل صدور الكتاب الأبيض وبعد صدوره في فلسطين وقدمت المنظمات الصهيونية في الولايات المتحدة وغيرها من البلدان مذكرات إلى عصبة الأمم تطالب بنقل الانتداب في فلسطين إلى دول أخرى بينها الولايات المتحدة الأمريكية، وفي مذكرة إلى عصبة الأمم المتحدة أكدت الوكالة اليهودية أنه ليس هنالك وطن قومي بدون رجال وأرض، وأضافت، إن تحديد الهجرة لأسباب سياسية وإصدار تشريع يمنع حيازتنا للأرض اللازمة لن يستمر "63". وصعدت الوكالة اليهودية إلى مجابهتها مع الحكومة البريطانية بعد صدور الكتاب الأبيض، ورغم أن الكتاب الأبيض لم يتنكر لبناء الوطن القومي اليهود، فقد حاييم وايزمان، رئيس الوكالة اليهودية، استقالته من الوكالة وهكذا فعل عدد من زملائه في قيادة الوكالة، هذا إلى جانب أشكال الاحتجاج أخرى متعددة لإجبار الحكومة البريطانية على السير قدما في مشروع الوطن القومي اليهودي، وفقا لما تراه الوكالة اليهودية وليس وفقا لحسابات الحكومة البريطانية. أي أن الوكالة اليهودية لم تساوم في عدائها للكتاب الأبيض ولم تقبل بأي حل وسط. وما أن حل شباط 1931 حتى كان رئيس الوزراء البريطاني يتوجه برسالة إلى حاييم وايزمان يؤكد فيها أن حكومة صاحب الجلالة البريطانية تقر أن العمل الإنشائي الذي تم على يد الشعب اليهودي في فلسطين كان له أثر مفيد في تقدم البلاد ورفاهيتها "64". ومع رسالة رئيس الوزراء البريطاني ركزي مكدونالد إلى حاييم وايزمان رئيس الوكالة اليهودية بدأت مرحلة جديدة اشد خطرا على الأوضاع في فلسطين من مرحلة العشرينات. وكان أبرز أحداث المرحلة الجديدة:
صعود الحزب الوطني الاشتراكي العمالي (الحزب النازي) إلى السلطة في ألمانيا عام 1933 وكان ها الحزب معروفا بعدائه العنصري البغيض لليهود ولكل ما هو غير ألماني. وبصعود الحزب النازي إلى السلطة بدأت موجة الهجرة الخامسة تأخذ أبعادا خطيرة في فلسطين، فقط تدفقت أعداد كبيرة جدا من المهاجرين اليهود إلى فلسطين. ويوضح الجدول التالي الحجم الإجمالي للهجرة اليهودية إلى فلسطين مع الحجم الإجمالي للهجرة إلى الولايات المتحدة، التي لا مقارنة بين قدرتها على استيعاب المهاجرين بسبب إمكانياتها الاقتصادية الضخمة مع قدرة فلسطين بسبب ضعف إمكانياتها، كما حجم يوضح بالمقارنة حجم التبعات التي تحملتها فلسطين من الهجرة اليهودية قياسا بالتبعات التي تحملتها بلدان أخرى استوعبت مع فلسطين الحجم الأكبر للهجرة اليهودية بعد صعود الحزب النازي إلى السلطة.
السنة إجمالي الهجرة لجميع الجنسيات إلى الولايات المتحدة (65) إجمالي الهجرة اليهودية (66) إلى فلسطين العدد -النسبة إلى الولايات المتحدة الأرجنتين كندا بلدان أخرى
1932 35576 20683 9553-46.2% 2755 1851 649 5925
1933 23068 71095 30327-42.7% 2372 1962 772 35662
1934 29470 61474 42359-69.1% 4134 2265 943 11773
1935 34956 78689 61854-79.3% 4837 3837 624 7537
1936 36329 55300 29727-53.8% 6252 4261 880 14180
ومن الجدول يتضح أن فلسطين، البلد الصغير، المحدود بإمكانياته الاقتصادية قد استقبل على امتداد الفترة 1932-1936 من الهجرة اليهودية ،وحدها أكثر إجمالي الهجرة التي استقبلتها الولايات المتحدة الأمريكية خلال نفس الفترة الزمنية، هذا في الوقت الذي كان فيه الكتاب الأبيض للحكومة البريطانية 1930 يؤكد أن طاقة فلسطين على الاستيعاب قد بلغت آنذاك حد الإشباع وأن كل هجرة جديدة سيتولد عنها مزيد من اقتلاع الفلاحين من الأرض وأعدادا إضافية كبيرة لجيش العاطلين عن العمل، عدا ما تولده الهجرة من تهديد مباشر لمستقبل شعب فلسطين وقد استوعبت فلسطين أعلى نسبة من المهاجرين اليهود في العالم تراوحت بين 42.7 بالمئة للعام 1933 وحوالي 79.3 بالمئة للعام 1935. وبموجة الهجرة الخامسة التي ابتدأت عام 1932 بدأت تغيرات أساسية تظهر على التركيب الديمغرافي في فلسطين وعلى الهيكل الاجتماعي للسكان كذلك. وقد أسهم قانون الهجرة رقم 38 للعام 1933 في إحداث هذه التغييرات الأساسية، وخاصة وانه تضمن تصنيفا للمهاجرين سهل على الوكالة اليهودية عملها لنقل عشرات آلاف المستوطنين اليهود إلى فلسطين. وقد صنف ذلك القانون المهاجرين إلى مجموعة من الفئات هي (67):
(1-p) الأشخاص الذين يمتلك كل منهم رأسمال لا يقل عن ألف جنيه إسترليني.
(2-p) ذوي المهن الحرة، ويقبلون في ظل ظروف خاصة، على أن يمتلك كل منهم رأسمالا لا يقل عن 500-جنيه إسترليني.
(3-p) حرفيين مهره يمتلك كل منهم ما لا يقل عن 250-جنيها إسترلينيا.
(4-p) أشخاص لكل منهم دخل مضمون بحد أدنى أربعة جنيهات إسترلينية شهريا.
(5-p) أشخاص يمتلك كل منهم رأسمالا لا يقل عن 500-جنيه إسترليني.
(ب) طلاب العلم ورجال الدين.
(ج) أشخاص لهم دخل ثابت من العمل في فلسطين.
(د) المعالين الذين يعتمدون على أقارب لهم يقيمون في فلسطين، الزوجة، الوالدين، المسنين، الخطيب، الخطيبة، الأبناء، البنات، الإخوة، الأخوات، أبناء العم، ابن الأخ، الأخت تحت سن الثامنة عشرة.
وقد سهل هذا القانون حركة الهجرة اليهودية باتجاه فلسطين لجميع الفئات المذكورة وشكل القانون حافزا لأصحاب رؤوس الأموال للانتقال برؤوس أموالهم إلى فلسطين، كما مكن الوكالة اليهودية من إدارة عملية الهجرة دون احتكاك واسع من السلطات المعنية، بل إن القانون كان له مفعول إيجابي واسع على صعيد التنسيق والتعاون، الذي برز على نطاق واسع في تلك المرحلة بين الوكالة اليهودية وسلطات الانتداب، حدثت تغييرات ديمغرافية أساسية في فلسطين لصالح الحركة الصهيونية ومشروع الوطن القومي اليهودي، فقد ارتفع عدد المستوطنين اليهود في فلسطين وارتفعت نسبتهم إلى مجموع السكان كما يوضح الجدول التالي:
تطور السكان في ظل الموجه الخامسة للهجرة الى فلسطين "68"
السنة المجموع السكان العرب % السكان اليهود %
1932 1.083.827 881690 82 192137 18
1933 1.140.941 905974 79 234967 21
1934 1.210.554 927579 76 282975 24
1935 1.308.112 952955 73 355157 27
1936 1.366.692 982614 72 384078 28
وإذا تم استثناء الهجرة السرية، التي كانت الوكالة اليهودية تنظمها إلى فلسطين، فإن نسبة اليهود إلى إجمالي عدد السكان فقد ارتفع خلال خمس سنوات من 18 بالمئة إلى 28 بالمئة، ونسبة السكان العرب قد انخفضت خلال الفترة نفسها من 82 بالمئة إلى 72 بالمئة، وإذا ما تم استثناء الهجرة السرية كذلك، والتي لم تكن تدرج في تقديرات الإحصاء، فإن عدد المستوطنين اليهود يكون قد تضاعف خلال خمسة سنوات فقط.
ومع الموجه الخامسة للهجرة اليهودية إلى فلسطين تدفقت مع المهاجرين رؤوس أموال كبيرة وتدفقت على الوكالة اليهودية تبرعات مالية كبيرة أيضا، وإذا أضيف إلى رؤوس الأموال الخاصة التي تدفقت مع المهاجرين وإلى جباية الوكالة اليهودية ومؤسساتها المالية الأموال، التي انتقلت إلى فلسطين بموجب اتفاقية نقل أموال اليهود المفقودة بين الوكالة اليهودية والحكومة النازية في ألمانيا، اتضحت على نحو أفضل المخاطر التي بدأت تتهدد السكان العرب في فلسطين وخاصة جماهير الفلاحين وجماهير العمال كذلك. فقد تميزت سنوات الثلاثينات ليس فقط بتدفق المستوطنين الصهيونيين بل وكذلك بتدفق رؤوس أموال كبيرة أسهمت في دفع القاعدة الاقتصادية لمشروع الوطن القومي اليهودي خطوات واسعة إلى الأمام، حيث تم إرساء أساس متين للصناعة اليهودية في فلسطين. وأسهم تدفق رؤوس الأموال هذا. كلك في تنشيط عمليات انتقال الأراضي من العرب إلى اليهود وفي مزيد من اقتلاع الفلاحين من الأرض وتحويلهم إلى سوق العمل المأجور وإلى جيش العاطلين عن العمل. ويلقي الجدول التالي ضوءا على عملية انتقال الأراضي خلال سنوات الثلاثينات.
عمليات انتقال الأراضي في ظل الموجة الخامسة من الهجرة اليهودية لفلسطين "69"
السنة المساحة بالدونمات السنة المساحة بالدونمات
1931 18585 1936 18146
1932 18893 1937 29367
1933 36991 1938 27280
1934 62114 1939 27973
1935 72905 المجموع 321254
وفي نهاية عام 1939 وصلت مساحة الحيازات الزراعية اليهودية في فلسطين حوالي 1.533.400 دونم. وقد استمرت عمليات انتقال الأراضي في سنوات الأربعينات بمعدلات سنوية أقل من معدلات العشرينات والثلاثينات، وبلغ مساحة الأراضي التي انتقلت ملكيتها إلى اليهود في سنوات الأربعينات حوالي 103 آلاف دونم، وهكذا وصلت مساحة مجموع الأراضي التي يملكها اليهود في فلسطين في نهاية العام 1945 حوالي 1.491.690. أما توزيع الأراضي حسب الإحصائيات الحكومية لنفس العام فقد كانت على النحو التالي:
توزيع الأراضي في فلسطين عام 1945 "70"
المساحة بالدونم النسبة المئوية
حيازات عربية 12.766.524 48.5
حيازات يهودية 1.491.699 5.67
أراضي عامة 1.491.690 5.67
منطقة بئر السبع 10.573.110 40.16 غير مستزرعة
وكانت الحيازات اليهودية الزراعية في فلسطين تمتاز بكونها حيازات في الأراضي الأكثر خصوبة. ففي منطقة بئر السبع الواسعة جدا في مساحتها لم تتجاوز ملكية اليهود 65 ألف دونم عام 1945. ولم تكن مساحة الحيازات اليهودية الزراعية في مناطق الضفة الغربية، أي المناطق التي احتلتها إسرائيل بعد عام 1967، ذات شان، فقد كانت محدودة للغاية، بل إنها لا تكاد تذكر من حيث المساحة إذا استثنينا منطقة طولكرم، وهي المنطقة الأقرب إلى الساحل الفلسطيني، فقد ركزت الوكالة اليهودية ومؤسساتها والمستوطنون كذلك على الأراضي الزراعية الخصبة، فأصبح اليهود يملكون 45 بالمئة من مجموع مساحة الأراضي الزراعية في طبريا، 40.8 بالمئة في منطقة بيسان، 409 بالمئة في منطقة حيفا ، 37 بالمئة في منطقة الناصرة،35 بالمئة في منطقة يافا، 20،8 بالمئة في منطقة طولكرم، 16،8 بالمئة في الرملة، و11،9 بالمئة في منطقة غزة.(71)
السيطرة على العمل العبري:
جنبا إلى جنب سادت سياسة الاستيلاء على الأرض بكل ما ترتب عليها من تدمير لحياة قطاعات واسعة من الفلاحين الفلسطينيين مع سياسة بناء صناعة يهودية متطورة منفصلة ومستقلة عن الصناعة العربية ومنافسة لها. وكان سلوك الوكالة اليهودية والمؤسسات التابعة لها عدائيا ليس نحو الفلاح الفلسطيني وحسب بل ونحو العامل، الذي كان ينحدر أساسا من أوساط الفلاحين ومن الحرفيين والمنتجين الصغار الذين ألحق بهم مشروع الوطن القومي اليهودي وخاصة في سنوات موجة الهجرة الخامسة خرابا ودمارا لا يقل عن الخراب والدمار، الذي لحق بالفلاحين. فقد كانت فترة الثلاثينات أكثر الفترات حسما في تاريخ فلسطين تحت الانتداب، إذ في إطارها تم بناء الأساس المادي للوطن القومي اليهودي بهجوم واسع على الريف وفلاحيه وهجوم مماثل على القطاع الصناعي وجماهيره العمالية. فكما أخذ الزحف على الأرض أبعادا خطيرة وخلف وراءه تغيرات واسعة، كذلك أخذ الهجوم على الصناعة أبعادا لا تقل خطورة، وخلف وراءه تغيرات أساسية في غير صالح جماهير العمال والكادحين الفلسطينيين. ففي نهاية العشرينات وعلى امتداد الثلاثينات نظمه الوكالة اليهودية صفوفها بتوسيع إدارتها لتشمل الصهيونية" وغير الصهيونية" واستكملت بناء أجهزتها وطورت ونشطت مؤسساتها المالية، كما لو كانت تعد لمعركتها الفاصلة، أي معركة بناء مؤسسات دولة الوطن القومي ومرتكزاته الاقتصادية والسياسة والعسكرية الأساسية. وفي المجال الاقتصادي بدأت الوكالة في نشاطاتها تعتمد على أجهزة متخصصة ومتفرغة لتوسيع الحيازات الزراعية إلى أبعد مدى ممكن ولبناء اقتصاد صناعي له السيطرة الواسعة على الصناعة في فلسطين. ومن هذه المؤسسات التي اعتمدت عليها الوكالة اليهودية:
صندوق الائتمان اليهودي للاستعمار المحدود Jewish colonial trust ltd، وقد تأسس عام 1899، وتولى في العام 1903 تأسيس بنك أنجلو – فلسطين المحدود Anglo Palestine bank ltd، الذي تحول عام 1951 إلى بنك ليئومي إسرائيل، وقد بلغت قيمة موجوداته عام 1944 أكثر من 63 مليون جنيه فلسطيني"72".
الصندوق القومي اليهودي Jewish national fund – كيرين كايميت-، وكان في البداية مؤسسة مالية تابعة للمنظمة الصهيونية ثم أصبح تابعا للوكالة اليهودية بعد توسيعها عام 1929، وكان يتولى عملية شراء الأراضي، الذي كانت تسجل باسمه. وقد بلغت رؤوس أمواله مع نهاية الانتداب 15 مليون جنيه "73".
الصندوق القومي التأسيسي Palestine foundation fund وقد تأسس كذلك عام 1920 كمؤسسة مالية تابعة للمنظمة الصهيونية ثم تحول إلى الوكالة اليهودية وقد بلغت مصروفاته في الفترة بين 1941-1945 حوالي 20 مليون جنيه فلسطيني.(74)
وإلى جانب هذه المؤسسات المالية الرئيسية كان هنالك البنك الزراعي اليهودي والبنك المركزي للمؤسسات التعاونية وأجهزة مالية أخرى أسهمت هي الأخرى عمليات تمويل المشاريع اليهودية في فلسطين.
وظهرت آثار تدفق الأموال اليهودية على فلسطين في ظل موجة الهجرة الخامسة في نمو عدد من الشركات الصناعية في فلسطين، فقد تأسس عام 1935 حوالي 265 شركة بلغ إجمالي رؤوس أموالها أكثر من ثلاثة ملايين جنية فلسطيني في مقابل 170 شركة كان إجمالي رؤوس أموالها حوالي مليوني جنيه "75". وبلغ حجم الأموال التي تدفقت على فلسطين من مؤسسات الوكالة اليهودية وأموال أصحاب الرساميل اليهود المهاجرين والمبالغ التي دخلت فلسطين بموجب " اتفاقية التحويل: بين الوكالة اليهودية والحكومة النازية 12-15 مليون جنيه عام 1934 وحوالي سبعة ملايين عام 1935، وارتفعت إلى حوالي 50 مليون بعد 1940 "76". وأخذت مصروفات الوكالة اليهودية ترتفع حتى بلغت عامي 1936 و1937 المستويات التالية:
مصروفات الوكالة اليهودية عام 1936 "77"
الزراعة والتوطين 5,600،000 التعليم 2,600,000
التوطين في الأماكن الحضرية 1,000,000 الصحة والخدمات الاجتماعية 2,400,000
الهجرة والعمل 1,500,000 الاجمالي 13,200,000
مصروفات الوكالة اليهودية عام 1937 "78"
الزراعة 2,000,000 المباني العامة 1,500,000
الصناعة 4,100,000 الإسكان 2,700,000
النقل 1,300,000 التجارة 2,500,000
الخدمات 3,900,000 الإجمالي 18,000,000
وقد احتل الاتفاق على الصناعة موقعا بارزا في مصروفات الوكالة اليهودية، وكان بشكل عام يقترب من حجم الاتفاق على الزراعة والتوطين. وتطور الاتفاق على الصناعة بعد 1939، أي بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية واستفادت الصناعة اليهودية من الحرب لإحكام سيطرتها على المؤسسات الصناعية في فلسطين، هذا بعد أن كانت قد مهدت منذ العشرينات ببناء أساسات قوية للصناعة اليهودية. إذ منذ العشرينات توجهت الوكالة اليهودية لإحكام السيطرة على الصناعة، فسيطرت على الطاقة الكهربائية بعد أن حصلت على امتياز الكهرباء لبنحاس روتنبرغ، أحد كبار رجال الأعمال اليهود، عام 1926 -1927 وسيطرت على أملاح البحر الميت، واحتكرت إنتاج البوتاس وعلى صناعة الإسمنت، التي احتكرتها هي الأخرى" شركة نيشر لصناعة الإسمنت" والتي كانت أكبر منشاة اقتصادية في فلسطين، فأنشأت مثلا " مطحنة فلسطين الكبرى" في حيفا برأسمال شكل حوالي 28 بالمئة من مجموع الرساميل الموظفة في هذا الفرع، وما أن حل عام 1944 حتى أصبح حوالي 50 بالمئة من الطاقة الإنتاجية في هذا الفرع في أيدي اليهود. وفي العشرين بدأت السيطرة اليهودية تمتد لتشمل الفروع التي كانت تمثل بالأساس فروعا صناعية بادي عربية تقليدية، كالزيوت والصابون، فتأسست في العام 1926" شركة صناعة الزيوت الفلسطينية-شيمن المحدودة، برأسمال يعادل 27 بالمئة من الرساميل الموظفة في هذا الفرع الصناعي، وبعد عامين من تأسيسها كانت قد تخطت30 بالمئة من أسواق التصريف، أما في العام 1945 فقد أصبح 77 بالمئة من إنتاج الصابون الفلسطيني يتمركز في أيدي يهودية، بكل ما ترتب على ذلك من إغلاق لمصابن عربية، كما حصل مع فرع المطاحن "79".
وإلى جانب الاهتمام الواسع من الوكالة اليهودية ومؤسساتها المالية بالصناعة فقد أسهم المهاجرون أصحاب الرساميل في دفع عجلة التقدم في هذا المجال خطوات إلى الأمام. فقد ارتفعت رؤوس الأموال الواردة مع المهاجرين اليهود وخاصة في فترة الثلاثينات. فينما تدفق على فلسطين عام 1931 وهو العام السابق لموجة الهجرة الخامسة حوالي 174610 جنيه فلسطيني فقد تجاوز تدفق الرساميل حتى العام 1936-1937 حوالي أربعة وعشرين مليونا من الجنيهات الفلسطينية "80"، فقد أقبل على الهجرة إلى فلسطين عدد كبير من أصحاب الرساميل بعد عام 1932 حتى وصلت نسبتهم عام 1933 حوالي 21.8 بالمئة من مجموع المهاجرين وعام 1934 حوالي 22,9 بالمئة من مجموع المهاجرين أيضا، و16،1 بالمئة لعام 1935، هذا في الوقت الذي مثلت فيه نسبة العمال المهاجرين 62،5 بالمئة، 52،1 و 50،6 بالمئة للأعوام الثلاثة المذكورة بالتتالي "81". وكان قسم كبير من رؤوس أموال فئة أصحاب الرساميل يوظف في القطاعات الإنتاجية وخاصة الصناعية بتشجيع من الوكالة اليهودية.
من أجل السيطرة على الهجرة المكثفة التي بدأت في العام 1932 واستثمار تدفق الرساميل اليهودية إلى فلسطين في استيعاب المهاجرين الجدد والحيلولة دون ظهور البطالة أو أية مظاهر أخرى لأزمة اقتصادية في المحيط اليهودي بشكل خاص، بدا الهستدورت وبإسناد فعال من الوكالة اليهودية يضغط بقوة لمنع استخدام العمال العرب في المنشآت الاقتصادية اليهودية. فقد اعتبر الهستدروت الذي تأسس عام 1920 كمنظمة نقابية للعمال اليهود في فلسطين. إن هدفه الرئيسي يتمثل في العمل من أجل تحقيق الفكرة الصهيونية، وكان يعتبر نفسه مسؤولا عن العمل الصهيوني والهجرة والتوطين والسيطرة على فلسطين واستعمارها ومسؤولا عن وضع الأسس الاقتصادية لمجتمع يهودي قادر على استيعاب أكبر عدد ممكن من المهاجرين اليهود. وكان أصحاب العمل اليهود يفضلون في العديد من الأحيان الأيدي العاملة العربية لأسباب كثيرة، فهي أيدي عاملة رخيصة، وبسبب كثرة العرض فيها فقد كانت أكثر انتظاما في العمل من الأيدي العاملة اليهودية خوفا من فقدان موقع العمل. وكانت بسبب كثرة العرض أيضا اقل انتظاما ليس بسبب قبولها بأجور أدنى من أجور العمال اليهود بل وبسبب قبولها بساعات عمل أكثر من ساعات العمل اليومي المعتادة واستعدادها للتنازل عن عدد من المطالب كالضمان الصحي والضمان ضد العجز وغيرها أيضا. لهذه وغيرها من الاعتبارات كان أصحاب العمل اليهود يفضلون في العديد من الحالات الأيدي العاملة العربية، فهي التي تحقق لهم الحد الأقصى من الأرباح، وهو القانون الأهم وعلاقات وشروط العمل بالنسبة للبرجوازية بشكل عام. غير أن هذا الموقف لأصحاب العمل اليهود أثار الهستدروت كما أثار أيضا الوكالة اليهودية، فنشا بين الهستدروت والوكالة اليهودية تعاون واسع ووثيق لفرض مبدأ العمل العبري في كل نواحي حياة المحيط اليهودي في فلسطين وخاصة بالنسبة لأصحاب العمل اليهود. وشمل التعاون ميادين عده.
فقد ساعد الهستدروت الوكالة اليهودية بشكل فعال في عملية التعدي لمحاولات الزحف على الأماكن الحضرية من المستوطنين في المستعمرات الزراعية، وأولى اهتماما كبيرا بسد العجز العمالي في المستعمرات الزراعية بما فيها الحيازات الزراعية اليهودية التابعة للملكية الخاصة. ونشط المكتب الزراعي التابع للهستدروت في محاولاته للتوصل إلى اتفاقات مع أصحاب المزارع الكبيرة تفرض تطبيق العمل العبري. دون شك كان الهستدروت بواجهة بمقاومة من أصحاب المزارع اليهودية الكبيرة ولكنه بمساندة الوكالة اليهودية كان يحقق مبدأ تطبيق العمل العبري بصورة مطلقة وأحيانا بنسبة عالية تعادل 80 بالمئة. ومع ذلك استمر تشغيل أعداد من العرب في القطاع الزراعي اليهودي بلغت عام 1935 حوالي ستة آلاف عامل(82).
وقدم الهستدروت مساعدو فعالة للوكالة اليهودية في فرض مبدأ العمل العبري في الصناعة كذلك فقد طبق هذا المبدأ في المنشآت الصناعية التابعة للهستدروت والوكالة اليهودية. وكان الهستدروت يواجه بمقاومة من أصحاب العمل اليهود، الذين كانوا يفضلون المزج في استخدام العمل العبري والعمل العربي لاعتبارات عديدة، خاصة بعد أن اتسع نطاق الحركة الإضرابية للعمال اليهود في العديد من القطاعات كقطاع عمال البناء في حيفا وقطاع عمال النسيج في تل أبيب وغيرها. لقد كان تطبيق العمل العبري يشكل عبئا على أصحاب العمل اليهود بسبب ارتفاع كلفة العمل العبري من ناحية وبسبب إضرابات العمال اليهود من ناحية ثانية، هذه الإضرابات التي بلغت عدد أيامها عام 1934 حوالي 11313 يوما وترتب عليها 6749 حالة إغلاق لأماكن العمل في الصناعة اليهودية. وكان المزج بين العمل العبري والعمل العربي يعطي أصحاب العمل اليهود ميزة التحكم بحركة الإضرابات لاعتبارات تخص العرض الوفير لقوة العمل العربي في سوق العمل، كما كان المزج هذا يوفر لهم فرصا واسعة لتحقيق الحد الأقصى من الأرباح، التي يطمح لها كل أرباب العمل في العادة، فقد كان الفروق في الأجور ملحوظة بين العامل العربي واليهودي كما يشير الجدول التالي:
أجور العمال العرب واليهود عام 1935 "83"
أجر العامل العربي/مل أجر العامل اليهودي /مل
أجر العامل اليهودي في الصناعة 75-500 200-700
أجر العامل اليومي في البناء 100-500 30-900
أجر العامل اليومي في الزراعة 80-120 200-300
ورغم المقاومة التي ظهرت في أوساط أصحاب العمل اليهود لمبدأ العمل العبري، فإن جهود الهستدروت والوكالة اليهودية كانت تثمر في تطبيق بنسبة عالية جدا، فعدد العمال العرب في المنشآت الصناعية اليهودية لم يكن يتجاوز عام 1935 ألفي عامل عربي في الصناعة وحوالي ألف عامل عربي في قطاع البناء.
وترك تطبيق مبدأ العمل العبري آثارا سلبية واسعة على أوضاع العمال العرب في ظروف انتشار البطالة في فلسطين نتيجة تدفق عشرات آلاف المهاجرين اليهود ونتيجة تدفق الآلاف من الفلاحين المقتلعين من الأرض إلى المدن بحثا عن عمل. إن تدفق المهاجرين اليهود من ناحية وتدفق الهجرة الداخلية نحو المدن من ناحية ثانية خلق زيادة غير عادية في عرض قوة العمل تفوق كثيرا قدرة الاقتصاد الفلسطيني اليهودي منه والعربي، على الاستيعاب. وهكذا نشأت منافسة واسعة في أسواق العمل كان من نتيجتها هبوط ملموس في الأجور وتراجع في القوة الشرائية وتشديد شروط الاستغلال خاصة بالنسبة للعمال العرب. صحيح أن عدد العمال العرب في الخدمات الحكومية والأشغال العامة قد ارتفع من ثمانية آلاف عام 1931 إلى ثمانية عشر ألفا عام 1938، غير أن هذه الزيادة كانت محدودة قياسا بعشرات الآلاف من الفلاحين المهجرين ومن العمال الموسميين والعمال العاطلين عن العمل. ففي أجواء موجة الهجرة اليهودية الخامسة وموجة انتقال الأراضي العربية إلى الوكالة اليهودية والمستوطنين اليهود كان زحف العاطلين عن العمل إلى المدن واسعا، وكان لهذا الزحف آثارا سلبيا للغاية على أوضاع العمال العرب، الذين تعرضوا إلى تصنيف ظالم للغاية لقوة عملهم. ولم تكن البطالة ظاهرة خاصة بالعمال العرب بل هي شملت كذلك المحيط اليهودي بسبب تدفق عشرات الآلاف من المهاجرين سنويا. ففي العام 1934 ووصل عدد العمال اليهود العاطلين عن العمل أكثر من ستة آلاف، رغم ما بذلته الوكالة اليهودية والهستدروت من جهود لاستيعابهم في المستعمرات الزراعية وفي الصناعة وقطاع الخدمات ورغم ما قدمته سلطات الانتداب من مساعدة واسعة أيضا لاستيعابهم في الخدمات الحكومية العسكرية وحوالي 20 ألف في الصناعات الحربية بما فيها اليهودية بالطبع و20 ألف آخرين في الإدارات العسكرية الحكومية والنقل "84". دون شك تمكنت الوكالة اليهودية ومؤسساتها المالية وبالاعتماد على المساعدات الواسعة من سلطات الانتداب البريطانية من حل معضلات البطالة في الوسط اليهودي، أما البطالة اليهودية، التي لم تستوعب من الوكالة اليهودية أو سلطات الانتداب، فقد رصدت من أجلها الأموال في صندوق العاطلين عن العمل التابع للهستدروت لتقديم المساعدات ريثما تمكنت الوكالة اليهودية وسلطات الانتداب من معالجة أوضاعها، وكان عدد هؤلاء العاطلين عن العمل من الذين تلقوا مساعدات بطالة حوالي 18 ألفا عام 1939.
أما العمال العرب فقد عانوا خلال الثلاثينات بطالة واسعة لأسباب متعددة، فالبرجوازية العربية الفلسطينية لم تبذل جهودا كافية لتطوير منشاتها الصناعية، وانتقال الأراضي إلى ملكية اليهود حرم الكثيرين منهم مجرد الحفاظ على موقع العمل حتى كعمال زراعيين، والجهود النشطة والمكثفة من الوكالة اليهودية والهستدروت لتطبيق مبدأ العمل العبري، فاقم مشكلاتهم وزاد من حدة البطالة والبطالة المقنعة في صفوفهم. يضاف إلى ذلك أن سلطات الانتداب البريطانية كانت قد استخلصت من الثورة الفلسطينية 1936-1939 ومن الإضراب العربي الكبير، الذي استمر لستة أشهر متواصلة عام 1936، دروسا عكست نتائج منتهى الخطورة على أوضاع العمال العرب، إذ هي زادت من درجة اعتمادها على العنصر اليهودي في الوظائف والخدمات الحكومية والأشغال العامة على حساب العنصر العربي، كما يوضحه الجدول التالي:

اليهود العاملون في الجيش البريطاني والمصالح الحكومية "85"
1945 1941 1943 1944 1945
الجيش 5998 16241 47265 42265 35549
الأشغال العامة 4254 7248 4556 3256 3294
سكة حديد فلسطين 2201 2998 3620 3241 2764
البرق والبريد 730 869 1139 1108 1142
الإجمالي 13183 27256 56580 50435 42749
الصناعة اليهودية تنمو في ظروف الحرب العالمية:
تميزت سنوات الثلاثينات بزحف المهاجرين اليهود إلى فلسطين بأعداد كبيرة جدا، وبعمليات انتقال الأراضي على نطاق واسع إلى الوكالة اليهودية والمستوطنين اليهود، وبازدياد حدة التناقص بين العرب واليهود في فلسطين بسبب الهجرة وانتقال الأراضي والخطوات الواسعة التي قطعتها الوكالة اليهودية على طريق تطبيق العمل وما لحقه كل هذا من أضرار بالغة بمصالح السكان العرب وخاصة الجماهير الفلاحية والعمالية. وفي ظل زحف المهاجرين اليهود وتدفق رؤوس الأموال اليهودية إلى فلسطين حققت الوكالة اليهودية المؤسسات التابعة لها سيطرة متقدمة ليس في الصناعة وحدها، بل وفي بعض الفروع الاقتصادية الأخرى وخاصة في قطاع الحمضيات، حيث تطورت الحيازات الزراعية في قطاع الحمضيات نحو المناصفة بين العرب واليهود بعد أن كانت الحيازات الزراعية العربية في العشرينات متفوقة على الحيازات الزراعية اليهودية من حيث المساحات المزروعة وكميات الإنتاج.
وقد جاءت الحرب العالمية الثانية لتفتح آفاق تطور إيجابية واسعة أمام الصناعة في فلسطين. فقد اضطر بريطانيا بسبب ظروف الحرب إلى تشجيع الصناعة الفلسطينية لتتمكن من تغطية احتياجات القوات البريطانية المتواجدة في فلسطين، بعد أن شكلت البحرية الألمانية في البحر الأبيض المتوسط أخطارا حقيقيا أمام السفن البريطانية وحركة التجارة البريطانية مع فلسطين. في ظروف الحرب العالمية الثانية تراجعت الصادرات البريطانية إلى بريطانيا، وانتعشت الصناعة المحلية واتسعت التجارة الفلسطينية مع الخارج إلى درجة أن فلسطين جاءت في المرتبة الأولى بين البلدان الأخرى من حيث نسبة زيادة صادراتها على وارداتها، إذ وصل الفارق بين الصادرات والواردات حوالي 100 مليون جنيه إسترليني "86". وقد استفادة الصناعة العربية من الفرص التي أتاحتها الحرب لنمو الصناعة في فلسطين فارتفع عدد المنشآت الصناعية العربية حتى وصل عام 1945 حوالي 1558 منشاة بلغ حجم إنتاجها حوالي 5.6 مليون جنيه فلسطيني "87".
وقد كان المؤتمر الصهيوني الحادي والعشرين الذي انعقد عام 1939 فقد حدد عددا من الأهداف المركزية للمجتمع اليهودي في فلسطين أهمها، تحقيق الحد الأعلى من المشاركة اليهودية في الحرب وإعطاء الأولوية في تنظيم عمليات الهجرة ليهود أوروبا واستمرار التوسع في النشاط الاقتصادي في فلسطين. وقد تحقق فعلا الحد الأعلى من المشاركة اليهودية في الحرب وكان ذلك جزءا من التمرين العام الذي كانت تخطط له الوكالة اليهودية في فلسطين، أي الاستعداد للحرب ضد عرب فلسطين. وتحقق الهدف الثاني باستقبال أكثر من 92 ألف مهاجر حسب بعض التقديرات"88". عدا عن أعداد الهجرة غير الشرعية، التي فاقت حدود العشرين ألف مهاجر، وما أن حل العام 1946 حتى كان توزيع السكان في فلسطين على النحو التالي:
سكان فلسطين عام 1946 "89"
عرب مسلمون عرب مسيحيون يهود آخرون المجموع
1.076.783 145.063 608225 15488 1845559
وحققت الصناعة اليهودية في فلسطين توسعا كبيرا فاق كثيرا ما حققته الصناعة العربية أثناء الحرب العالمية الثانية. فقد زاد الإنتاج الصناعي اليهودي أثناء الحرب وخاصة في الصناعات الحربية بنسبة 100 بالمئة قياسا بالعام 1928، وزاد الاستهلاك العام في فلسطين أثناء الحرب بنسبة 85 بالمئة نتيجة التواجد المكثف للقوات البريطانية. وقد وضعت الوكالة اليهودية 35 بالمئة من الصناعة اليهودية في خدمة القوات البريطانية في فلسطين وتراوح إجمالي الإمدادات التي قدمتها الصناعة اليهودية للجهود الحربي للقوات البريطانية في فلسطين حوالي 35-40 مليون جنيه فلسطيني. بشكل عام تطورت الصناعة اليهودية ع نهاية الحرب حتى أصبحت تشكل ما يعادل 85 بالمئة من إجمالي الإنتاج الصناعي الفلسطيني "90". ولم يتحقق كل هذا التوسع الكبير في الصناعة اليهودية بجهود الوكالة اليهودية ومؤسساتها وحدها بل وبمساعدات كبيرة من سلطات الانتداب البريطانية. ولإلقاء نظرة مقارنة على التقدم الذي أحرزته الصناعة اليهودية خلال سنوات الحرب العالمية الثانية. تكفي الإشارة لهذا التقدم انطلاقا من تقدير نسبة الزيادة التي تحققت منذ 1922 كسنة أساس في هذا المجال. فقد زاد الإنتاج الصناعي عام 1930 بنسبة 175 بالمئة عما كان عليه عام 1922، وزاد بنسبة 260 بالمئة عام 1938. أما عام 1943 فقد بلغت نسبة الزيادة حوالي 680 بالمئة "91".
ويلقي الجدول التالي صوره واضحة على الأوضاع، التي كانت عليها كل من الصناعة العربية والصناعة اليهودية عام 1942.
الصناعة في فلسطين 1942 "92"
الصناعة العربية الصناعة اليهودية
النوع عدد المنشآت مجموع العاملين المتوسط للمنشاة الواحدة النوع عدد المنشآت مجموع العاملين المتوسط للمنشاة الواحدة
الأغذية 267 1708 6.2 الأغذية 289 5966 19.7
المشروبات الروحية 16 133 8.3 المشروبات الروحية 38 942 24.8
التبغ 5 842 168.4 التبغ 6 474 79
الزيوت النباتية 33 170 5.2 الزيوت النباتية 18 859 47.7
الصناعة الكيماوية 30 191 6.4 الصناعة الكيماوية 172 2220 12.9
الأخشاب 268 669 2.3 الأخشاب 136 1467 10.8

النوع عدد المنشآت مجموع العاملين المتوسط للمنشاة عدد المنشآت مجموع العاملين المتوسط للمنشاة
الورق 6 210 35 75 968 12.9
الجلود 45 213 4.7 58 973 16.8
النسيج 234 1766 7.5 170 3407 20.0
الملابس 345 1330 3.9 347 5284 15.2
الصناعة 59 269 4.6 62 2036 32.8
الصناعة المعدنية 221 1137 5.1 388 8107 20.9
المطاط - - - 17 246 14.5
تجليد الكتب - - - 16 176 11.0
المجوهرات - - - 36 3404 94.5
صناعات أخرى - 166 15.1 79 1244 43.1
المجموع 1558 8804 5.7 1907 37773 19.8

ويشير هذا الجدول إلى تفوق الصناعة اليهودية على الصناعة العربية في نواحي متعددة. فقد فاقتها من حيث عدد المنشآت، وفاقتها بأربعة أضعاف في حجم العمالة. أما الأرقام الخاصة بمتوسط عدد العاملين في المنشاة الصناعية الواحدة فتشير إلى ميل واضح نحو التمركز العمالي في الصناعة اليهودية وبقاء مؤشر البعثرة والتناثر في العمالة بالنسبة للصناعة العربية. ومن حيث حجم المنشآت يلاحظ أن الصناعة العربية قد ركزت على الملابس والنسيج والأغذية، فهذه المنشآت شكلت 45 بالمئة من مجموع المنشآت الصناعية العربية واستوعبت حوالي 55 بالمئة من مجموع العاملين. أما الصناعة اليهودية فقد استوعبت الصناعة المعدنية وحدها عددا من العمال يعادل مجموع ما استوعبته جميع فروع الصناعة العربية المشار إليها في الجدول، ويكفي هذا المثال كمؤشر على المنحى العام، الذي أخدته الصناعة اليهودية، من حيث التركيز على الصناعات الأساسية غير التقليدية ومن حيث ميلها نحو التمركز ونحو الاستخدام الواسع للآلة في العمل، على عكس الصناعة العربية، التي حافظت على طابعها التقليدي بشكل عام، وعبرت عن ضعف دور البرجوازية العربية الفلسطينية في التصدي للمشروع الصهيوني في فلسطين.
وتفوقت الصناعة اليهودية على الصناعة العربية في مجالات أخرى متعددة خلال سنوات الحرب العالمية الثانية، سواء في حجم رؤوس الأموال المستثمرة في الصناعة ام في قيمة الإنتاج الصناعي وبالتالي في متوسط قيمة الإنتاج القائم، أي قيمة الإنتاج الذي يشمل على قيمة الإنتاج الذي يشتمل على قيمة المواد الأولية والأجور والرواتب والمستهلك من رأس المال والربح الصافي، في كل منشاة وفرع صناعي وفي الصناعة بشكل عام. وبالنسبة لرؤوس الأموال المستثمرة في الصناعة فقد بلغت في العام 1939 حوالي 10.893.790 كانت حصة الصناعة العربية منها 303.565 جنيه فلسطين (6.5) بالمئة والصناعة اليهودية 4390552 جنيه فلسطيني أي (40.3 بالمئة) وشركات الامتياز التي كان اليهود يملكون 90 بالمئة من رؤوس أموالها تقريبا 5.799.062 جنيه أي (53.2) بالمئة. أما في العام 142 فقد بلغت رؤوس الأموال المستثمرة في الصناعة حوالي 20.518.917 جنيه فلسطيني كان حصة الصناعة العربية منها 2.131.307 جنيه (أي 10.3) وحصة الصناعة اليهودية 12.93.929 جنيه أي (58.9 بالمئة) وشركات الامتياز حوالي 6.293.681 جنيه (أي 30.6بالمئة) وبشكل عام بلغ مجموع الاستثمارات اليهودية في الصناعة بما فيها شركات الامتياز حوالي 9.609.708 جنيه عام1939، أي (88.2 بالمئة من مجموع الاستثمارات) وحوالي 17758.242 جنيه فلسطيني عام 1942، أي (حوالي86.5 بالمئة من مجموع الاستثمارات). "93"
وبسبب وفرة الاستثمارات في الصناع اليهودية وتركيزها على الصناعات الأساسية والاستخدام الواسع بسبب الآلة والاستخدام المكثف للأيدي العاملة، فقد تفوقت الصناعة اليهودية على الصناعة العربية في الإنتاج الصناعي وفي متوسط قيمة الإنتاج القائم لكل منشاة اقتصادية. ففي الوقت الذي بلغ فيه عام 1939 متوسط قيمة الإنتاج في المنشاة العربية حوالي 4559 جنيه فلسطيني وصل هذا المتوسط في المنشاة اليهودية حوالي 6933 جنيه. أما في العام 1942 فقد كان التعاون كبير للغاية. فقد بلغ متوسط قيمة الإنتاج في المنشأة العربية حوالي 3632 جنيه أي بانخفاض قدره حوالي 29 بالمئة عن عام 1939، بينما بلغ متوسط قيمة الإنتاج في المنشاة اليهودية 15228 جنيه فلسطيني، أي بزيادة قدرها حوالي 209 بالمئة "94". وفي هذه الأرقام كذلك دليل واضح على ضعف دور البرجوازية العربية الفلسطينية في الحياة الاقتصادية والعامة في فلسطين. ويفسر البعض هذا الضعف بأسباب متعددة منها هجوم رؤوس الأموال اليهودية وهجوم المهاجرين اليهود من أصحاب الكفاءات الفنية والمهنية على فلسطين وانحياز سلطات الانتداب البريطانية للبرجوازية اليهودية وتقديم التسهيلات لها. هذا الى جانب شعور البرجوازية العربية بان التطورات السياسة الجارية في فلسطين لا تشير منذ فترة لصالح مشروعها الخاص بالاستقلال بل لصالح مشروع الوطن القومي اليهودي. ومثل هذا التفسير صحيح دون شك، غير أنه تفسير أحادي الجانب ويهدف بالدرجة الرئيسية إلى إعفاء البرجوازية الفلسطينية من مسؤولياتها المباشرة عن ضعف دورها في الحياة الاقتصادية والعامة في فلسطين وضعف البرجوازية العربية الفلسطينية يعود دون شك إلى كل هذه العوامل ولكنه يعود كذلك إلى مجمل سياستها منذ بداية الانتداب وإلى حيازاتها السياسة الوسطية وضعف عزمها في النضال ضد الامبريالية البريطانية والحركة الصهيونية ورهن تحالفاتها العربية بالمرجعيات العربية واستجابتها للسياسة الموالية للإمبريالية البريطانية، التي كانت تشير عليها هذه المرجعيات العربية. يضاف إلى هذا كله أن البرجوازية العربية الفلسطينية اتجهت أساسا للاستثمار في المجالات، التي اعتقدت أنها توفر لها ضمانات أفضل وأرباح أوفر، وخاصة في الأصول المالية والعقارية، حيث فاق الاستثمار في هذه الأصول الاستثمار في القطاع الصناعي بحوالي عشرين ضعفا على الأقل. وقد عكست هذه السياسة نفسها لا على وضع ودور البرجوازية العربية الفلسطينية وحدها بل وكذلك على وضع ودور الطبقة العاملة. بل وعلى مجالات العمل الحكومية التي انهارت مع نهاية الانتداب، وعلى عدد من المنشآت اليهودية في ظل تطبيق مبدأ العمل العبري، والتي كانت تتخلى عن الأيدي العاملة العربية بوتيرة أعلى كلما توترت العلاقات بين العرب واليهود وكلما اقترب موعد نهاية الانتداب وموعد الإعلان الرسمي عن تشكل مشروع الوطن القومي اليهودي في فلسطين بدول إسرائيل وكانت لهذه الحالة الموضوعية التي عاشتها الطبقة العاملة الفلسطينية آثارا سلبية واسعة على درجة وحدتها ونسبة تماسكها في مواجهة الأخطار التي كانت تتهددها سواء في مواقع عملها ومصدر عيشها أم في وجودها القومي بذاته، وهذا ما أثبتته بشكل خاص أحداث الأربعينات. فمع انتهاء الحرب العالمية الثانية بدأت تواجه الطبقة العاملة الفلسطينية ظروف صعبه بسبب موجة التسريحات للعمال العرب في معسكرات الجيش البريطاني وفي غيرها من المواقع. ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية لم تضيق فرص العمل للعمال العرب الفلسطينيين في المنشآت الزراعية والصناعية وحسب بل اشتد الضغط على العمال العرب باتجاه تسريحهم لاستيعاب العمال اليهود، الذي سرحوا كذلك من الجيش البريطاني. وهكذا وجدت الطبقة العاملة نفسها في وضع غاية في الصعوبة والتعقيد حيث عجزت المنشآت الصناعية العربية عن تقديم أية حلول.
الطبقة العاملة الفلسطينية، بين مهام النضال النقابي ومهام النضال الوطني
رغم حالة الضعف البنيوي في العشرينات، والتي تمت الإشارة بها فيما سبق، فقد كانت الطبقة العاملة الفلسطينية وجماهير الفلاحين الأكثر إحساسا بالخطر، الذي عبر عن نفسه الانتداب البريطاني وبمشروع الوطن القومي اليهودي في فلسطين آنذاك. وعبر الإحساس بالخطر عن نفسه بمظاهر عدة أهمها الانتفاضات الفلاحية المتتالية والمشاركة العمالية في هذه الانتفاضات وميل الطبقة العاملة نحو تنظيم صفوفها خاصة في الحركة النقابية الفلسطينية منذ العشرينات. ذلك لا يعني أن الطبقات والفئات الاجتماعية الأخرى في المجتمع العربي الفلسطيني لم تكن تشعر بالخطر، إذ باستثناء بعض القوى وخاصة بين كبار الملاك، فقد شعرت جميع الطبقات والفئات الاجتماعية هي الأقوى بذلك، ولكنها عجزت عن التعبير عن شعورها بالخطر بالميل نحو تنظيم صفوفها ودفاعاتها، فالبرجوازية الفلسطينية، التي كانت تمر في طور جنيني ففضلت الشكل الفضفاض في التعبير عن مصالحها، من هنا لجأت إلى صيغة المؤتمرات العربية، التي مثلت بالدرجة الرئيسية تحالفا طبقيا جمعها مع أشباه الإقطاع وكبار الملاك في بوتقة واحدة. وإذا استثنينا الحزب الوطني، الذي تشكل في مطلع العشرينات وعبر عن التحالف بين رموز البرجوازية اليمينية والرجعية الناشئة، مثل راغب النشاشيبي، ورموز أشباه الإقطاع وكبار الملاك مثل سليمان الناجي الفاروقي، فإن البرجوازية لم تلجا إلى محاولة تنظيم صفوفها في أحزاب إلا في مطلع الثلاثينات. أما الحزب الوطني المشار إليه فقد تشكل بقرار من المندوب السامي البريطاني واستمر موجودا على الورق فقط حتى عاد مطلع الثلاثينات تحت اسم حزب الدفاع الوطني. أما سياسة ذلك الحزب من الانتداب ومشروع الوطن القومي اليهودي فقد عبر عنه أحد قادته سليمان الناجي الفاروقي في مطلع عهد الانتداب (1925) حين خاطب المندوب السامي البريطاني قائلا " أننا لا نطلب من بريطانيا شرح الأسباب التي دفعتها إلى إصدار وعد بلفور نحن نريد فقط أن نقول لها أن هذا الوعد مجحف وأن الطبيعة والتاريخ سيمكننا من أن نثبت لبريطانيا أننا سنكون أفضل من أي شعب آخر في كل ما يتعلق بالمصالح الإنجليزية " "95".
إذن لم تلجأ البرجوازية الفلسطينية إلى تنظيم صفوفها إلا في مطلع الثلاثينات. وعندا أقدمت على هذه الخطوة، جاءت محاولتها لتنظيم صفوفها محاولة جزئية وغير جزئية، لأنها لم تميز نفسها بما فيه الكفاية عن أشابه الإقطاع وكبار الملاك، الذين كانوا يخونون القضية الوطنية بمشاركتهم في بيع الأراضي للوكالة اليهودية، ولأنها لم تحدد في سياستها خط عمل يستند إلى التحالف مع جماهير العمال والفلاحين وخاصة الذين كان يجري اقتلاعهم في الأرض وتحويلهم إلى سوق العمل المأجور. لا شك أن حزب الاستقلال الذي تأسس في آب 1923، كان الحزب الوحيد الذي حاول تمييز نفسه عن بقية الأحزاب كحزب الدفاع ، وحزب الكتلة الوطنية وحزب الإصلاح والحزب الفلسطيني العربي، بمواقفه الصريحة والواضحة في عدائها للاستعمار البريطاني والحركة الصهيونية ومشروع الوطن القومي اليهودي، غير أن عمر نشاط هذا الحزب لم يكن طويلا، فحزب الاستقلال أدرك أكثر من غيره من الأحزاب أن الرهان على الاستعمار البريطاني يلحق الضرر بالمصالح الوطنية للشعب الفلسطيني وان الارتباط بأشباه الإقطاع وكبار الملاك يحلق أضرارا كبيرة بالحركة الجماهيرية في فلسطين ويخضعها لخطها اليميني والرجعي، الذي يخشى الحركة الجماهيرية أكثر مما يخشى الاستعمار ومخططات الوكالة اليهودية. ومن هنا كان التقارب النسبي بين حزب الاستقلال والحزب الشيوعي الفلسطيني كتعبير عن خيار تحالف جديد مع الطبقة العاملة وجماهير الفلاحين، أي كخيار تحالف معاكس لخيارات التحالف التي سارت عليها الأحزاب العربية الأخرى كحزب الدفاع الوطني وغيره من الأحزاب العربية الفلسطينية، التي راهنت على الاستعمار البريطاني وتحالفت مع أكثر القوى رجعية في الوسط العربي وأكثرها استفادة من عمليات بيع الأراضي وهم أشباه الإقطاع وكبار الملاك. وكان خط العداء للإمبريالية البريطانية ولمخططات الوكالة اليهودية يبرز أكثر من سياسة حزب الاستقلال كلما اشتد نشاط ونضال العناصر الديمقراطية في صفوفه، والتي كان يتزعمها الشخصية الديمقراطية الأكثر بروزا آنذاك، حمدي الحسيني. وقد تراجع نشاط ودور حزب الاستقلال بعد سلسة الضغوط التي كانت تمارس على عناصره الديمقراطية الأبرز مثل حمدي الحسيني، الذي طالما قيدت سلطات الانتداب حرية حركتة وفرضت عليه الإقامة الجبرية، وبعد استشهاد الشيخ عز الدين القسام 1935 الذي كان ينتمي إلى حزب الاستقلال على الأغلب. أما الأحزاب العربية الأخرى فقد كانت منذ البداية دون مستوى التحديات التي طرحها الانتداب البريطاني ومشروع الوطن القومي اليهودي على جدول أعمال الحركة الوطنية الفلسطينية. فزعامات تلك الأحزاب كانت بشكل إجمالي رجعية في مواقفها وفي خياراتها السياسية. وكانت سياستها تتأرجح بين ممالأة سلطات الانتداب وبين الانحياز للحركة الجماهيرية بهدف السيطرة عليها والحيلولة دون تجذرها. هكذا كان دورها أثناء انتفاضة الفلاحين الواسعة عام 1929، وهكذا كان دورها أيضا في الثلاثينات أثناء الانتفاضة 1933، وموقفها كذلك من ثورة الشيخ عز الدين القسام ومن الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936، التي عبرت عن تلاحم كفاحي بين الطبقة العاملة الفلسطينية والجماهير الفلاحية. فقد وقفت قيادات الأحزاب العربية الفلسطينية موقفا عدائيا من ثورة الشيخ عز الدين القسام، التي كشفت المواقف الاستسلامية للبرجوازية الفلسطينية، فقد رفضت اللجنة العربية العليا، وكانت آنذاك المعبر الحقيقي عن التحالف الطبقي بين البرجوازية وأشباه الإقطاع وكبار الملاك، تقديم أية مساعدة لثورة القسام لأن الوقت لم يحن بعد للثورة المسلحة ضد الاستعمار البريطاني ومخططات الوكالة اليهودية في فلسطين، كما أكد الحاج أمين الحسيني رئيس اللجنة العربية العليا لمبعوث الشيخ عز الدين القسام إليه "96". أما الموقف الانتهازي للبرجوازية الفلسطينية من ثورة العمال والفلاحين في فلسطين 1936-1939، فقد وصفه أحد القيادة الفلسطينية آنذاك على نحو دقيق ومعبر حين أكد مؤرخا للنضال الوطني الفلسطيني:" ليست الثورة بعيدة عن أن تكون من صنع الزعماء فحسب بل هي بشكل واضح جدا تحد لسلطتهم وتجريم لأساليبهم. فإن قواد الثورة ينسبون مصيبة المزارعين العرب في الوقت الحاضر إلى أولئك المالكين الذين باعوا بأراضيهم ويتهمون الزعماء بالإهمال لإخفاقهم في منع البيع، إذ لم يكن للفلاحين رأي في معظم تلك البيوع، التي أدت إلى إخراجهم من أراضيهم " "97".
وإذا كانت الطبقة البرجوازية الناشئة لم تتمكن من تنظيم صفوفها ودفاعاتها لمواجهة سياسة الانتداب والوكالة اليهودية للأسباب المذكورة وغيرها، فان الطبقة العاملة الفلسطينية هي الأخرى لم تنجز مشروعها التنظيمي والكفاحي القادر على قيادة الحركة الجماهيرية ضد الاستعمار البريطاني ومشروع الوطن القومي اليهودي، فقد تأسس في فلسطين في آذار 1919 حزب عمالي هو الحزب العمالي الاشتراكي من عدد من المنظمات الاشتراكية الصغيرة، التي كانت تعمل في يافا وحيفا والقدس. أما قيادة ذلك الحزب فقد تشكلت آنذاك من دانييل مايرسون، فولف أورباخ، موردخاي هالدي وآخرين، وواضح من التركيبة القيادية للحزب أنه كان حزبا يهوديا، ولم يشارك العرب في مراحله التأسيسية الأولى ، لأن مستوى تطور الطبقة العاملة العربية الفلسطينية لم يكن قد بلغ المدى، الذي يفتح الأبواب أمام هذه العملية من ناحية ولأن قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية آنذاك اتخذت موقفا من أفكار الاشتراكية العلمية وتعبيراتها التنظيمية يفوق في عدائه الموقف الذي اتخذته من الاستعمار البريطاني ومخططات الوكالة اليهودية والحركة الصهيونية، واستغلت في ذلك انتشار الأفكار المحافظة في صفوف الشعب الفلسطيني وضعف مستوى الوعي الطبقي خصوصا في صفوف العمال والفلاحي الفقراء إلى جانب ذلك أخفق حزب العمال الاشتراكي في تحديد اتجاه العمل الرئيسي في سياسته وفرض على نفسه حصارا في المحيط اليهودي في فلسطين وخاصة بين المهاجرين اليهود الين تبلورت في صفوفهم أفكار الصراع الطبقي، وحيث كان حزب العمال الاشتراكي يتوجه إلى العمال العرب وجماهير الفلاحين الفقراء فقد كان يتحدث بلغة غير واضحة وكثير التجريد وتسبق مستوى وعي العامل والفلاح الفلسطيني بأشواط بعيدة. والأهم من ذلك أن جماهير العمال والفلاحين العرب دون تفريق في الانتماء القومي. وكان واضحا هنا أن حزب العمال الاشتراكي لم يكن يخاطب بهذه السياسة الجماهير العمالية والفلاحين العربية بقدر ما كان يخوض صراعا مع اتحاد العمل الصهيوني – اخدوت هاعفودا وبوعالي زيون -، وهذا صراع كان يدور في معسكر آخر بعيد كل البعد عن معسكر الجماهير العمالية والفلاحية العربية، خاصة وأن الصراع لم يأخذ من البداية أخطار المشروع الصهيوني في فلسطين بعين الاعتبار كمشروع مناقض تماما لمصالح الجماهير العربية الفلسطينية في التحرر والاستقلال. دون شك كان حزب العمال الاشتراكي يعيش في دائرة أوهام مبالغ فيها حول الدور الثوري لمجتمع المهاجرين اليهودي في نقل الأوضاع نحو فلسطين اشتراكية يتحقق في إطار الإخاء الأممي بين المجتمع اليهودي والمجتمع العربي في فلسطين، في ظروف كان يشتد فيها التناحر القومي والطبقي بين المجتمعين على احتلال الأرض، واحتلال العمل. فالحركة الصهيونية والوكالة اليهودية كانت تقود المجتمع اليهودي في صراع عنيف مع السكان العرب لاحتلال الأرض واحتلال العمل وكان مستحيلا التمييز بين ما تخطط له الحركة الصهيونية والوكالة اليهودية وبين ما تحققانه للمجتمع اليهودي في فلسطين من إنجازات على الأرض على حساب السكان العرب. فمجتمع المستوطنين اليهود كان يرى مصالحه المباشرة ومصالحه بعيدة المدى في تطابق تام مع سياسة الوكالة اليهودية وكان يشارك قوات الانتداب البريطانية في عمليات الاقتلاع العشري للفلاحين من الأرض كما كان يحدث في أراضي منطقة الحولة ووادي الحوارث ومرج ابن عامر، وكان دور هذا المجتمع منسجما مع مخططات الاستعمار البريطاني والوكالة اليهودية وفي تصادم مباشر مع مصالح الجماهير العمالية والفلاحين الفلسطينية. لذا كان التشديد على دور هذا المجتمع في سياسة حزب العمال الاشتراكي يعبر عن أوهام مبالغ فيها للغاية، وكانت محاولات المزج بين صهيونية بروليتارية ووحدة عمالية أممية تجعل العامل اليهودي يسير سوية مع جماهير العمال والفلاحين الفلسطينيين لا ثير عند الكادحين العرب في فلسطين اهتمامات كبيرة. دون شك خاض حزب العمال الاشتراكي صراعا جادا ضد الحركة الصهيونية وأجنحتها العمالية وضد اتحاد النقابات، الهستدروت، وحذر مبكرا من الاستيطان اليهودي عن طريق طرد الفلاحين من الأرض عارض المحاولات المبكرة لتطبيق مبدأ العمل العبري وناضل من اجل منظمات نقابية موحدة للعمال العرب واليهود، غير أن تركيبة الحزب وأوضاعه الداخلية وعزلته عن الجماهير العربية لم تمكنه من التطور إلى حزب أممي يوحد في صفوفه القوى العمالية المتقدمة من العرب واليهود. ولم تنفع الحزب أوهامه جول الدور الثوري لمجتمع المستوطنين اليهود في فلسطين. فقد حاربت الحركة الصهيونية هذا الحزب دون هوادة وكان أجنحتها العمالية الصهيونية أكثر حسما في حربها مع حزب العمال الاشتراكي، وهذا ما يفسر فصل الحزب من بوعالي زيون في اجتماعه الخامس عام 1920 وفصل الحزب من الهستدروت، اتحاد النقابات 1924 كذلك. فقد كانت الحركة الصهيونية وخصوصا أجنحتها العمالية حازمة تماما ولم تعرف الحلول الوسط، فإما أن يكون الحزب صهيونيا أو لا يكون، وكانت تجد الدعم الواسع من الأغلبية الساحقة لمجتمع المستوطنين في فلسطين وكانت النجاحات التي حققها حزب العمال الاشتراكي في صفوف التجمع العمالي اليهودي محدودة، أما في الوسط العربي فقد بقي الحزب يعاني من عزلة مطلقة، ولا يعود ذلك فقط إلى أوهام القيادة حول إمكانية التوفيق بين الصهيونية البروليتارية ورسالة الحزب الأممية، بل يعود كذلك إلى الحرب التي أعلنتها جميع الفرق الصهيونية ضد الحزب وإلى الإجراءات القمعية والإرهابية التي كان الحزب يتعرض لها على أيدي سلطات الانتداب البريطانية والى محاربة القوى العربية اليمينية والرجعية لأي نشاط يقوم به الحزب وضغط هذه القوى على سلطات الانتداب لتحريم نشاط هذا الحزب الذي يدعو العمال العرب للاعتصام معه والاشتراك في مذهب البلشفية "98".
ومع كل خسارة كان يتعرض لها حزب العمال الاشتراكي ومن بعده الحزب الشيوعي الفلسطيني الذي تشكل عام 1922 بعد انفصال التيار اليساري داخل حزب العمال، في رهانه على الدور الذي يمكن أن يضطلع به مجتمع المستوطنين الجديد، كانت مواقفه تتجذر نسبيا دون أن تسقط الرهان تماما من حساباتها. وهكذا استمرت عزلة الحزب الشيوعي الفلسطيني، وهو وريث حزب العمال الاشتراكي، عن الوسط العربي. ونتيجة لاحتكاك "الحزب الجديد" الحزب الشيوعي الفلسطيني بالوسط العربي وإيلائه اهتماما أكبر لطبيعة هذا الوسط وعاداته وتقاليده ومستوى تطوره، بدا الحزب يتخذ مواقف أكثر تقدما من الصهيونية، فارتفعت وتيرة مواقفه الانتقادية من الحركة الصهيونية والوكالة اليهودية ومخططاتهما في فلسطين. وبدا الحزب يحاول التقرب من الحركة الوطنية الفلسطينية. بدا ذلك بشكل أوضح نسبيا في المؤتمر الخامس للحزب عام 1923، والذي شارك فيه على الأرجح مندوب عربي حيث قرر الحزب انه يرى في الحركة القومية العربية أحد العوامل الأساسية التي كانت تقاوم الاستعمار البريطاني، وقرر كذلك ان إحدى واجبات الحزب القيام بكل شيء من أجل مساندة هذه الحركة بمدى مقاومتها للاستعمار، رغم التركيب البرجوازي والاقطاعي لقيادتها"99". واستمرت مواقف الحزب تتجذر بفعل عدد من العوامل، كان أهمها تفاقم حدة الصراع بين مجتمع المستوطنين الذي تقوده الحركة الصهيونية والوكالة اليهودية من ناحية والسكان العرب بفعل الهجوم الواسع على الأرض وما ترتب عليه من تهجير قسري لعشرات آلاف الفلاحين، والطبيعة الرجعية لجميع فرق الحركة الصهيونية بما فيها فرقها العمالية ومنظماتها النقابية، الهستدروت، وشروط قبول الحزب الشيوعي الفلسطيني في الأممية الشيوعية هي الجهة الوحيدة المسؤولة عن صياغة مواقف وسياسة الحزب في فلسطين فقد دخل عامل جديد هو اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية، التي اتخذت منذ البداية، أي منذ مؤتمرها الثاني 1920 موقفا ثوريا من الحركة الصهيونية ومشاريعها في فلسطين يقوم على إدانة هذه الحركة ومشاريعها وعلى دعم نضال الشعب الفلسطيني ضد الاستعمار البريطاني ومشروع الوطن القومي اليهودي في فلسطين. فقد اعترفت الأممية الشيوعية عام 1924 بالحزب الشيوعي الفلسطيني، وأرفقت هذا الاعتراف بقيود صارمة على سياسة الحزب تفرض عليه واجب التحول إلى حزب جماهيري عبر أحداث تحولات واسعة في إستراتيجية وتوجهه الجاد نحو تنظيم العمال العرب في حزب جماهيري. واستمر ضغط اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية على الحزب الشيوعي الفلسطيني حتى وصل ذروته عام 1929 بالدعوة الصريحة والمباشرة الى تعريب الحزب من القمة إلى القاعدة، دون أن يعني ذلك طبعا إهمال العمل في صفوف العمال اليهود. وكان تعريب الحزب في توجهات الكومنتيرن يتجاوز استيعاب بعض العرب في الهيئات القيادية للحزب باتجاه التركيز على العمال العرب وفقراء الفلاحين وبناء منظمات حزبية وجماهيرية للحزب في المدن والأرياف الفلسطينية. وجاء التوجه نحو تعريب الحزب واضحا في قرار الأمانة السياسية للجنة التنفيذية للأممية الشيوعية حول حركة التحرر في عربستان وهي التسمية التي استخدمها الكومنتيرن للبلدان العربية 1929 فقد حدد القرار الصادر في السادس عشر من تشرين الأول 1929 مهاما الحزب الشيوعي الفلسطيني على هذا الصعيد كما يلي:
" على الحزب الشيوعي في فلسطين والأقسام العربية الأخرى في الأممية الشيوعية استخلاص كل دروس الانتفاضة (أي انتفاضة 1929):
1. إن مهمة الحزب الأكثر إلحاحا هي أن يتخذ موقفا واضحا وحاسما من مسالة تعريب الحزب من القمة إلى القاعدة، وبموازاة ذلك فعلى الحزب أن يوجه قواه نحو خلق منظمات نقابية عربية أو عربية يهودية مشتركة والسيطرة على المنظمات القائمة وتوسيعها (نقابة عمال السكك الحديدية في حيفا). إن مهمة الحزب الرئيسية هي التغلغل في صفوف جماهير العمال العرب الزراعيين. إن على الحزب توزيع قواه على هذا الأساس. يجب أن يصاحب تعريب الحزب ترقية الشيوعيين العرب في جميع المنظمات والهيئات الحاكمة في الحزب وليس مجرد الضم الميكانيكي لبعض الرفاق إلى اللجنة المركزية.
2. على الحزب أن يتغلب بكافة الوسائل على التشاؤم والسلبية في صفوفه حول المسالة الفلاحية وحول تعريب الحزب والعمل في صفوف العمال الزراعيين والعمال الموسميين العرب .... الخ
3. على الحزب الاستمرار في العمل في صفوف العمال اليهود المنتظمين في الاتحادات الصهيونية الإصلاحية وكذلك في صفوف العمال غير المنتظمين. وعليه أيضا فضح وتعرية الصهيونية وقادتها وخاصة جناحها اليساري باعتبارهم عملاء للإمبريالية وكذلك يجب استخلاص الدروس الملموسة لانتفاضة (1929).
4. على الحزب تعرية المجلس الإسلامي، مجلس الوجهاء والإقطاع الديني، باعتباره العميل المباشر للإمبريالية البريطانية. على الحزب تعرية الإصلاحية القومية المتجسدة في المؤتمر العربي الفلسطيني. إن مهام الشيوعية التغلغل في صفوف الجماهير العربية وزيادة نفوذ الحزب والنضال من اجل قيادة العمل وخاصة نقابات العمال وحركة الفلاحين وأن ينظم ويرسخ الحزب الشيوعي كحزب جماهيري لا كحزب برجوازي صغير قومي ثوري.
5. تنظيم حملة مقاطعة فعالة ضد الهيئة المختصة باستقصاء الاحداث (انتفاضة 1929) وتنظيم حملة واسعة لتعرية حكم الإرهاب الأبيض والعسكرية البريطانية البيروقراطية، بقيادة ماكدونالد (رئيس الوزراء البريطاني آنذاك) وكذلك يجب ان يكون موضوع اهتمام الحزب تعرية الدور الحقيقي لحكومة " العمال " البريطانية وذلك بمساعدة الأقسام الأخرى من الهيئة التنفيذية للأممية الشيوعية.
6. على الحزب إعادة تشكيل تنظيمه على نحو كامل بما يتلاءم وهذه المهام مبتدئا باللجنة المركزية ومنتهيا بالخلايا ......... الخ.
ويستخلص كل مدقق بهذا القرار الهام الصادر عن الأممية الشيوعية – الكومينترن – مجموعة من التحديدات البالغة الدقة لمهام الحزب الشيوعي الفلسطيني. فالقرار لا يدعو على نحو مجرد إلى تعريب الحزب ولا يحدد هذا التعريب كهدف قائم بحد ذاته، وهو لا يفهم التعريب كعملية شكلية تكتفي بترقية عدد من الكوادر العربية إلى هيئات الحزب القيادية، فكل ذلك لم يكن مستهدفا في القرار. أما الذي استهدفه القرار من حيث الجوهر، فهو ضرورة النضال لإسقاط ما تبقى من أوهام لدى الحزب الشيوعي الفلسطيني حول دور المجتمع الاستيطاني اليهودي في فلسطين، الذي كان تقوده الوكالة اليهودية والحركة الصهيونية، ووضع حجم مشاركة الفصائل العمالية المتقدمة في هذا المجتمع في إطاره الصحيح دون مبالغة أو أوهام. في الوقت نفسه دعا القرار إلى ضرورة تشديد النضال ضد القيادة العربية الرجعية واليمينية المستندة إلى التحالف الطبقي بين القوى البرجوازية اليمينية وأشباه الإقطاع وكبار الملاك، باعتبارها تشكل قيدا على العملية الثورية، التي كانت تعبر عن نفسها بالانتفاضات الفلاحية وفيما بعد بالانتفاضات العمالية والفلاحية العربية في فلسطين. وقد كان النضال ضد الحركة الصهيونية وخاصة أجنحتها اليسارية يستهدف فضح الطبيعة الرجعية والعدوانية لتلك الحركة والمساهمة في إسقاط أية أوهام حول دورها. وكذلك كانت الدعوة لفضح وتعرية سياسة القيادة اليمينية والرجعية العربية وتحريرها من سيطرة هذه القيادة عن طريق انتزاع زمام المبادرة من يدها واستثمار الطاقات الثورية التي كانت الانتفاضات الفلاحية تجسدها باتجاه صحيح. فالجماهير العمالية والفلاحية العربية كانت بالنسبة للأممية الشيوعية – الكومنتيرن – مادة الثورة وهدفها ضد الاستعمار البريطاني وضد مخططات الوكالة اليهودية والرهان على ثورة ناجحة وظاهرة كان يجب أن ينطلق من تلك الحقيقة التي برزت بوضوح ليس في قرار الأمانة السياسة للجنة التنفيذية للكومينترن في تشرين الثاني 1929 بل وفي مجمل المناقشات التي دارت في مؤتمرات الكومنترن وهيئاته القيادية والمتخصصة منذ أن حدد فلاديمير لينين الطبيعة الرجعية للحركة الصهيونية وأهدافها المعادية عام 1920. إن دعوة الأمانة السياسة لللجنة التنفيذية للكومينترن الحزب الشيوعي الفلسطيني لتعريب صفوفه وخط نضاله من الناحية الإستراتيجية، بل إن القرار تضمن في جوهره روح التضامن الأممي، فاعلن ان الحزب الشيوعي الفلسطيني لن يكون وحيدا في معركته ضد حكم الإرهاب الأبيض والعسكرية البريطانية البيروقراطية بقيادة ماكدونالد، رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، وهذا تضمن القرار تأكيدا بأن الأقسام الأخرى من الهيئة التنفيذية للأممية الشيوعية ستبذل في هذا الشأن كل مساعده، وهكذا وضعت الأممية الشيوعية نضال الجماهير العربية ونضال جميع القوى المناهضة للانتداب والحركة الصهيونية والقيادة الرجعية للحركة الوطنية الفلسطينية في إطار إقليمي وعالمي كان عليه أن يقدم الإسناد الفعال لحزب شيوعي في فلسطين بشكل هيئة أركان جيش سياسي واسع من الجماهير العمالية والفلاحية الفلسطينية. فاقترح القرار لتشكيل فيدرالية توحد كفاح الشعوب العربية في فلسطين والأردن وسوريه ولبنان ومصر ضد القوى الاستعمارية وضد مشروع الوطن القومي اليهودي، ومن اجل حرية وتحرر هذه الشعوب واستقلالها، وطبق في العلاقة مع فلسطين سياسة تضامنية اممية على النطاق الدولي انعكست بوضوح تام في دعاية الأقسام المختلفة للأممية الشيوعية.
من الزاوية النظرية كان خط عمل الحزب يتطور باتجاه التعريب تحت الضغط الحالة الموضوعية التي بدأت تتشكل بوضوح بعد موجة الهجرة اليهودية الرابعة 1924-1931 وما نتج عنها من حالة غليان ومن انتفاضات فلاحية في فلسطين. وبدأت مواقف الحزب تتجذر أكثر من السابق ضد الحركة الصهيونية وضد عمليات انتقال الأراضي والتهجير القسري من الأرض. ومن الزاوية النظرية كذلك كان خط عمل الحزب يتطور تحت ضغط اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية منذ قبول الحزب الشيوعي الفلسطيني في عضويتها، واخذ الحزب ينحاز للفلاحين المهددين بالطرد من قراهم بعد كل صفقة من صفقات بيع الأراضي للوكالة اليهودية والمستوطنين اليهود. ونشط بعض الرفاق الشيوعيين اليهود ممن كانوا يجيدون اللغة العربية في أوساط الفلاحين يحرضونهم على مقاومة عمليات التهجير القسري من الأرض" 101". كما نشط الحزب في الميدان النضالي وتمكن من افتتاح فروع لكتلته النقابية حكرة الوحدة – ايحود – في عدد من المدن كحيفا ويافا والعفولة وبتاح تكفا وغيرها وصعد من نضاله من اجل توحيد الحركة النقابية على أسس اممية وبصرف النظر عن الهوية القومية "102". وبدا الحزب يستوعب عددا من المناضلين العرب في صفوفه وفي صفوف منظماته العمالية النقابية، غير أن الحزب في علاقاته بجماهير العمال والفلاحين العرب في فلسطين تعرض لامتحان قاس على أبواب انتفاضة آب 1929 الفلاحية وأثناء الانتفاضة، إذ برزت بعض النزاعات القومية في صفوفه القيادية، وعوضا عن الاندماج في الانتفاضة الفلاحية التي امتدت إلى العديد من الأرياف الفلسطينية وتوجيه حركتها ضد الاستعمار البريطاني والوكالة اليهودية والقيادة الرجعية للحركة الوطنية الفلسطينية. فقد اتخذ الحزب موقفا انعزاليا من الانتفاضة ولم يجد فيها غير " المذابح ضد اليهود". لا شك أن الانتفاضة انطلقت من حادثة البراق، أي من حادثة كان ظاهرها دينيا، غير أن امتدادها وبسرعة إلى المناطق التي شهدت أكثر من غيرها عمليات بيع للأراضي في ظل موجة الهجرة اليهودية الرابعة، يؤكد طابعها وجوهرها الطبقي، الذي لم يدركه الحزب الشيوعي آنذاك. وتعرض موقف الحزب الشيوعي الفلسطيني من الانتفاضة لنقد واسع من الأمانة السياسة للجنة التنفيذية للأممية الشيوعية-الكومنتيرن-، فأكد قرار الأمانة السياسة المشار إليها في هذا الشأن:
• إن الطبقة العاملة (والمقصود هنا حزبها تحديدا) بقيت غير فاعلة بشكل جزئي خلال الانتفاضة ولم تتصرف كقوة مستقلة، ولم تحاول قيادة الحركة (أي الانتفاضة). لقد وقع بعض العمال العرب واليهود تحت تأثير برجوازيتهم وشاركوا في الصدام القومي – الديني. إلا أنه مع ذلك كان هنالك بعض حالات من التجسيد البطولي لتضامن الطبقي البروليتاري من جانب العمال العرب واليهود على السواء. لذا فإن الحركة وان كان قد سببها الاستفزاز البريطاني الصهيوني، الذي حاول الرجعيون العرب (الكهنوت وكبار الملاك) الرد عليه بمذبحة وإن كانت قد وقعت في مراحلها الأولى تحت قيادة رجعية، فقد كانت حركة تحرر قومي لكل العرب وحركة معادية للإمبريالية، ومن حيث تركيبها الاجتماعي فقد كانت حركة فلاحية بشكل رئيسي.
• لقد أخذت الانتفاضة الحزب على حين غرة، وهذا بسبب هيمنة اليهود في التنظيم وبسبب فقدان الاتصال مع الجماهير العربية عموما وغياب الاتصال، مهما كان شكله، مع الفلاحين خصوصا.
لم يدرك الحزب، ومنذ الأيام الأولى، متأثرا بوجه خاص، بالأحداث في القدس والمدن الأخرى، إمكانية تحول الصدام الديني القومي إلى انتفاضة فلاحية قومية عارمة معادية للإمبريالية. ولهذا فقد فشل الحزب في طرح شعارات الاستيلاء على الأرض، بناء لجان فلاحية وبدوية، الثورة الزراعية، التوحيد القومي لكل الأقطار العربية ضمن منظور فيدرالية العمال والفلاحين للعموم العرب.... الخ "103".
وكان هذا النقد لموقف الحزب من انتفاضة 1929 الفلاحية ذو مغزى كبير بالنسبة للحزب الشيوعي الفلسطيني، الذي أضاع فرصة تاريخية حقيقية ، وحدد موقفا خاطئا من الانتفاضة ، التي جاءت كرد طبيعي على موجة الهجرة الخامسة 1932-1939 وعمليات انتقال الأراضي وتطبيق العمل العبري ضد العمال العرب، لقد كان لانتفاضة 1929، كما كان لثورة 1936، أرضية طبقية مادية ملموسة، فعلى أبواب الانتفاضة الفلاحية كانت الصفقات الكبيرة لانتقال ملكية الأراضي من كبار الملاك العرب إلى الوكالة اليهودية والمستوطنين اليهود، الذين قفزت حيازاتهم الزراعية من 650.000 دونم عام 1920 إلى حوالي 1.163.579 دونم عام 1929، وكانت عمليات تهجير الفلاحين بالقوة في مناطق العفولة ومرج بن عامر وغيرها. وعلى أبواب الانتفاضة كذلك كانت البطالة في صفوف العمال العرب الوافدين من الأرياف وخاصة التي هجم سكانها بالقوة، قد وصلت حدا خطيرا. ومن هنا كانت الانتفاضة أمرا حتميا وظاهرة طبيعية للغاية. وعلى أبواب ثورة 1936 كانت كذلك موجة الهجرة الخامسة والصفقات الكبيرة لانتقال ملكية الأراضي من كبار الملاك العرب إلى الوكالة اليهودية والمستوطنين اليهود، الذين قفزة مساحة حيازاتهم الزراعية إلى الأعلى ووصلت في العام 1936 إلى حوالي 1.410.000 دونم، وكانت كذلك موجة البطالة الواسعة، التي تفاقمت بسبب التشدد الصارم من الوكالة اليهودية والهستدروت في تطبيق مبدأ العمل العبري على حساب الجماهير العمالية العربية. ولم يكن المستهدف بانتفاضة 1929 الفلاحية وتركيز الهجوم ضد القوى الاستعمارية والصهيونية وضد كبار الملاك العرب والرجعية العميلة للاستعمار البريطاني، ركز الحزب اهتمامه على المظهر السطحي للحدث، الذي انطلق من نزاع ديني حول البراق وحائط المبكى، فوقع فريسة سهله للقوى المضادة. وعلى عكس هذا الموقف، كان موقف الأمانة العامة السياسية للجنة التنفيذية للأممية الشيوعية، التي اختتمت قرارها حول انتفاضة 1929 الفلاحية باقتراح يدعو "جميع أجنحة وأقسام عصبة معاداة الامبريالية ومنظمة العون الأحمر العالمي والمنظمات الجماهيرية الأخرى (التابعة للأممية الشيوعية) إلى خوض حملة ضد الإرهاب الأبيض في فلسطين وضد دعاية الامبريالية البريطانية والبرجوازية الصهيونية والأممية الثانية، التي تصف الحركة العربية (أي الانتفاضة) بالمذبحة "104".
إن التوقف عند تجربة الحزب الشيوعي الفلسطيني في العشرينات، وعند موقفه من الانتفاضة الفلاحية عام 1929 لا يستهدف التقليل من الدور الأممي لهذا الحزب، الذي نشا أساسا في صفوف المهاجرين اليهود ووجد نفسه في مطلع حياته النضالية يصارع على أكثر من جبهة. فقد كان الحزب يصارع ضد الاستعمار البريطاني بروح أممية حقه، وكان يصارع ضد الحركة الصهيونية وخصوصا أجنحتها اليسارية في الهستدروت وكان يتلقى الضربات المتوالية من سلطات الانتداب البريطاني ومن جميع قوى وأجنحة الحركة الصهيونية. ورغم نواقصه وأخطائه فقد " ثبت أن الحزب الشيوعي الفلسطيني " منظمة صلبة البنيان من الثوريين المخلصين الذين حاولوا أداء مهاهم الثورية، ولا يوجد شك في ان الحزب الشيوعي الفلسطيني (كان) على مستوى عال من الاستعداد الأيديولوجي والولاء الشيوعي" كما جاء في قرار الأمانة السياسية للجنة التنفيذية الأممية الشيوعية"105". ومن هنا فان التوقف عن تجربة الحزب الشيوعي تلك جاءت لتؤكد حقيقة هامة هي افتقار الطبقة العاملة الفلسطينية إلى الإطار التنظيمي القادر على قيادة كفاحها وكفاح جماهير الفلاحين وسائر الكادحين في فلسطين، في فترة حاسمة كانت فيها الطبقة العاملة بأمس الحاجة إلى هيئة أركان تنظمها وتؤطرها في حزبها الطبقي الخاص وفي منظماتها النقابية الكفاحية. فقد عجز الحزب الشيوعي الفلسطيني ورغم محاولاته اللاحقة لتجاوز نواقصه وتصحيح أخطائه عن احتلال موقعه المتقدم في النضال ضد الاستعمار البريطاني ومخططات الحركة الصهيونية والوكالة اليهودية والقيادات العربية الرجعية وخاصة تلك التي استمرت في رهانها على الامبريالية البريطانية، وكان المصدر الرئيسي لهذا العجز نواقص حقيقية في إستراتيجية عمل الحزب بين العمال والفلاحين العرب في فلسطين. وقد أثبتت تجربة الأربعينات وخاصة تجربة مؤتمر العمال العرب. إن الطبقة العاملة العربية الفلسطينية كانت تزخم بالطاقات الثورية الحقيقية، التي افتقدت على امتداد عقدين كاملين وخصوصا على امتداد الثلاثينات القوة الطبقية الطليعية المنظمة بقيادة نضالها في ظروف بالغة التعقيد دون شك.
حركة نقابية إصلاحية
لم تشهد نضالات الطبقة العاملة العربية في فلسطين وحدة متنامية بين حزب الطبقة العاملة، الحزب الشيوعي الفلسطيني، والحركة النقابية، فقد عجز الحزب الشيوعي لأسباب عديدة في مساعيه ونضالاته للوصول إلى هذا الهدف. ولم يتم تأسيس في فلسطين في فترة الانتداب حزب اشتراكي ديمقراطي على طريقة الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية الأوروبية أو حتى على طريقة الأحزاب الصهيونية العمالية في فلسطين، التي شكلت منذ البداية القوة الفاعلة المؤثرة في عمل الحركة النقابية اليهودية – الهستدروت.
وكانت جمعية العمال العربية الفلسطينية، وهي أول منظمة نقابية عربية فلسطينية، فقد تشكلت في آب 1925 ولم يقف وراء تشكيل هذه المنظمة النقابية حزب عمالي، أو حتى مجرد حزب عربي فلسطيني. ففي فلسطين لم تتشكل أحزاب عربية قبل مطلع الثلاثينات. ذلك لا يعني أن الوسط العربي لم يشهد تشكيل نماذج حزبية فاشلة في العشرينات، فمثل تلك النماذج كانت موجودة دون ريب. فقد تشكل في فلسطين بقرار من المندوب السامي البريطاني عام 1924 الحزب الوطني بقيادة راغب النشاشيبي وسليمان التاجي الفاروقي، وكان دور الحزب محددا بالمشاغبة على قيادة المؤتمر العربي الفلسطيني، الذي شكل قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية آنذاك، ولم يكن للحزب أي دور وتحديدا لم يكن له دور في أوساط العمال والفلاحين، باعتباره أصلا معاديا لتطلعاتهم ومصالحهم. وتشكل كذلك حزب رجعي آخر هو الحزب الحر الفلسطيني وحزب رجعي ثالث هو حزب الأحرار العربي الفلسطيني وكان الحزبان مواليان تماما للاستعمار البريطاني. ولم يكن لأي من هذين الحزبين أي دور يذكر بل كانا نماذج لتجارب حزبية شكلية. وفي نابلس تأسس عام 1925 حزب العمال الفلسطيني، ولم يكن لذلك الحزب علاقة ولو من بعيد بالعمال الفلسطينيين وفي تشكيلته التنظيمية ولا في برنامجه. فقادة الحزب كانوا حسني عبد الهادي، وحافظ طوقان، واحمد الشكعة وغيرهم، وكانت تلك القيادة تعبر دون شك عن تحالف برجوازي مع كبار الملاك تحت يافطة اتفق على تسميتها بحزب العمال. وقد انحصر تواجد الحزب في نابلس، وهو حزب لم يعمر على أي حال وكان هو الآخر نموذجا للتجارب الحزبية الفاشلة التي قامت في العشرينات. أما الحزب الشيوعي الفلسطيني، ومن قبله حزب العمال الاشتراكي، فقد كان له دور دون شك نفوذ في الأوساط العمالية في فلسطين، وكان ذلك النفوذ يتسع في الوسط العمالي اليهودي وفي الحركة النقابية اليهودية – الهستدروت- ويضيق في الوسط العمالي العربي وفي الحركة العمالية العربية، واستمر هذا الوضع يرافق هذا الحزب الشيوعي حتى مطلع الأربعينات، حيث اتسع نفوذ الحزب (عصبة التحرر الوطني) على نحو بارز في الأوساط العمالية العربية وفي الحركة النقابية العربية الفلسطينية. وفقط في الأربعينات يمكن الجزم بان نضالات الطبقة العاملة العربية في فلسطين قد شهدت وحدة متنامية بين حزب الطبقة العاملة وحركتها النقابية.
وهكذا تشكلت جمعية العمال العربية الفلسطينية عام 1925 بجهود عدد من العاملين في مصلحة السكك الحديدية الفلسطينية. ومنذ تأسيسها شكلت الجمعية اتجاها إصلاحيا في الحركة النقابية الفلسطينية، إذ جاء نظامها الداخلي ينص على " السعي لإيجاد تشريع خاص لحماية العمال إزاء أصحاب رؤوس الأموال والمصالح وأرباب العمل وتحديد ساعات العمل وتعديل الأجور وترتيب المعاشات والمكافآت والإعانات في حالة العطل، والعجز أو الإصابة، والإجازات والعلاوات ووضع أنظمة الترقيات وأعداد الوسائل لتسهيل سكناهم وتعليم أبنائهم ووقاية صحتهم. بشرط أن تكون كل أعمالها ضمن دائرة القانون والنظام وإلا تتناول الأمور الدينية والسياسية"106".
وبالمقارنة بين جمعية العمال العربية الفلسطينية وبين اتحاد النقابات اليهودي – الهستدروت – يتضح الفارق الواسع في أهداف وميدان نشاط الجمعية والهستدروت ويتضح تماما الاتجاه الإصلاحي الذي سيطر على جمعية العمال العربية. ففي الوقت الذي قيدت الجمعية نفسها بقيود سياسية مستوحاة من قانون الجمعيات العثماني شديد التخلف تجاوز الهستدروت كل القيود. واعتبر نفسه منذ البداية أداة تنظيمية وسياسية من أدوات الوكالة اليهودية ومدافعا في الوقت نفسه عن مصالح الجماهير العمالية اليهودية في فلسطين في مواجهة أرباب العمل وفي مواجهة العامل العربي، الذي اعتبره الهستدروت منافسا غير مرغوب فيه للعامل اليهودي. لقد حدد الهستدروت هدفه منذ البداية كما يلي:
" إن هدف الهستدروت هو تحقيق الفكرة الصهيونية. ويعتبر الهستدروت نفسه جزءا لا يتجزأ من العوامل الأساسية في العمل الصهيوني والهجرة والاستيطان والسيطرة على فلسطين واستعمارها ووضع الأسس اللازمة لاقتصاد سليم ومزهر، قادر على استيعاب أكبر عدد ممكن من المهاجرين، والغاية القصوى هي خلق مجتمع يتحول فيه اليهود القادمون من بقاع الأرض بعد تشريد دام مدة ألفي سنة من أفراد ذوي خلفيات اجتماعية متباينة إلى أعضاء في هيكل قومي واحد "107".
وبدون الدخول في التفاصيل حول نشأة الهستدروت، والممارسات الشوفينية العنصرية التي اعتمدها منذ تأسيسه في فلسطين عام 1920، فإن الهستدروت لم يطرح نفسه كحركة نقابية مطلبية باتجاهات محددة وحسب، بل لقد طرح نفسه كقوة سياسية بارزة تسعى لتحقيق الفكرة الصهيونية، أي لتحقيق مشروع الوطن القومي الصهيوني وبناء دولة إسرائيل، واعتبر نفسه جزء لا يتجزأ من هيكل الحركة الصهيونية ونشاطها ومسؤولا مثل غيره من مؤسسات الحركة الصهيونية والوكالة اليهودية عن احتلال الأرض واحتلال العمل واستيعاب موجات الهجرة، وبرز في الحياة العملية كراس رمح للمؤسسات الصهيونية في اقتلاع الفلاح من أرضه وتوطين مهاجر بدلا عنه وفي محاصرة العامل العربي والحيلولة بينه وبين العمل في المنشات الزراعية أو الصناعية اليهودية. وكان الهستدروت يعتمد في عمله على فكرة التنظيم الشامل للعاملين (اليهود في فلسطين)، ومن هنا تطورت عضويته من حوالي 4400 عامل عام 1920 إلى حوالي 872.000 عامل في العام 1964(108)، وكان عدد الأعضاء قد بلغ في منتصف الثلاثينات (1936) مايربو على 85600 من العاملين من رجال ونساء مختلف المهن والحرف "109". وجسد العمل في الهستدروت وحدة متنامية بين الأحزاب الصهيونية العمالية والحركة النقابية اليهودية في فلسطين، فقد تأسس الهستدروت بجهود هذه الأحزاب، وحافظ منذ البداية على حرية العمل الحزبي والسياسي لجميع القوى الصهيونية في أطره التنظيمية ومؤسساته ولم يمارس قيودا على هذه القوى، بينما مارس منذ البداية سياسة عدائية للحزب الشيوعي الفلسطيني ووضع قيودا على نشاطاته وصلت إلى حد فصل كتلته العمالية من عضوية الهستدروت في العشرينات.
هكذا كان باختصار شديد وضع الاتحاد العام للعمال اليهود – الهستدروت في فلسطين أما جمعية العمال العربية الفلسطينية فقد تأسس كما هو معروف بمعزل عن نشاط الأحزاب العربية وبمعزل عن نشاط الحزب الشيوعي الفلسطيني، الذي وجد في الهستدروت مجالا أوسع في البداية لنضالاته ونشاطاته. ذلك لا يعني أن الحزب الشيوعي الفلسطيني كان قد اخذ موقفا سلبيا من تأسيس حركة نقابية عربية في فلسطين، فقد طرحت هذه المسالة الحيوية على جدول أعماله ، غير أنها لم تخرج إلى حيز التنفيذ لاعتبارات عديدة لا تتعلق بسياسة وخيارات الحزب الشيوعي الفلسطيني وحده. وهكذا حدث الانفصال الواقعي بين حركة جمعية العمال العربية الفلسطينية كتنظيم نقابي وبين حزب الطبقة العاملة. ولم يتجاوز هذا الحدث الخطير إلا في نهاية الثلاثينات ومطلع الأربعينات وتحديدا بعد تأسيس مؤتمر العمال العرب، الذي تأسس كحركة نقابية عربية في فلسطين بمبادرة من الشيوعيين الفلسطينيين. وخلافا للهستدروت، فقد أخذت قيادة جمعية العمال العربية الفلسطينية موقفا في غاية السلبية من أي نشاط حزبي أو سياسي، وخاضت معارك جديه لمنع نشاط العناصر النقابية الديمقراطية والتقدمية في الجمعية وفرضت على الجمعية حصارا واسعا لمنع اية عملية تسيس محتملة ، هذا في الوقت الذي كان يشتد فيه الصراع تحديدا بين العمال والفلاحين وبين الحركة الصهيونية والوكالة اليهودية والهستدروت وكان يشتد فيه الصراع يشكل عام بين مجموع القوى الوطنية الفلسطينية وبين الاستعمار البريطاني ومشروع الوطن القومي اليهودي. وليست قليلة هي الأمثلة والاحداث، التي تؤكد خطورة المواقف السلبية التي اتخذتها قيادة الجمعية في هذا المجال، اذ بعد تأسيس الجمعية بخمسة أعوام كان عليها ان تعقد مؤتمرها الأول. وقد قاومت قيادة الجمعية ضغط العناصر الوطنية الجذرية والديمقراطية من اجل عقد المؤتمر، وقاوم عقد المؤتمر كذلك القوى البرجوازية والإقطاعية الفلسطينية والموقف العدائي للهستدروت. وكان انعقاد المؤتمر بحد ذاته انتصارا للقوى الوطنية الجذرية والديمقراطية "110". وعندما انعقد المؤتمر في الحادي عشر من كانون الثاني عام 1930، أي بعد الانتفاضة الفلاحية 1929 وما رافقها من نهوض وطني واسع ضد الإمبريالية البريطانية ومشاريع الحركة الصهيونية والوكالة اليهودية، بدا الصراع واضحا للغاية بين الاتجاه اليميني الإصلاحي، الذي يقاوم كل تطوير في الدور السياسي الوطني للحركة النقابية الفلسطينية ( الجمعية ) وبين الاتجاه الجذري والديمقراطي الذي أخذ يعزز مواقعه ويشدد من نضالاته لتطوير ذلك الدور وتحرير الحركة النقابية الفلسطينية من القيود الواسعة المفروضة على دورها السياسي الوطني. وعبر ممثلو الاتجاه اليميني الإصلاحي عن مقاومتهم تلك في الكلمة الافتتاحية للمؤتمر، التي جاء فيها :" إن الجمعية ( أي جمعية العمال العربية الفلسطينية)، التي ينعقد هذا المؤتمر تحت إشرافها وبدعوة منها تتمشى في إدارته على طريقة لا تتنافى مع قانونه المصادق عليه من قبل الحكومة وهي لا تسمح لأحد من المؤتمرين أن يشذ عن هذا القانون ولا أن يتكلم أو يقوم بحركة من شأنها سوق المؤتمر إلى طريق حزبي، إذ إن الغاية الوحيدة من عقد هذا المؤتمر هي العمل على إدخال العامل العربي في سلك التنظيم النقابي ليتبوأ المركز الذي يسحقه في الهيئة الاجتماعية"111". ولشدة تمسك القيادة اليمينية للجمعية بسياسة عزل العمل النقابي المطلبي عن الدور السياسي للطبقة العاملة وتنظيمها النقابي فقد رفضت حتى مجرد قراءة برقية تضامن وتحية مع المؤتمر كان الحزب الشيوعي الفلسطيني قد أرسلها للمؤتمرين، هذا في الوقت الذي امتنعت فيه قيادة الحركة الوطنية آنذاك ليس فقط عن المشاركة في المؤتمر بل وحتى عن الإعراب عن أي شكل من أشكال التضامن. وإذا استثنينا برقية تلقاها المؤتمر من سكرتير عصبة مناهضة للإمبريالية حمدي الحسيني، وكان أحد القيادات الديمقراطية الرئيسية لحزب الاستقلال في فلسطين، فان أحدا من الزعماء السياسيين الآخرين لم يقف من المؤتمر موقفا إيجابيا. فالبرجوازية الفلسطينية وكبار الملاك لم يترددوا في اتخاذ موقف سلبي من الجمعية رغم كل الاتجاهات اليمينية الإصلاحية لقيادتها. ورغم كل المقاومة التي أبدتها قيادة الجمعية ضد تسييس المؤتمر، فقد انتخب المؤتمر لجنة مركزية للجمعية من أحد عشر عضوا كان بينهم ثلاثة من ذوي الاتجاه الديمقراطي والثوري والشيوعيين واتخذ قرارات تدعو العمال للنضال من اجل استقلال فلسطين.
وفي الوقت التي كانت فيه فلسطين تدخل في مطلع الثلاثينات مرحلة حاسمة من أجل الصراع بين الانتداب البريطاني والوكالة اليهودية ومشاريعهما الاستعمارية وبين السكان العرب، الذين دفعتهم موجتا الهجرة اليهودية المكثفة الرابعة والخامسة، وعمليات الانتقال الواسعة للأراضي إلى الوكالة اليهودية والمستوطنين إلى تشديد المقاومة ضد الانتداب ومشروع الوطن القومي اليهودي بانتفاضات متتالية في الأعوام 1933 و1935 وبالثورة الفلسطينية الكبرى 1936-1939، في هذا الوقت بالذات برز بوضوح الاتجاه اليميني لقيادة جمعية العمال العربية الفلسطينية فما أن انتهى المؤتمر الأول للجمعية حتى سارعت الأكثرية اليمينية في قيادة الجمعية إلى شل كل نشاط وطني جماهيري والى حصر نشاطها في هذا المجال ببعض البيانات والمذكرات السياسية الموجهة إلى المندوب السامي البريطاني، خصوصا بعد أن أصبحت الأكثرية الساحقة من قيادة الجمعية تتشكل من بعض المثقفين ووكلاء وأصحاب العمل وليس من العمال "112". وعندما احتدم الصراع في فلسطين أثناء الثورة الفلسطينية الكبرى 1936-1939، وبدا واضحا بالنسبة للقيادة السياسية اليمينية وبالنسبة لقيادة جمعية العمال العربية الفلسطينية أن مستوى النهوض الوطني الجماهيري بات يشكل خطر حقيقيا عليها ويهدد بتجاوزها توافقت مصلح تلك القيادة السياسية ممثلة باللجنة العربية العليا مع مصالح الأكثرية اليمينية الإصلاحية المسيطرة على الجمعية في إجهاض النهوض الوطني والحركة الجماهيرية. فوجهت اللجنة العربية العليا نداء إلى الشعب الفلسطيني تدعوه إلى الهدوء والاستجابة لنداء الزعامات في البلدان العربية للتوقف عن الصدام المباشر مع الانتداب البريطاني والاعتماد على الوعود البريطانية بالنظر في المطالب العربية والعمل على إيجاد الحلول المناسبة والمنصفة لها . وفي تشرين الثاني 1936 وجهت العمال العربية الفلسطينية نداء إلى العمال العرب، الذين كانوا لا يزالون يواصلون إضرابهم الشهير منذ نيسان من نفس العام، دعت في العمال العرب إلى وقف الإضراب، وجاء في نداء جمعية العمال العربية الفلسطينية آنذاك" 113":
"نزولا عند الرغبة السامية التي أبداها أصحاب الجلالة الملوك العرب وصاحب السمو الملكي أمير شرق الأردن، دعت اللجنة العربية العليا الشعب العربي المجاهد في فلسطين إلى وقف الإضراب الذي أعلن في 19 نيسان 1936 احتجاجا على السياسة الظالمة التي تشير عليها الحكومة البريطانية لتحقيق آمال اليهود الغاصبين في إنشاء وطن قومي لهم في فلسطين.
إن وقف الإضراب لا يعني استسلامنا للقوة العاتية وللجبروت الظالم، أو نزولنا صاغرين عند رغبة الاستعمار الغاشم في محق عروبة هذه البلاد وتهويدها، ولا يدل أننا فضلنا إنهاء الإضراب ورفع راية السلم خشية على البقية الباقية من الأرواح والأملاك والأموال، التي أصابها الشيء من الخراب والتدمير. كلا وألف كلا فإن قوتنا المعنوية مازالت كما كانت عليه، جبارة عظيمة، تلهو بالموت ألعوبة الأطفال وتبتسم للنكبات أضحوكة الرجال. وما ندعوكم إلى مزاولة أعمالكم إلا لأن إرادة أصحاب الجلالة ملوكنا مقدسة، ولا يمكن لنا نحن أبناءهم أن نروها بأي حال من الأحوال".
وأضاف نداء الجمعية يقول:
" أيها العمال ...... إننا نعطي اليوم الفرصة للحكومة البريطانية لتعدل سياستها الخاطئة التي قادت إلى الثورات المتكررة والاضطرابات المتعددة وجعلتها جحيما مقيما تستعر ناره في كل آونه وأخرى. إننا نعطيها فرصة أخرى لتفهم نفسيتنا حق الفهم وتقدر رغبتنا في الحياة الحرة المستقلة حق التقدير فتعمل على إزالة آثام الماضي وشروره".
هذا الموقف، الذي اتخذته جمعية العمال العربية الفلسطينية معبر للغاية، فقد أسلمت قيادة الجمعية مثلها مثل اللجنة العربية العليا أمرها لما كان يصدر عن أصحاب الجلالة الملوك العرب من رغبات، وهي على أي حال لم تكن رغباتهم وحدهم بل أساسا رغبات سلطات الانتداب والامبريالية البريطانية. ومقارنة سريعة بين هذا الموقف، الذي اتخذته اللجنة العربية العليا وقيادة جمعية العمال العربية الفلسطينية، وهي الحركة النقابية العربية الوحيدة آنذاك، وبين الموقف الذي اتخذته الوكالة اليهودية وإتخذته الهستدروت من الكتاب الأبيض البريطاني الذي صدر عام 1930، توضح الفوارق الواسعة بين الموقفين.
فقيادة الهستدروت لم تساوم سلطات الانتداب ولم تقدم أدنى تنازل أمام الحليف البريطاني بل هي شاركت إدارة الوكالة اليهودية حملتها المحلية والدولية الواسعة ضد المناورة البريطانية التي كان الكتاب الأبيض قد تضمنها آنذاك لامتصاص نقمة الشعب الفلسطيني. فالحكومة البريطانية لم تتعهد في الكتاب الأبيض بتعديل سياستها ولم تعلن عن أية نوايا بالتراجع عن وعد بلفور ومشروع الوطن القومي اليهودي، بقدر ما أكدت رغبتها بالتوفيق بين الهجرة اليهودية وقدرة فلسطين على الاستيعاب دون المرور بأزمات اقتصادية حادة تثقل عل بريطانيا مهمة الوفاء بالتزاماتها نحو مشروع الوطن القومي اليهودي. كان موقف الاتحاد العام للعمال اليهود – الهستدروت – صلبا وصداميا إلى أبعد الحدود مع الكتاب الأبيض البريطاني وهكذا كان موقف الوكالة اليهودية رغم المناشدات التي صدرت آنذاك عن الحكومة البريطانية ورغم التأكيدات بأن بريطانيا لن تتراجع عن وعد بلفور ومشروع الوطن القومي اليهودي في فلسطين. وكان الهستدروت مستعد للمضي قدما حتى النهاية في الحرب التي أعلنتها الوكالة اليهودية ضد الكتاب الأبيض البريطاني، وتمكن بمواقفه هذه من كسب ثقة الجماهير العمالية اليهودية المضللة والخاضعة لدعاية الحركة الصهيونية واتجاهاتها العنصرية ضد العرب. ونتيجة لذلك الموقف والتعبئة السياسة الواسعة التي كان الهستدروت يقوم بها في أوساط المهاجرين فقد تعزز نفوذه في الأوساط العمالية اليهودية وارتفع عدد أعضائه من 4400 عامل في العام 1920، عام التأسيس الى 58600 عامل عام 1936.
أما جمعية العمال الفلسطينية لم تكن قيادتها على مستوى الأحداث التي جسدتها الانتفاضة العمالية والفلاحية 1936، وكانت تضع القيود على تسييس الحركة النقابية بسب سيادة الخط الإصلاحي الانتهازي اليميني في قيادتها، وتعرضت لهجوم واسع من المهاجرين اليهود ومن رؤوس الأموال اليهودية المخصصة لعمليات شراء الأراضي ولبناء الأساس الاقتصادي والاجتماعي والثقافي المتين لمشروع الوطن القومي اليهودي. لقد جاء المؤتمر الأول للحركة النقابية العربية الفلسطينية (الجمعية) بالبرهان على إفلاس القيادة الإصلاحية للجمعية وخضوعها لمشيئة سلطات الانتداب، وجاءت ممارسات تلك القيادة بعد المؤتمر لتفرغ القرارات التي اتخذها المؤتمر تحت ضغط العناصر الديمقراطية والتقدمية، من أي مضمون. أما موقف قيادة الجمعية من الثورة الفلسطينية 1936 فقط كانت له آثار سلبية واسعة للغاية على أوضاع الحركة النقابية العربية الفلسطينية ودورها في الصراع الوطني ضد الاستعمار البريطاني ومخططات الحركة الصهيونية والوكالة اليهودية في فلسطين، فقد تسارع التدهور في أوضاع الجمعية واخذ العمال يبتعدون عنها، لأنها لم تكن قادرة على قيادة نضالهم ولم تكن أصلا راغبة في مشاركة الطبقة العاملة العربية الفلسطينية في ذلك النضال. وعليه انخفضت العضوية في الجمعية من 3700 عضو عام 1936 إلى 2600 عضو في مطلع 1940 واستمر الانخفاض حتى بلغ عدد أعضاء الجمعية حوالي 700 عضو في حزيران 1941 "114".
ولم يتبلور الاتجاه الإصلاحي واليميني الانتهازي في سياسة قيادة جمعية العمال العربية الفلسطينية على مستوى فصل العمل النقابي عن العمل السياسي الوطني، بل يتجاوز ذلك باتجاه التمسك بالمواقف اليمينية والوسطية الانتهازية في الممارسة النقابية ذاتها. فعلى المستوى النضالي المطلبي تقلص دور الجمعية إلى الحدود الدنيا وكان ذلك أمرا طبيعيا. فحيث تقف قيادة الحركة النقابية موقفا رجعيا من العمل الحزبي في النقابات وحيث تضع القيود المشددة على الدور السياسي الوطني للنقابات، فمن الطبيعي أن تتردى الحالة التعبيرية وأن يتراجع كل شعور بالمسؤولية نحو المطالب المعيشية والحياتية لجمهور العاملين. فالأوضاع المعيشية ليست معلقة في الفراغ، وهي ليست نتيجة لفعل قوى غير مرئية، بل هي ترتبط في العادة بجملة من الظروف المادية الملموسة وبطبيعة السلطة السياسية وبالتوازن في نسبة القوى في المجتمع والظروف السياسية والحالة الاقتصادية السائدة وغيرها من العوامل. وفي الثلاثينات مرت على فلسطين ظروف معروفة كانت تدفع بالصراع الوطني والاجتماعي نحو المزيد من التفاقم والتفجر. فقد ازداد ضغط سلطات الانتداب على الحركة الجماهيرية الفلسطينية واستخدمت العنف على نطاق واسع لقمع انتفاضة 1933 وثورة 1936 والإضراب العمالي الواسع للعمال العرب الذي امتد من نيسان حتى تشرين الأول 1936. كما ازداد ضغط المشروع الصهيوني على الحالة الجماهيرية وتسبب في مزيد من التهجير القسري للفلاحين من الأرض بفعل عمليات بيع الأراضي كما تسبب في زيادة حجم البطالة في المحيط العربي نظرا للاستخدام الواسع لمبدأ العمل العبري في المنشآت الإنتاجية الزراعية والصناعية اليهودية، والمنافسة التي اشتدت أكثر من السابق بين السكان العرب والمهاجرين اليهود لاحتلال العمل في الدوائر الحكومية والأشغال العامة. واتخذت نسبة القوى تحتل تدريجيا لصالح مجتمع المستوطنين اليهود ولغير صالح السكان العرب في فلسطين. لذا احتدم الصراع الاجتماعي في الثلاثينات وجرى نضال واسع في الريف الفلسطيني ضد إجلاء الفلاحين عن الأرض. وكانت السنوات الخمس الأولى سنوات نضال وإضرابات عمالية واسعة، ووقعت صدامات مع رجال البوليس وكاسري الإضرابات. وبين العام 1930 والعام 1935 وصل عدد الإضرابات العمالية في الوسط العربي 46 إضرابا شارك فيه أكثر من أربعة آلاف عامل، كما وقعت إضرابات عمالية أيضا في الوسط اليهودي. وكان من أبرز الإضرابات في تلك الفترة إضراب عمال ميناء حيفا 1932 وإضراب عمال مصنع الاسمنت (نيشر) وإضراب عمال السكك الحديدية. وإضراب أكثر من 800 عامل نسيج في المجدل وأكثر من 500 عامل في شركة نفط العراق (JBS) عام 1935 وأكثر من 800 عامل في مصنع السجائر في حيفا وغيرها من الإضرابات "115". ورغم احتدام الصراع الاجتماعي وحالة النهوض الوطني في الوسط العربي، فإن دور جمعية العمال العربية الفلسطينية في تلك الإضرابات العمالية لم يكن ملموسا.
فمن بين 22 إضرابا عماليا في الفترة 1931 – 1933 قادت الجمعية ثلاثة إضرابات بينها إضراب واحد فقد لعمال الدقاقة في مدينة حيفا شارك فيه 150 عاملا واستمر لعشرة أيام"116".
واستمر دور جمعية العمال العربية يتراجع على امتداد الثلاثينات واستمر في الوقت نفسه ابتعاد العمال عن الجمعية. على أن الجمعية عادت للنشاط في مطلع الأربعينات بفعل عوامل متعددة أهمها، الحرب العالمية الثانية وحالة الازدهار الاقتصادي النسبي التي رافقت سنوات الحرب واتساع دائرة استيعاب العمالة تبعا لذلك من ناحية وظهور حركة نقابية جديدة في الوسط العربي يقودها الشيوعيين الفلسطينيون من ناحية ثانية.
ففي الحرب العالمية الثانية انتعشت الأوضاع الاقتصادية في فلسطين فقفز عدد المنشآت الإنتاجية الصناعية العربية إلى حوالي 1558 منشاة بلغ قيمة إنتاجها القائم حوالي 5.6 مليون جنيه فلسطيني، كما قفز عدد المنشآت الإنتاجية الصناعية اليهودية إلى حوالي 1907 منشاة بلغ قيمة إنتاجها القائم حوالي 29 مليون فلسطيني (117). كما استوعبت معسكرات الجيش البريطاني في فلسطين والمؤسسات الملحقة بها عددا كبيرا من العمال الفلسطينيين العرب واليهود ووصل عدد هؤلاء العاملين حوالي 45 ألف تقريبا. وتميزت بداية الأربعينات باستيعاب العمال العاطلين عن العمل وفي الوقت نفسه بارتفاع ملموس في أسعار المواد الأساسية في ظل ثبات الأجور. وتعمق التمايز بين العمال العرب والعمال اليهود على أكثر من صعيد بما في ذلك على صعيد الحقوق والضمانات والأجور. وكان لتلك التطورات أثر إيجابي في نهوض الحركة النقابية المطلبية وفي استنهاض دور جمعية العمال العربية الفلسطينية. وتأسست في تلك الفترة نقابات جديدة كان أهمها نقابة عمال معسكرات الجيش البريطاني، التي ساهمت الجمعية كذلك بتأسيسها. وعادت الحركة المطلبية من جديد وعلى نطاق واسع مما كانت عليه في السابق، فقد تم تنظيم حوالي 80 إضرابا عام 1941 شارك فيها حوالي أربعة آلاف عامل وتصاعدت الإضرابات عام 1943 حتى وصلت حوالي 147إاضرابا شارك فيها حوالي 18 ألف عامل "118".
وأخذت الحركة المطلبية تتراجع بعد ذلك بسبب إحجام جمعية العمال العربية الفلسطينية عن المساهمة النشطة في الإضرابات العمالية وفي الاهتمام بالعديد من المشكلات العمالية، التي بدأت تطرح فيها بحدة أكبر بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وإقدام الحكومة البريطانية على الاستغناء عن عشرات الآلاف من العمال، الذين تم استيعابهم في معسكرات الجيش البريطاني والمؤسسات التابعة لها. كما تراجع دور الحركة المطلبية بفعل سيادة منطق المساومة لدى جمعية العمال العربية ولجوئها إلى دائرة العمل قبل وقوع نزاعات بين العمال وأصحاب العمل، كما تؤكد ذلك الوثائق الرسمية لحكومة الانتداب البريطاني على فلسطين، هذا في الوقت الذي كان يلجا فيه العمال اليهود إلى الهستدروت ويعتمدون عليه في ظل نزاعات العمل "119".
وفي السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية مباشرة تنامت الحركة المطلبية والإضرابات العمالية وخاصة في قطاعات البناء والمحاجر والبلديات والمطابع وقطاع النفظ وعمال السكك الحديدية وعمال وموظفي معسكرات الجيش البريطاني، الذين وجدوا أنفسهم بعد الحرب مهددين بالبطالة. وبلغت الحركة المطلبية ذروتها في أيار 1947 إذ عمت الإضرابات قطاع عمال معسكرات الجيش البريطاني، الذين تحولوا إلى عاطلين عن العمل. والتف حول إضراب عمال معسكرات الجيش البريطاني حوالي 50 ألف عامل كانوا يطالبون بالخبز والعمل. وكانت جمعية العمال العربية الفلسطينية تلهث وراء الحركة المطلبية وتتردد في المشاركة في حالة النهوض العمالي التي عمت فلسطين بأسرها. وفي ظل ترددها عن المشاركة في حالة النهوض العمالي وفي الحركة المطلبية الواسعة التي كانت تجتاح فلسطين.
تابعت الجمعية خطها الإصلاحي واليميني الانتهازي في فصل العمل النضالي عن العمل السياسي وعملت جهدها من أجل تحويل الحركة النقابية العربية الفلسطينية إلى حركة تعاونية وحسب، فأخذت تروج لحلول وهمية تقوم على نشر روح العمل التعاوني كأساس لحل مشكلة البطالة والأجور وارتفاع الأسعار وتفاقم الأوضاع الاقتصادية، هذا في الوقت الذي كان يجب فيه تشديد النضال لربط العمل النقابي بإحكام بالغ من النضال الوطني السياسي ولرفع وتيرة التعبئة السياسية والطبقية في صفوف العمال العرب لانتزاع حقوقهم من أرباب العمل أصلا من ناحية وللتصدي للمشروع السياسي الخطير، الذي كان يتهدد فلسطين ومستقبل الشعب الفلسطيني . ولم يعبر الاتجاه الإصلاحي واليميني الانتهازي لقيادة جمعية العمال العربية الفلسطينية عن هذه الحدود بل تجاوزها في مساومات خطيرة مع سلطات الانتداب، التي اتخذت على امتداد سنوات الانتداب موقفا عدائيا صريحا من الحركة النقابية العربية ورفضت حتى الاعتراف بها كحركة نقابية تمثل جماهير العمال العرب. فبالرغم من حرمان فلسطين على امتداد سنوات الانتداب من التشريعات العمالية وبالرغم من عدم اعتراف سلطات الانتداب بالنقابات العربية كنقابات شرعية، وبالرغم من التمييز في المعاملة بين الهستدروت ، اتحاد العمال اليهودي، جمعية العمال العربية، التي سارت عليها سلطات الانتداب، فقد اتخذت قيادة الجمعية موقفا يمينيا انتهازيا في شهادتها أمام اللجنة الأنجلو- أميركية للتحقيق في أوضاع فلسطين 1946 ، إذ جاءت تلك الشهادة تؤكد ان النقابات تتمتع بجميع الحريات وان الضغط البوليسي قد رفع عنها نتيجة لمساعي دائرة شؤون العمل "120".
ونتيجة لمجمل هذا المواقف اليمينية الانتهازية لقيادة جمعية العمال العربية الفلسطينية، فقد عجزت الجمعية عن التحول إلى حركة نقابية عربية واسعة الانتشار وفاعلة في الوسط العمالي الفلسطيني، ولذا فإنها لم تستقطب في أفضل فترات نشاطها أكثر من 15 ألف عضو، عضوية العديد منهم شكلية، اذ هي لم تكن تتجاوز حدود الانتساب إلى الجمعية دون أن يترتب على هذا الانتساب دور إيجابي فاعل في حياة النقابة والحركة النقابية. وبسبب ذلك كان الانقسام في صفوف الحركة النقابية العربية في فلسطين أمرا حتميا، خاصة بعد أن شددت قيادة الجمعية من قيودها على عمل القوى والعناصر الديمقراطية والتقدمية في الجمعية وبعد أن تجاوزت على الأصول والتقاليد النقابية الديمقراطية وعطلت الحياة والممارسة الديمقراطية في الجمعية وهيئاتها والنقابات المنضوية تحت لوائها. فقيادة الجمعية لم تكتف بفصل العمل النقابي عن العمل السياسي، بل وضعت حواجز منيعة في وجه كل دور سياسي وطني للحركة النقابية العربية الفلسطينية، هذا في الوقت الذي كانت تتفاقم فيه الصراعات والصدامات حول المستقبل السياسي لفلسطين. وقيادة الجمعية لم تكتف أيضا بفرض حاله من الشلل على دور الحركة النقابية العربية الفلسطينية في الصراعات الاجتماعية الحادة، وفي نزاعات العمل في ظل تردي الأوضاع المعيشية للطبقة العاملة الفلسطينية، بل هي تجاوزت ذلك باتجاه حرف أنظار الطبقة العاملة عن مصادر الخطر التي كانت تتهددها في واقعها المعيشي المتردي وفي مستقبلها السياسي أيضا. وهكذا كانت قيادة الجمعية تدفع بالأوضاع في الحركة النقابية الفلسطينية نحو الانقسام. وعندما حصل الانقسام وتأسست حركة نقابية جديدة بقيادة الشيوعيين الفلسطينيين عام 1946، علق سامي الأمين العام لجمعية العمال العربية الفلسطينية، فقال: لقد نجونا بحركتنا النقابية من الانزلاق نحو التيارات والحزبية "121".
مؤتمر العمال العرب/ حركة نقابية جذرية جاءت متأخرة
في مطلع الأربعينات أخذت ظاهرة جديدة تشق طريقها في تاريخ الحركة العمالية والنقابية العربية في فلسطينـ تجسدت في محاولات جادة لتجاوز حالة الانفصال بين الحركة النقابية وبين حزب الطبقة العمالية. فعلى امتداد سنوات العشرينات والثلاثينات سيطرت على الحركة النقابية العربية في فلسطين قيادة برجوازية صغيرة إصلاحية تماما. ولم يكن للحزب الشيوعي الفلسطيني دور يذكر في نضالات تلك الحركة. ذلك لا يعني ان الحزب الشيوعي كان بعيدا عن نضالات الطبقة العاملة ونقاباتها، على العكس من ذلك. فقد كان الحزب كتلة عمالية نشيطة في الاتحاد العام للعمال اليهود – الهستدروت – وكان له نفوذ جيد في عدد من النقابات وخاصة في النقابات الرئيسية ومنها نقابة عمال السكك الحديدية الفلسطينية، وكان له بعض النفوذ في جمعية العمال العربية الفلسطينية بفعل نشاط بعض كوادره وأنصاره العرب في نقابات الجمعية. غير أنه لم يتبلور للحزب تيار عمالي ذو نفوذ وفعالية جماهيرية ملموسة في الحركة النقابية العربية الفلسطينية قبل الأربعينات. وفقط في مطلع الأربعينات بدا الحزب يشق طريقه بفعالية جماهيرية بارزة في صفوف الطبقة العاملة العربية الفلسطينية بفعل عاملين بارزين، عبر الأول عن نفسه باستقلال الشيوعيين العرب في حزب شيوعي وأممي متميز عن الحزب الشيوعي الأم. وعبر الثاني عن نفسه بحالة التناقض البارز الذي ساد صفوف جمعية العمال العربية الفلسطينية بفعل تخلف بنى الجمعية وسياساتها وممارستها عن المستوى الحاد الذي بلغته الصراعات على المستوى السياسي الوطني والمستوى الاجتماعي والنقابي المطلبي.
فقد عاش الحزب الشيوعي الفلسطيني حالة من التناقض بين مهامه كحزب وطني فلسطيني وأممي يوحد في صفوفه الشيوعيين العرب واليهود وبين واجبات تعريب هياكله وسياسته على النحو الذي يمكنه من الاضطلاع بدوره الوطني ضد الاستعمار البريطاني ومخططات الحركة الصهيونية والوكالة اليهودية والقوى الرجعية العربية عميلة الاستعمار البريطاني. ورغم الجهود التي بذلها الحزب لتوسيع صفوفه في أوساط العمال والفلاحين العرب، فقد كان تطور مستوى التناقض مع الامبريالية البريطانية ومشروع الوطن القومي يفوق مستوى تلك الجهود خاصة وأن الحزب لم يتمكن من التخلص تماما من بقايا النزعات اليمينية الانتهازية لبعض قياداته. بدأت منذ نهاية الثلاثينات ومطلع الأربعينات تتشكل داخل الحزب تكتلات عربية ويهودية تتعايش في إطار الحزب وتحت قيادة لجنته المركزية، التي بذلت تحت قيادة الأمين العام للحزب رضوان الحلو جهودا للحفاظ على وحدة الحزب والحيلولة دون الانشقاق في صفوفه. وكان واضحا تماما أن الحزب بدا منذ مطلع الأربعينات يفقد وحدته التنظيمية. وبصرف النظر عن العوامل التي قادت إلى الانقسام وإلى قيام حزبين شيوعيين في فلسطين كان أحدهما عصبة التحرر الوطني. وبصرف النظر كذلك عن المراجعة التي أجراها الحزب لتجربة الانقسام وتأسيس عصبة التحرر الوطني، فإن واقعا جديدا أخذ يفرض نفسه على الحركة النقابية العربية الفلسطينية، وكان للشيوعيين الفلسطينيين العرب دور بارز في ذلك الواقع الجديد. ففي العام 1942 تأسست في حيفا مجموعة " شعاع الأمل" بقيادة كل من توفيق طوبي وامبل توما وهما من عناصر القيادة الشيوعية البارزة في فلسطين آنذاك. كما تأسست في العام نفسه مجموعة " نادي الشعب" تعمل بتوجيه من اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الفلسطيني بينما مثلت مجموعة " شعاع الأمل" خطا مستقلا. وكان العمل الأبرز الذي أقدمت عليه مجموعة شعاع الأمل هو تأسيس " اتحاد نقابات وجمعيات العمال العرب" في نهاية العام 1942. وقد تمكنت تلك المجموعة من بناء نقابات لعمال شركة شل وشركة نفط العراق وعمال شركة التكرير في حيفا وعمال البناء في حيفا وعمال دائرة الاشغال.
ولم يتفق خط مجموعة "نادي الشعب" في هذا الشأن مع خط مجموعة " شعاع الأمل " فتوجهت بتوجيهات من اللجنة المركزية للعمل على إعادة تنشيط جمعية العمال العربية الفلسطينية، حيث بذلت مجموعة " نادي الشعب" جهودا كبيرة في إعادة تنشيط الجمعية وفي إحياء العديد من نقاباتها، التي تراجعت أوضاعها كثيرا بسبب التراجع الكبير في دور قيادة الجمعية، ونجحت جهودها المشتركة مع قيادة الجمعية في عقد مؤتمر الجمعية في يافا عام 1942. شارك في ذلك المؤتمر قادة شيوعيون بارزون مثل عبد الله البندك، اميل حبيبي وحسن يحيى أبو عيشة، وخالد الزعموري، وخليل شنتير واخرون، وكان لهؤلاء القادة الشيوعيين دور بارز في إعادة استنهاض جمعية العمال العربية الفلسطينية، التي قفز عدد أعضائها خلال فترة وجيزة إلى حوالي ثلاثين ألف عضو. غير أن دور مجموعة " نادي الشعب" لم يستمر طويلا في جمعية العمال العربية الفلسطينية بسبب النهج الإصلاحي اليميني الانتهازي لقيادتها وبسبب تجاهل تلك القيادة للأعراف والتقاليد النقابية الديمقراطية وإصرارها على مصادرة الحقوق النقابية الديمقراطية لأعضائها ولفروع الجمعية من خلال التمسك بمواقع السلطة والتقرير ومقاومتها لأية عملية تغيير في واقع الجمعية وفي سياستها وممارستها الوسطية واليمينية. وهكذا ما أن حل آب 1945 حتى كان الانقسام حتميا بين الاتجاه الإصلاحي اليميني الذي كان يقوده سامي طه أمين عام الجمعية وبين الاتجاه الديمقراطي الثوري، الذي كان يقوده الشيوعيون الفلسطينيون، ففي آب عقد مؤتمر عمالي شارك فيه " اتحاد نقابات وجمعيات العمال العرب"، الذي كانت مجموعة " شعاع الأمل" تقوده، وممثلون عن النقابات التي انفصلت عن جمعية العمال العربية وهي نقابات يافا، غزة، الناصرة، والمجدل، وممثلون أيضا عن تجمعات عمالية في كل من عكا، نابلس، بيت جالا، الخليل، ورام الله. حيث أعلن المؤتمر عن تشكيل حركة نقابي عربية جديدة، هي مؤتمر العمال العرب. وبعد شهرين من المؤتمر حل " اتحاد نقابات وجمعيات العمال العرب" نفسه واندمج في الحركة النقابية الجديدة.
وهكذا تكرس في الوسط العمال العربي حركتان نقابيتان، الأولى جمعية العمال العربية الفلسطينية والثانية مؤتمر العمال العرب، فهل كل الانقسام أمرا حتميا. تجربة مؤتمر العمال العرب، كحركة نقابية تقودها عصبة التحرر الوطني تجيب على ذلك، فما الذي مثلته تلك التجربة في تاريخ الحركة النقابية الفلسطينية:
على الصعيد السياسي الوطني
شكلت تجربة مؤتمر العمال العرب نموذجا متقدما لنضال الطبقة العاملة العربية في فلسطين تجاوز النموذج الإصلاحي واليميني الانتهازي الذي شكلته تجربة جمعية العمال العربية الفلسطينية، إذ في الوقت الذي كانت تعلن فيه الجمعية حيادها السياسي وتقف موقفا رجعيا في جوهره من المزج بين العمل السياسي والعمل النقابي وتعارض تسييس الجمعية ونقاباتها وتقاوم العمل الحزبي في أطرها التنظيمية كان مؤتمر العمال العرب ينطلق من مواقف سياسية وفكرية مختلفة. بل ومناقضه تماما للمواقف السياسية الفكرية لقيادة الجمعية. فمؤتمر العمال العرب قام كحركة نقابية عمالية بمبادرة قوة سياسية هي عصبة التحرر الوطني، أو أنويتها الوافدة من الحزب الشيوعي الفلسطيني، ولذا فقد تفاعل مع الأحداث السياسية لا باعتباره حركة نقابية محايدة وحسب بل باعتباره منظمة جماهيرية ديمقراطية تناضل تحت راية حزب عمالي طليعي. قيادة الجمعية كانت تقلل من الدور السياسي للجمعية كحركة نقابية، أما قيادة مؤتمر العمال العرب فلم يكن هذا موقفها بل كانت مع جماهير العمال المنضوين تحت لواء المؤتمر تعتبر نفسها الرديف الكفاحي لخط عمل العصبة سياسيا. وكان الخط العام الذي تحكم في سياسة عصبة التحرر الوطني حول المسالة الوطنية وتحكم بالتالي في سياسة مؤتمر العمال العرب يستند إلى ركيزتين رئيستين، النضال من أجل وحدة جميع القوى الوطنية العربية المناهضة للاستعمار البريطاني ومخططات الحركة الصهيونية والوكالة اليهودية في فلسطين من ناحية والدعوة إلى نضال حازم من أجل الاستقلال الوطني الناجز لسكان فلسطين في دولة ديمقراطية تتسع للعرب واليهود معا. وهكذا في الوقت الذي كنت تطرح في عصبة التحرر الوطني على الهيئة العربية العليا وجميع القوى والأحزاب الوطنية العربية مشروعها لبناء جبهة وطنية متحدة كان مؤتمر العمال العرب يطرح هو الآخر مشروعا لوحدة الحركة النقابية العربية بكونفدرالية عمالية تضم المؤتمر وجمعية العمال العربية الفلسطينية. وقد حققت دعوة العصبة تلك نجاحا مؤقتا باللقاء الوطني الذي شارك فيه أحزاب الاستقلال والإصلاح والدفاع ومؤتمر العمال العرب ومؤتمر الشباب العرب، والذي أسفر عن تشكيل " الجبهة العربية العليا" في الثاني من حزيران 1946 "122". وأكدت " الاتحاد " صحيفة العصبة، أن الجبهة العربية خطوة فاصلة نحو توحيد الجهود وأضافت " لقد فتحت هذه الجبهة عملها بقرارين تاريخيين، أقرت دستورا ديمقراطيا وسارت على أساليب شعبية وطالبت برفع قضية فلسطين إلى مجلس الأمن ورفضت سياسة المساومة والتفاوض مع الاستعمار "123". غير أن ذلك النجاح لم يدم طويلا فقد تدخلت جامعة الدول العربية ودعت إلى حل تلك الجبهة والاستعاضة عن ذلك العمل بالهيئة العربية العليا، التي عادت تكرس التحالف الطبقي الرجعي بين البرجوازية وكبار الملاك كقيادة وطنية للشعب الفلسطيني. ومع ذلك تابعت العصبة نضالها بدعمها مؤتمر العمال العرب وطالبت في حملة جماهيرية واسعة الهيئة العربية العليا بضرورة الاستجابة إلى تنظيم الحركة الوطنية على أسس تمثيلية بحيث يشارك في قيادتها العمال والفلاحون والموظفون والتجار وأرباب العمل والمحامون والأطباء، لتوحيد طبقات الشعب وفئاته الاجتماعية الوطنية في جبهة وطنية عريضة تتحمل مسؤولياتها في مقاومة الاستعمار لا مهادنته، ففلسطين لن ينقذها كما كانت تؤكد العصبة في مواقفها " إلا سياسة شعبية ديمقراطية ، فارجعوا إلى الشعب واعقدوا المؤتمر الوطني الذي يزيل البلبلة "124". ولم تجد سياسة العصبة تلك طريقها إلى النجاح أمام إصرار الهيئة العربية العليا على سياستها وارتهانها للأوضاع العربية التابعة والخاضعة للإمبريالية. وكما فشل مشروع عصبة التحرر الوطني لبناء جبهة وطنية عريضة لمواجهة الاستعمار البريطاني ومخططات الحركة الصهيونية والوكالة اليهودية بسبب الخيارات السياسية الرجعية للهيئة العربية العليا، فقد فشلت دعوة مؤتمر العمال العرب لبناء كونفدرالية عمالية عربية توحد جهود المؤتمر وجمعية العمال العربية الفلسطينية بسبب تعنت قيادة الجمعية ورفضها لأي عمل موحد مع المؤتمر. فالسياسة الوطنية الوحدوية لعصبة التحرر الوطني ومؤتمر العمال العرب جوبهت ليس فقط بعدم القبول من الهيئة العربية العليا وجمعية العمال العربية الفلسطينية بل وكذلك بحملة واسعة ضد العصبة والمؤتمر استهدف النيل من نضالهما ومواقفهما الوطنية.
وكان التمايز واضحا تماما في الدعوة إلى النضال من أجل جلاء القوات البريطانية عن فلسطين بين العصبة والمؤتمر من ناحية وجمعية العمال العربية الفلسطينية، التي أصبحت منذ العام 1945 ممثلة في الهيئة العربية العليا. كانت عصبة التحرر الوطني ومعها مؤتمر العمال العرب تدعو لنضال حازم ضد الاستعمار البريطاني الصهيونية ومن أجل تحرر واستقلال فلسطين. وانطلاقا من النضال الحازم لتحرير واستقلال فلسطين، صاغت العصبة ومعها المؤتمر موقفها من مسالة التعايش بين العرب واليهود في دولة فلسطين موحدة، فأكدت:" أن النضال الديمقراطي ضد الامبريالية في فلسطين هو من اجل التحرر. من هنا تتقدم العصبة بالحل الديمقراطي الوحيد عندما تنادي بجلاء القوات الأجنبية وبإنشاء دولة فلسطينية حرة ديمقراطية، تستطيع أن تضمن الحقوق المدنية والديمقراطية لمواطنيها على السواء. وتعترف العصبة لدى تقديمها هذا الحل بالحاجة إلى حماية حقوق اليهود الموجودين حاليا في فلسطين وتعترف كذلك أن هذه الحقوق لا يمكن حمايتها إلا في دولة فلسطينية حرة مستقلة". لقد كان هذا التقدير عاملا على حث مؤتمر العصبة الذي عقد منذ ثلاثة أسابيع (ايار1947) على إصدار بيان لتحذير جماهير اليهود من اتباع سياسة الصهيونية العدوانية، التي تهدف إلى إنشاء دولة يهودية في فلسطين. إن دولة كهذه لن تكون إلا قاعدة للاستعمار الأنجلو – امريكي، الذي يستعد في الوقت الحاضر لكي يقضي على نضال الأقطار العربية "125".
صحيح أن مواقف وسياسات عصبة التحرر الوطني لم تتطرق بعمق إلى المسألة القومية التي كانت تطرح نفسها بحده في فلسطين آنذاك، خاصة بعد أن وصل عدد السكان اليهود إلى حوالي 650 ألف شكلوا دون شك أقلية قومية لها مميزاتها الخاصة وبعد أن بدأت مشاريع تقسيم فلسطين تطرح نفسها على مساحة العمل الدولي، غير أن تلك المواقف والسياسات كانت متقدمة دون شك عن مواقف وسياسات الهيئة العربية العليا وجمعية العمال العربية الفلسطينية وأكثر واقعية. فقد انطلقت مواقف وسياسات العصبة ومعها مؤتمر العمال العرب من حقائق الحياة المادية التي فرضت نفسها على فلسطين، واستمرت تلك المواقف والسياسات تتمسك بهدف الدولة المستقلة في فلسطين. دولة للعرب واليهود دون تمييز في الحقوق المدنية والديمقراطية، وتتماشى بحذر الغوص في معالجات للمسالة القومية، غير أن تلك المواقف والسياسات تمايزت تماما عن مواقف وسياسات الهيئة العربية العليا وجمعية العمال العربية، التي سقطت تماما في الفخ الامبريالي – الصهيوني، الذي كان يدفع بالتناحر بين العرب واليهود إلى حدود إلغاء كل كيان سياسي مستقل للشعب الفلسطيني وإلى تقسيم واقتسام فلسطين بين الدولة اليهودية، التي تعهدها وعد بلفور وبين الرجعية العربية التابعة والخاضعة تماما لمشيئة الامبريالية البريطانية والأميركية. وفي الوقت كان فيه مؤتمر العمال العرب يؤكد في دستوره الصادر في أوائل 1946 على التعاون والنضال المشترك لجميع العمال في فلسطين بغض النظر عن القومية أو الدين أو المعتقد السياسي ويؤكد في احتفالات أول أيار 1946 أن واجب العمال اليهود في فلسطين يجب أن يستند إلى العمل من أجل تحرير أنفسهم من عبوديتهم للمستغلين الصهاينة ومن أجل عدم السماح للاستعمار البريطاني باستعمالهم كأداة في صراعه مع حركة التحرر القومي للشعوب العربية، ويطالب بإقامة دول ديمقراطية في فلسطين للعرب واليهود دون تمييز في الحقوق المدنية والديمقراطية"126"، كانت جمعية العمال العربية الفلسطينية تسير على خطى الهيئة العربية وتعلن من خلال مؤتمرها الذي انعقد في آب 1947، إن اليهود الذين كانوا يقيمون في فلسطين قبل 1918 وكذلك نسلهم يعتبرون مواطنين يتمتعون بكافة الحقوق، أما اليهود الذين كانوا يقيمون في فلسطين بدون موافقة أهلها، فقد أوصى المؤتمر بطردهم من فلسطين "127". وهكذا يتضح التمايز الفعلي بين السياسة الواقعية، التي سارت عليها عصبة التحرر الوطني وكذلك مؤتمر العمال العرب والسياسة اللفظية، التي سارت عليها جمعية العمال العربية الفلسطينية في معالجة القضية الوطنية الفلسطينية على أبواب الهزة السياسية العنيفة، التي أصابت الوضع الفلسطيني عام 1948. وإذا كانت العصبة ومعها مؤتمر العمال العرب قد تحاشت اتخاذ موقف صريح من المسالة القومية، التي كانت تفرض نفسها على فلسطين قبيل جلاء القوات البريطانية عنها، فقد جاء قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة في تشرين الثاني 1947 وقبل بضعة أشهر من النكبة الفلسطينية وتأسيس دولة إسرائيل، ليطرح على العصبة والمؤتمر واقعا جديدا ومسارا جديدا بات معروفا للجميع. غير أن الهام هنا وفي سياق مراجعة التاريخ النضالي الوطني للطبقة العاملة الفلسطينية هو التأكيد على أن التجربة الزمنية القصيرة في الكفاح الوطني للعصبة ولمؤتمر العمال العرب، أي لحزب الطبقة العاملة الفلسطينية في بعض سنوات الأربعينات وأداته النقابية الكفاحية، كانت غنية بدروسها، كانت أغنى وانضج دون شك من تجربة طويلة مرت بها جمعية العمال العربية الفلسطينية ولم تترك في تاريخ الطبقة العاملة غير درس عظيم الأهمية هو خطا الفصل بين العمل النقابي والعمل السياسي ودرس آخر أعظم هو فداحة النتائج التي تترتب على الانفصال بين الحركة النقابية للطبقة العاملة وبين حزبها الطبقي وطليعتها وفصيلها الصدامي المتقدم. فالفصل بين العمل النقابي والعمل السياسي بالنسبة لأية حركة نقابية يحولها إلى حركة إصلاحية يمينية انتهازية وخاضعة لكل اشكال التضليل البرجوازي، أما الانفصال بين الحركة النقابية للطبقة العاملة وبين حزبها الطبقي الطليعي وفصيلها الصدامي فإنه يحرم الحركة الجماهيرية بطموحها المشروع نحو التغيير والثورة من هيئة أركانها ويشل طاقاتها الكفاحية العظيمة.
وعلى صعيد تكريس الديمقراطية في حياة الحركة النقابية شكلت تجربة مؤتمر العمال العرب تجربة متقدمة على تجربة جمعية العمال العربية الفلسطينية. فقد مثلت مسألة الديمقراطية في حياة الحركة النقابية عنصر خلاف حاد بين قيادة الجمعية وبين عدد من فروعها وعدد من الكوادر النقابية ذات الاتجاهات الديمقراطية الثورية والتقدمية. ولم تكن المسألة الديمقراطية محصورة في هذا المجال في القيود التي كانت تفرضها قيادة الجمعية على نشاط الاتجاه الديمقراطي الثوري والتقدمي في الجمعية، كما حصل في مؤتمر العمال العرب 1930، حين منع قادة هذا الاتجاه من التعبير بحرية عن مواقفهم السياسة ومواقفهم من الفصل التعسفي الذي فرضته قيادة الجمعية بين العمل الثقافي والعمل السياسي، كما لم تكن المسألة الديمقراطية محصورة في القيود التي كانت تفرضها قيادة الجمعية على نشاط الاتجاه الديمقراطي الثوري والتقدمي، الذي كان يناضل لبلورة الهوية الطبقية للجمعية كحركة نقابية كفاحية واسعة للجماهير العمالية، بل إن الخلاف حول هذه المسالة تجاوز كل ذلك وامتد ليشمل البديهيات في كل عملية تنظيمية. فقد تجاهلت قيادة الجمعية ابسط الأعراف والتقاليد النقابية الديمقراطية وألغت كل دور للعملية الديمقراطية في الحياة الداخلية للحركة النقابية. وعلى امتداد سنوات عملها الطويلة لم تعقد الجمعية أكثر من ثلاث مؤتمرات، ولم تشجع هذه العملية الديمقراطية في فروع هذه الجمعية كذلك. الأمر الذي كان له نتائج في غاية السلبية على أوضاعها ومهماتها. فبغياب الديمقراطية في الحياة الداخلية والتنظيمية للجمعية تم شل فعالية الجمعية وفروعها وباعد بينها وبين جماهير العمال. وإذا كان الفصل التعسفي بين العمل النقابي والعمل السياسي من ناحية وضعف المشاركة في النضالات المطلبية والسياسة الوطنية من ناحية ثانية قد باعد بين الجمعية والجماهير العمالية، فإن تغييب العملية الديمقراطية في الحياة الداخلية والتنظيمية للجمعية قد ساهم في توسيع الهوة بين الجمعية والجماهير العمالية إلى الحد الأدنى تراجعت فيه العضوية في الجمعية إلى حوالي 700 عضو في مطلع الأربعينات. قيادة الجمعية لم تكن تعي خطورة هذه المسألة لأنها لم تميز بدقة بين عضوية الانتساب وحسب، وهي حالة سلبية بحد ذاتها، وبين عضوية تجدد ذاتها وتتوسع باستمرار من خلال المشاركة الإيجابية لجمهور الأعضاء في صياغة مواقف وسياسات فروع الجمعية وصياغة مواقف وسياسات الجمعية ككل من خلال مؤتمرات الفروع ومن خلال مؤتمرات الفروع ومن خلال مؤتمرات الفروع ومن خلال المؤتمرات الوطنية للجمعية. ولم تدرك قيادة الجمعية أن المصادر التي تشكلت منها الطبقة العاملة الفلسطينية لسنوات العشرينات والثلاثينات والأربعينات تحتاج إلى وتيرة عالية من الفعالية النقابية لتطوير حالة العضوية بالانتساب، وهي حالة سلبية بحد ذاتها، نحو حالة أرقى تعبر عن المشاركة الإيجابية لجمهور الأعضاء في مهام النقابة ومهام الجمعية. فالجمهور الأوسع من العمال جاء من القرية الفلسطينية والجمهور الأقل جاء من المهن والحرف التي حولها تطور الرأسمالية في فلسطين إلى صفوف الطبقة العاملة. ومعروف جيدا ما تحمله مصادر هذه العمالة من تقاليد ومن مزايا بعيدة عن تقاليد ومزايا الطبقة العاملة الصناعية، التي نشأت وتوسعت في سياق تطور العملية الإنتاجية الصناعية. فمن أجل الحفاظ على وتيرة تطور وتوسع ملموس في الحركة النقابية الفلسطينية آنذاك كان يجب رفع وتيرة النضال من أجل بلورة الهوية الطبقية للحركة وكان يجب رفع وتيرة النضال من أجل تنشيط النقابات التابعة للجمعية والمضي بعيدا في العملية الديمقراطية في الحياة الداخلية والتنظيمية لها لتكون قيادة كل فرع وقيادة الجمعية على تماس مباشر مع جمهور العمال المنضوين تحت راية النقابة والجمعية. ومثل هذه العملية لا تتوفر بتغيب الديمقراطية والمؤتمرات النقابية الدورية بل بتعزيزها وتنشيطها. ولم تلجأ جمعية العمال العربية الفلسطينية إلى تكريس مثل هذه التقاليد في فروعها أو على مستوى تنظيمها القطري ككل ، بل هي لجأت إلى النقيض تماما، فكرست على رأس الجمعية قيادة بيروقراطية ساهم اتجاهها الإصلاحي واليميني الانتهازي في تعزيز سيطرة عناصر البرجوازية الصغيرة على قمة الهرم التنظيمي لحركة نقابية، فمن الطبيعي أن يتوقع المرء غياب التقاليد النقابية الكفاحية، فمصالح العناصر البرجوازية الصغيرة لا تتلاءم مع هذه التقاليد، وعندما تسيطر عناصر البرجوازية الصغيرة على قمة الهرم التنظيمي لحركة نقابية، فمن البديهي كذلك أن يتكرس خط إصلاحي يدعو إلى فصل العمل النقابي عن العمل السياسي وان يسود منطق الحياد في الصراع الاجتماعي وان تشتد مقاومة هذه العناصر لكل اتجاه يطالب بتجديد الهوية الطبقية للحركة النقابية، وأن يتراجع عامل الشعور بالوحدة المتنامية التي تجمع العمال المنضوين تحت راية الحركة، وهذا ما أكدته تجربة الإضراب العمالي العام الكبير في نيسان 1946 الذي شمل الدوائر والمؤسسات الحكومية والعامة وشارك فيه أكثر من خمسين ألف عامل وموظف، والذي لعبت فيه جمعية الموظفين العرب في قطاع الحكومة كاسر الإضراب"128" وكان ذلك الإضراب قد شل أعمال حكومة الانتداب في الدوائر الحكومية وسكك الحديد والخدمات البريدية والموانئ والإذاعة وغيرها من الدوائر والمؤسسات الحكومية والعامة.
ولا تقف خطورة تغييب الديمقراطية في حياة الحركة النقابية بشكل عام عند هذه الحدود. بل هي تتجاوزها باتجاه تعويم العضوية في الحركة النقابية واعتبار العمال بشكل عام أعضاء في الحركة دون أن يترتب على العضوية أية اشتراطات أو مهمات. وهكذا تتضخم أعداد العضوية في ذهن القيادة البيروقراطية وتتدنى في الوقت نفسه الفعالية الكفاحية للحركة النقابية، وهذا تماما ما كان يحصل مع جمعية العمال العربية الفلسطينية. خير شاهد على ذلك هو التضارب الواسع حول عدد الأعضاء الذين انضموا فعلا لجمعية العمال العربية الفلسطينية. فتقرير مؤتمر آب 1946 للجمعية يقدر عدد الأعضاء للجمعية يقدر عدد الأعضاء بحوالي 89 ألف عضو"129"، بينما يشير مصدر آخر أن عدد أعضاء الجمعية لم يتجاوز 35 ألف عامل تقريبا"130" ويشير مصدر آخر أن عدد أعضاء الجمعية لم يتجاوز 15 ألف عضو آنذاك"131" وبصرف النظر عن الحجم الحقيقي للجمعية آنذاك. فإن الاختلاف في التقدير يشير إلى ناحية سلبية بارزة لا تتصل فقط بتضارب الأرقام حول عدد العضوية التي بل وأساسا بالفعالية النقابية للجمعية وفروعها، فإذا افترضنا صحة أرقام العضوية التي أشار إليها تقرير مؤتمر آب 1946، بدا واضحا الهوة التي كانت تفصل بين ذلك الحجم وفعاليته النقابية، وإذا افترضنا صحة ما ورد في حديث سامي طه، الأمين العام للجمعية، أمام اللجنة الأنجلو أمريكية، بدا واضحا الفارق الواسع بين العضوية الفاعلة وكانت على الأرجح 15 ألف عامل والعضوية الفضفاضة التي تضمنها تقرير مؤتمر آب. هذه الفوارق بين حجم العضوية والفعالية النقابية من ناحية وبين العضوية الفاعلة والعضوية الفضفاضة من ناحية ثانية لا تبرز في أي عمل تنظيمي بما في ذلك عمل الحركة النقابية إذا ساد العمل جو من الديمقراطية الحقيقة ومن الحرص على التقاليد والأعراف التنظيمية.
تجربة مؤتمر العمال العرب، التي لم تدم أكثر من ثلاث سنوات كانت مختلفة عن تجربة جمعية العمال العربية ومتقدمة عليها. ففي تلك السنوات عقد المؤتمر ثلاثة مؤتمرات قطرية انعقد الأول في آب 1945 والثاني في شباط 1946 والثالث والأخير في أيلول 1947، وكانت تلك المؤتمرات منبرا عماليا كفاحيا عبرت فيها الطبقة العاملة الفلسطينية عن هويتها الطبقية الواضحة، وتكرست المؤتمرات باعتبارها عقلها الجماعي، الذي يصوغ لها برامجها الوطنية السياسية والاجتماعية والمطلبية. ومن تلك المؤتمرات كانت تنبثق قيادة مؤتمر العمال العرب بانتخابات ديمقراطية يشارك فيها مندوبو فروع المؤتمر. وكانت المؤتمرات القطرية لمؤتمر العمال العرب ترفضن اعتماد أي مندوب لا يحمل تفويضا من نقابته وقاعدتها العمالية يؤكد حقه في المشاركة في تلك المؤتمرات، فتكرست بذلك الرقابة الحقيقية للعمال على المندوبين والمشاركة الديمقراطية للعمال في المؤتمرات، فلم يكن المندوبون يشاركون في أعمال المؤتمرات القطرية بصفة شخصية ولا بصفتهم مندوبون عن إطار عمالي هلامي أو فضفاض أو بصفتهم مندوبين معنيون، بل بصفتهم التمثيلية النابعة من الاختيار الحر لجمهور النقابة التي اختارتهم لتمثليها في المؤتمر.
وأتاحت التجربة القصيرة والغنية لمؤتمر العمال العرب فرصة جيدة للمرآة الفلسطينية لتشارك في الحركة النقابية وهيئاتها القياد بها المركزية ، حيث انتخب المؤتمر القطري الثاني لمؤتمر العمال العرب أملي البندك عضوا في اللجنة المركزية لتلك الحركة النقابية تقديرا لدور المرأة في العمل النقابي وتعبيرا عن مساواتها بالرجل في تحمل أعباء المسؤوليات الوطنية والاجتماعية والمطلبية الملقاة على عاتق الحركة النقابية . وتجلت الأهمية الخاصة لاتساعه الديمقراطية النقابية في عمل مؤتمر العمال العرب بالنتائج التي كانت تنخفض عنها مؤتمراته القطرية وبالالتفاف العمالي السريع حول تلك الحركة النقابية فكانت قرارات المؤتمرات القطرية أصدق معبر عن طموحات الطبقة العاملة الفلسطينية، خاصة وأن المؤتمرات كانت تعقد في أجواء من التحضيرات الجيدة ومن العمليات التعبوية الواسعة، وأبرز مثال على ذلك الشعارات التي كانت تعقد تلك المؤتمرات في ظلها ، تلك الشعارات ، التي كانت تؤكد على ضرورة بناء الحركة النقابية على أسس ديمقراطية ، وعلى توحيد نضال العمال العرب في فلسطين والنضال من أجل رفع مستوى اقتصاديا وثقافيا واجتماعيا، وعلى ضرورة التعاون مع الأحزاب السياسية والهيئات الوطنية التي تعمل لحركة فلسطينية واستقلالها وتعمل ضد الاستعمار البريطاني ومخططات الحركة الصهيونية والوكالة اليهودية. كما كانت تلك المؤتمرات تؤكد على ضرورة توثيق العلاقات مع الحركات النقابية في البلدان العربية ومع اتحاد النقابات العالمي وليس اتحاد النقابات الحر، كتعبير عن اختيار العمال الفلسطينيين لموقفهم الطبقي والسياسي على المستوى الإقليمي والدولي. وعلى قاعدة هذا البرنامج النقابي النضالي صاغ المؤتمر مواقفه وسياساته اليومية في صفوف العمال العرب في فلسطين فازداد التفاف العمال حول تلك الحركة النقابية حتى وصل حجم عضويتها حوالي 18 ألف عام 1946 من العمال المؤطرين في نقابات حقيقية تمارس دورها في العملية الوطنية وفي الدفاع عن حقوق ومصالح الجماهير العمالية. ولم تكن مؤتمر العمال العرب ليحرز قبل ذلك الالتفاف الجماهيري العمالي لو أن هيئاته القيادية النقابية مارست تجاه جمهورها العمالي سياسة تسلطية، بل إن المؤتمر حقق هذا النجاح لأنه مارس مع الجماهير العمالية سياسة تستند إلى درجة متقدمة من التعبئة الوطنية والطبقية وتستند إلى قواعد ديمقراطية صريحة في العلاقة مع الجماهير العمالية تستنهض اهتمام العمال بالحركة النقابية وتعبد الطريق أمام انخراطهم الواسع في صفوفها. وأثبتت تجربة مؤتمر العمال العرب أن للممارسة الديمقراطية النقابية دور رئيسي في استنهاض همم العمال وفي إقبالهم الطوعي غلى تنظيم النقابي باعتباره أداه كفاحهم لتحسين ظروف معيشتهم وضمان مستقبلهم
وعلى صعيد الاهتمام بالنضالات المطلبية للطبقة العاملة الفلسطينية وربطها بالنضالات الوطنية السياسية. فقد تقدمت التجربة القصيرة لمؤتمر العمال العرب على تجربة جمعية العمال العربية الفلسطينية، فمنذ البداية حدد المؤتمر موقفه في الترابط الواسع بين النضالات المطلبية لتحقيق هدفين مركزيين ، الأول تحسين ظروف حياة ومعيشة العامل العربي الذي كان يعاني من البطالة وتدني الأجور وارتفاع تكاليف المعيشة، ويعاني من اضطهاد سلطات الانتداب وعدم اعترافها بشرعية منظماته النقابية وتخلف تشريعات العمل ومن سياسة الحصار التي ترتبت على تطبيق الوكالة اليهودية والهستدروت لمبدأ العمل العربي في المنشآت الإنتاجية الزراعية والصناعية اليهودية ، والثاني توظيف النضال على طريق هذا الهدف لمزيد من انخراط الطبقة العاملة العربية الفلسطينية في العملية الوطنية ضد الانتداب ومن أجل جلاء القوات الاستعمارية البريطانية وإنجاز الاستقلال لوطني في دولة فلسطينية ديمقراطية تحقق المساواة في الحقوق المدنية والديمقراطية لجميع سكانها بصرف النظر عن الجنس والدين والمعتقدات السياسية وعلى هذا المستوى كان يتحقق الربط بين العمل النقابي والعمل السياسي، وكان يتحقق التقدم الملموس في مسيرة مؤتمر العمال العرب وتجربته القصيرة ، ولم تكن تجربة مؤتمر العمال العرب تغفل ما للاهتمام بالقضايا المطلبية اليومية والجزئية من أهمية في العملية النضالية برمتها . فقد جسدت التجربة في هذا المجال مثالا متقدما لسياسة برولتيارية حقيقية ، فالنضال من أجل الأهداف الصغيرة والجزئية كان جزءا عضويا من النضال من أجل الأهداف الكبيرة ومتلازما معه ورافعا حقيقيا من روافعه. ولم تكن تجربة مؤتمر العمال العرب تغفل كذلك ما للتضامن العمالي بين العمال العرب والعمال اليهود من أهمية في تحسين ظروف معيشة العمال في فلسطين وكانت يقظة من إمكانية استخدام فئة عمالية قومية ضد فئة عمالية قومية أخرى لإجهاض الحركة المطلبية ، والتقت في خطها هذا موضوعيا مع سياسة الحزب الشيوعي الفلسطيني، الذي انصب جهده على العمل في صفوف الطبقة العاملة اليهودية في فلسطين، ومن الأمثلة البارزة على ذلك موقف مؤتمر العمال العرب من إضراب نيسان الكبير عام 1946 الذي شل العمل في الدوائر والمؤسسات الحكومية والعامة، إذا كتبت الصحيفة المركزية للمؤتمر " الاتحاد " في 21 نيسان 1946تقول "لم يؤثر على الاستعمار البريطاني منذ عهد الانتداب مؤثر فاق هذا الإضراب التاريخي العظيم . فقد هدم قلاعة الحصينة التي بناها على عداء العرب واليهود وهز بوحدته الإدارة المحلية التي شادها على سوء التفاهم والكراهية بين الموظفين والعمال"132". إذن ركزت تجربة مؤتمر العمال العرب في هذا السياق على عدد من الثوابت المبدئية والمركزية . فمن ناحية ثانية ركزت على الأهمية الخاصة لعدم استصغار دور النضالات المطلبية اليومية والجزئية في استنهاض العمال في النضال من أجل الأهداف الأكبر ومن ناحية ثالثة صاغت موقفا مبدئيا اتسم بالحفاظ على اليقظة من النتائج السلبية التي ترتبت على انقسام الحزب الشيوعي الفلسطيني على أساس قومي ، الحزب الشيوعي الفلسطيني العامل في صفوف العمال اليهود ، وعصبة التحرر الوطني العاملة في صفوف العمال العرب . وإذا استثنينا تعقيدات الوضع الذي ترتب على انقسام الحزب الشيوعي الفلسطيني على أساس قومي ، وهو ظاهره سلبية دون شك في تاريخ الحركة الشيوعية الفلسطينية فقد كانت سياسة مؤتمر العمال العرب انطلاقا من هذه الثوابت المركزية المبدئية سياسة صائبة مكنت تلك الحركة النقابية الفتية من الاضطلاع بدور متميز في النضالات العمالية الفلسطينية.
تجربة جمعية العمال العربية الفلسطينية في هذا المجال كانت مختلفة بوضوح عن تجربة مؤتمر العمال العرب، لذا نجد أن الجمعية وبعد مضي عشرين سنة على تأسيسها تطرح على جدول أعمال مؤتمرها الأول في آب 1946 مسألة خطيرة أغفلتها على امتداد السنوات السابقة وهي " الحركة النقابية والحركة السياسية وتحديد علاقة كل منهما بالأخرى (133) "وخرج مؤتمر الجمعية آنذاك بقرار يدعو إلى بناء حرب في إطار الجمعية على غرار حرب العمال البريطاني ، يتبنى الاشتراكية باعتبارها حركة إصلاح اجتماعية ".134" أما اشتراكية الحزب ، الذي قرر مؤتمر الجمعية تأسيسه فقد كانت في جوهرها فارغة من أي محتوى اجتماعي ولا تتعدى الشعارات التي يقصد منها بالأساس حرف نضال العمال عن أهدافه والتصدي لسياسات عصبة التحرر الوطني ومؤتمر العمال العرب بالدرجة الرئيسية. رغم ذلك فإن قرار مؤتمر الجمعية بناء حرب سياسي يتبنى الاشتراكية الإصلاحية شكل خرقا للحصار الشديد، الذي فرضته قيادة الجمعية على الحركة النقابية الفلسطينية على امتداد عشرين عاما ، غير أن هذا الخرق جاء متأخرا للغاية، وانتهى عل أي حال باغتيال سامي طه ، الأمين العام للجمعية في أيلول 1947.
ولم تكن تجربة جمعية العمال العربية الفلسطينية تعطي النضالات المطلبية والاهتمام بالمطالب اليومية والجزئية للعمال نفس الأهمية كان يعطيها مؤتمر العمال العرب ولم تكن على أي حال تنظر إلى هذه المطالب كرافعة من روافع النضالات الأكثر أهمية. وهذا ما يفسر إحجامها عن متابعة الكثير من القضايا العمالية وما يفسر كذلك اتجاهها لتغليب العمل التعاوني على النضالات المطلبية لتحسين ظروف معيشة العمال بكل ما يعنيه ذلك من تقاعس في الدفاع عن حقوق ومصالح العمال في وجه أرباب العمل. دون شك يجب تشجيع العم التعاوني لا يقلل من أهمية وضرورة النضالات العمالية المطلبية، بل على العكس يجب أن يعزز قدرة العمال على خوض النضال المطلبي لانتزاع حقوقهم من أصحاب العمل ، فتحسين المستوى المعيشي للجماهير العمالية لا يتحقق في عمل تعاوني من شأنه أن يكرس تنازل جوهريا عن الحقوق أمام أرباب العمل. وقد كانت تغليب العمل التعاوني في أيديولوجية جمعية العمال العربية الفلسطينية على النضالات العمالية المطلبية شكلا من أشكال البحث عن حلول للمشكلات المعيشية للطبقة العاملة الفلسطينية في ظل أجواء من السلم الطبقي ومن التنازلات الجوهرية أمام أصحاب العمل ، الذين رحبوا بمثل هذه الأيدولوجية واعتبروها عاملا إضافيا يعزز اندفاعهم لمزيد من استغلال العامل ومزيد من الأرباح على حساب مستوى معيشته . مثل تلك الدعوة لتغليب العمل التعاوني على النضالات المطلبية لم يكن هدفها التصدي للمشكلات المعيشية التي أخذت تتفاقم في الأربعينيات وخاصة على أبواب نهاية الحرب العالمية الثانية وبعدها ولم يكن هدفها التصدي لسياسة الحصار التي كانت تمارسها الوكالة اليهودية والهستدروت ضد العمال العرب، بل كان يجري تغليفها بشعارات ديماغوجية أحيانا مثل تخفيف الضغط على الصناعة العربية والإسهام في تطوير البلاد صناعيا . فمن أجل التصدي لمشكلات البطالة، التي بدأت تهدد عشرات آلاف العمال العرب ، ومن أجل التصدي لسياسة التميز التي كانت تمارسها سلطات الانتداب البريطانية الاستعمارية والتصدي لمبدأ العمل العبري وسياسة الحصار التي فرضتها المؤسسات الصهيونية على العمال العرب كان ينبغي إيلاء جهد أكبر لتنظيم العمال في حركة نقابية تأخذ على عاتقها مسؤولية تحفيز وتنشيط النضالات المطلبية وتوظيف كل عمل تعاوني في هذا الاتجاه تحديدا وليس في اي اتجاه آخر . ومن أجل الإسهام في تطوير الصناعة العربية ومساعدتها على الوقوف في وجه هيمنة الصناعة اليهودية على فلسطين كان ينبغي مواجهة سياسة البرجوازية العربية الفلسطينية ، التي فضلت توظيف رؤوس أموالها في الأصول العقارية والمالية بدل توظيفها في المشاريع الإنتاجية الزراعية والصناعية الرئيسية، التي توفر فرص العمل للعمال العرب وتخفف عنهم معاناة البطالة.
وعلى أي حال لم تكن الصناعة العربية على ضعفها تشكو من قلة الأرباح ، ويكفي لإثبات ذلك مقارنة رواتب وأجور العاملين في الصناعة العربية مع أرباح البرجوازية العربية الفلسطينية . وفي الوقت الذي لم تتجاوز فيه رواتب وأجور العاملين في الصناعة العربية عام 1942 حوالي 511149 جنيه فلسطيني حققت البرجوازية العربية من الصناعة في نفس العام أرباحا بلغت 1,213,644 جنيه."135"
وكان خط عمل مؤتمر العمال العرب أنضج من خط عمل الجمعية دون شك . فمؤتمر العمال شدد هو الآخر على ضرورة الإسهام في تعزيز الصناعة العربية في فلسطين وكتبت جريدة المؤتمر المركزية تقول " إن العامل العربي ينظر إلى صاحب العمل العربي نظرة تختلف عن نظرته الى صاحب العمل الأجنبي . فالعامل العربي على استعداد في سبيل تقوية وتطوير الاقتصاد العربي ، الذي بدوره يؤدي إلى تقوية الكيان العربي في البلاد ، لأن يضحي في بعض حقوقه ، ولكن هذا لا يعني السماح للرأسماليين العرب باستغلال عمالهم "136"، وتحت عنوان : " إن لنا شعبنا –عماله وفلاحيه ومثقفيه " – كتبت الجريدة المركزية للمؤتمر في مناسبة أخرى تقول " تحت شعار الوطنية والدفاع عن اقتصادنا الوطني يحاول بعض الناس منع العمال والموظفين من ممارسة حق مقدس من حقوقهم حق التنظيم في جمعيات ونقابات تسهر على مصالحهم وتدافع عن حقوقهم وتسوي الخلافات بينهم" "137". وهكذا صاغ المسؤولية الوطنية مع البرجوازية الوطنية ، التي كانت تتعرض هي الأخرى للضغط من سلطات الانتداب البريطانية ومن هيمنة الصناعة اليهودية على اقتصاد البلاد ، ويقوم ركنها الآخر على احتفاظ الطبقة العاملة بموقفها الطبقي المستقل في مواجهة جشع البرجوازية الفلسطينية واندفاعها نحو تحقيق الحد الأقصى من الأرباح على حساب استغلال العامل ومستوى معيشته. فإذا كانت البرجوازية العربية الفلسطينية تشكو من المنافسة الشديدة للبرجوازية اليهودية ومن هيمنة الصناعة اليهودية على اقتصاد فلسطين وإنتاجها الصناعي بشكل خاص، فإنها لم تكن تشكو إطلاقا من تدني مستوى الأرباح ، التي شكلت في العام 1942 حوالي 238 بالمئة من مجموع رواتب وأجور العاملين في الصناعة العربية, وعليه حافظ المؤتمر على هويته الطبقية المستقلة ولم بتحول عن النضال العمالي باتجاه العمل التعاوني أساسا كتأسيس الجمعيات الاستهلاكية وجمعيات التوفير والتسليف وباتجاه حرف نضال العمال عن المواجهة المباشرة مع أصحاب العمل، الذين اكتشفوا في سياسة الجمعية الجانب الذي يستجيب مع مصالحهم الأنانية الضيقة .
وتقدم اهتمام مؤتمر العمال العرب على اهتمام جمعية العمال العربية الفلسطينية بالقضايا العمالية الحادة، التي بدأت تطرح نفسها بإلحاح في منتصف الأربعينات، حيث أخذت البطالة تحدد عشرات الآلاف من العمال العرب في ظل عجز المنشات الإنتاجية الزراعية الصناعية العربية عن استيعاب حتى نسبة محدودة منهم، وحيث اتسع التمايز في الأجور بين العمال العرب والعمال اليهود وارتفعت تكاليف المعيشة ، ففي فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة أكدت إحصاءات حكومة الانتداب البريطاني أن ما يقارب من مئة ألف عامل في فلسطين يبحثون عن عمل أو يحاولون تغيير موقع عملهم"138". وفي الوقف الذي تمكنت فيه الوكالة اليهودية من استيعاب البطالة في الوسط اليهودي وخاصة البطالة الناجمة عن تسريع عشرات الآلاف من الخدمة العسكرية في الجيش البريطاني ، بجهودها الخاصة وبمساعدات كبيرة من سلطات الانتداب البريطاني ، فإن المؤسسات الإنتاجية العربية لم تتمكن من استيعاب البطالة الطبيعية والبطالة الناجمة عن الهجرة من الريف إلى المدينة والبطالة الناجمة من تسريح عشرات الآلاف من معسكرات الجيش البريطاني ، ولمواجهة مشكلة البطالة عقد مؤتمر العمال العرب في تشرين الثاني 1945 مؤتمر أسماه " المؤتمر القومي للبطالة " شاركت فيه عصبة التحرر الوطني وعدد من المنظمات المهنية وفروع المؤتمر، حيث عولجت مشكلات البطالة من كافة جوانبها واتخذت قرارات تدعو إلى فتح مكاتب لتشغيل العاطلين عن العمل وصرف التعويضات لهم وللعمال المسرحين من معسكرات الجيش البريطاني وإلغاء العمل الإضافي في الدوائر والمؤسسات الحكومية وتخفيض مساعدات العمل بهدف خلق فرص عمل جديدة تقلص من حجم البطالة . وتوزيع الأراضي على المزارعين المعرفين ومنع الهجرة اليهودية وعمليات انتقال الأراضي، هذا إلى جانب منع استخدام أسرى الحرب واستبدالهم بالعمال من العاطلين عن العمل في الوسط العربي ، والتي كان مقدرا لها أن تقفز إلى حوالي 50 ألف عامل في مطلع 1946، حسب تقديرات المؤتمر القومي للبطالة ".
وفي الأربعينيات اشتدت موجة الإضرابات العمالية في الوسطين العربي واليهودي . وقدرت عدد الأيام الضائعة نتيجة الإضرابات العمالية بحوالي 240 ألف يوم عام 1940وحوالي 134الف يوم عام 1942 وحوالي 248 ألف يوم عام 1944،"139" وعبرت تلك الموجة من الإضرابات عن تقدم في الروح الكفاحية للطبقة العاملة العربية الفلسطينية كما عبرت في الوقت نفسه عن شعور متزايد بالقلق على المصير الوطني والمستقبل. في الوقت نفسه اشتدت موجة المطالبة بالاعتراف بالحركة النقابية العربية رسميا وبوضع تشريعات عمالية، إن كانت فلسطين تفتقر حتى نهاية عهد الانتداب إلى كثير من التشريعات العمالية وبوضع قانون للضمان الاجتماعي"140" ومع أن موجة الإضرابات خاصة في النصف الأول من الأربعينيات كانت تشتد، إلا أن التطورات السياسية المتعلقة بفلسطين وبالوطن القومي اليهودي كانت تضعف من إمكانية استثمار التحركات العمالية تلك في رفع جاهزية الطبقة العاملة العربية للتصدي الفعال لسياسة الاستعمار البريطاني ومخططات الحركة الصهيونية والوكالة اليهودية مهما قيل في أوضاع الحركة العمالية والنقابية في النصف الثاني من الأربعينيات ، فإن الدروس التي ينبغي استخلاصها في قرارات الحركة العمالية والنقابية الفلسطينية قبل العام 1948 تعود إلى سنوات العشرينات والثلاثينيات أساسا. ففي تلك السنوات وقع الانفصال بين الحركة النقابية للطبقة العاملة العربية وحزبها الطبقي ، الحزب الشيوعي الفلسطيني، وسيطرت على الحركة النقابية قيادة برجوازية صغيرة إصلاحية ويمينية انتهازية وعندما تأسس مؤتمر العمال العرب في النصف الثاني من الأربعينيات كحركة نقابية ديمقراطية تقدمية, ورديف كفاحي لعصبة التحرر الوطني ، كانت فلسطين على أبواب مرحلة جديدة، مرحلة التقسيم والانقسام بين إسرائيل والأردن.

المراجع
1 . د. عبد الله حنا، الحركة العمالية في سوريه والبنان 1900-1945، دمشق ،دار دمشق 1973،ص15-16.
2. عبد القادر ياسين، تاريخ الطبقة العاملة الفلسطينية 1918-1928، بيروت ، مركز الأبحاث ،م ت ف ، ص15 :بدر الدين السباعي، أضواء على الرأسمال الأجنبي في سوريه 1850-1958، دمشق,دار الجماهير،1967ص4 -20.
3. سعيد حمادة، النظام الاقتصادي في فلسطين، بيروت ، الجامعة الأمريكية ، 1939، ص 14.
4. سعيد حمادة، المصدر ، السابق ، ص 274.
5. جب هاولتون، المجتمع الإسلامي والغرب ، مترجم ، الجزء الثاني، القاهرة ، دار المعارف 1971، ص 142.
6. عارف العارف، تاريخ القدس ، القاهرة دار المعارف ،1951 ، ص ص210-211.
7. عبد القادر ياسين، المصدر السابق ، ص27 ، عن باسم فارس : الفواكه الحمضية أهم عامل اقتصادي في حياة فلسطين : الاقتصاديات العربية ،العدد الثالث ، 1/2/1935.
8. محمد يونس الحسيني، التطور الاجتماعي والاقتصادي في فلسطين 1946، يافا ، ص 126
9. نديم البيطار، قضية العرب الفلسطينية ، بيروت 1947 ، ص 119.
10. عنان العامري، التطور الزراعي والصناعي الفلسطيني 1900-1970 ، بيروت ، م ت ف ، مركز الأبحاث 1975 ،ص 106.
11. عنان العامري، المصدر السابق ص 131.
12. سعيد حمادة، المصدر السابق ص 281.
13. A. Garnett, the land system in Palestine, history a. structure Eyre a. spottis , London , 1952,pp38,39
14. خليل ابو رجيلي، الزراعه العربية في فلسطين المحتلة ، شؤون فلسطينيه ، العدد 11 ، ص ص130،131.
15. عنان العامري، المصدر السابق ص60.
16. Sami hadawi , village statistics ,1945 , aclassitication of land area ownership in Palestine ,research center , plo , facts a figures , nr .34,1970, p.27
17. A. Garnett , the land system in Palestine , p.88
18., village statistics . pp 27,28 S. Hadawi
19. نص البيان في : عبد الوهاب الكيالي، وثائق المقاومة الفلسطينية العربية ضد الاحتلال البريطاني والصهيونية 1918-1939، مؤسسة الدراسات الفلسطينية ،بيروت 1968 ، ص 22-25 في أ.د. موسى البديري ، تطور الحركة العمالية العربية في فلسطين ،(وثائقي ) ، الوثيقة الاولى ، دار الكتاب القدس 179.
20. المصدر السابق ، عبد الوهاب الكيالي ، و د. موسى البديري ، المصدر السابق.
21. حيدر رشيد ، الحركة العمالية الاردنية ومقدمات وضعها الراهن – الحركة العمالية في فلسطين 1900-1948 عمان 1982، ص 75.
22. علي عماد خريس، صلاح الصفدي، الحركة النقابية والعمالية في الاردن ،عمان 1957، ص ص 54،55 .
23. سمير أمين، الامة العربية، القومية وصراع الطبقات، ترجمة كميل داغر، بيروت ، دار ابن رشد ،1978 ص 65.
24. سميح سماره ، العمل الشيوعي في فلسطين ، الطبقة والشعب في مواجهة الكولونيالية ، دار الفارابي ،بيروت 1979، ص 32.
25. سميح سماره ، المصدر السابق ، ص 34.
26. صادق جلال العظيم ، دراسة نقدية لفكر المقاومة الفلسطينية ، بيروت ، دار العودة 1973، ص21.
27. عبد القادر ياسين ، المصدر السابق ، ص 39.
28. د. محمد عبد الرؤوف سليم ، نشاط الوكالة اليهودية لفلسطين منذ انشائها وحتى قيام اسرائيل 1922-1948 ، بيروت المؤسسة العربية للدراسات والنشر ،1982 ، ص 459.
29. Palestine , chief secretary , asurrcy of Palestine , par pared in December1945 . january1946, for the information of the anglo- American committee of inquiry, Jerusalem covermwnt -print-er 1947, vol, I, P, 244
30. سعيد حمادة ، المصدر السابق ص 13.
31. نبيل بدران ، التعليم والحديث في فلسطين ، بيروت ، م ت ف ، مركز الابحاث 1968، ص 41.
32. د. موسى البديري ، المصدر السابق عن مؤتمر العمال العرب الأول ، مركز صادر عن المطبعة الأهلية التجارية-فلسطين ، حول اعمال المؤتمر الذي عقد في حيفا في 11 كانون الثاني 1930.
33. حيدر رشيد ، المصدر السابق ،ص 39.
34. سميح سماره ، المصدر السابق ،ص 103، عن تقرير المندوب السامي عن ادارة فلسطين 1920-1925، القدس محفوظات م ت ف ، رقم 32095694، ص18.
35. المصدر السابق
36.Report by his majesty’s government in the united kingdom of the great retain and northern arland to the council of the league of narion on the administration of Palestine and Transjordan tor the year1929,londan 1930,p.34.
37. The National council of Jews of Palestine , memoranda ,submitted to the permanent mandates commission of the league of nations , junior1930, the Jewish agency of Palestine , London, July 1930, p.15.
38. عنان العامري ، المصدر السابق ، ص 105.
39. د .محمد عبد الرؤوف سليم ، المصدر السابق ، ص431.
40. Jewish agency of Palestine , memorandum on reconversion in Palestine , submitted to the united nations special committee on Palestine , Jerusalem 1997, p ,14.
41. عنان العامري ، المصدر السابق ، من الجدول الخاص بالإنتاج الصناعي ،ص 114.
42. عنان العامري ، المصدر السابق ،من الجدول الخاص بالإنتاج الصناعي ، ص 118.
43. عنان العامري، المصدر السابق
44. عنان العامري ، المصدر السابق ، ص 139.
45. government of Palestine , office of statistics , statistical abs act of Palestine , 1936 Jerusalem 1937 , p.16.
46. حيدر رشيد ، المصدر السابق ,ص 43.
47. نشرات المكتب العربي ، قضية فلسطين ، النشرات الثانية ، القدس 1946 ، ص144.
48. د.محمد عبد الرؤوف سليم ، المصدر السابق ، ص 126.
49. د.محمد عبد الرؤوف سليم ، المصدر السابق ، ص 129(من الجدول ).
50. روبرت ه. درايتون ، مجموعة المناشير والأوراق والقوانين الفلسطينية ، القدس ، مطبعة دير الروم 1936 ، الجزاء الأول ، ص 970.
51. روبرت ه. درايتون ، المصدر السابق ، ص 955.
52. روبرت ه. درايتون ، المصدر السابق ، ص 932.
53. A survey of Palestine , vol .I .p244.
54. سعيد حمادة ، المصدر السابق ، ص13.
55. جون هوب سمبسون ، فلسطين ، تقرير من الهجرة ومشاريع الأسكان والعمران ، القدس ، مطبعة دار الايتام السورية 1930، ص 193.
56. جون هوب سمبسون ، المصدر السابق ، ص 194.
57. great Britain , colonial office , Palestine statement of policy by his majesty’s government in the united kingdom ,presented by the secretary of state tor colonies to parliament . by command of his majesty October 1930,
58. الكتاب الأبيض ، المصدر السابق ، ص 14.
59. الكتاب الأبيض ، المصدر السابق ،ص 3.
60. مكتب الجنة التنفيذية العربية ، بيان على الكتاب الأبيض الصادر في تشرين الأول 1930، القدس ،ص 3.
61. أحمد الشقيري ، اربعون عاما في الحياة العربية والدولة ، بيروت 1969، ص 124.
62. سميح سمارة ، نفس المصدر ، ص 198(اقتباسات من قرارات مؤتمر الحزب).
63. د. محمد عبد الرؤوف سليم ، نفس المصدر ص 148.
64. د. محمد عبد الرؤوف سليم ، نفس المصدر ص 155.
65. Schmciderman Harry a. morris fine I American Jewish yearbook phila delphia , vol.so,p.754
66. Jewish agency tor Palestine I department of statistics , statistical handbook of Jewish Palestine , Jerusalem 1947,p 116
67. د. محمد عبد الرؤوف سليم ، المصدر السابق ، ص 165(النص الأصلي للقانون في : عادل حامدا لي درس القوانين الانتداب في اقامة الوطن القومي اليهودي في فلسطين ، رسالة لنيل الماجستير ، أجيزت من معهد البحوث والدارسات العربية ، القاهرة 1972)
68. اسعد صقر ، الحركة العمالية في فلسطين منذ عهد الانتداب وحتى عام 1980، منشورات دار الجرمق للطباعة ونشر ،1981 ، ص 48(الجدول )
69. A survey of Palestine .VOL .I . P 244
70. 264A survey of Palestine .VOL .I . P
71. عنان العامري ، المصدر السابق ، ص 23.
72. A survey of Palestine .VOL .I . P. 911
73. A survey of Palestine .VOL .I . P.912
74. A survey of Palestine .VOL .I . P.912
75. الوكالة اليهودية ، اقتصاديات فلسطين بين العرب واليهود ، نشره رقم 3 ،ص 23 ص24.
76. Zionist organization I report to the xx11 Zionist congress , 1946, p. 220
77. the Jewish yearbook ,London , 1939,p.391
78. the Jewish yearbook ,London , 1939,p.383
79. اسعد صقر ، المصدر السابق ص 83-88(حول التوسع اليهودي في بعض فروع الصناعة )
80. Zionist organization I report to the xx Zionist congress 1935 p.347
81. Zionist organization I report to the xx Zionist congress 1935 p.269
82. نشرات الوكالة اليهودية ، اقتصاديات فلسطين ، مصدر سبعة ذكره ، نشره رقم 3، ص 91.
83. نشرات الوكالة اليهودية ، المصدر السابق ، ص 96.
84. A survey of Palestine , VOL.I . p.205
85. A survey of Palestine , VOL.I. p.733
86. عبد القادر ياسين ، كفاح الشعب الفلسطيني حتى العام 1948 ، بيروت ،م ت ف ، مركز الابحاث 1975 ، ص 117.
87. عبد القادر ياسين ، المصدر السابق ص191- ص 192.
88. scorn Moshe, immigration to Israel . 1984-1953, Jerusalem 1957, p.21
89. united nations special committee on Palestine –unscop report to the general assembly October 1947,p .16
90. Jewish agency tor Palestine , Jewish Economic development, facts a. prospects , memorandum submitted in march 1946 to the Anglo –American of inquiry, 1917.pp.32-33
,. 91 Jewish agency tor Palestine , Jewish economic development. page34
92. عنان العامري ، المصدر السابق ، ص 136-141 (مستخلص من الجدول مع التدقيق بالأرقام والنسب وتعديل بعضها ) .
93. عنان العامري ، المصدر السابق ، ص 111.
94. عنان العامري ، المصدر السابق ، (المستخرج من جداول الأنتاج القائم والأنتاج الصافي وقيمة الأجور والرواتب والمواد الأولية والأرباح في صناعات العربية واليهودية ).
95. عبد الوهاب الكيالي ، تاريخ فلسطين الحديث ، بيروت 1970، مؤسسة الدراسات العربية ، ص223.
96. صبحي ياسين ، الثورة العربية الكبرى في فلسطين 1936-1939 ، دار الهنا للطباعة ،1959،ص21-ص22.
97. سميح سماره ، المصدر السابق ص 187 (عن جورج انطونيوس ، اليقظه العرب ، ترجمة علي حيدر الركابي ، ص449).
98. نص البرقية التي أرسلتها الجمعية الإسلامية المسحية الى الحاكم العسكري البريطاني لمدينة يافا في 16 تشرين الثاني 1920 في كتاب سميح سماره ، المصدر السابق ، ص 329 ، لعبت الجمعية المذكورة دورا هاما في المؤتمر العربي الفلسطيني ،نواة اللجنة العربية العليا ،الإطار التنظيمي التحالف البرجوازية وكبار الملاك في فلسطين .
99. سميح سماره ، المصدر السابق ،ص 89.
100. النص الكامل القرار الأمانة السياسية للجنة التنفيذية الأمميه الشيوعية ،في كتاب سميح سماره المصدر السابق ص 331-338، عن مجلة international press corros pon dance الصادر عن الامميه الشيوعية ،مجلة 10،العداد 6 ، 6 شباط 1930 ،ص104-106.
101. سليمان بشير ، المشرق العربي في النظرية والممارسة الشيوعية ، منشورات دار القرامطة ، القدس 1977، ص 166.
102. سليمان بشير ، المصدر السابق ،ص 160.
103. قرار الأمانة السياسية الجنة التنفيذية اللامميه الشيوعية ، سميح سماره ، المصدر السابق ، ص331-338.
104. قرار الأمانة السياسية ، المصدر السابق .
105. قرار الأمانة السياسية ، المصدر السابق .
106. خريس – الصفدي ، المصدر السابق ، ص54- ص55.
107. أسعد صقر ، المصدر السابق ، ص51.
108. أسعد صقر ، المصدر السابق ، ص50- ص52.
109. عمار الطالبي ، الطبقة العاملة الفلسطينية واليهودية وتنظيماتها ، شؤون فلسطينية ، العدد 15 تشرين الثاني 1972.
110. د. أميل توما ، ستون عاما على الحركة القومية العربية الفلسطينية ، دار ابن رشد ، بيروت 1978، ص 85.
111. حيدر رشيد ، المصدر السابق ، ص 94.
112. نقولا جبرا ، التنظيم المهني ، يافا ، مطبعة النور ، 1935، ص24 –ص25.
113. النص الكامل لنداء جمعية العمال العربية الفلسطينية الصادر في 12/10/1936 منشور في كتاب سميح سماره ، المصدر السابق ،ص 239 –ص240.
114. موسى البديري ، المرحلة الثالثة من تطور الحركة العمالية في فلسطين ، مجلة الجديد ، حيفا ، حزيران 1977، ص 41.
115. د. إميل توما ، جذور القضية الفلسطينية ،م ت ف ، مركز الأبحاث ،بيروت 1973،ص 97.
116. جبرا نقولا ، كراس حول : حركة الإضرابات بين العمال العرب في فلسطين (جدول الإضرابات) منشور في كتاب د.موسى البديري ، تطوير الحركة العمالية الغربية في فلسطين ، مصدر سبق ذكره .
117. عبد القادر ياسين ، كفاح الشعب الفلسطيني ، مصدر سبق ذكره ، ص191-ص192.
118. عبد القادر ياسين ، تاريخ الطبقة العاملة ، مصدر سبق ذكره ص 180، عن ( صادق سعيد ، احتضار الصهيونية ، فجر الجديد ، القاهرة ، العداد 11 ،15 تشرين أول 1945.
119.A surrey of Palestine ,VOL I .pp 748.749
120. جميل الشقيري ، مجموعة الشهادات والمذكرات المقدمة الى الجنة التحقيق لأنجلو –أميركية ألمشتركة حول قضية فلسطين ، يافا ، مطبعة النجاح ، حزيران 1947 ، شهادة سامي طه ، الأمين العام للجمعية ، ص 131.
121. جمعية العمال الفلسطينية ، مبادؤنا الأشتركية ، اصدار الأمانة العامة الإتحاد العام العمال فلسطين ، دمشق 1975 ، الطبعة الثانية .
122. سميح سماره ، المصدر السابق 287، عن الإتحاد 9 حزيران 1947.
123. سميح سماره ، المصدر السابق 287، عن الإتحاد 9 حزيران 1947.
124. سميح سماره ، المصدر السابق ، نقلا عن اتحاد 17أب 1947.
125. سميح سماره ، المصدر السابق ، الوثيقة الرابعة ص 341 ، وهي نص المؤتمر صحفي عقده أميل توما ، أحد قادة عصبه التحرار العربي في المكتب العربي في القدس في 6 حزيران 1947.
126. حيدر رشيد ، المصدر السابق ، ص 181، عن جريده الإتحاد 16 حزيران 1946.
127. د. موسى البديري ، تطور الحركة العمالية العربية في فلسطين ص 76.
128. موسى البديري ، المرحلة الخامسة في تطوير الحركة العمالية الفلسطينية ، مجلة الجديد ، حيفا ، آب 1977 العداد الثامن ص 44- ص45.
129. جمعية العمال العربية الفلسطينية ، تقرير مؤتمر آب 1946 ، الطبعة الثانية ، صادر عن الإتحاد العام لعمال فلسطين الأمانة العامة في دمشق ،1975 ، ص 153.
130. خريس – الصفدي ، المصدر السابق ، ص 40.
131. جميل الشقيري ، المصدر السابق ، ص 131.
132. سميح سماره . المصدر السابق ، ص 266.
133. جمعية العمال العربية الفلسطينية ، تقرير مؤتمر آب ، جدول أعمال المؤتمر.
134. خريس – الصفدي ، المصدر السابق ، ص 5.
135. عنان العامري ، المصدر السابق ، ص118( جدول الإنتاج القائم والإنتاج الصافي للصناعة 1942) .
136. سميح سماره ، المصدر السابق ،عن الاتحاد 30 كانون الأول 1945 – خليل شنير ، موقف حركتنا العمالية من أصحاب العمل ، وموسى البديري ، تطور الحركة العمالية ، ص 65.
137. سميح سماره ، المصدر السابق ، عن الاتحاد 17 أيلول 1944.
138. A survey of Palestine , VOL. I ,p .205
139. صادق سعد ، فلسطين بين مخالب الاستعمار، مصدر سبق ذكره ، ص75.
140. صادق سعد ، المصدر السابق ، ص 73، وسعيد حمادة ، المصدر السابق ص 378-ص381.



الفصل الثاني
الطبقة العاملة الفلسطينية في ظل التحولات الديمغرافية بعد 1948
شهدت الطبقة العاملة الفلسطينية كباقي الطبقات والفئات الاجتماعية الفلسطينية تحولات ديمغرافية واسعة بعد قيام دولة إسرائيل عام 1948. ففي ذلك العام انهار البناء السياسي والاجتماعي والاقتصادي للشعب الفلسطيني، واحتاجت المجتمعات الفلسطينية، التي استقرت في قطاع غزة وفي الضفة الغربية والضفة الشرقية لنهر الأردن باعتبارها مجتمعات أساسية كبير، وتلك التي استقرت كمجتمعات سكانية أصغر في البلدان العربية المجاورة لفلسطين فترة من الزمن، حتى تعود وتتماسك في بني سياسيه واجتماعية اقتصادية جديدة يفصلها عن البناء السياسي والاجتماعي والاقتصادي السابق فوارق جوهرية على كل صعيد.
ففي غزة استقر تجمع سكاني فلسطيني كبير من سكان القطاع الأصليين ومن اللاجئين الفلسطينيين وحافظ هذا التجمع على هويته الوطنية السياسية كمجتمع فلسطيني ، وإن افتقد إلى المكونات الاجتماعية، الاقتصادية، التي تساعد على الاضطلاع بدوره السياسي الوطني كقاعدة وطيدة لاستقطاب الولاء السياسي الوطني، لمجتمعات فلسطينية كان مقررا لها إن تفقد هويتها السياسية وتندمج في كيانية سياسية جديدة ، كما كان حال التجمع الفلسطيني الكبير، الذي استقر في الضفة الغربية والضفة الشرقية لنهر الأردن. أما التجمعات الفلسطينية التي استقرت في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في البلدان المجاورة لفلسطين فلم تتمكن من الاضطلاع بدور سياسي وطني قبل نهاية الستينات وبداية السبعينات بسبب إجراءات القمع التي تعرضت لها من حكومات تلك البلدان بالدرجة الرئيسية .
فقد اندمجت تجمعات اللاجئين الفلسطينيين خارج قطاع غزة والضفة الغربية والضفة الشرقية من نهر الأردن بالبنية الاقتصادية الرأسمالية لبلدان الهجرة وحافظت في الوقت نفسه على وضعيتها الاجتماعية والسياسية الخاصة، لأن حكومات وبرجوازية تلك البلدان تعاملت مع تلك التجمعات كأيدي عاملة محرومة من الحقوق الاجتماعية والسياسية، وبسبب ظروف القمع التي تعرضت لها تلك المجتمعات وبسبب حرمانها التام من حقوقها السياسية والاجتماعية وقمع كل محاولة فلسطينية للتعبير عن الهوية الوطنية والانتماء الوطني لم تتشكل فيها قوى سياسية فلسطينية أو حركات نقابية فلسطينية، ولم يسمح لها حتى الاندماج أو الالتحاق بقوى سياسية وطنية محلية أو بحركات نقابية محلية، لذا اتجه اهتمامها للتعويض عن حالات الحرمان تلك بالانتساب سرا إلى عدد من الأحزاب القومية على قاعدة سياسية وأيدولوجية وحسب. تلك المجتمعات ليست مشمولة بالبحث في أوضاع الحركة العمالية والنقابية الفلسطينية لهذه الأسباب وأسباب أخرى عدة, دون أن يقلل ذلك من شأنها, وهي التي اضطلعت بدور سياسي وطني محوري في العملية الوطنية الثورية بعد حرب حزيران 1967 بشكل خاص، وليس مشمولا بالبحث في أوضاع الحركة العمالية و النقابية الفلسطينية لأسباب أخرى لا مجال للحديث عنها هنا. التجمع الفلسطيني في إسرائيل، الذي بدأ محدودا و نما على امتداد السنوات الماضية ليشكل مجتمعا يلعب دورا بارزا في الدفاع عن حقوقه القومية العربية في إسرائيل عبر منظمات سياسية أممية ووطنية ومؤسسات بلدية وقروية ومنظمات قطرية وهيئات شعبية عربية في الجليل والمثلث والنقب، فقد شق هذا التجمع خط سير خاص ومستقل في الحركة النقابية والعمالية دون أن يفقد هويته الوطنية المميزة ، وعليه فإن مادة البحث هنا سوف تقتصر على الطبقة العاملة الفلسطينية في ظل التحولات الديمغرافية التي عاشها الشعب الفلسطيني بعد 1948 في كل من قطاع غزة ، والضفة الغربية التي أصبحت بعد 1950 جزءا من المملكة الأردنية الهاشمية. وإذا كانت معالجة أوضاع الحركة العمالية والنقابية في قطاع غزة في أطار معالجة الأوضاع السياسية والتحولات الاجتماعية الاقتصادية المحدودة التي شهدها قطاع غزة لا تخلق إشكالية من أية ناحية ، فإن مثل هذه المعالجة للحركة العمالية والنقابية في المملكة الأردنية الهاشمية من الزاوية أساسها وإطارها الفلسطيني قد نخلق إشكالية موضوعية خاصة من الزاوية السياسية الوطنية. لذا ، ومن أجل حل مثل هذه الإشكالية على أساس موضوعي وديمقراطي ، فسوف تكون المعالجة مركبة من هذه الزاوية، أي ستكون معالجة لأوضاع الحركة العمالية والنقابية الفلسطينية الأردنية أو الأردنية الفلسطينية – لا فرق – لسبب سياسي وطني جوهري يجب ألا يغيب عن ذهن أي باحث أو عامل في المجال السياسي .
من الصعب إسقاط الجانب الفلسطيني في أية معالجة لأوضاع الحركة العمالية والنقابية في المملكة الأردنية الهاشمية بعد عام 1950 ، فإسقاط ذلك الجانب يعني دون شك إسهاما في تبديد الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني ، الذي شاءت له موازين القوى والتطورات السياسية أن يصبح في الضفة الغربية وشرق الأردن جزءا من كيانية سياسية ألغت كيانه السياسي الخاص. فالفلسطينيون أصبحوا في الضفة الغربية لنهر الأردن، ولنقل فلسطين الوسطى، وفي الأردن، ما أصبح يعرف بين 1950- 1967 بالضفة الشرقية ، مواطنون أردنيون وحسب ، وكان ذلك خطأ من وجهة نظر السياسة والتاريخ، وثبت الخطأ بوضوح بعد إن تمكنت منظمة التحرير الفلسطينية من الاضطلاع بدورها النضالي على الساحة الفلسطينية والساحتين العربية والدولية وبدورها السياسي التمثيلي للشعب الفلسطيني، الذي ألتف حولها باعتبارها ممثلة الشرعي والوحيد.
ومن الصعب كذلك إسقاط الجانب الأردني في معالجة أوضاع الحركة النقابية والعمالية في المملكة الأردنية الهاشمية بعد عام 1950، فإسقاط ذلك الجانب يعني دون شك تجاوزا عن هوية سياسية تبلورت في كيانية سياسية قبل ذلك العام واستمرت ولا تزال من بعده ، ومن شأن ذلك أن يقود إلى نتائج سلبية بارزة تضعف كفاحية القوى الديمقراطية والحركة العمالية والنقابية في الأردن ، وهو ما حدث عمليا في نهاية الستينات عندما طغى الاتجاه الكفاحي الفلسطيني على الحالة السياسية الشعبية في الأردن قبل الصدام العسكري في أيلول 1970 بين الجيش الأردني والمقاومة الفلسطينية، فقد حدثت المواجهة العسكرية بين قوه عسكرية نظامية، هي الجيش الأردني وقوة شعبية فدائية مسلحة اعتمدت بشكل رئيسي على العنصر الفلسطيني، ووقف الشعب بجماهيره العمالية والفلاحية موقفا انتظاريا يرقب نتائج المواجهة بين القوتين .
أضف إلى ذلك إن إسقاط أي من الجانبين الفلسطيني أو الأردني في معالجة أوضاع الحركة العمالية والنقابية في المملكة الأردنية الهاشمية في الفترة بين 1950-1967 من شأنه أن يؤدي إلى إضعاف الوحدة الكفاحية للطبقة العاملة الفلسطينية- الأردنية ويغذي في صفوف الحركة العمالية بالذات اتجاهات يمينيه انتهازيه وإقليمية خطرة لا تستفيد منها سوى الطبقة الحاكمة والقوى الإقليمية بين أبناء الشعبيين الأردني والفلسطيني، وبصرف النظر عن الموقف الذي أضحت عليه الضفة الغربية بعد 1950 وتحولها إلى جزء من كيانية سياسية جديدة هي الكيانية الأردنية ،فقد تداخل الوضع الاجتماعي والاقتصادي في بنى متشابكة في الضفة الغربية( فلسطين الوسطى) وفي شرق الأردن، ولم يكن ذلك التداخل هو المشكلة بحد ذاتها فالمشكلة كانت في الانعكاس السلبي لذلك التداخل على الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني في إطار تلك الكيانية السياسية أي في عملية النفي، الذي تعرضت له تلك الهوية الوطنية, أما التداخل في الوضع الاقتصادي و الاجتماعي ، وبصرف النظر عن تفاصيله والأسس التي قام عليها ، هي لم تكن أسس ديمقراطية بالتأكيد، فقد أنتج موضوعيا وعمليا وحدة متنامية في المصالحة الطبقية لجماهير العمال والفلاحين وسائر الكادحين من أبناء الشعب الأردني والفلسطيني في إطار المملكة ، وأنتج كذلك مصالح مشتركة في نضال متحد لأبناء الشعبيين يستهدف صياغة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والأسس السياسية الدستورية بينهما على أساس من الخيار الديمقراطي الطوعي الحر لتلك الوحدة المتنامية وعلى أساس المساواة التامة في الحقوق والواجبات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وعلى قاعدة تلك الوحدة المتنامية والمصالح المشتركة لكادحي الشعبين الفلسطيني والأردني في المملكة الأردنية الهاشمية 1950-1967 كان يجب أن تبني وحدة الحركة العمالية والنقابية بجناحيها الأردني والفلسطيني في تلك الفترة . وهي قاعدة تقوم على نفي عملية النفي التي تعرضت لها الهوية الوطنية الفلسطينية وتقوم كذلك على نفي الجانب الأخر من العملية ، الذي عبر عن نفسه بسياسة أردنة للأوضاع في المملكة، التي لم يكن لأبناء الشعب الأردني وخاصة جماهيره العمالية والفلاحة وكادحيه فيها خيار أو قرار.
هل كان تحديد الإطار العام لهذه المسألة عل هذا النحو يثير إشكالية في العلاقات بين الشعبيين تضعف وحدة الكادحين في كل من الضفة الغربية وشرق الأردن. هنا يمكن الجزم بكل تأكيد بأن كادحي الشعبين الفلسطيني والأردني كان لهم مصلحة حقيقية في عدم نفي الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني وطبقته العاملة خاصة في ظل العداء السافر الذي أبدته الدول الاستعمارية و الحركة الصهيونية للشعب الفلسطيني وإصرارها على اقتلاعه من وطنه وتبديد هويته الوطنية المستقلة. دون شك، وهذا ثابت تاريخيا، إن بعض القطاعات البرجوازية وخاصة البرجوازية الطفيلية والعقارية وبعض شرائح البرجوازية البيروقراطية التي نمت في أحضان دولة المملكة وأجهزتها، لم يكن يهمها التصدي لعملية النفي التي تعرضت لها الهوية الوطنية الفلسطينية بعد العام 1950 في إطار المملكة، فقد كانت تتصرف إنطلاقا من مصالحها الأنانية الضيقة، وكان النظام يؤمن لها تلك المصالح. بعض الفئات البرجوازية وخاصة البرجوازية الرأسمالية الوطنية، التي استمرت تستوطن برؤوس أموالها في الضفة الغربية كان لها مصلحة في علاقات اجتماعية اقتصادية أخرى، وفي أساس سياسي دستوري ديمقراطي للمملكة، فهذه البرجوازية تعرضت لإجحاف لا يمكن نكرانه، غير أن تلك البرجوازية الرأسمالية الوطنية بسبب ضعفها اضطرت للانحناء أمام النظام ولم تبدي مقاومة تذكر للصيغة الدستورية غير الديمقراطي، التي حولتها إلى قوة تابعة للبرجوازية الطفيلية العقارية و البرجوازية البيروقراطية وكبار الملاك الذين التفوا حول تلك الصيغة الدستورية غير الديمقراطية. ولم تتحرك الحركة العمالية والنقابية ضد تلك الصيغة الدستورية غير الديمقراطية، التي قامت على أساسها المملكة الأردنية الهاشمية بعد مؤتمر أريحا عام 1950.
وذلك لأسباب عديدة ، ففي شرق الأردن لم تكن قد تشكلت طبقة عاملة في مؤسسات إنتاجية واقتصادية ووطنية ولم تتشكل بالتالي حركة عمالية ونقابية ، أما الطبقة العاملة الفلسطينية وحركتها العمالية والنقابية ، فقد خرجت من الحرب العربية الإسرائيلية الأولى عام 1948 مهمشة ومبعثرة القوى، بل هي تحولت إلى جيش من اللاجئيين العاطلين عن العمل المنتشرين في قطاع غزة والضفة الغربية وشرق الأردن وسورية ولبنان ، وكان كادحو فلسطين يفتقرون ليس فقط إلى مقومات الوحدة المادية، أي إلى مقومات الاجتماعية والاقتصادية للوحدة، بل هم كانوا يفتقرون إلى الوحدة السياسية بسبب الانهيار الواسع الذي لحق بالقوى السياسية والنقابية بعد عام 1948، وهكذا حالت ظروف ما بعد حرب عام 1948 دون أي دور للطبقة العاملة الفلسطينية في السنوات الأولى التي أعقبت النكبة الفلسطينية، ووجدت الطبقة العاملة الفلسطينية نفسها أمام صيغة دستورية للوحدة بين (الضفة الغربية- فلسطين الوسطى – والمملكة الأردنية الهاشمية شرق الأردن ) من صنع رموز البرجوازية الفلسطينية وكبار الملاك الفلسطينيين، الذين وجدوا في المملكة الأردنية الهاشمية ملاذهم الأخير .
وبدون الدخول في تفاصيل ضم الضفة الغربية – فلسطين الوسطى – إلى المملكة الأردنية الهاشمية عام 1950 فهي معروفه بالتأكيد ، فإن الأهم في سياق هذا البحث هو تأكيد عملية النفي التي تعرضت له الهوية الفلسطينية في المملكة الأردنية الهاشمية في الفترة بين 1950-1967 ليس فقط على يد النظام فقط بل وكذلك على أيدي العديد من قوى المعارضة السياسية ، التي استسلمت أمام عملية النفي تلك وأمام منطق الدولة الاستبدادي على هذا الصعيد. كان العديد من قوى المعارضة السياسية في المملكة الأردنية الهاشمية حتى عام 1967 يحاذر بدقة حتى عند التأريخ للحركة العمالية والنقابية الفلسطينية التعرض لعملية النفي تلك كما لو كان التعرض لها من شأنه آن يضعف الوحدة المتنامية لكادحي الشعب الفلسطيني والأردني في المملكة الأردنية الهاشمية .
وهكذا سحب منطق الدولة الاستبدادي نفسه على موقف قوى المعارضة من الحركة العمالية والنقابية الفلسطينية، وقد استمر ذلك الوضع حتى منتصف السبعينات حين أخذ البعض يؤرخ من جديد للحركة العمالية و النقابية الفلسطينية ومع ذلك استمرت بقايا ذلك المنطق الاستبدادي تفرض حالها بأشكال متعددة. فتاريخ الحركة العمالية والنقابية الفلسطينية بقي لدى العديد تاريخ مراحل بفواصل زمنية واسعة بين مرحلة وأخرى، فهو تاريخ النضالات العمالية تحت الانتداب البريطاني من ناحية وتاريخ النضالات العمالية تحت الاحتلال الإسرائيلي بعد 1967 من ناحية أخرى. وينقطع التاريخ ويتعرض للنفي على امتداد الأعوام الفاصلة بين 1950-1967 ويصبح تاريخاً للحركة العمالة والنقابية الأردنية، وهذا بحد ذاته سير على منطق الدولة الاستبدادي في نفي الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني ونفي الهوية الوطنية للطبقة العاملة الفلسطينية .
هل جاء هذا المنطق الاستبدادي يخدم وحدة كادحي الشعبين الأردني والفلسطيني ووحدة الحركة العمالية والنقابية في المملكة الأردنية الهاشمية أم جاء يضعف تلك الوحدة. من الناحية الموضوعية لا أحد يستطيع أن ينكر الوحدة الكفاحية الأبدية التي تربط كادحي الشعبين . وهي وحدة تجد أساسها في المصالح المشتركة والأهداف المشتركة للطبقة العاملة في الأردن (شرق الأردن) والضفة الغربية (فلسطين الوسطى ) .
غير أن الثابت بالوقائع المادية الملموسة أن عملية النفي الذي تعرضت له الهوية الوطنية الفلسطينية، أضعفت ومنذ السنوات الأولى للخمسينيات وحدة الحركة العمالية والنقابية في المملكة، فعلى امتداد سنوات الانتداب البريطاني على فلسطين وبشكل خاص على امتداد الأربعينات نمت في فلسطين طبقة عمالية واسعة الانتشار والحجم نسبيا كما استوعبت فلسطين مالا يقل عن 40 ألف عامل أردني(1)، وظهرت في فلسطين قوى عمالية ونقابية رئيسية انتزعت بنضالاتها اعترافا بوجودها كما انتزعت بنضالاتها عددا من المكاسب العمالية من تشريعات عمل وغيرها . ففي فلسطين قبل 1948 كان الحزب الشيوعي الفلسطيني وعصبة التحرير الوطني (لاحقا) كقوى عمالية راكمت تجربة نضالية وسياسية واسعة وكانت جمعية العمال العربية الفلسطينية ومؤتمر العمال العرب كحركات نقابية تنظم في صفوفها عشرات الآلاف من العمال العرب الفلسطينيين ، وقد راكمت قوى الحركة العمالية والنقابية تلك تجربة بارزة وانتزعت بنضالاتها عددا من التشريعات العمالية كقانون تعويض العمال عام 1927 وقانون استخدام النساء والإحداث، وقانون نسيج الآلات البخارية وقانون المراجل البخارية وقانون تنظيم الحرف والصناعات في نفس العام وقانون العمل والعمال لتحديد الحد الأدنى للأجور وتعين هيئات استشارية للبحث في خلافات العمل في منتصف الثلاثينيات، وقانون الحد الأدنى لسن الأحداث العمال وقانون تحديد ساعات العمل وغيرها من القوانين(2)، صحيح أن القوانين الخاصة بتنظيم النقابات والتي على أساسها تم الاعتراف بالنقابات العربية في إطار الجمعية ومؤتمر العمال كنقابات شرعية لم يصدر إلا في نهاية عهد الانتداب ، غير أن الحركة النقابية الفلسطينية كانت قد فرضت نفسها بقوة قبل ذلك التاريخ بكثير، وفرضت على السلطات الانتداب وأرباب العمل منطقا في علاقات العمل لصالح جماهير العمال والكادحين .
وما أن أعلن عن ضم الضفة الغربية إلى المملكة الأردنية الهاشمية حتى لجأت الحكومة الأردنية إلى استخدام القوانين العرفية، التي كانت تخولها حل الحركة النقابية وسائر القوى أو التجمعات السياسية، وهكذا حلت الحكومة مؤتمر العمال العرب واعتبرته قوة غير شرعية وبعد ذلك حلت جمعية العمال العربية الفلسطينية واعتبرتها هي الأخرى منظمة غير مشروعة وعمدت إلى مصادرة كافة أمولها وممتلكاتها في العام 1952. (3)
ولم تتهاون الحكومة الأردنية في أمر التنظيمات السياسية أو النقابية التي كانت قائمة في فلسطين قبل العام 1948، بل اعتبرتها منظمات غير مشروعة طبقا للقوانين العرفية، التي كانت سائدة وكان حل الحركات النقابية الفلسطينية أول ضربة توجه للهوية الوطنية للطبقة العاملة الفلسطينية وأول ضربة توجه لإمكانيات النهوض العمالي في الضفة الغربية وشرق الأردن، الذي كان باستطاعته الاعتماد على التراث والخبرة التي راكمتها الحركة العمالية والنقابية الفلسطينية على امتداد سنوات طويلة . وعلى امتداد الفترة الممتدة بين عام 1950 وعام 1967 فرضت الحكومة الأردنية منطق الدولة الاستبدادي على الحركة النقابية . وأعادتها بقانون نقابات العمال رقم 35 الصادر في العام 1953 إلى نقطة الصفر. ومنذ تاريخ حل المؤتمر العمال العرب، الذي كان يشكل المنظمة النقابية الرئيسية في فلسطين قبل 1948، وحتى عام 1967 اختفت في سياسة الحكومة الأردنية كافة المظاهر ، التي يمكن أن تشير إلى مجرد وجود للطبقة العاملة الفلسطينية وحل محلها طبقة عاملة أردنية وحسب . ومع الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة عادت الطبقة العاملة الفلسطينية للوجود من جديد بحركتها العمالية والنقابية وانتهت عملية النفي لهويتها الوطنية، وانطلاقا من الحقيقة التي جددت نفسها بعد العام 1967، فإن البحث في أوضاع الحركة العمالية والنقابية لفلسطينية لا يجوز أن يقفز فوق تاريخ هذه الحركة للفترة بين 1950-1967 باعتباره تاريخا للحركة العمالية والنقابية الأردنية، كما لا يجوز أن يتجاهل عملية النفي ، التي تعرضت لها الهوية الوطنية للطبقة العمالية الفلسطينية ، فذلك خضوع لمنطق الدولة الاستبدادي . بل أن كل بحث جدي في الأوضاع الحركة العمالية والنقابية الفلسطينية لابد وان يصطدم بعملية النفي تلك وأن يصطدم بذلك المنطق الاستبدادي دون أن يخشى الوقوع في هواجس برجوازية صغيرة حول وحدة الطبقة العاملة للشعبين الأردني والفلسطيني ، فوحدة كادحي الأردن وفلسطين لا تتأثر بهواجس البرجوازية الصغيرة ، التي تنظر للوحدة على هذه الصعيد كقضية أيدولوجية قائمة بذاتها لا يجوز التعرض لها ، وهي بالتأكيد ليست نتاجاً للسياسة التي مارستها الحكومة الأردنية على امتداد سبعة عشر عاماً، بل هي النتيجة الحتمية للوحدة المتنامية التي عبرت عن نفسها بالتدخل الواسع في الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي خضعت لها الضفة الغربية – فلسطين الوسطى – والضفة الشرقية – الأردن – وعبرت عن نفسها بالمعاناة المشتركة للعمال الفلسطينية والأردنية الهاشمية وعبرت عن نفسها بالمصالح والحقوق المشتركة ، التي خاض العمال من أجلها معارك مشتركة وعديدة ، وبالأهداف المشتركة في النضال من أجل الخبز والعمل والحريات الديمقراطية والعامة ومن أجل التحرر من التبعية للاستعمار والسوق الرأسمالية العمالية، وبالأهداف المشتركة في النضال من أجل استعادة الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وهي أهداف مشتركة لكادحي الشعبين وعلى أساسها تقدم وحدتهم .
إذن كان التصدي لعملية النفي تلك مسألة نضالية لا تهم الطبقة العاملة الفلسطينية وحدها، بل تهم كذلك الطبقة العاملة الأردنية كذلك، التي تحكم طبيعتها الديمقراطية لا ترى في تلك العملية حلا لوحدتها مع الطبقة العاملة الفلسطينية ولا تجد فيها أية مصلحة وطنية أو طبقية . فالطبقة العاملة لأي شعب لا تجد مصلحتها ولا تبحث عن أساس وحدتها مع طبقة عاملة لشعب الأخر، خصوصاً عندما تتجسد تلك الوحدة بصيغ سياسية دستورية ، في نفي هويتها الوطنية، بل إن مصلحتها الحقيقية وليست الوهمية هي الوحدة على أساس ديمقراطي طوعي يضمن المساواة التامة في الحقوق والوجبات بصرف النظر عن الهوية الوطنية في إطار الصيغة الوحدوية السياسية الدستورية ، في هذا السياق يجدر التأكيد أن أرقى أشكال الوحدة وأكثرها رسوخا وديمومة هي تلك التي تتحقق بنضالات الطبقة العاملة ، لسبب بسيط وجوهري يتصل أساسا بالمحتوى الديموقراطي لسياسة الطبقة العاملة والقائمة على المساواة في الحقوق والواجبات على كل صعيد. هنا تبدو التجربة السوفياتية وغيرها من التجارب في البلدان الاشتراكية مثالا بارزا يؤكد البعد الديمقراطي الحقيقي في سياسة الطبقة العاملة . فالأذربيجاني يبقى أذربيجانيا في اتحاد الجمهوريات السوفياتية، التي تحفظ له حقوقه كاملة في حركة عمالية ونقابية أذربيجانية متحدة في إطار الاتحاد العام للنقابات السوفياتية، والأرمني في جمهورية أرمينيا السوفياتية يبقى أرمينيا في اتحاد الجمهوريات السوفياتية ويحتفظ بحقوقه كاملة في حركة عمالية ونقابية أرمينية متحدة في إطار الإتحاد العام للنقابات السوفياتية كذلك. حتى في عدد من الدول الرأسمالية يستطيع مواطنو إقليم معين الحفاظ على هويتهم الوطنية الخاصة دون أن تتعرض الوحدة السياسية لتلك الدول لمتاعب تذكر، وفي إطار تلك الوحدة السياسية تتنامى الوحدة الحقيقة للطبقة العاملة.
وفي المملكة الأردنية الهاشمية وعلى امتداد سبعة عشر عاماً لم تكن الوحدة الحقيقية وليس الوهمية للطبقة العاملة في الضفة الغربية وفي شرق الأردن تشكو من ضعف قواسمها المشتركة، وهي بالتأكيد لم تكن لتشكو من إقامة الوحدة بين الضفة الغربية وشرق الأردن في إطار المملكة الأردنية الهاشمية على أساس من الاختيار الديمقراطي الطوعي الحر، الذي يضمن المساواة التامة في الحقوق والوجبات على كل صعيد، ويستجيب لحقوق الطبقة العاملة الفلسطينية والطبقة العاملة الأردنية في التعبير عن ذاتها الوطنية وعن ذاتها النضالية بحركة عمالية ونقابية واحدة، بل إن ما كانت تشكو منه الطبقة العاملة في القطرين الفلسطيني والأردني هو الطبيعة غير الديمقراطية التي جمعتها في إطار سياسي دستوري واحد. هذا إلى جانب حرمانها من التعبير عن ذاتها الوطنية في الحركة العمالية والنقابية، فكما تم حل الحركات النقابية الفلسطينية في مطلع الخمسينيات وتحويلها إلى حركات غير مشروعة. فقد تعرضت العمالة الأردنية لنفس الإجراءات التعسفية في الثلاثينات حيث حلت السلطة أول تنظيم نقابي أردني كان يضم في عضويته آنذاك حوالي ألفي عضو وأبعدت قادته عن البلاد(4). وكما كان حل أول تنظيم نقابي أردني في مطلع ومنتصف الثلاثينات تعبير عن إصرار السلطة على مصادرة الحقوق الديمقراطية للطبقة العاملة الأردنية وحقها في التعبير عن ذاتها في حركة نقابية بوجه خاص ، فقد كان حل الحركات العاملة والنقابية الفلسطينية في مطلع الخمسينيات هو الآخر تعبير عن إصرار السلطة ليس فقط على مصادرة الحقوق الديمقراطية للطبقة العاملة الفلسطينية ومنعها من مواصلة التعبير عن ذاتها في حركة نقابية بل وكذلك تعبير عن الإصرار على نفي هويتها الوطنية لاعتبارات سياسية أساساً ، دون أن يكون للطبقة العاملة في شرق الأردن شأن في ذلك .
وهكذا خضع العمال الفلسطينيون والأردنيون لنفس القوانين العرفية في المملكة الأردنية الهاشمية بعد عام 1950، وحرموا معاً من التعبير عن الذات بالصيغ والأشكال التي تعمق وحدتهم ، وترتب على سياسة الحكومة الأردنية على امتداد الخمسينيات وحتى العام 1967 ، تمييز إقليمي ساهم في عملية النفي ، الذي تعرضت له الهوية الوطنية الفلسطينية وساهم كذلك في التفاوت الملموس في مستوى تطوير مناحي الحركة العمالية والنقابية الأردني والفلسطيني في المملكة، فكان تطور الحركة النقابية في شرق الأردن أسرع وأوسع من تطور الحركة النقابية في الضفة الغربية . إن عملية النفي من ناحية والتفاوت الملموس في مستوى تطور الحركة النقابية من ناحية ثانية يعززان ضرورة عدم التسليم بحالة الانقطاع في تاريخ وتراث الطبقة العاملة الفلسطينية ويؤكدان أهمية إبراز التواصل في ذلك التاريخ ، خاصة وأن عملية النفي لم تنجح، إذ بمجرد خضوع الضفة الغربية وقطاع غزة للاحتلال الإسرائيلي انبعثت الحركة العمالية والنقابية الفلسطينية في المناطق المحتلة من جديد مؤكدة تمسكها بهويتها الوطنية، وعليه سوف يعالج هذا البحث تاريخ الحركة العاملة والنقابية الفلسطينية في الخمسينيات والستينيات كامتداد لتاريخها السابق من ناحية ودون فصل ذلك عن تاريخ وتراث الحركة العمالية والنقابية في شرق الأردن من ناحية ثانية بحكم وحدة الظروف والشروط التي خضعت لها الطبقة العاملة في الضفة الغربية وشرق الأردن في إطار المملكة الأردنية الهاشمية .


اللجوء الفلسطيني عام 1948 يعيد صياغة البني الطبقية
تختلف التقديرات حول عدد سكان فلسطين قبل عام 1948، فتقديرات لجنة الأمم المتحدة الخاصة حول فلسطين –يونسكوب– أشارت أن عدد سكان فلسطين عام 1946 بلغ حوالي 1.845.600 نسمة بينهم 1.076.800 عربي مسلم و145100عربي مسيحي، أي أن عدد الفلسطينيين العرب كان قد بلغ حوالي 1.221.900نسمة(5)، وحسب معدل نمو السكان بحدود 30 بالألف وهو معدل تقريبي وفوق المعدل الحقيقي لتلك الفترة ، فقد كان متوقعاً أن يبلغ عد سكان فلسطين العرب عام 1948حوالي 1.297.000نسمة .
مصادر أخرى كانت تقدر عدد سكان فلسطين العرب عام 1945 بحوالي 1.255.700نسمة(6)، وهو عدد أعلى من العدد الذي قدرته اليونسكو عام 1946، وهذا يعني أن عدد سكان فلسطين العرب كان متوقعاً له أن يبلغ عام 1948حوالي 1.370.000 إذا ما اعتمد نفس معدل الزيادة في السكان . غير أنه إذا ما اعتمد معدل زيادة أقل في السكان وهو الأصح ، لأن معدل الزيادة في المملكة الأردنية الهاشمية في فترة بين 1952-1961 لم يبلغ تلك النسبة بل كانت دون ذلك(7) فإن عدد سكان فلسطين العرب عام 1948كان يتراوح حول 1.350.000 نسمة، وهو رقم قريب إلى النتائج التي توصل لها عدد من الباحثين .
وفي العام 1948 بلغ عدد سكان قطاع غزة حسب بعض التقديرات حوالي 85 ألف نسمة(8) أما عدد سكان الضفة الغربية بحدودها التي استقرت عليها عام 1948 فقد كان بحدود 470000 نسمة قبل الحرب، وهو على كل حال رقم تقريبي ويعتمد على تقديرات البنك الدولي للإنشاء والتعمير لعدد سكان الضفة في نهاية العام 1947(9) وإذا أضفنا إلى عدد سكان قطاع غزة والضفة الغربية عدد الفلسطينيين الذين لم يغادروا المناطق التي قامت عليها دولة إسرائيل والبالغ عددهم عام 1948 حوالي 156ألف نسمة ، فإن عدد اللاجئين الفلسطينيين الذين اقتلعوا من وطنهم بعد قيام إسرائيل بلغ حوالي 640000 نسمة ، وهو رقم قريب من الدقة ويقترب كثيرا من الإحصاءات التي رست عليها تقديرات وكالة الغوث-الأنروا(10).
وقد توزع معظم اللاجئين الفلسطينيين على الضفة الغربية وقطاع غزة والأردن، ففي الضفة الغربية استقر حوالي 43 بالمائة من اللاجئين بينما استقر في قطاع غزة حوالي 22 بالمائة وفي الأردن حوالي 12 بالمائة بعد الحرب مباشرة(11) وهكذا فقد بلغ العدد التقريبي لسكان الضفة الغربية عام 1948 حوالي 745 ألف نسمة كما بلغ عدد سكان قطاع غزة لنفس العام كذلك حوالي 226ألف نسمة ، أما عدد سكان الأردن فقد وصل في العام 1948 بعد تدفق موجة اللاجئين الأولى إلى حوالي 460ألف نسمة إذا ما اعتمدت تقديرات البنك الدوالي للتنمية لعدد سكان الأردن عام 1947، حيث كانت تلك التقديرات تؤكد إن عدد سكان لم يتجاوز 375ألف (12)، وهو رقم واقعي إذا أخذت بعين الاعتبار تقديرات مصادر الانتداب البريطاني للسكان في الأردن عام 1936 وتقديرات أخرى غيرها،(13) تؤكد أن عدد السكان في الفترة بين 1936-1938 لم يتجاوز 300 ألف نسمة . وقد تجمع القسم الأكبر من الشعب الفلسطيني عام 1948 في الضفة الغربية وقطاع غزة في مساحة جغرافية ضيقة ، حيث لم تزد مساحة الضفة الغربية عن 5650 كيلو متر مربعا ومساحة قطاع غزة عن 365 كيلو متر مربعا ، وهي تعادل فقط 29.5 بالمائة من مساحة القطاع قبل عام 1948. وقد بلغ عدد سكان الضفة الغربية وقطاع غزة آنذاك حوالي 971 ألف نسمة .
ظروف الحياة الصعبة للشعب الفلسطيني
بالتهجير الجماعي الذي فرض على الشعب الفلسطيني عام 1948 انهارت البنى الطبقية للمجتمع الفلسطيني القديم، فقد حطمت النكبة تلك البني الطبقية بسبب فقدان الصلة بحوالي 87 بالمائة من مساحة فلسطين وما ترتب على ذلك من تحويل جمهور واسع جدا من الفلاحين المهجرين بالقوة من قوة عاملة بشكل أو بآخر ألي قوة تبحث عن العمل وتكافح من أجل تجديد شروط حياتها، في هذا الإطار وقع العبْء الرئيسي على سكان الضفة الغربية وقطاع غزة ، حيث تم استيعاب الأغلبية الكبيرة من اللاجئين في البداية في هاتين المنطقتين، ولم يؤثر التهجير الجماعي على أوضاع اللاجئين فحسب، بل طالت تأثيراته كذلك سكان الضفة الغربية وقطاع غزة ، حيث فقد قطاع غزة حوالي 70.5 بالمائة من أراضية الزراعية ، كما فقدت المناطق الحدودية في الضفة الغربية حوالي 700ألف دونم ، تم ضمها هي الأخرى إلى دولة إسرائيل بالقوة، وهكذا فقدت تلك المناطق حوالي 38 بالمائة من أرضيها ، وكانت أكثر المناطق المتضررة منطقة جنين التي فقدت حوالي 63.3 بالمائة من أرضيها الحدودية ومنطقة طولكرم التي فقدت هي الأخرى حوالي 59 بالمائة من تلك الأراضي(14). ومن مجموع مساحة الضفة الغربية التي تبلغ حوالي 5650 كيلو مترا مربعاً لم يتجاوز مساحة الأراضي المزروعة بعد عام 1948 أكثر من 27 بالمائة من تلك المساحة مثلت المصدر الرئيسي لمعيشة الفلاحين في الضفة، ومن مجموع مساحة قطاع غزة التي تبلغ حوالي 365 كيلو مترا مربعاً لم تتجاوز مساحة الأراضي المزروعة في مطلع الخمسينيات أكثر من 36 بالمائة من مساحة القطاع مثلت المصدر الرئيسي لمعيشة ليس فقط الفلاحين ومزارعي القطاع بل وأعدادا واسعة من اللاجئين الذين وجدوا في الزراعة في القطاع ميدان العمل الرئيسي بسبب التخلف الواسع للقطاعات الإنتاجية الأخرى(15) . وكانت المعانات واسعة في قطاع غزة ، خاصة وأن 90 بالمائة من الملاك الزراعيين فقدوا صلتهم بأرضيهم بعد 1948.
وللمزيد من التوضيح حول حجم معاناة الفلاحين في الضفة الغربية عام 1948 تجدر الإشارة إلى حجم الملكيات الزراعية كما كانت عليه في مطلع الخمسينيات. فأكثر من 68 بالمائة من المالكين الزراعيين لم يكونوا يملكون للفرد الواحد حيازات زراعية تزيد عن خمسين دونما، وحوالي 19.5 بالمائة من هؤلاء المالكين كان يملك الفرد الواحد بينهم مساحة تتراوح بين 50-100 دونهم فقط (16). وكان عدد المزارعين المالكين في الضفة الغربية حوالي 62 ألف مالك، وبلغ متوسط حيازة الفرد الواحد من المالكين الزراعيين حوالي 28 دونماً فقط . ومن هذه الوقائع يمكن التوصل إلى استنتاجات عدة ، فهي تشير من ناحية إلى تدني نسبة الأراضي المزروعة في الضفة الغربية بسبب فقدان مناطقها الحدودية لحوالي 700 ألف دونماً من الأراضي الخصبة وبسبب الطبيعة الجبلية لأراضيها وقلة مساحة الأراضي المروية واتساع مساحة الأراضي التي تعتمد على مياه الأمطار أساسا، وكل هذه عوامل تعرقل نسبيا التوسع في مساحة الأراضي المزروعة خاصة في ظل غياب أي تخطيط زراعي وأي دعم حكومي للزراعة .
ومن ناحية أخرى تشير هذه الوقائع إلى تفتت الحيازات الزراعية على مستوى الضفة الغربية وعدم كفايتها ليس فقط لاستيعاب أعداد الهجرة الواسعة التي استقبلتها الضفة الغربية بل وكذلك لتأمين مستوى معيشة في حدود المقبول للسكان في ريف الضفة الغربية . فبسبب الطبيعة الجبلية لأراضي الضفة الغربية وتأثر زراعتها أساسا بالمواسم الماطرة هذا فضلا عن قلة مساحة الأراضي المروية . فإن مساحة الحيازة الزراعية الكفيلة بتأمين مستوى عادي من معيشة الأسرة الريفية كانت بحدود المائة دونما تقريباً، وهذا لم يتوفر لسكان الريف الفلسطيني في الضفة الغربية، إذ كان معدل حيازة أكثر من ثلثي السكان في الريف يراوح حول نصف تلك المساحة . وعليه فقد عجزت الزراعة عن وضع حلول لمشكلات التهجير القسري ، الذي تعرضت له عشرات آلاف العائلات من اللاجئين، بل إن الزراعة عجزت عن تقديم حلول للسكان أنفسهم ، الذين كانوا يعانون أصلا من بطالة واسعة شملت حوالي نصف السكان في الريف .
وفي قطاع غزة لم تكن أوضاع الزراعة في هذا المجال أفضل حالا من أوضاعها في الضفة الغربية ولم تتأثر الأوضاع في الضفة الغربية فقط بعدم كفاية القطاع الزراعي عن إيجاد الحلول لمشكلات السكان الأصليين ولعشرات آلاف العائلات اللاجئة ، بل هي تأثرت كذلك بانقطاع الروابط التي كانت قائمة مع المناطق الفلسطينية الأخرى التي قامت عليها دولة إسرائيل، فقد تركزت المنشآت الإنتاجية الزراعية والصناعية الرئيسية وذات القدرة الأعلى على استيعاب العمالة في تلك المناطق، كما تركزت المنشآت الإنتاجية الزراعية والصناعية الرئيسية وذات القدرة الأعلى على استيعاب العمالة في تلك المناطق ، كما تركزت فيها كذلك دوائر حكومة الانتداب والعديد من المؤسسات العامة التي كانت تستوعب عشرات الآلاف العمال الفلسطينيين قبل عام 1948. ونتيجة انقطاع الروابط مع تلك المناطق تعرض عشرات آلاف العمال للبطالة, التي طالت حوالي 24 ألف عائلة ضمت تقريباً 120 ألف شخص . فبعد قيام إسرائيل فقدت 16 ألف عائلة مصادر دخلها بسبب استيلاء إسرائيل على مناطق حدودية واسعة في الضفة، وتعرضت 4 آلاف عائلة لفقدان مصادر دخلها بسبب فقدان العمل في دوائر ومؤسسات العامة التي كانت تابعة لحكومة الانتداب، وفقدت أربعة آلاف عائلة أخرى مصدر معيشتها بسبب خسارة مواقع العمل في مؤسسات الإنتاجية والزراعية والصناعية، التي أصبحت بعد عام 1948 ضمن حدود الدولة الإسرائيلية (17) .
إذن بتدفق اللاجئين الفلسطينيين على قطاع غزة والضفة الغربية وبدرجة أقل على شرق الأردن ظهرت عوامل أزمة اجتماعية واقتصادية بالغة الحدة . وتفاقمت عوامل هذه الأزمة بحجم الخسارة التي لحقت بالملاك الزراعيين في القطاع، الذين فقدوا كل صلة بحيازاتهم الزراعية بفعل استيلاء إسرائيل عليها، والتي لحقت أيضاً بالملاك الزراعيين في مناطق حدود الضفة الغربية مع دولة إسرائيل نتيجة الاستيلاء عليها كذلك، كما تفاقمت عوامل الأزمة بخسارة مواقع العمل لعشرات آلاف الفلسطينيين الذين كانوا يعملون في الدوائر والمؤسسات التابعة لحكومة الانتداب وفي المؤسسات والمشاريع الزراعية والصناعية العربية واليهودية ، التي قامت أساساً في المنطقة التي قامت عليها دولة إسرائيل. وانتشرت البطالة على نطاق واسع ليس في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين وفي المدن وحسب بل وكذلك في أرياف الضفة الغربية وخضع السكان لظروف معيشية قاسية للغاية. وبفعل انتشار البطالة على نطاق واسع جدا وقلة فرص العمل في القطاعات الزراعية والصناعية وقطاع الخدمات انخفضت الأجور على نحو واسع جداً، وكان ذلك أمرا طبيعياً، خاصة في ظل التنافس الحاد في سوق العمل . فقطاع غزة كان من أفقر مناطق فلسطين، وإذا استثنينا مناطقه الشمالية، التي خضعت للاحتلال الإسرائيلي فإن ما تبقى من القطاع كان فقيرا للغاية في مؤسساته الإنتاجية وخاصة الصناعية ولم يوفر فرص عمل للسكان الأصلين أساسا . وكان قطاع غزة قبل العام 1948 يستوعب عددا من المؤسسات الإنتاجية في قطاع النسيج وصناعة دبغ الجلود وتصنيع الألبان وعداد من المؤسسات الحرفية الصغيرة ، ولكن بعد أن استولت إسرائيل على أجزائه الشمالية فقد القطاع جزءا رئيسيا من مؤسساته تلك ولم يتمكن حتى من المحافظة على مستوى ما تبقى فيه من مؤسسات إنتاجية لاعتبارات عدة سيتم التطرق لها لاحقا .
وقد وصل عدد سكان قطاع غزه عام 1951 حوالي 294869 نسمة قدرت نسبة اللاجئين بينهم بحوالي 70بالمئة من مجموع سكانه (18). ولم تكن الزراعة قادرة على استيعاب أكثر من 36 بالمائة من قوة العمل في القطاع بفعل ضعفها وضيق مساحة الأراضي المزروعة بشكل عام، أما الصناعة فقد أصبحت أساساً أضعف مما كانت عليه ولم يتجاوز في تطورها مرحلة الصناعات الحرفية البسيطة ولم تشهد تطورا بعد العام 1948 وعلى امتداد فترة الخمسينيات كذلك .
وكانت أوضاع الضفة الغربية أفضل نسبيا من أوضاع قطاع غزة من حيث المساحة والكثافة السكانية والمساحة المزروعة والقابلة للزراعة وطاقة الزراعة على استيعاب العمالة ومن حيث وجود بعض الصناعات المحدودة ووجود منشآت إنتاجية وخدماتية تجارية وسياحية وغيرها . ومع ذلك كانت الضائقة الاقتصادية حادة للغاية . يضاف إلى ذلك أن الضفة وجدت في شرق الأردن امتدادا جغرافيا واقتصاديا أسهم بصوره محدودة في تخفيف حدة تلك الضائقة عبر تسرب أعداد من الأيدي العاملة غير قليلة، بينما لم يتوفر مثل هذا العامل لسكان قطاع غزة . ومع وجود هذا الامتداد الجغرافي والاقتصادي بالنسبة للضفة فقد عانى ليس فقط من البطالة بل وكذلك من تدني مستوى المعيشة بفعل ارتفاع الأسعار وانخفاض الأجور . فطبقاً لبعض التقديرات قدر مجموع القوة العاملة في الضفة الغربية وفي شرق الأردن للعام 1949 بحوالي 270 ألف شخص ، كان بينهم 110 آلاف عامل مستخدم بشكل أو بآخر , أما الباقون ، أي حوالي 160 ألف شخص فقد عانوا بطالة تامة وكان معظم هؤلاء من اللاجئين الذين كانوا يعانون البطالة على أوسع نطاق ، هذا إلى جانب النسبة الكبيرة من البطالة بين المواطنين الأصلين، التي وصلت آنذاك إلى حوالي 60 بالمائة في الضفة الغربية وحوالي 30 بالمائة في شرق الأردن، إذا استثنينا النساء من قوة العمل(19). وكانت الأوضاع المعيشية لللاجئين الفلسطينيين آنذاك في غاية التردي، ليس فقط في الضفة الغربية وحدها بل كذلك في قطاع غزة وبقية مناطق اللجوء، فالنسبة القليلة من هؤلاء كانت تجد فرصاً للعمل الموسمي المؤقت والنسبة الأقل كانت تجد فرصاً للعمل المنتظم، وكان ما تقدمة وكالة الغوث _ الاونروا محدودا للغاية ولا يتجاوز في مطلع الخمسينات 15 دينارا للفرد سنوياً، وهو دخل زهيد جدا ومحدود جداً قياساً بما اعتاده العامل الفلسطيني قبل العام 1948، حيث كان معدل دخله السنوي في مطلع الأربعينيات يعادل 98جنيها فلسطينيا(20). وكانت طاقة كل من الضفة الغربية وشرق الأردن على استيعاب واسع للعمالة طاقة محدودة، ففي الزراعة لم تكن مساحة الأراضي المزروعة تزيد عن 5.6 مليون دونما من أصل 9.7 مليون دونما قابلة للزراعة وكانت الحيازات الزراعية في معظمها صغيرة ولا تكفي منتجاتها لتغطية الاحتياجات الأساسية المعيشية للمزارعين، كما كانت مساحة الأراضي المروية في مطلع الخمسينيات محدودة ولا تشكل أكثر من 4.62 بالمائة من مساحة الأراضي المزروعة وحوالي 2.67 من مساحة الأراضي القابلة للزراعة (21) والذي لم تقدم الزراعة غير حل جزئي جداً وبعمل غير منتظم خاصة بالنسبة لللاجئين.
ولم يكن القطاع الصناعي والتجاري في مطلع الخمسينيات، أي بعد النكبة مباشرة، بقادر على وضع حلول للمشكلات المعيشية المتفاقمة وخاصة في الضفة الغربية، لا سيما وأن معظم التوظيف في القطاع الحكومي كانت تصرف على الجيش والأمن العام لأغراض السيطرة على الأوضاع الداخلية بالدرجة الرئيسية ومعظم التوظيفات في القطاع الخاص كانت تستثمر في الشركات التجارية والعقارات والأصول المالية، التي لا توفر فرص عمل كافية كما يوفر التوظيف في القطاع الصناعي . فطبقا للمصادر الرسمية الأردنية كانت أغلبية الشركة العادية المسجلة في الضفة الغربية حتى عام 1951 شركات تجارية تعني بالاستيراد والتصدير وشركات تجارة الجملة هذا إلى جانب شركات التجارة الداخلية، فمن أصل 90 شركة مسجلة في الضفة الغربية لنفس العام كانت حوالي 38 شركة تتعاطى أعمال الاستيراد والتصدير وتجارة الجملة وحوالي 21 شركة تتعاطى التجارة الداخلية بدءا بالتجارة العمومية مرورا ببيع مواد البناء وانتهاء بلوازم السيارات وغيرها . أما الشركات الصناعية فكانت حوالي 18شركة لمعامل الورق ومطاحن الحبوب والأحذية والصابون والمشروبات الروحية والنسيج والمصنوعات الخشبية وغيرها. ولم يتجاوز عدد الشركات المساهمة شركتان إحداهما للطباعة والنشر في القدس والثانية للزيوت في نابلس(22)
وفي شرق الأردن كذلك لم يكن عدد الشركات الصناعية المسجلة لتتجاوز عام 1950 حدود 27 شركة مثل شركات الكهرباء والإنارة والصناعات الميكانيكية والصناعات الغذائية وصنع الكحول والمرطبات ألي جانب الدباغة والتبغ وغيرها . ومثل هذا الحجم من المؤسسات الإنتاجية الصناعية كان محدود القدرة على استيعاب البطالة الكاملة والبطالة الموسمية سواء في الضفة الغربية أم في شرق الأردن .
وقد استمرت هذه الأوضاع المعيشية المتردية لقطاعات واسعة من العمال والفلاحين وخاصة اللاجئين لسنوات أخرى عدة . ويكفي للتعرف على حجم البطالة في صفوف اللاجئين سواء الذين التحقوا بالعمل الزراعي في الريف أم الذين التحقوا بالقوة العاملة في المدينة في المملكة الأردنية الهاشمية عموما وبعد سبع سنوات على النكبة . الإشارة إلى أن عدد الذين شغلوا عملا دائما في الريف كان منعدماً تقريباً ، وعدد الذين شغلوا عملاً موسمياً متقطعا في الزراعة بلغ حوالي 50 ألف شخص وعدد الذين كانوا بدون عمل يزيد على 42 ألفا ، أما الذين شغلوا عملاً موسمياً في المدينة فقد بلغ حوالي 16 ألفا، بينما بقي عاطلا عن العمل في المدينة حوالي 20 ألف شخص (23)، أي أن القوة العاملة العاطلة عن العمل والتي تعيش كذالك بطالة مقنعة بين اللاجئين وحدهم عام 1955 كان حوالي 131 ألف شخص، أما القوة العاملة التي كانت تعيش بطالة مقنعة أو عاطلة تماماً عن العمل بين السكان الأصلين فقد بلغ في نفس العام حوالي 67 ألف شخص (24) . ذلك يعني أن حوالي 52 بالمائة من القوة البشرية العاملة في الريف والمدينة كانت تعيش بطالة مقنعة أو كانت عاطلة عن العمل بعد سبع سنوات من النكبة واقتلاع مئات الآلاف من الفلسطينيين من وطنهم وبعد خمس سنوات كذالك من ضم الضفة الغربية إلى المملكة الأردنية الهاشمية ، مما يعطي صورة عن الأوضاع التي كانت تعيشها الضفة الغربية على وجه الخصوص بعد استقبالها حوالي 43 بالمائة من مجموع اللاجئين عام 1948.
وبفعل البطالة الواسعة، التي تفشت في الضفة الغربية بعد عام 1948 بسبب تدفق اللاجئين عليها وانقطاع اتصالها ببقية أجزاء فلسطين وما ترتبت على ذلك من نتائج وحالة الضعف التي كان عليها اقتصادها بفروعه المختلفة، فإن التنافس الواسع في سوق العمل أدى إلى انخفاض كبير في مستوى الأجور ومستوى المعيشية كما يشير الجدول التالي :
معدل الأجور لأعوام 1947 و 1951/1952(25)
الفرع الاقتصادي الأجور عام 1947 بالفلسطيني الأجور عام1951/1952
بالفلسطيني والأردني
الصناعات الغذائية 535 160
البناء 641 250
النقل 739 190
المطاحن 480 264
النجارة 500 188
الخياطة 641 198
تصليح السيارات 683 142
الصناعات الميكانيكية 400 152
دون شك زاد من حدة الضائقة الاقتصادية للسكان في الضفة الغربية بعد عام 1948 مباشرة فقدان الاتصال مع العالم الخارجي عبر الموانئ الفلسطينية واضطرار الضفة الغربية للتعويض عن هذه الخسارة بإدارة تجارتها عبر الموانئ اللبنانية والموانئ الأردنية كميناء بيروت وميناء العقبة، الأمر الذي عكس نفسه سلبياً على مؤسساتها الإنتاجية والزراعية والصناعية، فرفع من كلفة إنتاج الاحتياجات الأساسية للمواطنين ومن كلفة المواد المستوردة وقلل من فرص النمو في الإنتاج المحلي . فطرق المواصلات أصبحت ليس فقط للضفة الغربية بل وكذلك بالنسبة الأردن أطول مما كانت عليه قبل عام 1948، خاصة وأن ميناء العقبة كان آنذاك في طور النمو ولم يتحول بعد إلى ميناء رئيسي للأردن، يضاف إلى ذلك أن طرق المواصلات تلك كانت تمر عبر عمان التي تحولت عام 1950 إلى عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية بما فيها الضفة الغربية، مما أعطاها ميزة تجارية واقتصادية أساسية على حساب عدد من المدن الفلسطينية، التي كانت تلعب دورا تجاريا واقتصاديا متميزا في السابق مثل القدس، فتركزت الشركات التجارية الرئيسية والمركز الإنتاجية الأساسية في عمان باعتبارها ليس فقط العاصمة السياسية بل والعاصمة الاقتصادية للمملكة . ونتيجة لذلك الوضع المتميز لعمان كعاصمة سياسية وعاصمة اقتصادية ومدينة تتحكم بطرق المواصلات وبحركة التجارة من الضفة الغربية إليها، فقد انتقلت البرجوازية التجارية الفلسطينية برؤوس أموالها من الضفة الغربية إلي شرق الأردن وخاصة عمان، وهكذا كان حال بعض قطاعات البرجوازية المالية والعقارية والصناعية الفلسطينية كذلك ، ويقدر مجموع الأموال التي انتقلت مع هذه القطاعات البرجوازية من الضفة الغربية إلى شرق الأردن وخاصة عمان بحوالي عشرين مليون دينار ، الأمر الذي كان له أثر سلبي واسع على الأوضاع في الضفة الغربية .
كانت البرجوازية على اختلاف فئاتها التجارية والعقارية والمالية والصناعية ضعيفة أساساً في شرق الأردن قبل العام 1950، ولكن ساعد هذه البرجوازية اشتد بعد اندماجها في الحركة الاقتصادية التي أثارتها البرجوازية الفلسطينية في شطري المملكة بعد عام 1950 وبشكل خاص في العاصمة السياسية والاقتصادية عمان، ويعتقد البعض أن سياسة التمييز الاقتصادي التي مارستها الحكومات المتعاقبة في عمان بين الضفة الغربية وشرق الأردن كانت هي المسؤولة عن استمرار الأوضاع الاقتصادية المتردية في الضفة الغربية لسنوات طويلة، ومثل هذا الاعتقاد صحيح تماماً ولا مجال لإنكاره أمام الوقائع المادية، التي سيتم التطرق إليها بشيء من الاختصار في هذا السياق، غير أن أنماط سلوك البرجوازية الفلسطينية التجارية والعقارية والمالية والصناعية كانت هي الأخرى مسؤولة عن استمرار تردي تلك الأوضاع . فقد بدلت تلك البرجوازية مواقفها الوطنية واختارت في إطار النظام الجديد في المملكة الأردنية الهاشمية تحالفات من ذات نمط تحالفاتها القديمة في فلسطين قبل العام 1948، سعياً وراء تأمين مصالحها الطبقية الفئوية على حساب جماهير العمال والفلاحين وسائر الكادحين وخاصة في الضفة الغربية . ولم تقف البرجوازية مكتوفة الأيدي أمام الأزمة المعيشية في مطلع الخمسينيات، بل هي اندفعت وخاصة البرجوازية التجارية الفلسطينية منها والأردنية لاستثمار الأوضاع في سبيل تحقيق الأرباح الممكنة على حساب حياة الجماهير فتلاعبت بالأسعار حتى ارتفعت تكاليف المعيشية في الفترة بين 1950-1952 بمعدل 172 بالمائة (26) ووقع العبء الرئيسي في تحمل تبعات الأوضاع المتردية على كاهل سكان الضفة الغربية بالدرجة الرئيسية وخاصة على كاهل الفئات الكادحة وجماهير اللاجئين .
وفي الوقت الذي كانت فيه الضفة الغربية بشكل خاص تفتقر إلى استثمارات جديدة في قطاعاتها الإنتاجية لاستيعاب الضائقة الاقتصادية المتفاقمة جاءت سياسة الحكومة الأردنية لتزيد في تردي الأوضاع وتعمق الأزمة بكل ما ترتب على ذلك من آثار سلبية واسعة.
الحكومة تعالج الأوضاع بتعميق ارتباطها بالامبريالية وبسياسة التمييز بين شطري المملكة
كانت الضفة الغربية بشكل خاص والمملكة بشكل عام بحاجة إلى خطة إنقاذ وطني على المستوى الاقتصادي لاستيعاب التردي الواسع في أوضاعها الاقتصادية واحتواء مشكلات البطالة وللحيلولة دون تطور الأزمة باتجاهات خطيرة تؤدي إلى إضعاف ارتباط وثبات المواطن الفلسطيني بما تبقى من وطنه بعد عام 1948 . مقومات تلك الخطة كان يجب أن تستند إلى خلق الحوافز الاقتصادية في الضفة الغربية ليتمكن الرأسمال الفلسطيني في الحد الأدنى من الاستيطان في الضفة في مشاريع إنتاجية زراعية وصناعية تحتوي في مدى زمني منظور نسبياً مشكلات البطالة الكامنة والموسمية ، التي برزت بشكل حاد بعد عام 1948 . وكان يجب أن تتركز كذلك على إعادة النظر بأوجه الصرف في بنود الموازنة لصالح استيعاب المشكلات الاقتصادية المتفاقمة كبديل حتمي وطبيعي لسياسة الإنفاق على القطاعات التي تشكل مصدر استنزاف للدخل القومي دون أن تسهم من قريب أو بعيد في تحسين مستوى مساهمة القطاعات الإنتاجية في الناتج المحلي . فقد كانت البلاد وخاصة الضفة الغربية بحاجة إلى توظيفات ومشاريع إنفاق اقتصادي في قطاعين رئيسيين هما القطاع الزراعي والقطاع الصناعي، هذا إلى جانب قطاعات أخرى يشكل النشاط الاقتصادي فيها منشطا لهذين القطاعين الإنتاجيين، أي القطاعات التي يتصل عملها بتحسين مستوى أداء القطاعات الإنتاجية مثل البنية التحتية المواكبة لكل عملية اقتصادية وطنية من أشغال عامة وطرق مواصلات وعمليات إسكان وتعليم وصحة وغيرها .
فمن مجموع مساحة الأراضي في الضفة الغربية كانت مساحة الأراضي المزروعة عام 1952 حوالي 1.743.668 دونم . (27) وكانت هنالك إمكانية لتطوير مساحة مماثلة وتحويلها إلى أراضي مزروعة تسهم في تحسين مساهمة هذا القطاع في الناتج المحلي وفي تخفيف حدة الأزمة الاقتصادية وحدة البطالة المتفشية في الريف والتي بلغت عام 1955 حوالي 142 ألف شخص يعيشون إما بطالة كاملة أو بطالة مقنعة. وفي المملكة بشاطريها الأردني والفلسطيني كانت مساحة الأراضي المزروعة بشكل أو بأخر عام 1953 حوالي 5.6 مليون دونم وكان يمكن تحسين وسائل استغلال هذه المساهمة لرفع إنتاجيتها، التي كانت متدنية وتحويل مساحة واسعة كانت تقدر بحوالي 4.1 مليون دونم هي الأخرى إلى أراضي مزروعة. (28) لينهض القطاع الزراعي بسرعة نسبيا في دوره لإنعاش الاقتصاد الوطني وزيادة إسهامه في الناتج المحلي والدخل القومي وليتمكن من حل مشكلة البطالة المنتشرة في الريف وحل مشكلة الاعتماد على الخارج في عدد من المحاصيل الزراعية . كما كان يمكن الشروع الفوري بتحسين نسبة الأراضي المروية في شطري المملكة التي لم تتجاوز عام 1953 نسبة 4.62 بالمائة من الأراضي المزروعة ونسبة 2.67 بالمائة من الأراضي القابلة للزراعة .(29) وبدلا من سلوك هذا الطريق لاستيعاب الضائقة الاقتصادية التي كانت تعصف بالشطر الفلسطيني من المملكة بشكل خاص، أدارت الحكومة ظهرها للقطاع الزراعي وتركته عرضة لشتى التطورات السلبية من تفتيت للملكية إلى انخفاض مستوى الإنتاجية وتذبذبها إلى تراجع في مساحة الأراضي المزروعة في الضفة الغربية ، هذه المساحة التي تراجعت من حوالي 1.743.668 دونم عام 1952 إلى حوالي 1.548.254 دونم في العالم 1957، (30) أي أن الضفة الغربية لم تحافظ على مساحة الأراضي المزروعة عام 1952 ، بل إن تلك المساحة تراجعت بعد خمس سنوات بنسبة 11.4 بالمائة ، مما عطل دور هذا القطاع الإنتاجي في التخفيض من حدة الأزمة وعطل دوره في استيعاب وتثبيت المواطن الفلسطيني في ما تبقى من وطنه .
ولم يكن منحى التطور في القطاع الصناعي خاصة في الشطر الفلسطيني من المملكة بأحسن حالا من منحى التطور في القطاع الزراعي . ولم تضع الحكومة أية قوانين من شأنها أن تشجع الرأسمال الفلسطيني في الحد الأدنى على الاستيطان في الضفة الغربية للمساهمة في تطوير أوضاعها الاقتصادية، بل هي شجعته على الهجرة إلى العاصمة السياسية والاقتصادية للمملكة . وكأن المهمة الأكثر إلحاحا في معالجة الأوضاع الاقتصادية في البلاد تمثلت آنذاك في النهوض بأوضاع العاصمة أولا وقبل أي شيء آخر وتحويلها إلى "مترو بول " في دولة يشتد فيها الفقر وتشتد فيها الحاجة في أطرافها الواسعة وتتفشى فيها مشكلات البطالة . وهكذا هاجرت من الشطر الفلسطيني للمملكة باتجاه العاصمة السياسية والاقتصادية رؤوس أموال كبيرة قاربت حدود العشرين مليون دينار . كان يمكن أن تسهم في وضع أسس جيدة لصناعة نامية نسبيا في الضفة الغربية للنهوض بأوضاعها والمساهمة في تخفيف أزمتها الاقتصادية الحادة وامتصاص جزء من البطالة الواسعة التي كانت تنتشر في المدن وفي صفوف اللاجئين . ولم توفر الحكومة فرصاً جيدة وحوافز تشجيعية للاستثمار في القطاع الصناعي والتعدين ليس في الضفة الغربية وحدها بل كذلك في شرق الأردن . بل هي وفرت مثل هذه الفرص والحوافز للقطاعات أخرى غير إنتاجية . ومن هنا لم تتطور نسبة مساهمة قطاع التعدين في الداخل القومي الإجمالي في مطلع الخمسينيات وبقيت تراوح عند حدود 0.1 بالمائة، و 1. بالمائة و 0.2 بالمائة في قطاع العريف للأعوام 1952، 1953 ، 1954، على توالي . ولم تتطور كذلك نسبة مساهمة القطاع الصناعي في الدخل القومي الإجمالي في نفس الفترة وبقيت تراوح عند حدود 1.8 بالمائة ،2.1 بالمائة و 2.7 بالمائة لنفس الأعوام . (31) وكانت مساهمة القطاعات المختلفة في الداخل القومي الإجمالي في بداية الخمسينيات تعطي صورة واضحة عن جدول أولويات الحكومة آنذاك ومدى ابتعادها عن معالجة الأزمة الاقتصادية ومشكلات البطالة وغيرها من مظاهر الأزمة في البلاد .
الدخل القومي في المملكة بملايين الدنانير(32)
الفرع 1952 1953 1954
الزراعة 17.6 11.6 19.7
التعدين والمقالع 0.1 0.1 0.2
الصناعة 1.8 2.1 2.7
البناء 0.6 0.4 0.6
العقارات 4.8 4.8 4.9
المرافق العامة 0.2 0.1 0.2
النقل والمواصلات 2.7 2.9 2.7
الجهاز الحكومي 7.6 7.9 8.8
التجارة 7.4 7.1 7.9
الخدمات 1.4 105 1.6
المالية 0.3 0.3 0.3
المجموع 44.5 38.8 50.0
ويتضح من هذا الجدول كم هي متخلفة نسبة مساهمة قطاعي الصناعة والتعدين في الدخل القومي الإجمالي للمملكة في فترة الأزمة الاقتصادية الحادة ، التي خلفتها نكبة فلسطين ، فقد كانت تلك النسبة 4.3 بالمائة العام 1952 5.6 بالمائة العام 1953 و4.4 بالمائة العام 1954 . أما ارتفاع نسبة مساهمة الصناعة والتعدين في إجمالي الدخل القومي العام 1953 فلا يعود إلى تحسن أوضاع القطاع الصناعي بقدر ما يعود أساساً إلى تراجع حصة الزراعة في الدخل القومي نتيجة الموسم السيئ من 39 بالمائة عام 1952 إلى حوالي 29 بالمائة عام 1953 . إذن مساهمة قطاع الصناعة والتعدين في الدخل القومي وفي الناتج المحلي الإجمالي كذلك بقي متدنيا للغاية، هذا في الوقت الذي كانت فيه حصة الجهاز الحكومي وخاصة الجيش وقوى الأمن مرتفعة للغاية وتساوي أربعة أضعاف حصة الصناعات والتعدين للأعوام المعنية بالتالي. كذلك كانت حصة العقارات مرتفعة قياسياً بنسبة مساهمة قطاعي الصناعة والتعدين وشكلت حصة القطاع العقاري أكثر من ضعفي حصة الصناعة ، أما حصة التجارة في الدخل القومي فقد تراوحت بين 3-4 أضعاف حصة القطاع الصناعي وقطاع التعدين والمقلاع ، الأمر الذي كان يدل على ميل رؤوس الأموال نحو التوظيف في القطاعات غير الإنتاجية والقطاعات التي لا تسهم بفعالية في تطوير اقتصاد البلاد وحل مشكلاتها الاقتصادية ومشكلات البطالة الواسعة . لقد تراوحت حصة الصناعات التي لا تسهم بفعالية في التطوير اقتصاد البلاد وحل مشكلاتها الاقتصادي ومشكلات البطالة الواسعة ، لقد تراوحت حصة الصناعة في الدخل القومي الإجمالي للسنوات 1952-1954 بين 4-6 بالمائة فقط، بينما كانت حصة التجارة تتراوح بين 16-19 بالمائة وحصة الجهاز الحكومي وتحديدا الجيش والأمن العام تتراوح بين 17-24 بالمائة من الدخل القومي الإجمالي , وهو مؤشر في غاية السلبية على مستوى تطور قطاع الإنتاج الصناعي ومستوى الاهتمام الحكومي به أيضا . أكثر من ذلك، فإن ارتفاع حصة الجهاز الحكومي في الدخل القومي الذي ارتفع في عامي 1953 و 1954 كان يؤكد ذلك المؤشر السلبي خاصة وأنه لم يترافق إطلاقا مع ارتفاع في معدل دخل الفرد، الذي تراجع تحديداً عام 1953 بسبب تراجع إنتاجية القطاع الزراعي وحصته في الدخل القومي بنسبة 10 بالمائة عما كانت علية تلك الحصة في العام السابق . وطبيعي أن ينعكس التراجع في مستوى ومعدل دخل الفرد في كل اقتصاد عادي على حصة الجهاز الحكومي في الدخل القومي، غير أن ذلك لم يحدث في المملكة لأن حصة الجهاز الحكومي كانت مقررة سلفا بالمساعدات للإنفاق على الجيش وقوة الأمن بغرض السيطرة على الأوضاع السياسية الداخلية، ونظرة مرفقة في العناصر المكونة للدخل القومي الإجمالي تعطي صورة واضحة عن الأوضاع الاقتصادية والسياسية الاقتصادية للحكومة آنذاك التي كانت تهتم أساسا بالسيطرة السياسية والأمنية على الأوضاع في شطري المملكة الأردني والفلسطيني أكثر من اهتمامها بحل المشكلات المعيشية لجماهير الكادحين في الشطرين وحل مشكلات البطالة المتفاقمة بين العمال والفلاحين وإيجاد فرص عمل لمئات آلاف اللاجئين . فقد كان جزء رئيسي من الدخل القومي الإجمالي لا يعتمد على عناصر يمكن اعتمادها كعناصر تثبيت في العملية الاقتصادية لأنها كانت أساسا عناصر أجنبية ، أي مساعدات أجنبية مخصصة للجيش ولقوى الأمن في البلاد بهدف تمكينها من السيطرة السياسية والأمنية على الموطنين . وكانت تلك العناصر الأجنبية بعيدة في همومها واهتماماتها عن تطوير الاقتصاد الوطني وخاصة القطاعات الإنتاجية ومنها القطاع الصناعي وبعيدة عن الاهتمام في تطوير معدل الدخل السنوي للفرد في شطري المملكة وخاصة في الشطر الفلسطيني، الذي كان في حاجة ماسة إلى عناصر تثبيت وطنية للاقتصاد المتداعي بعد عام 1948. لذا بقي معدل دخل الفرد السنوي و بالتعاون بين الشطر الفلسطيني والشطر الأردني وبتفاوت بين جميع الألوية في المملكة وبين العاصمة السياسية والاقتصادية . كذلك، يتراوح بين 28 دينار كمعدل أدنى و 36 دينار كحد أعلى ، وهو أقل مما كان عليه معدل دخل الفرد السنوي في مصر الذي بلغ عام 1953 حوالي 39 جنيها مصرياً وأقل مما كان عليه معدل الدخل السنوي للفرد في سوريه ، والذي بلغ عام 1953 أيضا حوالي 53 دينارا. (33)
ومن أجل مزيد من تسليط الضوء على مستوى اهتمام الحكومة بتطوير الأوضاع الاقتصادية في شطري المملكة الفلسطيني والأردني يجدر التدقيق بالتوظيف الحكومي وغيرها في فترة بين 1950/1951---1955/1956 أي الفترة التي تفاقمت فيها الأزمة الاقتصادية ومشكلات البطالة . فقد بلغ مجموع التوظيفات في تلك الفترة حوالي 36.58 مليون دينار موزعة على الحكومة الميزانية العادية بحوالي 15.50 مليون، مجلس الأعمار الأردني بحوالي 5.35 مليون، والنقطة الرابعة الأمريكية بحوالي 12 مليون ووكالة الغوث بحوالي 3.73 مليون دينار(34). أي أن معدل التوظيف الحكومي كان بحدود ستة ملايين دينار سنوياً . أما توظيفات القطاع فلم تكن تتوفر معلومات موثقه حولها وتكلفتها حسب بعض التقديرات كانت بحدود 2 مليون سنوياً . وإذا تم النظر إلى نسبة التوظيف إلى دخل القومي الإجمالي اتضح أن تلك النسبة كانت تدور حول 15بالمائة تقريباً وهي نسبة مرتفعة من حيث المبدأ، غير أن تلك النسبة مخادعة ووهمية، لأن معدل التوظيف السنوي لم يكن يتجاوز ثمانية ملايين دينار، وهو رقم منخفض جداً قياساً بالأوضاع الاقتصادية المتردية وقياساً بنسبة العاطلين عن العمل |، الذين كانوا ينتظرون فرص عمل مواتية . والأهم من ذلك أن تلك التوظيف لم تكن تعبر عن مظهر التوفير والتوظيف المحلي بقدر ما كانت تعبر عن مناصفة بين عناصر التوظيف الخارجي. الذي اعتمد أساسا على المساعدات الخارجية المشروطة والمقيدة بقيود سياسية معروفة وبين عناصر التوظيف المحلي، الذي اعتمد على الدور الحكومي بشكل رئيسي. وكان الميدان الرئيسي لاستيطان هذه التوظيفات العاصمة السياسية والاقتصادية عمان وعلى الشطر الأردني بشكل أقل، ولم تخضع لاعتبارات التطوير المتوازن لمناطق وألوية المملكة على أي حال. وفوق ذلك لم تسهم تلك التوظيفات في تطوير مساهمة القطاعات الإنتاجية في الناتج المحلي الإجمالي أو الدخل القومي الجمالي على نمو ملموس ويساعد فعلا على التصدي للأزمة الاقتصادية ولمشكلات البطالة الحادة وخاصة في الضفة الغربية . التي تراجعت مساحة أراضيها المزروعة في تلك الفترة ولم تتطور أوضاع القطاع الصناعي فيها . هذا القطاع الذي استمر على نفس الحالة من الضعف البنيوي لاعتماده الأساسي على الصناعات الصغيرة والحرفية ذات الإنتاجية المحدودة وذات القدرة المتدنية على استيعاب العمالة والمساهمة في وضع الحلول أو بعضها لمشكلات البطالة المنتشرة في المدن وفي مخيمات اللاجئين الفلسطينيين .
وعدم تطور الاقتصاد وخاصة في الشطر الفلسطيني من المملكة لا يعود فقط إلى استمرار حالة الضعف في القطاعين الإنتاجيين الرئيسيين والقطاعات الأخرى المنشطة لها ولا يعود فقط إلى التوظيفات المتدنية المشار إليها بعناصرها الأجنبية الهامة والعناصر المحلية ، بل كذلك يعود إلى تبديد المصروفات في الموازنة على قطاعات غير إنتاجية أساسا.
كما أن ضعف تطور تلك الأوضاع يعود إلى حد كبير إلى العناصر المكونة للموازنات في الفترة التي كانت فيها البلاد بأمس الحاجة إلى خطة طوارئ اقتصادية تركز أساسا على اعتمادات أكبر في الموازنة لتطوير القطاعات الإنتاجية والقطاعات المنشطة لها وعلى تطوير الإيرادات المحلية في الموازنة ورفع نسبة مساهمة ذوي المداخل العالية والمتوسطة فيها بدل استمرار الاعتماد على المساعدات الأجنبية التي كانت تقيد الدولة بقيود سياسية وأمنية واسعة . وخير دليل على ذلك ما تشير إليه أرقام الموازنات للفترة بين 1950/1951—1952/1953 وما بعدها كذلك والعناصر التي كانت تعتمد عليها والموزعة على نحو تالي :
مصادر تكوين الموازنة (بآلاف الدنانير )(35)
1950/1951 1951/1952 1952/1953
معونات الجيش (الخارجية) 4.898 7.200 7.314
قروض التنمية - - 570
مجموع المساعدات 4.898 7.200 7.884
الإيرادات المحلية 4.865 6.091 5.549
مجموع الموازنة 10.8865 13.791 13.433
نسبة المساعدات من المجموع %45 %52 %58
ومن التدقيق السريع بمصادر تكوين الموازنة يتضح أنها كانت تعتمد أساسا على المساعدات الخارجية، وإن تلك المساعدات الخارجية كانت مخصصة أساساً كمعونة لبناء الجيش وقوة الأمن ولم تكن مخصصة بحال من الأحوال لأغراض التنمية، فقروض التنمية لم تتجاوز أكثر من 750 ألف دينار خلال السنوات الثلاثة تلك بينما وصلت المساعدات المخصصة للصرف على بناء الجيش وقوى الأمن حوالي 19.412 مليون دينار . ولم تكن معونة الجيش دون شروط أو قيود، بل هي كانت مقيدة بمقدار تبعية السياسة الحكومية للامبريالية وتحديدا البريطانية في البداية ثم الأميركية بعد الانسحاب البريطاني من المنطقة وغياب نفوذه بعد العدوان الثلاثي ضد مصر 1956. وكان اعتماد الموازنة على الإيرادات المحلية اعتمادا أساسيا . الأمر الذي أضعف فرص تثبيت الموازنات على أسس وعناصر وطنية لا تخضع للقيود أو الشروط السياسية الأجنبية وكانت حصة الإيرادات المحلية في الموازنة تتناقض باستمرار، فبعد أن شكلت الإيرادات المحلية 55 بالمائة من مجموع الموازنة لعام 1950/1951 تراجعت إلى 48 بالمائة عام 1951/1952 ، ثم تراجعت إلى 42 بالمائة عام 1952/1953. وحيث يصبح عامل التثبيت الوطني في أية موازنة في هذه الحدود المتدنية، فإن فرض السير في سياسة وطنية مستقلة تتراجع دون شك، كما تتراجع فرص وإمكانيات التصرف بالموازنة بشكل يغطى الحاجة إلى تطوير الاقتصاد الوطني وفق الاحتياجات الوطنية بالدرجة الأولى . وعندما يصبح عامل المساعدات الخارجية في الموازنة في تلك الحدود العالية التي تضمنتها موازنات السنوات الثلاث المشار إليها فإن التصرف بالموازنة بالشكل الذي يغطي أهداف الجهات التي تقدم تلك المساعدات يصبح منطقياً ومفهوماً، ويشكل مؤشرا على الأهداف الحقيقية لتلك الجهات . وليس هنالك من تفسير لزيادة معونة الجيش في الموازنات من 4898000 دينار عام 1950/1951 إلى7200000 دينار عام 951/1952 إلى 7314000 دينار عام 1952/1953 غير إصرار الحكومة ومن خلفها بريطانيا على توسيع صفوف الجيش والأمن ليس التصدي لإسرائيل بل للسيطرة السياسية والأمنية على الأوضاع بعد ضم الضفة الغربية إلى المملكة الأردنية الهاشمية عام 1950. فبريطانيا لم تكن معنية بمساعدة الأردن ضد إسرائيل، خاصة وأن بريطانيا ذاتها هي التي تعهدت منذ 1917 مشروع الوطن القومي اليهودي ، أي مشروع دولة إسرائيلية، في فلسطين . ولم يكن في الأفق لا في بداية الخمسينيات ولا بعد ذلك ما يشير إلى تغير ما في موقف الحكومة البريطانية من إسرائيل . إذن كان الغرض من مضاعفة معونة الجيش بعد العام 1950 واضحاً للغاية ولم يكن يستهدف غير تأمين كل الاحتياطات الضرورية لمواجهة أية تطورات داخليه في المملكة بعد ضم الضفة الغربية . ولأن المساعدات لم تكن مخصصة أساساً لأغراض التنمية، فقروض التنمية لم تتجاوز 750 ألف دينار، فقد تقدمت مهمة بناء الجيش وقوات الأمن على مهمة تأمين الخبز والعمل لجماهير الكادحين وخاصة لمئات الآلاف العاطلين عن العمل في شطري المملكة، وخاصة في الشطر الفلسطيني، الذي كان أحوج لتوظيف التطوير الاقتصادي .
وبفعل تلك السياسة الاقتصادية للحكومة في السنوات المبكرة للأزمة الاقتصادية الحادة ، التي عمت شطري المملكة الأردني والفلسطيني وعلى الخصوص الشطر الفلسطيني ، فأن تطويرا ملموسا لم يطرأ على القطاعات الاقتصادية الإنتاجية وخاصة قطاعي الزراعية والصناعية . ولم يترتب على تدني مستوى التطور في هذين القطاعين الأساسيين استمرار الأزمة والعجز عن حل مشكلات البطالة وحسب بل ترتب عليها كذلك عجز هذين القطاعين عن سد الاحتياجات الأساسية للمواطنين واضطرار الدولة إلى استيراد الكثير من تلك الاحتياجات من الخارج . وشاركت البرجوازية التجارية الدولة في سياستها فنشطت هي الأخرى في توظيف رؤوس أموالها في المشاريع التجارية وأدارت ظهرها لتوظيف رؤوس الأموال تلك في مشاريع اقتصادية تعود أساسا بالنفع على قطاع واسع من الجمهور . ولهذه الاعتبارات وغيرها تطور ميزان التجارة الخارجية للدولة على النحو الذي فأقم من حدة الأزمة وزاد من حدة الفروقات الطبقية فازدادت بعض الفئات ثراء كما ازدادت طبقات وفئات أخرى فقرا في مطلع الخمسينات . فقد كان ميزان التجارة الخارجية يؤكد دوران الاقتصاد الوطني في الحلقة الضعف والعجز كما يشير إلى ذلك أيضاً الجدول التالي:
ميزان التجارة الخارجية (بآلاف الدنانير )(36)
1951 1952 1953 1954 1955
البضائع المستوردة 15.672 17.335 18.400 19.800 27.100
البضائع المصدرة 1.454 1.533 1.900 2.400 3.000
العجز الميزان التجاري 14.218 15.802 16.500 17.400 24.100
وقد استمر العجز في ميزان التجارة الخارجية في الارتفاع من سنة لأخرى ولم تكن المملكة بقادرة على تعويض ذلك العجز من إيرادات غير متطورة في الدخل القومي ، فهي لم تكن تملك رؤوس أموال مستثمرة في الخارج لتعود عليها بالفوائد الأرباح، ولم تكن حركة المغتربين في البلدان الخليج والسعودية وغيرها قد نمت ونمت معها التحويلات من الخارج ، ولم يكن لها خدمات في حقول النقل البحري أو الجوي، وكانت الموارد السياسية محدودة وغير متطورة ، ولذا فقد كانت تسوية ذلك العجز تعتمد على الاستعانة بمصادر أجنبية أو تستنزف جزءا جيدا من الناتج المحلي في البلاد وتؤثر حتما في تطوير اقتصادها وخاصة القطاعات الإنتاجية الزراعية والصناعية بالدرجة الرئيسية . وشكل العجز في الميزان التجارة الخارجية قيدا على التطور الاقتصادي في شطري المملكة وخاصة في الشطر الفلسطيني . ولم ينتفع من هذا الوضع في تجارة المملكة الخارجية غير فئات هامشية من المجتمع كالبرجوازية التجارية والكومبرادورية ، التي استوطنت أساسا في العاصمة السياسية والاقتصادية عمان . ويبين الجدول التالي الاتجاه السلبي في تطور التجارة الخارجية وحجم العجز فيها :
الصادرات والواردات والعجز في الميزان التجاري (بآلاف الدنانير )(37)
الصادرات متضخمة المواد المعاد تصديرها
السنة الصادرات الواردات العجز
1950 1.572 10.767 9.195
1951 1.454 15.672 14.218
1952 1.533 17.335 15.802
1953 2.098 18.395 16.297
1954 2.824 19.840 17.016
1955 2.868 27.058 24.190
وشكل العجز في ميزان التجارة الخارجية قيدا إضافيا كذلك على التطور الاقتصادي في القطاعات الإنتاجية بسبب غلبة سلع الاستهلاك النهائي على السلع المستوردة . فقد تراوحت النسبة المئوية لقيمة سلع الاستهلاك النهائي من قيمة مجموع السلع المستوردة في الفترة ما بين 1950-1955 بين 76 -90 بالمائة، بينما تراوحت نسبة قيمة السلع الرأسمالية بين 3.2-10بالمائة ونسبة قيمة السلع الوسيطة بين 14-19 بالمائة.(38) ذلك يعني أن السلع الأساسية الضرورية لتطوير القاعدة الصناعية في البلاد أو النهوض بوضع الزراعة كانت محدودة، ويكفي لتأكيد ذلك الإشارة إلى أن قيمة ما تم استيراده من مراجل ومعدات ميكانيكية للأعوام 1953،1954، 1955 لم تتجاوز 345 ألف ، 393 ألف و 1.432 ألف دينار لتلك الأعوام بالتتالي ، (39) أي أن نسبة قيمة ما تم استيراده في تلك السنوات من معدات ميكانيكية ومراجل لم يتجاوز 4.6 بالمائة من قيمة المستوردات ، وهذا مؤشر سلبي يشير إلى مدى تدني اهتمام الدولة بالتطوير الاقتصادي لحل مشكلاته الاقتصادية والحد من تفاقم البطالة الواسعة المنتشرة في الريف والمدنية ومخيمات اللاجئين ، ويشير إلى المنحنى السلبي الذي سلكته البرجوازية التجارية والكومبرادورية لجني الفوائد والأرباح على حساب ليس فقط تطوير الاقتصاد الوطني وبل وتثبيت السكان وخاصة في الضفة الغربية في ما تبقى من وطنهم بعد عام 1948.
تلك كانت صورة موجزة عن التوجهات الاقتصادية التي سادت خلال النصف الأول من الخمسينيات . وكان من أبرز نتائج تلك التوجهات عجزها عن حل المشكلات الاقتصادية الحقيقية التي كانت تواجه البلاد وخاصة في الضفة الغربية . فالزراعة لم تتطور بوتيرة مقبولة ، بل إن مساحة الأراضي المزروعة تراجعت في الخمسينيات في الضفة الغربية بنسبة 11.4 بالمائة ، كما تعرضت الحيازات الزراعية لمزيد من التفتيت وحافظت على حصة متدنية في الناتج المحلي الإجمالي قياساً بالتطور الذي شهدته قطاعات اقتصادية وأخرى، وكانت تلك الحصة في صعود وهبوط بفعل تأثرها بعوامل المناخ من ناحية واستمرار اعتمادها على العمل اليدوي المكثف من ناحية أخرى . وبدلا من تطوير دور الزراعة في استيعاب مزيد من الأيدي العاملة العاطلة عن العمل . بدأت القوى العاملة في الريف تبحث عن عمل لها وعن حلول لمشكلاتها الاقتصادية عبر الهجرة الاقتصادية إلى الخارج . أما الصناعة فقد كان تطورها بطيئا في الصناعات الثقيلة والمتوسطة وتوسعت أفقيا بحجم كبير في الصناعات الخفيفة (40)، وقد استوطنت الصناعة الثقيلة والمتوسطة بالدرجة الرئيسية في منطقة العاصمة السياسية والاقتصادية، وبقيت معظم المناطق بما فيها مناطق الشطر الفلسطيني من المملكة محرومة نسبيا منها . وكانت السمة الغالبة للصناعة تبرز دون شك في التوسع الأفقي الكبير للمنشآت الصغيرة والحرفية، ولم تتمكن الصناعة بحجمها من تحسين موقعها في مجمل الوضع الاقتصادي بشكل عام، كما بقيت مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي محدودة ومتدنية قياساً بحجم مساهمة القطاعات غير الإنتاجية . وكان هذا الوضع الذي عاشته الصناعة كذلك عاملا أساسيا من عوامل البحث عن حلول ذاتية للمشكلات الاقتصادية ومشكلات البطالة لجمهور الكادحين وخاصة في الضفة الغربية . وكانت الهجرة الاقتصادية إلى الخارج من الحلول الرئيسية لجماهير العمال والفلاحين في المدن والقرى ومخيمات اللاجئين الفلسطينيين. ويبرز الجدول التالي حجم مساهمة الزراعة والصناعة وغيرها من الفروع في الناتج المحلي الإجمالي خلال فترة الخمسينات .
الناتج المحلي الإجمالي وحصة فروع الاقتصاد (41)
(بآلاف الدنانير لسعر السوق )
1954 1956 1958 1960
المجموع 52.400 68.300 77.300 105.800
حصة الزراعية 14.200 19.000 12.900 14.600
حصة الصناعة 4.200 6.300 7.600 7.600
حصة التجارة والبنوك 9.300 10.500 14.400 20.500
الإدارة العامة والدفاع 9.100 11.500 15.600 15.800
الخدمات 3.00 2.700 3.900 8.300
وهكذا استمرت نسبة مساهمة قطاع الزراعة كما يشير الجدول في صعود وهبوط لاعتماده على المناخ أساسا وبسبب تراجع مساحة المناطق المزروعة وخاصة في الضفة والاعتماد أساساً على العمل اليدوي المكثف وتأخر دخول الآلة إلى العمل الزراعي وقلة مساحة الأراضي المروية وغير ذلك . الصناعة هي الأخرى كانت في مستوى تطور متدني جدا ، وكانت نسبة مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي ضعيفة قياساً بحصة التجارة والبنوك ، التي قفزت من 9.300 ألف دينار عام 1954 إلى حوالي 20.5 مليون دينار 1960، الأمر الذي كان يعطي مؤشرا حقيقي على اتجاهات الاستثمار والتوظيف الخارجية ، وهي اتجاهات لم تكن في صالح تطوير اقتصاد البلاد لحل مشكلاتها الاقتصادية والمساهمة في وضع حلول لمشكلات البطالة وحلول تمكن المواطن وخاصة في الضفة الغربية من الثبات في ما تبقى من وطنه . ومنذ الخمسينيات برز دور الإدارة والجيش والأمن العام كميدان رئيسي لاستيعاب مزيد من الأيدي العاملة ولاستنزاف الموازنة العامة على حساب القطاعات الإنتاجية الرئيسية . وفي الوقت الذي كانت فيه حصة القطاعات الإنتاجية الزراعية والصناعية في الناتج المحلي الإجمالي تحقق تراجعاً سنة بعد أخرى كانت حصة التجارة والبنوك والعقارات والخدمات ومصاريف الحكومة والدفاع تحقق هيمنة واسعة على الناتج المحلي . وكانت حصة القطاعات الإنتاجية الزراعية والصناعية في الناتج القومي الإجمالي أدنى من حصتها في الناتج المحلي الإجمالي بسبب اعتماد الدولة الواسع على المساعدات الخارجية ، التي كانت تشكل أكثر من نصف إيرادات الحكومة وبفعل هذا الخلل الواسع في تكوين الناتج القومي الإجمالي ، الذي يعادل في العادة الناتج المحلي الإجمالي والمساعدات الخارجية والإيرادات الأخرى التي لا تتصل بالإنتاج المحلي ، استمرت السياسة العامة والسياسة الاقتصادية للدولة خاضعة لعوامل كانت تحد على نحو ملموس من تطور قطاعاته الإنتاجية ومن إعادة توزيع أفضل للمصاريف الحكومية ، بما يوفر احتواء الأزمة الاقتصادية ومشكلات البطالة، التي كانت واسعة الانتشار منذ مطلع وحتى نهاية الخمسينيات بنسب متفاوتة ، وهذا يمكن استخلاصه من الجدول التالي
العناصر الرئيسية في الإيرادات الحكومية والإيرادات المحلية والمصروفات بالنسبة المئوية(42)
1954/1955 1957/1958 1960/1961
إجمالي الإيرادات الحكومية % % %
إيرادات محلية 42 40 43
المساعدات الخارجية 58 60 57
الإيرادات الحكومية المحلية % % %
ضرائب غير مباشرة 63 56 56
مصادر أخرى 12 10 12
المصاريف الحكومية الإجمالي % % %
دفاع وامن داخلي 61 56 56
تعليم،صحة،رفاه اجتماعية 9 10 12
غير منظورة 14 16 14
مصاريف حكومية منظورة 16 18 18

ولا يحتاج هذا الجدول إلى تفسير كثير، فهو يفسر نفسه بنفسه، فالإيرادات الحكومية الإجمالية لا تعتمد بالدرجة الرئيسية على ما يتم إنتاجه والحصول عليه من داخل البلاد، بل على المساعدات الخارجية . ذلك لا يعني أنه لم يكن ممكنا تقليص حجم المساعدة الخارجية وتقليص حجم التدخل الخارجي في سياسة وشؤون البلاد الداخلي، بل على العكس من ذلك، فقد كان ذلك ممكن بتوزيع عادل للإيرادات الحكومية وجبايتها بحيث تتحمل البرجوازية المحلية وكبار التجار والكومبرادورية وكبار الملاك وذوي المداخل العالية حصة أعلى من الإيرادات المحلية . غير أن الحكومة لم تكن ترغب أساساً في السلوك هذا السبيل، ظنا منها أنه سيحمل بعض هذه الفئات على التحول إلى قوى المعارضة في البلاد . لذا كان سبيلها للحفاظ على إسناد هذه القوى لسياستها مزيداً من التساهل والتسهيلات على حساب ذوي الدخل المحدود وعلى حساب تغطية احتياجات الموازنة من المساعدة الخارجية وتعميق ارتباط الدولة بسياسة الدول الاستعمارية ، وخاصة بريطانيا وبعد ذلك الولايات المتحدة الأمريكية. وكنتيجة منطقة لتلك السياسة كانت المصاريف الحكومية الإجمالية تظهر على امتداد الخمسينيات وبعدها أيضاً على النحو الذي يشير إليه الجدول .
فالأولوية في المصاريف الحكومية ، رغم كل الضوائق الاقتصادية وكثافة البطالة في البلاد ، كانت للجيش والأمن الداخلي بهدف تأمين السيطرة السياسية والأمنية أساساً، وكانت حصة جيدة من المصاريف غير المنظورة الواردة في الجدول تضاف في نهاية الأمر لمصاريف الدفاع والأمن الداخلي، الأمر الذي كان يرفع حصة الإنفاق الحكومية على هذا المجال إلى حدود عالية للغالية على حساب الإنفاق الحكومي على القطاعات الإنتاجية الزراعية والإنتاجية الصناعية والقطاعات الأخرى المنشطة لها كالأشغال العامة والتعليم والصحة وغيرها ، هذا في الوقت الذي كانت فيه البلاد بعد نكبة فلسطين بحاجه ماسة إلى إنفاق حكومي وخاصة كبير في المجالات الإنتاجية.
السياسة الاقتصادية وسياسة التمييز تضعف ارتباط المواطن الفلسطيني بوطنه
ما سبق التعرض إليه لم يكن يستهدف الدخول في بحث واسع حول السياسة الاقتصادية للحكومة في المملكة الأردنية الهاشمية . بقدر ما كان يستهدف استكشاف الأسس التي قامت عليها تلك السياسة ومدى ملاءمتها أو تعارضها مع الاحتياجات الأساسية للسكان في الشطر الفلسطيني ، الذي تحمل العبء الأكبر في النكبة التي حلت بالشعب الفلسطيني بعد عام 1948 . كانت البلاد بحاجة ماسة إلى خطة طوارئ اقتصادية تركز بالدرجة الرئيسة على استيعاب الأزمة الاقتصادية الحادة ، والتي كانت البطالة الواسعة أحد مظاهرها ، وخاصة في الضفة الغربية ، وتركيز على حلول تضمن بقاء وثبات المواطن الفلسطيني في ما تبقى من وطنه .
في الجزء الثاني من معالجة السياسة الاقتصادية للحكومة سيتم التعرض لسياسة التمييز التي مورست على امتداد الفترة بين 1950-1967 وأثرها كذلك على ثبات المواطن الفلسطيني في وطنه . في هذا الإطار يجدر التأكيد سلفاً على أن سياسة التمييز لم تمارس فقط ضد الضفة الغربية ، أي ضد الشطر الفلسطيني من المملكة ، بل هي مورست كذلك ضد مختلف ألوية المملكة لحساب العاصمة السياسية والاقتصادية عمان ، وإن كان التمييز قد عكس نفسه بصورة سلبية أوسع على أولوية الشطر الفلسطيني وأقل حدة على باقي ألوية الشطر الأردني . وفي هذا السياق سوف يتم التركيز بإيجاز على تطور الصناعة أساساً وأثرها على تكوين الطبقة العاملة والحركة النقابية في البلاد ، دون أن يتم إسقاط التطورات التي طرأت على أوضاع القطاعات الأخرى بما فيها القطاع الزراعي في كل من الضفة الغربية وشرق الأردن .
لم تدخل الصناعة الآلية شرق الأردن قبل الأربعينيات تقريباً . فقد بقي المجتمع الأردني محافظاً على خصوصياته الزراعية والبدوية بفعل ضعف علاقات الإنتاج الرأسمالية وتأخرها في دخول الأردن والانتشار في ربوعه . وكانت النشاطات السياسية الأبرز قبل الخمسينيات تتمثل بالنشاطات التجارية وعدد من النشاطات الصناعية الحرفية المنزلية المخصصة لتلبية احتياجات السكان في الريف أو المدينة ، كمطاحن الحبوب ومعاصر الزيتون وبعض صناعات النسيج اليدوية ، التي كانت تعتمد على الأنوال البدائية ، هذا إلى جانب عدد من الورش الصغيرة للتجارة والحدادة وبعض محلات الصناعات الغذائية . ومنذ منتصف الأربعينيات تقريباً حدث التوسع في إقامة المؤسسات الصناعية ، حيث تم توظيف رؤوس الأموال في مشاريع صناعية بعد أن كان التوظيف يتجه بالدرجة الرئيسية نحو المشاريع والشركات التجارية . وتطورات حركة التوظيف الرأسمالي في المشاريع الصناعية حتى وصلت في مطلع الخمسينيات إلى نحو 2.5 مليون دينار من أصل حوالي 52.8 مليون موظفه بمعظمها في الأعمال التجارية كما يشير الجدول التالي :
الشركات المسجلة في الأردن 1950 حسب النوع وحجم رأس المال (43)
نوع الشركة عدد الشركات رأس المال الموظف عدد الشركات
شركات أعمال تجارية 254 25.832.858 1231
شركات نقل وسفر 68 760.530 282
شركات تعهدات 20 111.51.550 67
شركات تأمين 7 12.498.165 77
شركات صناعية 33 2.559.900 168
شركات أخرى 14 152.340 56
المجموع 496 52.855.343 1877
ويتضح من الجدول أن حصة الشركات الصناعية كانت متدنية للغالية سواء من حيث عدد الشركات أم من حيث حجم رأس المال الموظف . فمن حيث العدد لم تتجاوز حصة الصناعة 6.8 بالمائة من مجموع تلك الشركات . ومن حيث حجم رؤوس الأموال الموظفة فلم تتجاوز تلك الحصة 5 بالمائة من حجم رؤوس الأموال آنذاك . بينما يوضح الجدول أن حصة الشركات التجارية كان طاغيا على أكثر من مستوى ، فعدد الشركات كان كبيرا وكذلك عدد الشركات، أي العاملين في الحقل التجاري. وهكذا أيضاً حجم رؤوس الأموال الموظفة في المشاريع التجارية.
فقد كانت حصة الشركات التجارية من مجموع عدد الشركات تعادل 51 بالمائة وكانت حصتها من مجموع رؤوس الأموال تعادل 48.9 بالمائة ، أما نسبة العاملين في المجال التجاري فقد كان يعادل 69 بالمائة من مجموع العاملين في النشاط الاقتصادي الرئيسي في الأردن . كان التردد لا زال يسيطر على حركة التوظيف في القطاع الصناعي حتى مطلع الخمسينيات في الأردن ، بينما كان هنالك اندفاع ملموس للتوظيف في الأصول التجارية والمالية والتعهدات . وكان مثل هذا الاتجاه في حركة رأس المال مفهوماً ومنطقياً ، خاصة في ظل السيطرة الامبريالية البريطانية على الأردن . فالامبريالية البريطانية لم تكن تطمح في استغلال ونهب ثروات الأردن ، وهو بلد فقير نسبياً في مصادرة الطبيعية ، اذ لا توجد ثروة نفطية ، وبعض ثرواته الطبيعية الأخرى مثل البوتاس يمكن التعويض عن استغلالها بتنشيط الاستغلال على الطرف الفلسطيني المقابل للبحر الميت ، وهو ما كان يحدث بالطبع لصالح مشروع الوطن القومي اليهودي في فلسطين . ولم تكن الثروة الزراعية لسبب عوامل كثيرة ومعروفة تقدم إغراء للامبريالية البريطانية ، إذ كان لها من المستعمرات ما يكفي لنهب ثرواتها الزراعية ، وكان الأردن مهم الامبريالية البريطانية من زاوية أخرى ، تتصل بموقعه الجغرافي الاستراتيجي كقطر مجاور لفلسطين وكجسر عازل لها عن بقية الأقطار العربية من أجل تمرير مشروع الوطن القومي اليهودي في ظل حصار يفرضه على فلسطين الاستعماريون البريطانيون في الشرق والاستعماريون الفرنسيون في الشمال . لذا لم تعطي الامبريالية البريطانية المهيمنة على الأردن آنذاك اهتماماً للوضع الاقتصادي وخاصة للقطاع الصناعي ، بل هي قدمت التسهيلات بما فيها الجمركية مع فلسطين مثلا لتنشيط الحركة التجارية بالدرجة الأولى والنشاطات الإنشائية الضرورية لخدمة قواتها في الأردن ، وعلى خلفية هذه السياسة جرى نوع من تقسيم العمل بين الأردن وفلسطين ، فالأردن مثل موقعاً جغرافياً استراتيجيا من الزاوية السياسية والأمنية ومحطة تجارية من الناحية الاقتصادية ،وفلسطين التي بضاعتها كانت تتوسع خاصة في القطاع اليهودي ، مثلت مصدر تلبيته الاحتياجات الاستهلاكية للمواطن الأردني ولذا كانت أوضاع الأردن مختلفة من ناحية النشاط الصناعي حتى مطلع الخمسينيات ولم تستوطنه غير صناعات محدودة .
ومنذ البداية استوطنت الشركات الصناعية والتجارية وغيرها مدينة عمان بالدرجة الرئيسية ومدنية إربد بدرجة أقل ، أما بقية مناطق الأردن فقد كانت فقيرة في منشآتها الصناعية والحرفية والتجارية كما يشير الجدول التالي :

المنشآت الصناعية والتجارية والحرفية في الأردن 1950(44)
القضاء المنشآت أصناعية والتجارية والحرفية المؤسسات الحرفية وصناعات الآلية تجارة المفرق تجارة الجملة محلات البقالة حرف يدوية أخرى المجموع
عمان 2230 137 758 203 1136 861 135 3093
أربد 1928 72 524 71 775 365 121 1856
الكرك 430 23 56 3 270 67 11 407
معان 225 12 53 - 116 24 20 213
المجموع 5813 244 1391 277 2297 1317 287 5569
ومن هذا الجدول يمكن الوصول إلى الكثير من الاستخلاصات حول مستوى التطور الاقتصادي في الأردن في بداية الخمسينيات ، في الفترة التي جرى فيها ضم الضفة الغربية إلى المملكة الأردنية الهاشمية ، فالمنشآت الصناعية والتجارية والحرفية كانت منذ البداية تتمركز في قضاء عمان وخاصة في عمان باعتبارها المدينة العاصمة السياسية والاقتصادية ، فمن مجموع المنشآت الحرفية والصناعية الآلية كانت حصة عمان حوالي 56 بالمائة ومن مجموع المحلات التجارية كانت حصتها حوالي 50 بالمائة ، أما حصة إربد من المؤسسات الحرفية والصناعية فقد كانت 29.5 بالمائة وحصتها من مجموع المحلات التجارية حوالي 31.5 بالمائة ، هذا يعني أن حصة كل من عمان وإربد معاً كانت حوالي 85.5 بالمائة من مجموع المنشآت الصناعية والحرفية الآلية وحوالي 81.5 بالمائة من مجموع المحلات التجارية ويوضح التخلف الواسع الذي كانت تعيش مناطق الأردن الأخرى وخاصة الجنوبية ، وبالنسبة لمنطقة إربد التي كانت تتشارك بنسبة متقدمة في النشاط الاقتصادي في الأردن فيعود إلى طبيعة المنطقة ، فهي من ناحية تأتي في المرتبة الثانية من حيث تعداد السكان وتأتي من ناحية الثانية في المرتبة الأولى من حيث مساحة الأراضي المزروعة إذا كانت مساحة الأراضي المزروعة في المنطقة تعادل تقريباً ربع مساحة الأراضي المزروعة في الأردن .
الأمر الذي كان له أثر ايجابي في نمو علاقات الإنتاج الرأسمالي، خاصة في مراحله الأولى التي كانت تعتمد على المؤسسات الصناعية والحرفية الصغيرة كما كانت تعتمد على النشاطات التجارية ، يضاف إلى ذلك موقع المنطقة بحد ذاته ، الذي أعطاها مزايا جيدة في الحركة التجارة خاصة مع البلدان المجاورة كسوريا ، مما كان له أثر في النشاطات التجارية .
وإذا استثنينا منطقة إربد ، التي نمت فيها الحركة الاقتصادية أكثر من غيرها من المناطق الجنوبية ، فإن معظم المؤسسات الصناعية والحرفية والتجارية قد استوطنت عمان بالدرجة الرئيسية ، وكان النشاط التجاري هو النشاط الطاغي على كافة الأنشطة الاقتصادية ، وعلى أرضية نشاط رأس مال التجاري نما بالضرورة نشاط الرأسمال الصناعي في عمان بوتيرة أسرع من نموه في كافة مناطق الأردن ، دون شك يشكل طغيان نشاط رأس المال التجاري في المراحل الأولى من نمو الرأسمالية قيداً على نمو الرأسمال الصناعي ، فالرأسمال التجاري يحرص في العادة على إبقاء الرأسمال الصناعي ضعيفا وتابعا، غير أن رأس المال التجاري لا يستطيع الحفاظ على موقعه ودوره التجاري فقط أمام تغلغل علاقات الإنتاج الرأسمالي على نطاق واسع وفي ظروف تتميز بوجود اقتصاد رأسمالي عالمي متطور، لذا فقد كان على الرأسمال التجاري ، الذي استوطن مدينة عمان بالدرجة الرئيسية، شاء ذلك أم أبى أن يتحول ولو جزئيا إلى القطاع الصناعي، فالبرجوازية التجارية لا تستطيع إذا هي أرادت الحفاظ على موقعها ونفوذها الاجتماعي والاقتصادي المتميز في المجتمع أن تبقى بعيدة عن النشاطات الصناعية، فالمنتجون والمستهلكون في المجتمع يشعرون بارتباط أوسع وأهم مع النشاطات الصناعية، التي توفر لهم احتياجاتهم الاستهلاكية الرئيسية ولا يشعرون بمثل هذا الارتباط بالرأسمال التجاري، لا بل إن علاقاتهم مع الرأسمال التجاري القريب الارتباط بالرأسمال الأبوي علاقة مثقلة بالكثير من السلبية والحذر وعدم الرضا عن دوره، وخاصة دوره في وضع القيود على نشاطات الرأسمال الصناعي في مراحل التطور الرأسمال الأولي، وحتى يحافظ الرأسمال التجاري على دور مزدوج في العملية الاقتصادية وعلى مواقفه ونفوذه على المستويين الاجتماعي والاقتصادي فقد توجه للمشاركة في النشاطات الصناعية، وكان لمدينة عمان في هذا السياق نصيب كبير في هذه العملية الاقتصادية التي بدأت تكرس مدينة عمان لا اعتبارها العاصمة السياسية وحسب بل وكذلك العاصمة الاقتصادية .
وكان وجود هذا العدد الكبير من المنشآت والمحلات الحرفية والتجارية مؤشر على مدى تخلف مستوى التطور الاقتصادي في الأردن ، فوجود هذا العدد الكبير من أصحاب الحرف والمحلات والحوانيت والورش كان يؤكد غلبة الإنتاج السلعي الصغير ، وكانت هذه الحرف والورشة على أي حال خطوة انتقالية منطقية على طريق الانتقال إلى أشكال أرقى من الإنتاج الرأسمالي ، وهو ما حدث في النصف الثاني من الخمسينات والستينات ، خاصة بعد ضم الضفة الغربية واتساع السوق وبعد أن قفز عدد السكان في شطري المملكة نحو ثلاثة أضعاف ما كان علية قبل 1950 في الأردن ، وبعد أن هاجر قطاع رئيسي من البرجوازية الفلسطينية والطبقة العاملة الفلسطينية الأكثر مهارة من الضفة الغربية إلى شرق الأردن ، واستيطان معظمها في عمان والمناطق المجاورة .
وقبل الدخول في معالجة الآثار التي ترتبت على مساهمة البرجوازية التجارية في النشاطات الصناعية والآثار التي ترتبت على تراجع الأشكال الدنيا من الإنتاج الرأسمالي المتمثلة في الصناعات الحرفية الصغيرة والإنتاج السلعي الصغير والمحدود وعلى هجرة قطاعات من البرجوازية الفلسطينية والطبقة العاملة إلى شرق الأردن ، يجدر التنويه إلى مسألة هامة تتصل بكيفية معالجة سياسة التميز الاقتصادي التي مارستها السلطة المركزية في عمان خصوصاً ضد الشطر الفلسطيني من المملكة ، لا أحد ينكر أمام الوقائع المادية العنيدة أن مثل تلك السياسة قد مورست على نطاق واسع ضد الضفة الغربية، وكانت تمارس دون شك على خلفية قرار واضح بنفي الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني وبالحيلولة دون نمو طبقة عاملة واسعة في الضفة الغربية والحيلولة دون نمو البرجوازية صناعية فلسطينية، فقد كان واضحاً تماماً للسلطة المركزية في عمان أن نمو برجوازية صناعية فلسطينية ونمو طبقة عاملة فلسطينية في الضفة الغربية سيؤكد بالضرورة الهوية الوطنية الفلسطينية في الوقت الذي كانت السلطة تسعى إلى نفيها، كما كان واضحاً أن ذلك سيؤكد مشاركة البرجوازية الفلسطينية من موقع خاص في إدارة العملية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية ...الخ في البلاد، بما يهيئ المناخ على نحو أفضل للحريات العامة والديمقراطية ويهيئ المناخ لسياسة مستقلة عن الامبريالية ولدور أكثر حيوية للبلاد في التصدي للدول الامبريالية، التي كانت تسعى لفرض هيمنتها على المنطقة كافة وتحويلها إلى منطقة تابعة في سلسلة الأحلاف الامبريالية الرجعية، التي كانت تعمل على بنائها في المنطقة، إذن عملية التمييز الاقتصادي التي سنعالجها فيما بعد، ضد الضفة الغربية كانت مقصودة لاعتبارات استراتيجية وكانت منسجمة تماماً مع مصالح الطبقة الحاكمة ومصالح الدوائر الامبريالية من هذه الزاوية ، وإلى جانب ذلك فقد جاءت عملية التمييز الاقتصادي ضد الشطر الفلسطيني من المملكة متكاملة مع التمييز الاقتصادي ، الذي مورس ضد جميع ألوية المملكة بما فيها ألوية الشطر الأردني، باستثناء لواء عمان ، ومدينة عمان تحديداً ، فباتجاه مدينة عمان التي لم يتجاوز عدد سكانها عام 1922 حوالي 3400 نسمة ، بدأ الزحف الجماهيري الواسع من الأرياف بشكل خاص في وقت مبكر بعد أن تحولت عمان إلى عاصمة الأردن ومركز للنشاط الاقتصادي، وكان ذلك الزحف واسعاً ويفوق حاجة المدينة وقدرتها على الاستيعاب ، ولذا كان الجزء الأكبر من سكان عمان وحتى الخمسينات من ذوي النشاطات غير الواضحة ومن التجار الفقراء والباعة المتجولين وصغار الحرفيين هذا إلى جانب طبقة برجوازية صناعية ضعيفة وبرجوازية تجارية ومالية أوسع انتشار من الأولى ، وكانت وتيرة نمو عمان تفوق كثيراً وتيرة نمو السكان في الأردن على العموم بأضعاف كبيرة، وعلى أساس تلك الهجرة الداخلية المبكرة والهجرة الاقتصادية التي بدأت في الثلاثينات وتنامت في الأربعينيات ووصلت الذروة في الخمسينيات، تحولت عمان إلى مدينة "متروبول" في الأردن تتركز فيها النشاطات الاقتصادية الصناعية والتجارية والمالية والعقارية كما تتركز فيها الطبقة العاملة وأغلبية الموظفين والمنظمات الاجتماعية والنقابات العمالية والمؤسسات التعليمية والصحافة ودور النشر وغيرها، في الوقت نفسه وبعد أن فقدت الضفة الغربية طرق اتصالاتها وتجارتها مع الخارج عبر الموانئ الفلسطينية على الساحل ، فقد تحولت عمان إلى عقدة اتصالات وإلى مركز التجارة من الضفة الغربية وإليها وهذا عزز من دورها الاقتصادي وحولها إلى المدينة الاقتصادية الأكثر نشاطا في المملكة ، وكانت عمان بعد ذلك النمو الذي طرأ على وضعها منذ الثلاثينات قد تحولت أصلا إلى مركز النشاطات الاقتصادية ومنها التجارية، ومن هنا كانت حصتها من تجارة الجملة في مطلع الخمسينات يعادل 73 بالمائة من مجموع الشركات والمحلات المتخصصة بتجارة الجملة آنذاك، وتلك كانت نسبة عالية للغاية وتدل أساساً على مدى الإهمال في تطوير الأوضاع الاقتصادية في بقية ألوية شرق الأردن ، وعمليا لم يشارك عمان في هذا الوقع غير مدينة إربد بسبب موقعها على الحدود الشمالية وفي منطقة زراعية أكثر تطويرا من غيرها .
وبقدر ما مورست سياسة التمييز الاقتصادي ضد الضفة الغربية بعد عام 1950 لأسباب سياسية واقتصادية معاً، فقد مورست تلك السياسة كذلك ضد بقية مناطق المملكة في الشرق الأردن قبل ذلك العام وبعده كذلك، وتتحمل السلطة المركزية في عمان المسؤولية الرئيسية للنتائج التي ترتبت على تلك السياسة، وهي نتائج كان لها أفدح العواقب على أوضاع الضفة الغربية وكانت سبباً بارزا في إضعاف ارتباط العمال والفلاحين وجماهير الكادحين الفلسطينيين بما تبقى من وطنهم بعد عام 1948، وكان لها كذلك عواقب فادحة على الأوضاع في شرق الأردن لأنها أدت إلى الإثراء السريع في العاصمة السياسية والاقتصادية على حساب مزيد من الإفقار للمناطق الأخرى وخاصة المناطق الريفية والجنوبية، وأضعفت ارتباط الفلاحين بالأرض وحولت الدولة التي تعتمد موازنتها على المساعدات الخارجية المشروطة إلى صاحب العمل الأكبر في المملكة، الذي يفرض سلطته على جمهور الشعب بنمط من دورة الحياة الاقتصادية غير العادية وغير طبيعية، أي دورة حياة اقتصادية تعتمد على العناصر غير الثابتة في الدخل القومي الإجمالي بدل اعتمادها أساساً على تنمية دور الناتج المحلي الإجمالي في الحياة الاقتصادية للبلاد والسياسة بالتالي، في هذا الإطار يمكن معالجة سياسة التميز الاقتصادي ، التي مورست ضد الضفة الغربية على امتداد الفترة الممتدة من 1950-1967، بآثارها ونتائجها على تكوين الطبقة العاملة في شطري المملكة الفلسطيني والأردني وعلى الهجرة الاقتصادية والعمالية الواسعة ، التي اتسع نطاقها في الضفة الغربية في الخمسينيات والستينيات وعلى الحركة العمالية والنقابية كذلك ، ومنذ البداية يمكن التأكيد على وجود التفاوت في مستوى التطور الاقتصادي وفي معدلات الأجور بين العاصمة السياسية والاقتصادية عمان وبين باقي ألوية المملكة، كما هو واضح من معدل الأجور في الجدول التالي :
معدل الأجور اليومية في القطاع الصناعي عام 1952 (45)
الضفة الشرقية الضفة الغربية
الفرع الاقتصادي عمان إربد القدس نابلس الخليل
البناء 247 227 221 181 202
الصناعات الغذائية 268 174 241 233 167
المواصلات 299 259 240 252 214
صناعات أخرى 268 165 185 218 188
الصناعات الحرفية 273 201 251 198 176
الخدمات 229 175 185 203 135
معدل الأجور 252 208 221 209 178
ولم تكن الأجور في ألوية شرق الأردن الأخرى مرتفعة بل كانت أدنى كما كانت عليه في الألوية الأخرى وأدنى بكثير كما كانت علية الأجور في عمان، وهذا التفاوت الواضح في الأجور بين عمان وباقي الألوية يعود للاعتبارات التي تمت الإشارة إليها، أما أجور العمال الزراعيين فقد كانت في شرق الأردن أعلى مما هي عليه في الضفة الغربية بسبب ازدياد الطلب على الأيدي العاملة، ومساحة الأراضي المزروعة والأراضي التي كانت في طور الاستصلاح وخاصة في مناطق الغور ، وإذا استثنينا الساحل والسهول الفلسطينية فإن الأراضي الزراعية الخصبة كانت في شرق الأردن بينما كانت مساحة الأراضي الخصبة في الضفة الغربية ومنها الأراضي السهلية أقل بسبب الطبيعة الجبلية للضفة، وكانت الأجور للعمل الزراعي في شرق الأردن تتراوح بين 218-256 فلساً في اليوم بينما كانت في الضفة الغربية تتراوح بين 152-189 فلساً (46).
تلك كانت الأوضاع الاقتصادية في شرق الأردن على أبواب ضم الضفة الغربية إلى المملكة الأردنية ، وبعد ضم الضفة الغربية حدثت دون شك تحويلات ديموغرافية بارزة وتطورات أساسية على الأوضاع الاقتصادية، فقد توسع السوق الداخلي وارتفع عدد السكان فأصبح عام 1950 ثلاثة أضعاف ما كان عليه عدد سكان شرق الأردن ودخلت سوق العمل في شطري المملكة الفلسطيني والأردني خبرات وطاقات فنية ومهنية أسهمت في النهوض بالوضع الاقتصادي ، فقد استفادت الأوضاع من الخبرة الصناعية والمالية والتجارية للبرجوازية الفلسطينية على اختلاف فئاتها، كما استفادت سوق العمل من الخبرة المهنية للطبقة العاملة الفلسطينية وجماهير اللاجئين من الفلاحين، الذين حافظوا بشكل أو بآخر على صلة مع العمل الزراعي وبعد أربعة أعوام من ضم الضفة الغربية كان وضع المؤسسات الصناعية في شطري المملكة على النمو التالي:
المؤسسات الصناعية عام 1954 (التي تشغل 5 عاملين وأكثر )
الفرع الصناعي عدد المؤسسات رؤوس أموالها عدد العاملين الأجور والرواتب قيمة الإنتاج القائم
الصناعات الغذائية 61 1.014.000 912 81633 279720
المشروبات والمياه الغازية 30 266.855 253 25598 232450
التبغ والسجائر 5 407.000 583 53330 1075000
الغزل والنسيج 26 1.2.000 388 22661 171218
الملابس والأحذية 57 267.4000 906 77174 348700
التجارة والأخشاب 25 77.950 322 30984 117010
المفروشات الخشبية 25 117.600 445 36906 173471
الورق والكرتون 8 86.700 179 13020 156000
الطباعة والتجليد 14 200.100 351 34509 167448
الصناعة الكيماوية 27 236.000 452 29582 341562
الصناعة غير المعدنية 37 1.146.000 861 91747 942250
الصناعة المعدنية 31 133.150 392 36120 196750
خراطة وميكانيكي 18 100.100 896 67000 240000
هياكل السيارات 11 61.650 256 29700 84700
الصياغة والمجوهرات 32 34.200 231 1500 66200
أخرى 14 50.700 91 5984 96050
المجموع 421 4301205 8198 63.448 7214989
من الجدول يتضح أن متوسط رأسمال المؤسسة الواحدة يعادل حوالي 10216 دينار وهو متوسط منخفض، مما يشير إلى صغر حجم تلك المؤسسات وضعفها بشكل عام، كما أن متوسط عدد العمال في المؤسسة الوحدة لم يكن يتجاوز 20 عاملا مما يشير إلى حجم العمالة الصغير لمعظم المؤسسات، وهذا واضح من التدقيق في حجم العمالة لكل فرع اقتصادي على حده، كما يؤكد الجدول الطبيعة الاستهلاكية للمؤسسات الصناعية وتخصصها بشكل عام في إنتاج الاحتياجات الاستهلاكية المباشرة للسكان، وهذا واضح خاصة من ضعف الصناعة المعدنية، التي لم يتجاوز متوسط رأسمال المؤسسة الوحدة 4295 دينار وهو متوسط محدود للغاية ويشير إلى أن الصناعة آنذاك كانت تمر في مرحلة إنتاج دنيا أو في المراحل الأولى للتطور الرأسمالي .
وحتى الصناعات التي تعتبر في العادة ملازمة للمراحل الأولى في التطور الرأسمالي خاصة في البلدان النامية فقد كانت تعبر بوضوح عن مستوى التطور الاقتصادي الذي وصله البلاد عام 1954، فالصناعات الغذائية وصناعات النسيج والألبسة كانت متواضعة، إذ لم يتجاوز عدد مؤسساتها في شطري المملكة حدود المائة إلا قليلا، صحيح أن الحجم النسبي سواء من حيث العمالة أو رأس المال الموظف في الصناعات الغذائية والمشروبات والمياه الغازية والغزل والنسيج والألبسة، هذا إلى جانب الأحذية، كان مرتفعا سواء على مستوى الحجم الإجمالي للمؤسسات الصناعية أم الحجم الإجمالي لرؤوس الأموال الموظفة في الصناعة، فقد استحوذت على 41 بالمائة من حجم المؤسسات وعلى 38 بالمائة من حجم رؤوس الأموال، غير أن هذه الحصة تبدو متواضعة بحجمها المطلق والأهم من ذلك متواضعة قياساً بإمكانيات التطور التي كانت مفتوحة لها، والتي كانت تتيحها الأعداد الكبيرة جدا من العاطلين عن العمل والاحتياجات المتزايدة للسكان بالنسبة لمنتجات هذه الصناعات، كان وضع هذه الصناعات بشكل خاص يشير إلى المراحل الأولية في التطور الرأسمالي، كما كان يشير إلى القيود التي كان التطور الرأسمالي يواجهها بسبب هروب البرجوازية على اختلاف فئاتها من الاستثمار في القطاع الصناعي وفي مؤسسات إنتاجية نامية نسبياً ولجوئها إلى الاعتماد على الورش محدودة العمالة ومحدودة رأس المال وإلى الاستثمار المكثف للعمل اليدوي على حساب تحسين المستوى التكنيكي للصناعة، فقد لا حظنا أن الاتجاه العام للاستثمار والتوظيف في شرق الأردن كان يتركز في الأساس على الأصول التجارية والمالية والتعهدات، ولم تكن تنقص البرجوازية على اختلاف فئاتها رؤوس أموال، فقد بلغت رؤوس الأموال الموظفة عام 1950 في الأصول غير الصناعية أكثر من 50 مليون دينار بينما لم يتجاوز حجم الاستثمار في الأصول الصناعية 2.5 مليون دينار إلا قليل، ومع حلول العام 1954 لم يكن وضع الصناعة ، خاصة المتوسط و" الثقيلة " ، قد تطور على نحو ملموس رغم ضم الضفة الغربية إلى المملكة الأردنية ورغم اتساع السوق و ارتفاع عدد السكان إلى نحو ثلاثة أضعاف، وهذا يؤكد استمرار الاتجاه العام في سياسة الاستثمار لدى البرجوازية بقطاعيها الفلسطيني والأردني، ولم تتدخل السلطة المركزية في عمان لتوجيه استثمار القطاع الخاص ، بل أفسحت المجال واسعاً للبرجوازية التجارية والمالية والعقارية للعمل وفق مصالحها الطبقية الضيقة وقدمت لها في هذا السياق كل التسهيلات في ظل غياب أية رقابة على نشاطاتها .
وكانت حصة الضفة الغربية من المؤسسات الصناعية المتوسطة، أي التي تشغل أكثر من خمسة عمال عام 1954 تعادل حوالي 60بالمائة من مجموع عدد المؤسسات وحوالي 40 بالمائة من حجم العاملين و 33 بالمائة من قيمة الإنتاج القائم بينما كانت حصة شرق الأردن حوالي 40 بالمائة من مجموع عدد المؤسسات و 60بالمائة من حجم العاملين وحوالي 67بالمائة من قيمة الإنتاج القائم (48)، مما يشير إلى ضعف وصغر حجم المؤسسات في الضفة قياساً بحجم المؤسسات القائمة في شرق الأردن، والتي كانت هي الأخرى صغيرة كذلك ، وقد تقدمت الضفة الغربية على شرق الأردن عام 1954 في مؤسسات الصناعات الغذائية والغزل والنسيج وصناعة والألبسة والأحذية وفي الصناعات والكيماوية عددها وحجم العاملين فيها، وإن لم تتقدم عليها في إجمالي الإنتاج القائم لبعض تلك الصناعات كما كان حال الصناعات الغذائية وصناعة الألبسة، مما يشير إلى تطور تكتيكي أوسع لتلك الصناعات في شرق الأردن عما كان علية الحال في الضفة الغربية وإلى ضعف الاستثمارات الرأسمالية فيها ، أما بقية الصناعات فقد كانت شرق الأردن ، التي تركزت صناعتها في منطقة عمان تحديداً حيث استوعبت 84 بالمائة من حجم المؤسسات، متقدمة على مثيلاتها في الضفة الغربية في الكثير من المجالات وخاصة في حجم العمالة ورؤوس الأموال المستثمرة وفي إجمالي الإنتاج القائم لتلك المؤسسات الصناعية .
واستمر نمو المؤسسات الصناعية في شطري المملكة الفلسطيني والأردني بطيئا في الخمسينيات وكان هذا النمو في سياق المراحل الأولى من التطور الرأسمالي دون شك ، وبدأ يصاحب هذا النمو في حجم المؤسسات الصناعية وفي رؤوس الأموال المستمرة في الصناعة نمو مماثل في حجم الطبقة العاملة، واستمرت منطقة عمان تستحوذ على الحصة الأكبر في عملية النمو تلك وخاصة في الصناعات المتوسطة ، التي تضم أكثر من خمسين عامل وموظف وفي الصناعات " الثقيلة" التي كانت تستخدم أكثر من مئة عامل وموظف ، حسب التصنيف الأردني الرسمي للصناعات ، وقياساً بما كانت عليه أوضاع الصناعة في مطلع الخمسينات فقد بدت الصناعة في النصف الثاني من الخمسينات وفي وأخرها تخطو خطوات أفضل على طريق اجتياز المراحل الأولى للتطور الرأسمالي كما يشير الجدول التالي :
المؤسسات الصناعية عام 1957(49)
الفرع الصناعي عدد المؤسسات مجموع العاملين العاملون باجر العاملون لحسابهم واللأسره
صناعة الموارد الغذائية 750 3167 2129 1038
صناعة المشروبات 110 619 513 106
صناعة التبغ والسجائر 4 766 766 -
صناعة النسيج والملابس 811 2965 1679 928
الجلود وصناعة الأحذية 684 2609 1462 1077
الخشب والفلين 15 106 97 9
الأثاث والمفروشات 747 2835 1885 950
صناعة الورق ومنتجاته 32 325 312 13
الطباعة 31 399 375 24

الصناعة الكيماوية 24 404 379 25
الصناعات غير المعدنية 106 909 801 128
الصناعات المعدنية 719 2103 1195 908
معدات النقل 232 1478 1202 276
أخرى 168 876 673 198
4730 19507 13794 5713
ورغم تأسيس بعض الصناعات الأساسية، التي يمكن اعتبارها في عداد الصناعات المتوسطة والثقيلة حسب التصنيف الرسمي الأردني، فإن الصناعة استمرت في إطار المراحل الأولى للتطور الرأسمالي وإن هي ارتقت بعض الشيء عما كانت عليه عام 1950 وعام 1954، فصناعة المواد الغذائية والنسيج والملابس حافظت على تقدمها على بقية الصناعات وخاصة الصناعات المعدنية والكيماوية والصناعات الأخرى، التي تعتبر مؤشرا على بداية الانتقال من المراحل الأولى للتطور الرأسمالي باتجاه مرحلة الصناعة الآلية الكبيرة ، فصناعة المواد الغذائية كانت تمثل حوالي 15 بالمائة من مجموع المؤسسات، وإذا أضفنا إليها النسيج والألبسة أصبح هذا الفرعان يتمثلاً 33 بالمائة من مجموع المؤسسات الصناعية وحوالي 32 بالمائة من حجم العاملين، أما إذا احتسبت حصص صناعة المواد الغذائية النسيج والملابس وصناعة الأحذية وهي الصناعات المرتبطة بالاحتياجات الاستهلاكية المباشرة للسكان والتي تعبر هيمنتها عن المرحلة الذين من التطور الرأسمالي ، فإن هذه الفروع الثلاثة ستشكل حوالي 63 بالمائة من مجموع المؤسسات الصناعية وحوالي 60 بالمائة من مجموع المستخدمين، وهذه نسب عالية للغاية في قياس درجة التطور الرأسمالي لأي بلد بشكل عام ، فهيمنتها حتى دون هذه الحدود بكثير تؤكد أن الصناعة لا زالت في مراحلها الأولى وأنها لم تبدأ بعد الاعتماد على التكنيك الصناعي بل لا زالت تعتمد على الاستغلال المكثف للأيدي العاملة، صحيح أن الصناعة المعدنية قد حققت تقدما، غير أن ذلك التقدم كان طفيف ولا تعتبر مؤشرا على خطوات متقدمة في اتجاه تحديث الصناعة وإدخال الآلة إليها على نطاق أوسع، وعلى أي حال فإن نسبة العاملين لحسابهم ولحساب الأسرة في الصناعات المعدنية تشير إلى السمة البارزة لوضع هذا الفرع الصناعي الذي كانت المؤسسات الإنتاجية الصغيرة تشكل عنصراً هاماً في تكوينه، فقد شكل العاملون لحسابهم ولحساب الأسرة حوالي 43 بالمائة من مجموع العاملين في هذه الصناعة وهذه نسبة عالية وتعتبر مؤشر هاماً على درجة تطور هذا الفرع الصناعي الهام .
وقد استمرت الصناعة في المملكة على حالها وإن هي خطت خطوات إلى الأمام واسعة على مستوى التوسع الأفقي وخطوات أقل بكثير على مستوى التوسع العمودي في الصناعات المتوسطية والثقيلة. وقد كان وضع المؤسسات الصناعية مابين 1962-1964 في المملكة على النحو التالي حسب التقديرات للحكومة آنذاك(50)
• مؤسسات الصناعات الخفيفة، وهي التي تشغل أقل من خمسة عمال، وقد كان عددها بحدود ستة آلاف مؤسسة، كما كانت الأجور السنوية للعاملين فيها تعادل 275 ألف دينار وكانت مبيعاتها تقدر بحوالي 2.8 ملايين دينار سنويا ومساهماتها في الدخل القومي، وهو التعبير الرسمي للإنتاج الصافي كما يبدو تقدر بحوالي 1.8 مليون دينار.
• مؤسسات الصناعات المتوسطة، وهي التي تشغل اقل من خمسين عامل، وكان عددها حوالي 750 مصنعا، وأجور العاملين فيها حوالي 650 ألف دينار، إما مبيعاتها فقد بلغت خمسة ملايين دينار ومساهمتها في الدخل القومي كانت بحدود 2,250,000 دينار ، وتشمل صناعة الصابون والمعلبات والحلويات والكحول والمياه الغازية والأحذية والأواني المنزلية والبلاستيك والنسيج والملابس والطوب الحراري والصناعات الفخارية والسكب المعدني والرخام والصناعات الغذائية وغيرها.
• مؤسسات الصناعات الثقيلة، وهي التي تشغل أكثر من خمسين عامل وكان عددها حوالي 60 مصنعا فقط وأجور العاملين فيها لا يتجاوز 400,000 دينار. أما مبيعاتها فكانت بحدود 3.7 مليون دينار ومساهمتها في الدخل القومي حوالي 2.2 مليون دينار، وكانت تشمل بعض مؤسسات الصناعات الغذائية والنسيج والأحذية هذا إلى جانب الاسمنت والبوتاس والزيوت النباتية ومصفاة البترول والتبغ، وشركات الكهرباء، والبطاريات السائلة والجافة.
ومن تلك الإحصائيات الرسمية يتضح أن الهيمنة في القطاع الصناعي كانت لمؤسسات الإنتاج السلعي الصغير، التي قارب عددها حوالي ستة آلاف مؤسسة وعندما تسيطر مؤسسات الإنتاج السلعي الصغير بمثل هذه الهيمنة فإن ذلك ينعكس بطرق سلبية شتى على أوضاع الطبقة العاملة وحركتها السياسية والنقابية. فالإنتاج الحرفي الصغير يعني أولا تعتبره الطبقة العاملة على مواقع إنتاجية منتشرة أفقيا على نطاق واسع جدا، وهذا بحد ذاته يضعف المزايا المادية الأساسية للطبقة العاملة وفي مقدمتها مزايا الوحدة والشعور المشترك بأهمية التضامن العمالي لانتزاع الحقوق الديمقراطية والنقابية لجمهور العاملين. يضاف إلى ذلك أن انتشار الطبقة العاملة بجسمها الرئيسي على مثل هذا العدد من المؤسسات الصناعية يضع موضوعيا وعمليا قيودا حقيقية على تنامي وعي الطبقة العاملة لدورها الخاص والمتميز، أي لدورها الكفاحي الطليعي على المستويين الوطني والاجتماعي المطلبي ويبقى هذا الوعي في مستوى التطور الرأسمالي المتحقق وقد كان مستوى متخلفا. وفي مثل تلك المؤسسات كانت تنعدم الفواصل بين العامل بأجر وصاحب العمل، لأن صاحب العمل نفسه يشارك العامل بأجر في العمل وبنفس الشروط وفي ظل نفس الظروف تقريبا. هنا يغيب عن وعي العامل بأجر التفاوت المتحقق في المداخيل بينه وبين صاحب المؤسسة الحرفية، ولذا فهو يقبل ببساطة هضم حقوقه كعامل في دخل أعلى، أي في أجر أعلى وفي التمتع في الضمانات الاجتماعية والصحية وغيرها، التي يتمتع بها في العادة عامل المؤسسات المتوسطة والكبيرة. لنفترض أن ما تسميه الإحصاءات الرسمية في الكتاب السنوي للعام 1962،1963،1964 وغيرها من الأعوام لا يعني الناتج الصافي، أي الأرباح، ولنفترض أنه يعني الناتج الصافي متضمنا أجور العاملين، فإن الصورة حول المداخيل الأعلى لأصحاب هذه الورش تصبح أكثر وضوحا. أنها ستكون كالتالي : حجم المساهمة في الدخل القومي- أجور العاملين، وهنا لا يتغير شيء كبير بالنتيجة خاصة وأن الأجور للعدد الكبير من العاملين في تلك الورش كانت متدنية كما تشير إليها الإحصائيات. فمن الصعب طبعا الافتراض أن الأرقام الواردة حول المساهمة في الدخل القومي سواء للصناعات الخفيفة أو المتوسطة أو الثقيلة تشمل الأرباح الصافية وأجور العاملين وفوق ذلك أثمان المواد الأولية، فأثمان المواد الأولية وحتى نسبة استهلاك الآلة إن وجدت في المؤسسات الحرفية وغيرها من المصروفات متضمنة بالتأكيد في أسعار المبيعات ومن غير المنطقي إعادة تضمينها في حصة المساهمة في الدخل القومي. ومنطقي جدا في هذا السياق أن يتم التأكيد للاعتبارات التي ذكرت ولاعتبارات أخرى غيرها ،إن ذلك التفتيت للطبقة العاملة على العدد الكبير جدا من المؤسسات الإنتاجية الحرفية والصغيرة كان وراء ضعف التكوين الذاتي للطبقة العاملة كطبقة كفاحية طليعية وكان يفسر ضعف حالة الوعي بأهمية الدور الذي ينبغي أن تضطلع به الطبقة العاملة على المستويين الوطني والاجتماعي المطلبي ويفسر حالة الضعف بضرورة الانتظام في حركة نقابية واسعة. وكان ذلك الوضع مريحا تماما للسلطة وللبرجوازية بكل فئاتها وبقطاعيها الفلسطيني والأردني، التي وجدت في تحالفها مع السلطة وخضوعها لها في أقصر الطرق لجني الأرباح على حساب بناء البلاد واستقلالها عن التبعية للدول الامبريالية وعلى حساب جموع الكادحين من أبناء الشعبين الفلسطيني والأردني، الذين كانوا يتعرضون كما هو واضح من الأرقام لأوسع عملية استغلال في ظل أسوء تفتيت لأوضاع الصناعة وأوضاع الطبقة العاملة. فمبيعات القطاع الصناعي وصلت عام 1964 إلى حدود 11,5 مليون دينار كان نصيب الطبقة العاملة منها 1,32500 دينار أي 12 بالمائة فقط بينما كان نصيب أصحاب العمل حوالي 6250000-1325000=4925000 دينار في الحد الأدنى، أي بين 43 بالمئة كحد أدنى و54 بالمئة كحد أعلى.
وعلى أرضية التوسع الأفقي الواسع في المؤسسات الصناعية صغيرة الحجم والتوسع الأضيق بكثير في الصناعات المتوسطة والضيق للغاية في الصناعات الكبيرة نسبيا، جرى التوسع في حجم الطبقة العاملة على امتداد عشر سنوات من العالم 1954 وحتى العام 1963. فينما كان حجم الطبقة العاملة الصناعية في المؤسسات التي تستخدم أكثر من خمسة عمال عام 1954 حوالي 8200 عامل قفز العدد بعد عشر سنوات إلى الضعف وأصبح يتراوح بين 15-18 ألف عامل (50). أما الحجم الإجمالي لجميع العاملين في المؤسسات الصناعية الخفيفة والمتوسطة والكبيرة نسبيا فقد زاد بمعدلات أكبر خلال نفس الفترة حسب الإحصاءات الرسمية.
وبالمقارنة بين أوضاع المؤسسات الصناعية في شطري المملكة فقد تقدمت الصناعة في شرق الأردن كثيرا عن مثيلتها في الضفة الغربية، كما يشير إلى ذلك الجدول التالي للصناعات المتوسطة والكبيرة نسبيا.

المؤسسات الصناعية التي تشغل 5 عمال فأكثر عام 1963 (51)
الضفة الغربية الضفة الشرقية
عدد المؤسسات عدد العاملين عدد المؤسسات عدد العاملين
المؤسسات التي تستخدم من 5-10 أشخاص 177 1043 193 1485
المؤسسات التي تستخدم من10-49 أشخاص 156 2733 230 4418
المؤسسات التي تستخدم أكثر من 50 شخص 20 1728 38 6807
مجموع المؤسسات 353 5504 461 12710
وهكذا انخفضت حصة الضفة الغربية من حجم المؤسسات التي تشغل 5 عاملين وأكثر من 60 بالمئة عام 1954الى حوالي 44 بالمئة عام 1963 ومن حجم القوى البشرية العاملة في تلك المؤسسات من 44 بالمئة إلى ثلاثين بالمئة في نفس الفترة، بينما ارتفعت حصة شرق الأردن ولنفس الفترة من 40 بالمئة من عدد المؤسسات إلى 56 بالمئة ومن مجموع العاملين ارتفعت من 56 بالمئة إلى حوالي 70 بالمئة. وكما يتضح من الجدول فإن عدد المؤسسات الصناعية الكبيرة نسبيا، أي التي تستخدم 50 عاملا فأكثر فقد كان عدد المؤسسات الصناعية في شرق الأردن يعادل ضعف عدد المؤسسات المماثلة في الضفة الغربية، أما حجم العمالة في تلك المؤسسات الصناعية فقد بلغ في شرق الأردن حوالي أربعة أضعاف. وحتى لا تكون المقارنة عبارة عن مواجهة مفاضلة بين شطري المملكة الأردني والفلسطيني يجب التشديد على حقيقة أساسية وهي أن معظم المؤسسات التي شملها البحث في شرق الأردن كانت تستوطن العاصمة السياسية والاقتصادية عمان وأن الأغلبية المطلقة من المؤسسات المتوسطة كانت في منطقة عمان والأغلبية الساحقة من المؤسسات الكبيرة كذلك. فالتمييز الاقتصادي والحالة هذه لم تقتصر على الضفة الغربية بل كان أعم وأشمل وامتد إلى معظم مناطق شرق الأردن بما في ذلك منطقة الشمال، التي امتدت إليها سياسية التمييز، ومناطق الجنوب، التي استمرت لسنوات محرومة من تطوير أوضاعها الاقتصادية وتطوير مؤسساتها الصناعية. وقد استمرت سياسية التمييز أي الدعم الحكومي لمنطقة عمان على حساب التطور المتوازن، أو المتوازن نسبيا لجميع المناطق في السبعينات وبعد أن سقطت الضفة الغربية تحت الاحتلال الإسرائيلي، وأبرز مثال على ذلك مخصصات الدعم للبلديات في الخطة الاقتصادية الثلاثية للتنمية 1973-1975 حيث بلغت مخصصات الدعم لعمان وحدها 10760000 دينار من أصل 14658000 دينار كانت مجموع مخصصات الدعم في تلك الخطة، أي أن حصة عمان كانت تعادل 73,4 بالمائة بينما حصة بقية البلديات فقط 26،6 بالمائة. (52)
وقد استمر نمو المؤسسات الصناعية على الأساس الأفقي الذي تمت الإشارة إليه، أي بتضخم عدد المؤسسات الصغيرة على حساب النمو الصناعي المخطط له والمسيطر عليه والقادر على دفع وتيرة نمو الصناعات المتوسطة والكبيرة نسبيا خطوات إلى الأمام ودفع وتيرة نمو الصناعات الصغيرة، أي صناعات الإنتاج الحرفي الصغير خطوات فعليه الوراء. دون شك أثار هذا النمو غير المسيطر عليه للصناعة اعتراضات من البرجوازية الصناعية على وجه الخصوص، ولكنها استمرت مجرد اعتراضات شكلية، لأن البرجوازية الصناعية ذاتها لم يكن لها سياسة توظيف واستثمار خاصة بها وضاغطة على السلطة المركزية لإجبارها على إعادة تخطيط المنشات الصناعية لصالح جميع الحرف، ولم تكن من القوة بحيث تفرض هي بقوتها وحركتها الذاتية واقعا صناعيا جديدا في البلاد، وهذا مايثبته الجدول التالي :
توزيع الاستثمارات الحكومية والخاصة حسب القطاعات (53)
1964-1970 (بالمليون دينار)
القطاع الاقتصادي خاص حكومي المجموع النسبة المئوية
الزراعة وتوابعها 16,3 54,3 70.6 25,6
التعدين 22,7 7,6 30,3 11,0
الصناعة 8,1 - 8.1 2,9
الكهرباء 2,8 5,7 8,5 3,1
النقل والمواصلات 12,3 40,9 53,2 19,2
السياحة 9,7 2,5 12,2 4,4
التجارة والخدمات 7,1 - 7,1 2,6
التعليم،الصحة،الخدمات الاجتماعية 3,9 6,7 37,0 3,8
الإسكان والبناء والعقارات 31,7 5,3 9,0 13,4
إدارة عامة - 9,0 14,8 3,4
بلديات - 14,8 - 5,4
غير محدد 14,6 - - 5,3
مجموع 129,2 146,8 276,0 100
وإذا استثنيا قطاع التعدين، الذي يحاول البعض دمجه مع قطاع الصناعة دون مبرر، وهو مستثنى في الجدول في عملية الدمج، فإن الاستثمارات في قطاع الصناعة للسنوات 1964-1970 تحتل المرتبة قبل الأخيرة، وهذا مؤشر واضح على سلوك البرجوازية الصناعية على امتداد الستينات، التي كانت تشكو من التضخم الواسع في عدد المنشات الصناعية الحرفية. وحيث يكون حجم الاستثمارات في القطاع الصناعي على النمو المشار إليه فمن الطبيعي أن يتضخم عدد المنشآت الحرفية على حساب التصنيع الرأسمالي الكثيف أو الكثيف نسبيا على الأقل. ولم تكن هذه كلها هي استثمارات البرجوازية الصناعية، على العكس من ذلك، لا سيما وأنها تخلفت عن دورها في قيادة عملية التنمية الصناعية للبلاد لصالح مشاركة فئات برجوازية أخرى في الاستثمار في قطاعات غير صناعية، كالنقل والمواصلات والإسكان والبناء والعقارات والنشاط الاقتصادي غير المحدد كذلك. كانت البرجوازية الصناعية تتذمر من تبعثر الصناعة وتحجم في الوقت نفسه عن شق الطريق أمام صناعة رأسمالية متوسطة وكبيرة الحجم نسبيا، وهذا السلوك بحد ذاته أثار من جهة أخرى عددا من الاعتراضات لبعض الاقتصاديين في الأردن، الذين أبدوا اهتمام بخطة التنمية الثلاثية 1973-1975 وراهنوا على دور البرجوازية الصناعية ودور البرجوازية بشكل عام فيها. وبسبب السياسة الاقتصادية للدولة من ناحية وتردد البرجوازية على اختلاف فئاتها في التوظيف والاستثمار المكثف في المؤسسات الصناعية واصل التوسع الأفقي مسيرته في الصناعة فزاد عدد المؤسسات الصناعية من 5258 عام 1963 إلى 6838 مؤسسة عام 1965 إلى 7242 عام 1966 إلى 7568 عام 1969، أي بزيادة مقدارها 2310 مؤسسة هذا في الوقت الذي لم يرتفع فيه حجم العاملين في المؤسسات الصناعية في الفترة بين 1963-1969 أكثر من 10,443 شخص (54)، أي بمعدل عماله أقل من خمسة عمال للمؤسسة الواحدة.
ولمزيد من التدقيق في وضع الصناعة في شطري المملكة الفلسطيني والأردني تجدر الإشارة إلى وضعها في العام 1967. فقد بلغ مجموع عدد المؤسسات الصناعية في ذلك العام 7300 مؤسسة تقريبا، منها حوالي ثلاثة آلاف مؤسسة في الضفة الغربية. وحوالي 4300 مؤسسة في شرق الأردن. وقد توزعت المؤسسات الصناعية في شرق الأردن آنذاك على النحو التالي:
المؤسسات الصناعية في شرق الأردن عام 1967 (55)
نوع المؤسسة الصناعية العدد النسبة المئوية
مؤسسات تستخدم اقل من خمس أشخاص 3770 86
مؤسسات تستخدم 5-9 أشخاص 430 10
مؤسسات تستخدم 10-24 شخص 103 2,5
مؤسسات تستخدم أكثر من 24 شخص 62 9,5 ( اقل)
المجموع 4365 100
وعندما تكون أوضاع المؤسسات الصناعية في شرق الأردن كما هو مبين في الجدول أعلاه عام 1967 فإن أوضاع المؤسسات المماثلة في الضفة الغربية كانت دون شك أقل تطورا، خاصة وأن التطور الصناعي في شرق الأردن، وتحديدا في منطقة عمان، حقق منذ البداية ولاعتبارات تمت الإشارة إليها تقدما على التطور الصناعي في الضفة . وكما كانت الغلبة في شرق الأردن للصناعات الحرفية فإن نسبة تلك الصناعات في الضفة الغربية لم تكن أقل من 90 بالمائة من مجموع المؤسسات الصناعية التي كانت قائمة فيها عام 1967. ومن أجل استكمال الصورة عن وضع الصناعة في شطري المملكة الأردني والفلسطيني قبل العام 1967 فإن الجدول التالي يعطي صوره عن حجم مساهمة قطاعي الصناعة والتعدين معا في الدخل القومي الإجمالي.
مصادر الدخل القومي الإجمالي بسعر التكلفة وسعر السوق
بملايين الدنانير (56)
المصدر 1959 1963 1966 1967
الزراعة 15 22 28 39
التعدين والصناعة 6 11 17 18
الإنشاءات 5 6 9 9
المياه والكهرباء 1 1 2 2
النقل 11 13 4 15
تجارة الجملة والمفرق 18 26 29 39
الأعمال المصرفية 1 1 3 3
ملكية المساكن 6 9 11 12
الإدارة العامة والدفاع 15 18 22 26
الخدمات 8 10 14 15
الإنتاج المحلي الإجمالي بسعر الكلفة 85 118 150 177
+ الضرائب غير المباشرة 8 11 21 18
=الإنتاج المحلي الإجمالي بسعر السوق 93 129 171 195
+صافي الدخل من الاستثمار في الخارج 6 9 15 11
=الناتج القومي الإجمالي بسعر السوق 99 138 186 206
ومن الجدول يتضح أن نسبة مساهمة قطاعي الصناعة والتعدين، وبحصة أساسية لقطاع التعدين، لم تتجاوز6 بالمائة كحد أدنى عام 1959 وحوالي 9 بالمائة كحد أعلى عام 1967 وهي نسبة متدنية دون شك ومتدنية جدا قياسا بتجارة الجملة والمفرق، التي كانت حصتها عام 1967 جوالي 19 بالمائة تقريبا، وهي نفس نسبة مساهمة قطاع الزراعة في الدخل القومي الإجمالي . وإذا كانت حصة التعدين و الصناعة في الدخل القومي الإجمالي قد حققت في الفترة بين 1959-1967 ارتفاعا نسبيا رفع المساهمة من حدود6 بالمائة إلى حدود 9 بالمائة، فإن حصة المعدات والآلات في التكوين الرأسمالي للبلاد وهو مؤشر على حصة الاستثمارات الإنتاجية بما فيها الصناعية قد حقق انخفاضا ملموسا. فمن أصل 18,06 مليون دينار إجمالي التكوين الرأسمالي الثابت عام 1959 بلغت حصة المعدات والآلات 6,28 مليون دينار أي 35 بالمائة، وقد انخفضت هذه النسبة عام 1967 إلى 26 بالمائة لصالح حصة الأبنية والإنشاءات في التكوين الرأسمالي الثابت، التي قفزت من 65 بالمائة عام 1959، أي حوالي 11.78 مليون دينار إلى 74 بالمائة عام 1967 أي حوالي 26,52 مليون دينار (57).
من هذا العرض الموجز لمسيرة الصناعة في المملكة الأردنية الهاشمية بشطريها الأردني والفلسطيني يتضح أن التقدم الذي أحرزته الصناعة كان حتى العام 1967 تقدما محدودا. كان التقدم بطيئا في سنوات الخمسينات للاعتبارات التي تمت الإشارة إليها في سياق البحث، وفي مسيرة التقدم البطيء تقدمت المؤسسات الصناعية في الستينات بخطى أسرع نسبيا، ولكنها لم تكن إطلاقا كافية لمواكبة سيل العمالة المتدفقة في سوق العمل في كل من الضفة الغربية وشرق الأردن. فالمؤسسات الصناعية لم تستوعب حتى العام 1969 أكثر من 43 ألف عامل في الضفة الغربية وشرق الأردن كحد أقصى (58)، أي بزيادة مقدارها تسعة آلاف عامل على حجم العمالة في القطاع الصناعي عام 1961، والزراعة بدورها وفرت فرصا للعمل المأجور حتى العام 1967 بحدود 48 ألف في شرق الأردن وحوالي 31 ألف في الضفة الغربية(59)، هذا في الوقت الذي بلغ فيه معدل الزيادة السنوية في حجم القوى البشرية العاملة حوالي 26200 في الفترة بين 1950-1960، وحوالي 31,300 في الفترة بين 1960-1970.(60)

الهجرة الاقتصادية كحل لتخلف الصناعة وتردي الزراعة والزيادة الواسعة في القوة البشرية العاملة
لم تكن الزراعة والصناعة هما القطاعان الوحيدان في توفير فرص العمل للقوة البشرية العاملة، التي كانت تتزايد سنة بعد أخرى في شطري المملكة، بل ساهمت القطاعات الاقتصادية الأخرى وقطاع الخدمات والقطاع الحكومي في امتصاص حجم غير قليل من البطالة التي انتشرت في مطلع الخمسينات. فالقطاع الحكومي بما في ذلك الجيش وقوى الأمن ساهمت في استيعاب قسم كبير من القوة البشرية العاملة يعادل ضعف ما استوعبته الصناعة، إذ قفز حجم أفراد القوة العاملة في القطاع الحكومي وخاصة الجيش وقوى الأمن من حوالي 54 ألف شخص عام 1961 إلى حوالي 71 ألف عام 1966 كذلك قفز حجم القوة العاملة المستوعبة في التجارة بما فيها تجارة الجملة والمفرق من 31 ألف شخص عام 1961 إلى حوالي 36 ألف، وقطاع البناء من حوالي 40 ألف إلى حوالي 59 ألف شخص، هذا إلى جانب مساهمة قطاعات أخرى. ومن مجموع 390 ألف، كانوا يشكلون القوة البشرية العاملة عام 1961 لم يزد عدد الباحثين عن عمل، أي العاطلين عن العمل عن 27 ألف، ومن مجموع 459 ألف، كانوا يشكلون القوة البشرية العاملة عام 1966 لم يزد عدد الباحثين عن عمل عن 16 ألف شخص (61). كل ذلك كان من الزاوية النظرية منطقيا ومن الزاوية الشكلية ربما صحيحا، غير أنه من الزاوية العلمية كان مخادعا تماما، فقد كانت الإحصاءات الرسمية تتجاهل البطالة المقنعة خاصة في الريف وفي عدد آخر من القطاعات الاقتصادية وخاصة قطاع الخدمات. ولكن لنفترض أن أرقام تلك الإحصاءات الرسمية واقعية وعلمية، فأين كان يذهب ذلك الفيض من القوة البشرية العاملة الجديدة المتوقع على معدل قاعدة معدل الزيادة السنوية الذي قدرته المصادر الرسمية الأردنية بحوالي 26 بالألف في الخمسينات وحوالي 30 بالألف في الستينات، وهو تقدير دقيق ويوحي بالثقة وتشكل حوله إجماع تقريبا لدى معظم المهتمين بالإحصاءات السكانية في الأردن . هذا التناقض في عدد السكان في الضفة الغربية وتلك الزيادة التي تفوق كثيرا المعدل، في عدد السكان شرق الأردن يوضحه الجدول التالي اعتمادا على عدد السكان كما كان عام 1952 واعتمادا على معدلات النمو الطبيعية من ناحية والعدد الفعلي للسكان من ناحية ثانية.
عدد السكان في المملكة بين عام 1952-1967( قبل الحرب) ( 62 )
الضفة الغربية النسبة المئوية شرق الأردن النسبة المئوية
العدد الفعلي للسكان عام 1952 742,000 56% 587,000 44%
العدد الفعلي للسكان عام 1967 864,000 44% 1,094,000 56%
العدد المقدر حسب نسبة الزيادة 1967 1,097,000 864,000
الفرق بين الفعلي والمقدر لعام 1967 233,000- +230,000
من الجدول يتضح أن الفارق السالب بالنسبة للضفة الغربية يعادل تقريبا الفارق الموجب بالنسبة لشرق الأردن ويؤكد الفارق هذا صحة القياس في حساب عدد السكان وفقا لمعدلات النمو المشار إليها. في الوقت نفسه يوضح الجدول أن نسب السكان قد تبدلت تماما، ففي الوقت الذي كان فيه عدد سكان الضفة الغربية يعادل 56 بالمئة من إجمالي السكاني عام 1952 تناقص العدد عام 1967 وأصبحت النسبة بالنسبة للضفة الغربية 44%، أي بفارق سلبي مقداره 12 بالمئة. وفي الوقت الذي كان مقدرا لعدد سكان الضفة الغربية أن يبلغ حسب معدلات الزيادة الطبيعية للسكان في الخمسينات والستينات حوالي 1,097,000 نسمه عام 1967، فقد تراجع إلى حدود 864 ألف نسمة فقط، أي بزيادة قدرها فقط 122 ألف نسمة على امتداد 15 عاما وهو دون المعدل بكثير كما هو واضح. أما في شرق الأردن فقد زاد عدد السكان عن العدد المقدر حسب معادلات الزيادة الطبيعية حوالي 230 ألف نسمة. هل يعني هذا أن الزيادة في عدد السكان من الهوية الفلسطينية في شرق الأردن كان بحدود الفارق في العدد بين الفعلي والمقدر في التعداد السكاني. بالتأكيد لا، فإن الزيادة المتحققة أعلى من ذلك بكثير وهي تتضمن بشكل عام إجمالي النمو في عدد الفلسطينيين في شرق الأردن على امتداد السنوات بين 1952 -1967، هذا إلى جانب عدد اللاجئين الذين استقروا في الأردن بين 1948-1952, وعلى أي حال، لا أحد معني بحساب عدد الفلسطينيين في شرق الأردن لمجرد الحساب، وبالنسبة إلى موضوع البحث فليس المهم قياس عدد الفلسطينيين في شرق الأردن أو إثبات نسبتهم قبيل الحرب وبعدها عام 1967 بل المهم إثبات حقيقة هامة عنوانها هجرة الفلسطينيين من الضفة الغربية نحو شرق الأردن وبلدان أخرى والبحث عن أسبابها في سياق تحليل السياسة الاقتصادية للدولة في الحد الأدنى( 63 ) . فعلى امتداد 15 عاما غادر الضفة الغربية حوالي ربع سكانها وبمعدل هجرة سنوي لا يقل عن 19 ألف شخص. هذا العدد الضخم من الهجرة كان هجرة اقتصادية ولم يكن له علاقة بالهجرة القسرية، فقد تم استثناء الهجرة التي تبعت النكبة مباشرة والهجرة التي وقعت بين 1948- 1952، واستثنيت كذلك الهجرة التي جاءت بعد حرب حزيران، وهي ضخمة وتعادل في حجمها حجم الهجرة في الفترة بين 1952-1967( 65 ) . البعض يحاول أن يعطي الهجرة من الضفة الغربية أسبابا متعددة, وهذا صحيح إذا ما تم استيعاب الهجرة بين عام 1948 وأواخر العام 1967، فللهجرة أسباب ودوافع من بينها الدافع الاقتصادي والدافع الذي يتصل بالحروب العدوانية، التي شنتها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني 1948 وضد الشعوب العربية المجاورة عام 1967. وإذا كانت الهجرة القسرية الناتجة عن الحرب يمكن استيعابها كحالة طبيعية تنتج عن كل الحروب، فإن الهجرة الاقتصادية ليست كذلك، وهي بحاجة إلى تفسير مقبول، خاصة إذا كانت بين إقليمين متقاربين متشابهين في مستوى التطور. هنالك دون شك أشكال متعددة من الهجرة الاقتصادية، منها مثلا هجرة العقول والكفاءات، المنتشرة في البلدان النامية، وهذه تسير باتجاه محدد من بلد غير متقدم صناعيا إلى بلد متطور صناعيا وعلميا. غاية الهجرة هنا واضحة للعيان وتنطوي على عوامل متعددة ولا يوجهها العامل الاقتصادي، أي لا يوجهها وحده عامل الرغبة في تحسين المستوى المعيشي. فهل كانت الهجرة الاقتصادية في هذا الإطار والحجم، الذي تم تحديده، هجرة من النوع الذي يحدث بين مجتمعين متباينين إلى درجة كبيرة في مستوى التطور الصناعي والعلمي, أم أن العملية نمت على قاعدة تباين تراكمي نما مع الوقت بسبب سياسة الدولة. لا أحد يستطيع أن يفكر أن الهجرة الاقتصادية التي حدثت في الضفة الغربية كانت منذ البداية بسبب الفارق الملموس في مستوى التطور بين شطري المملكة الفلسطيني والأردني، فقد كان ذلك الفارق محدودا للغاية في مطلع الخمسينات وكان يمكن للسكان أن يواصلوا الثبات في الضفة الغربية، في مدنها وريفها ومخيماتها لو توافرت منذ البداية سياسة حكومية جادة في هذا الشأن، ولو توافرت منذ البداية سياسة اقتصادية تعطي للضفة الغربية اهتماما يعادل دورها في مواجهة الأخطار التي تتعرض لها هي بالذات والأخطار التي تتعرض لها المملكة بشكل عام باعتبارها دولة مواجهة مع العدوانية الإسرائيلية التوسعية.
إن صمود المواطن في أرضه، والصمود هنا نقيض للهجرة مهما كانت دوافعها، في الضفة الغربية لم يشكل هما كبيرا من هموم الدولة على المستوى السياسي الوطني. فمنذ ضم الضفة الغربية إلى المملكة عام 1950 لم تشهد الضفة ولم تشهد المملكة بشكل عام سوى أشهر معدودة من الحريات العامة والديمقراطية، التي توفر المناخ المناسب للتعبئة الديمقراطية الواسعة للمواطنين، تلك التعبئة التي تلعب دورا هاما في ثبات المواطن في وطنه، خاصة عندما يكون الوطن مهددا ومعرضا للأخطار. فقد عاشت الضفة الغربية وعاشت المملكة بشكل عام في أجواء من الكبت والقهر للمواطن، حيث فرضت الدولة في علاقتها مع المواطن منطقا استبداديا واضحا. فمنذ البداية أقدمت الدولة على حل الأحزاب السياسية التي كانت قائمة في الضفة الغربية من الانتداب البريطاني على فلسطين، وأقدمت كذلك على حل المنظمات العمالية والنقابية وأعادت الأمور من جديد إلى سلطة القوانين العثمانية، التي تخلى حتى الاستعمار البريطاني في فلسطين عن بعضها. وبقمع الحريات العامة والديمقراطية وحل الحركات السياسة والعمالية النقابية وفرض منطق استبدادي في العلاقة مع المواطن أقدمت الدولة على ضرب إحدى المقومات الرئيسية لثبات المواطن وتعلقه في وطنه, في جو الحريات العامة والديمقراطية تنمو المواطنية الإيجابية وينمو الاستعداد الكفاحي للثبات في الأرض والوطن، خاصة حين يكون مهددا ومعرضا للأخطار الخارجية، ويدافع المواطن بكل عزيمة عن شعبه ووطنه، تدنِ جو الحريات العامة والديمقراطية لا يقيم علاقة ايجابية بين المواطن والوطن بل كذلك بين المواطن والدولة كذلك ويصبح الدفاع عنه وحمايته من الأطماع الخارجية. حيث عندما تلغى الحريات العامة والديمقراطية تنعدم الإمكانية لتعبئة الشعب تعبئة ديمقراطية واسعة وتفقد أجهزة الدولة الاستبدادية بما فيها مؤسسة الجيش كل إمكانية لبناء علاقة إيجابية مع المواطنين وتتحول إلى أجهزة ومؤسسات قائمة بحد ذاتها ومعنية قبل غيرها بالدفاع عن الوطن وحمايته والدفاع عن الدولة باعتبارها دولتها هي قبل أن تكون لغيرها. بل أكثر من ذلك فإن ظاهرة الهجرة القسرية الناتجة عن الحرب، تتناسب تناسبا طرديا وعكسيا مع حالة الحريات العامة والديمقراطية، فعندما تنعدم الحريات الديمقراطية والعامة تقفز الهجرة القسرية للشعوب المهزومة بمعدلات قياسية وخيالية، لأن الشعب لا يحتل موقعه الطبيعي في الدفاع عن موطنه والثبات فيه، بينما تكون الهجرة في حدودها الدنيا فعلا في ظل تمتع الشعب بحرياته العامة والديمقراطية، لأن التمتع بمثل هذه الحريات يفرض على مجموع الشعب وعلى قاعدة التعبئة الديمقراطية الواسعة في صفوفه واجبا أساسيا هو الثبات في الأرض والدفاع عن الأرض لأن الهجرة في مثل هذه الحالة تتعارض تماما مع هذا الواجب وتعني كذلك مخاطرة فعلية بالحريات التي يتمتع بها في وطنه. في ظل الحريات الديمقراطية ينمو الشعور بالمواطنية الإيجابية دون شك، والمواطنية الإيجابية في ظل التمتع بالحريات العامة والديمقراطية هي من مظاهر الحياة الجماعية الإيجابية في الدول الديمقراطية، فقيرة كانت هذه الدول أم غنية في ثرواتها ومصادرها الوطنية. وعكس المواطنية الإيجابية المواطنية السلبية، التي تنشأ وتتفاقم في الأجواء التي تنعدم فيها تلك الحريات، وعندما تنتشر حاله كهذه، تنتشر بموازاتها نزعات البحث عن حلول للمشاكل الفردية ومنها المشاكل المعيشية، وفي هذا المناخ تنمو دوافع الهجرة إلى الخارج، وهو ما كان يحدث في الضفة الغربية على وجه التحديد.
وإذا كان للعامل السياسي الوطني دور في عملية الهجرة إلى الخارج، فإن للعامل الاقتصادي دور أكثر خطورة، ويتفاقم خطر الهجرة بدوافع اقتصادية، أي لتحسين المستوى المعيشي على الصعيد الفردي، كلما تراجع دور العامل السياسي الوطني للثبات على الأرض والدفاع عن الوطن في وجه الأخطار التي يتعرض لها. وفعلا يتنامى دور العامل الاقتصادي في الهجرة الاقتصادية التي انتشرت في الضفة الغربية في ظل انعدام الحريات الديمقراطية والعامة وفي ظل انعدام التعبئة الديمقراطية الواسعة للمواطنين للثبات في الأرض والدفاع عن الوطن كما تنامي دور ذلك العامل في إهمال الدولة لتطوير المؤسسات الاقتصادية الإنتاجية وخاصة الزراعية والصناعية وفي ظل تركيز الدولة والبرجوازية الفلسطينية والأردنية لجهود التطوير الاقتصادي خاصة في العاصمة السياسية والاقتصادية، أي في مدينة عمان والمناطق المجاورة لها. والأمثلة هنا كثيرة ومتعددة.
فالدولة لم تعط اهتماما يذكر لمشاريع من شأنها أن تطور القطاع الزراعي في الضفة الغربية وكذلك البرجوازية المحلية التي وجهت اهتمامها للأعمال التجارية ومشاريع الخدمات بالدرجة الرئيسية. فتراجع وضع القطاع الزراعي، الذي كان يستوعب 56 بالمئة من مجموع السكان الزراعيين في المملكة ويسهم في استيعاب نسبة لا بأس بها من القوة البشرية العاملة في الضفة ويخفف نسبيا من أزمة البطالة في الخمسينات.
وتراجعت في الخمسينات مساحة الأراضي المزروعة في الضفة بنسبة 12 بالمئة من مساحة الأراضي الزراعية بدل أن تتطور الأوضاع باتجاه استصلاح المزيد من الأراضي واستيعاب المزيد من الأيدي العاملة لتخفيف مشكلات البطالة ولتحسين علاقة الفلاحين والمزارعين بأرضهم للحيلولة دون هجرتهم من وطنهم سواء باتجاه شرق الأردن أو باتجاه الدول الخليجية وغيرها. ولم تتطور مساحة الأراضي المروية، بل هي بقيت في حدودها دون الدنيا، مع أن الإمكانية كانت متوفرة لتوسيع مساحة الأراضي المروية وخاصة في أغوار الضفة الغربية لمزيد من تطوير الزراعة ورفع نسبة العمالة فيها وتحسين إنتاجيتها ورفع نسبة مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي. ولم تتحسن أوضاع الزراعة بالاستخدام الأوسع للآلات الزراعية في الريف وبقي استخدام الآلات في نطاق ضيق واستمر الاعتماد على العمل اليدوي المكثف في الزراعة في إنتاجيته المحدودة. كان من الممكن جدا التوسع في استخدام الآلات الزراعية وفي استصلاح المزيد من الأراضي المزروعة وفي توسيع مساحة الأراضي المروية لتحقيق أهداف سياسية وطنية واقتصادية مزدوجة تخدم ثبات الفلاحين والمزارعين في الأرض ورفع مستوى معيشتهم وتحسين مداخيلهم والارتقاء بمعدلات ومستويات الاستخدام في القطاع الزراعي وبمعدلات مساهمة هذا القطاع الحيوي في الإنتاج المحلي الإجمالي للضفة الغربية وللمملكة بشكل عام. غير أن ذلك لم يحدث بفعل إهمال الدولة من ناحية ولأن البرجوازية المحلية أدارت ظهرها هي الأخرى لهذا القطاع الإنتاجي وفضلت استثمار رؤوس أموالها في القطاعات الأخرى غير الإنتاجية، التي تخدم مصالحها الطبقية الأنانية الضيقة على نحو أفضل وأسرع. وإلى جانب تراجع مساحة الأراضي المزروعة وقعت تطورات أكثر خطورة في القطاع الزراعي، إذ ازدادت عملية التفتيت في الحيازات الزراعية بحيث أصبحت الحيازات الزراعية التي تقل مساحة الواحدة فيها عن عشر دونمات تعادل عام 1965 حوالي 50 بالمئة، ومساحة الحيازات الزراعية التي تعادل الواحدة منها 10-49 دونما حوالي 34 بالمئة، أي أن مساحة الحيازات التي كانت تقل مساحة الواحدة منها عن 50 دونما كانت حوالي 84 بالمئة من مساحة الأراضي المزروعة في الضفة الغربية عام 1965. وفي ظل هذا التفتيت للحيازة الزراعة لم تعد المداخيل لقطاع واسع من الفلاحين كافية حتى للحفاظ على مستوى معيشي مقبول، خاصة وأن العائلة الفلاحية كانت بحاجة إلى حوالي مئة دونم لتتمكن من الحفاظ على مستوى معيشي مقبول بسبب ارتفاع الأسعار وما يترتب عليها من غلاء في مستوى المعيشة. لم يكن هذا هو وضع الزراعة في شرق الأردن، فقد أعطت الدولة اهتماما محدودا بأوضاع القطاع الزراعي من خلال مشروع قناة الغور الشرقية ومن خلال توفير التسهيلات والقروض للمزارعين وخاصة كبار الملاك كما كانت مساهمة البرجوازية وخاصة التي كانت تملك صفة مزدوجة المنحدرة من أوساط كبار الملاك أكبر من مساهمة مثيلتها في الضفة الغربية في تطوير المشاريع الزراعية والزراعية الصناعية وفي إدخال الآلات الزراعية على نطاق أوسع في الضفة الغربية. ومع أن عملية التفتيت في الحيازات الزراعية عمت شطري المملكة، إلا أن نتائجها في شرق الأردن كانت أقل شأنا عن نتائجها في الضفة الغربية، إذ لم تزد نسبة الحيازات الزراعية التي تقل الواحدة منها عن عشر دونمات عن 10 بالمئة، والحيازات التي تقل الواحدة منها عن 50 دونما عن 52 بالمئة من مجموع الحيازات الزراعية مقابل 84 بالمئة للضفة الغربية. ولإلقاء الضوء بالطريقة المقارنة على أوضاع القطاع الزراعي في كل من الضفة الغربية وشرق الأردن، كان من الأنسب تجميع المعلومات المساعدة في الجدول التالي:
أوضاع القطاع الزراعي في المملكة قبل 1967 (66)
الضفة الغربية شرق الأردن
نسبة السكان الزراعيين في المملكة 56% 44%
نسبة مساحة الأراضي المزروعة 33% 67%
نسبة المساهمة من الدخل الزراعي الإجمالي 40% 60%
مساحة الأراضي المروية (كم مربع) 70 300
عدد الآلات الزراعية 175 798
القيمة الإجمالية للقروض الزراعية 1966 بالدينار 461،500 1،173،300
حصة المزارع الواحد من القروض ( معدل) بالدينار 139 3409
نسبة استيعاب العمالة في القطاع الزراعي للمجموع 40% 33%
حصة الحيازات التي تقل عن 10 دونم 1953 28%
حصة الحيازات بين 10-49 دونم 1953 42%
حصة الحيازات التي تقل عن 10 دونم 1965 50% 17%
حصة الحيازات بين 10-049 دونم 1965 34% 35%
الجدول يشير أن الضفة الغربية لم تتقدم على شرق الأردن إلا في بند واحد هو نسبة السكان الزراعيين، أي في القوة البشرية العاملة في الريف. عدا ذلك تقدم شرق الأردن في كل مجال، ومع ذلك فليست المقارنة هي موضوع البحث، فمساحة شرق الأردن أوسع من مساحة الضفة الغربية وسهولها مترامية الأطراف ويمكن تطوير إنتاجها الزراعي على نحو جيد بحيث يكتفي مع الضفة الغربية ذاتيا من إنتاجه الزراعي.
موضوع البحث هنا هو سياسة الدولة وسياسة البرجوازية وقطاع رأس المال الخاص وعلاقتها بنسبة الثبات في الأرض في الضفة الغربية. الجدول يوضح أن نسبة الثبات في الأرض، أي أن الامتناع عن الهجرة الاقتصادية في ظروف الريف في الضفة الغربية لن تكون مرتفعة بل إن هجرة الأرض ستكون هي النتيجة الحتمية لتلك الظروف. فمساحة الأراضي المروية مثلا كانت دون الحدود التي يمكن أن يتحمل مسؤوليتها نفر محدود من البرجوازية الزراعية، ولم تكن المشكلة إطلاقا في قلة المياه الجارية أو المياه الجوفية فقد كانت ولا زالت وستبقى متوفرة، ولم تكن المشكلة إطلاقا كذلك في الطبيعة الجبلية لأراضي الضفة فإلى جانب المناطق الجبلية توجد كذلك أراضي السهول في الأغوار، التي يخترقها نهر الأردن من الشمال إلى الجنوب دون أن يعترض طريقه على امتداد الخمسينات والستينات عائق يذكر في أغوار الضفة الغربية والمياه الجوفية في الأغوار وفي السهول الغربية متوفرة، ولم تكن تحتاج إلا إلى القليل من الاستثمار الحكومي واستثمار رأسمال الخاص للبرجوازية المحلية في الضفة أو البرجوازية وكبار الملاك في المملكة بشكل عام.
وكما كانت حال الأراضي المروية كانت كذلك حال الآلات الزراعية، رغم انتشار الجمعيات والأندية الزراعية في ريف الضفة الغربية منذ الخمسينات، تلك الجمعيات والأندية، التي كانت دورها في التأييد السياسي للدولة أوسع كثيرا من دورها في النهوض بوضع الزراعة. وكانت القروض الحكومية للزراعة في الضفة الغربية أساسا وفي المملكة بشكل عام دون المستوى المطلوب لتطوير عدد محدود من الدونمات، فهي لم تصل على امتداد عام كامل إلى نصف مليون دولار في الضفة الغربية كان نصيب المقترض الفرد منها كمتوسط لا يتجاوز 139 دينار، لم يكن يكفي حتى لفلاحة الأرض، هذا في الوقت الذي تنفق فيه الدولة على أجهزة سيطرتها السياسة 50-60 بالمئة من موازنتها على امتداد الخمسينات ومطلع الستينات. هذه اللوحة الموجزة والمبسطة لأوضاع الريف في الضفة الغربية تفسر على نحو واضح أسباب الهجرة الاقتصادية التي انتشرت في صفوف أبنائه باتجاه شرق الأردن في الخمسينات وباتجاه بلدان الخليجية كذلك في الستينات. وكان طبيعيا أن تحدث الهجرة تلك في ظل عملية التفتيت التي تعرضت لها الحيازات الزراعية وفي ظل السيطرة المطلقة للحيازات الصغيرة، التي بلغت نسبتها حوالي 84 بالمئة من مجموع الحيازات في منتصف الستينات.
ولم يكن وضع القطاع الصناعي ليسمح كذلك بالمراهنة على نسبة ثبات أعلى لمواطني الضفة الغربية الأصليين واللاجئين منهم. فالمؤسسات الصناعية في الضفة الغربية كانت مؤسسات للإنتاج السلعي الصغير، أي للإنتاج الحرفي، هذا في الوقت الذي تمركزت في الصناعة المتوسطة والكبيرة نسبيا في العاصمة السياسية والاقتصادية وجوارها. في منتصف الستينات بلغ عدد المؤسسات الصناعية في شطري المملكة الأردني والفلسطيني حوالي 6800 مؤسسة بعد أن كان في مطلع الخمسينات دون ذلك بكثير. دون شك حدث توسع في القطاع الصناعي بشكل عام وفي المؤسسات المتوسطة والكبيرة نسبيا كذلك، غير أن النمو الأهم والأبرز في المؤسسات الصناعية للضفة الغربية كان في المؤسسات الصغيرة والحرفية بكل مساوئ الاستخدام والإنتاج فيها. ذلك واضح تماما من الوضع الذي وصلت إليه الصناعة في الضفة الغربية في منتصف الستينات، التي يمكن اعتمادها كأداة قياس لفعالية الصناعة ودورها منذ العام 1952، أي منذ ضم الضفة الغربية إلى المملكة الأردنية الهاشمية. فالموجودات الثابتة للمؤسسات الصناعية في الضفة الغربية لم تكن تتجاوز 3 بالمئة من قيمة الموجودات الثابتة لمؤسسات الصناعية في المملكة، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على الانخفاض الواسع في حجم الاستثمارات الصناعية في الضفة. ولم تتجاوز حصة الضفة الغربية في الإنتاج القائم للمؤسسات الصناعية في شطري المملكة 25 بالمئة من قيمة الإنتاج، وهذا مؤشر آخر على السمة الحرفية العالية في مؤسساتها الصناعية. مؤشر ثالث على تلك السمة الحرفية يعبر عن نفسه بحصة المؤسسات الصناعية في الضفة الغربية من إجمالي القيمة الفائضة التي حققتها الصناعة بشكل عام، إذ لم تتجاوز حصة تلك المؤسسات أكثر من 26,5 بالمئة من إجمالي القيمة الفائضة، رغم كثرة عددها. أما المؤشر الرابع على السمة الحرفية فيعبر عن نفسه كذلك في معدل الأجور السنوية للعاملين في المؤسسات الصناعية للضفة الغربية. فبينما كان معدل الأجور السنوية للعامل في الصناعة في الضفة الغربية حوالي 84 دينار كان معدل الأجور السنوية لزميله العامل في الصناعة في شرق الأردن حوالي 191 دينار (67). الفارق هنا في معدل الأجر السنوي لا يعود لدرجة المهارة ولا يعود لعوامل تتصل بكرم البرجوازي الصناعية في شرق الأردن وببخل مثيلتها في الضفة الغربية، بل يعود أساسا إلى تمركز الصناعة المتوسطة والكبيرة نسبيا في شرق الأردن وبشكل أدق في منطقة عمان وجوارها فمن الواضح أن الأجور تتدنى وتتناقص كلما كانت الصناعة حرفية وترتفع وتتصاعد كلما كانت الصناعة متوسطة وكبيرة. وهذا واضح تماما من معدلات الأجور السنوية في شرق الأردن ذاتها. إذ ليست الأجور جميعها في مستوى واحد، بل تتفاوت إلى درجة كبيرة بين الصناعات الحرفية والصناعات المتوسطة والكبيرة. ففي الوقت الذي كانت في معدلات الأجور السنوية للعامل الصناعي في المؤسسات ذات الإنتاج السلعي الصغير أي الحرفي في شرق الأردن في نهاية الستينات 120 دينار كانت معدلات الأجور للعامل في الصناعات الأساسية حوالي 265 دينار في السنة (68).
وهكذا تضافر عاملان رئيسيان أسهما بفعالية في رفع وتيرة الهجرة من الضفة الغربية من عام لآخر في الخمسينات وفي استمرارها في الستينات وبعدها، هما العامل السياسي والاقتصادي، فغياب الحريات الديمقراطية والعامة من ناحية وتخلف الصناعة وتردي الصناعة من ناحية أخرى دفعت بمئات آلاف السكان من الضفة للهجرة نحو شرق الأردن وبلدان أخرى كانت البلدان الخليجية في مقدمتها. لماذا تم اختيار شرق الأردن بشكل مكثف للهجرة الاقتصادية وهي تخضع لنفس الظروف السياسية وتنعدم فيها هي الأخرى الحريات الديمقراطية والعامة، الجواب على ذلك بسيط ولا يحتاج لأي تعقيد، فالحركة بين الضفة الغربية وشرق الأردن كانت حركة حرة لا تخضع لقيود باعتبارهما يشكلان شطري دولة واحدة، بينما كانت الحركة مقيدة ومكلفة نسبيا بالنسبة لبلدان أخرى، من ناحية ثانية كان مستوى المعيشة في بعض مناطق شرق الأردن وليس كلها، وتحديدا عمان وجوارها، أعلى من معدلات مستوى المعيشة في الضفة الغربية، ومن هنا شكلت عمان وجوارها مركز الجذب الرئيسي للهجرة. فالأجور كانت أعلى نسبيا وفرص العمل متوفرة أكثر نسبيا مقارنة ببقية ألوية المملكة. ففيها وعلى أطرافها تنمو الحركة الصناعية والتجارية وتتركز المؤسسات والدوائر الحكومية وتنشط حركة البناء على نطاق أوسع. من ناحية ثالثة بدأت الزرقاء هي الأخرى تلعب دورا في اجتذاب حركة الهجرة، لا باعتبارها مركزا اقتصاديا جديدا، رغم نمو بعض الصناعات الكبيرة فيها وعلى أطرافها وأطراف عمان كمصفاة البترول ومصانع الفوسفات – الرصيفة، بل اعتبارها تضم أكبر معسكرات الجيش وأوسعها، وأمام هذه الوضعية لم يطرح الناس على أنفسهم سؤالا حول العامل السياسي، بل طرحوا على أنفسهم في هذا السياق تحديدا، أي في سياق الموقف من كبت الحريات الديمقراطية والعامة،خيارا جوهريا هو خيار المفاضلة بين الوضع السيئ و الوضع الأسوء، فاختاروا الهجرة هربا من الوضع المعيشي الأسوأ. ويمكن الجزم في هذا السياق أن البرجوازية الفلسطينية وحدها، اختارت الهجرة إلى شرق الأردن وتحديدا عمان لدوافع اقتصادية لا تتصل بالحاجة أو العوز بقدر ما تتصل باندفاعها لمراكمة رؤوس أموالها في ظروف استثمار أفضل ـوبصرف النظر عن الحاجة الماسة لجماهير العمال وسائر الكادحين في مدن وريف ومخيمات الضفة الغربية إلى استثمارات توفر لها شيئا من الخبرة والعمل في ما تبقى من وطنها الفلسطيني.
واتجهت الهجرة نحو شرق الأردن إلى مناطق محددة بشكل رئيسي وليس إلى جميع ألوية شرق الأردن، وعلى امتداد عشر سنوات تضاعف عدد سكان كل من عمان ومدينة الزرقاء .ولعبت الهجرة الاقتصادية دورا بارزا في ذلك بينما حافظت ألوية شرق الأردن في الفترة ذاتها على نفس نسبتها من السكان في شرق الأردن، هذا في الوقت الذي تناقصت فيه نسبة ألوية الضفة الغربية في التوزيع السكاني على ألوية المملكة كما يشير الجدول التالي:
نسبة توزيع السكان في الألوية بين 1952- 1961 (69)
اللواء حصته المئوية من إجمالي السكان اللواء حصته المئوية من اجمالي السكان
1952 1961 1952 1961
لواء عمان 17،5 25،4 لواء القدس 22،7 20،2
لواء البلقاء 4،5 4،7 لواء نابلس 23،8 20،0
لواء عجلون 16،1 16،1 لواء الخليل 9،5 7،0
لوائي الكرك ومعان 6.8 6،7 المملكة 100 100
ولم تقف الهجرة الاقتصادية عند حدود الهجرة إلى شرق الأردن، بل هي امتدت إلى عدد كبير من البلدان كان أهمها البلدان الخليجية، التي فتحت نصف أبوابها لتلك الهجرة في الخمسينات وفتحت الأبواب على نطاق أوسع في الستينات. ولم تقتصر الهجرة في هذه الحالة على الضفة الغربية بل بدا شرق الأردن يشارك في تلك الهجرة وأصبح مصدرا للهجرة الاقتصادية، ووصل عدد المشاركين في تلك الهجرة عام 1961 حوالي 64 ألف من القوة البشرية العاملة. وكانت نسبة توزيعهم على الألوية كما يلي :
نسبة توزيع الهجرة الاقتصادية على ألوية المملكة 1961(70).
اللواء النسبة المئوية اللواء النسبة المئوية
لواء عمان 13،4 لواء القدس 28،5
لواء البلقاء 0،7 لواء نابلس 48،9
لواء عجلون 5،4 لواء الخليل 2،5
لوائي الكرك ومعان 0،6 المملكة 100
يتضح من الجدول أن حصة ألوية الضفة الغربية بلغت حوالي 80 بالمئة من مجموع المغتربين عام 1961 وأن الضفة الغربية قد خسرت أعداد كبيرة من القوة البشرية العاملة. كما يتضح من الجدول أن مساهمة ألوية البلقاء والكرك ومعان في الهجرة لم تتجاوز 1،3 بالمئة، ويعود ذلك إلى أن هذه الألوية لم تكن هدفا للهجرة الاقتصادية الأولى من الضفة الغربية إلى شرق الأردن، بينما ترتفع حصة لواء عجلون لأن بعض هجرة الخمسينات الاقتصادية قد توجهت نحو اللواء ولأن اللواء وهذا هو الأهم يضم عددا جيدا من مخيمات اللاجئين الفلسطينيين. أما لواء عمان فقد كانت مشاركته مرتفعة بفعل النسبة المرتفعة من الفلسطينيين بين سكانه ولأنه كان منذ البداية هدفا للهجرة الاقتصادية الأولى واحتضن كذلك العدد الأهم من مخيمات اللاجئيين الفلسطينيين ومن توزيع الهجرة على ألوية المملكة ومن التدقيق بحصة كل لواء في الهجرة الاقتصادية للخارج يتضح أن الهجرة قد اقتصرت تقريبا على القوة البشرية العاملة الفلسطينية وعلى الضفة الغربية بالدرجة الأولى للأسباب والدوافع، التي أشير إليها في هذا المجال، وهي أسباب ودوافع مركبة دون أدنى شك، سياسية واقتصادية.
الحركة العمالية النقابية في ظل التمييز والهجرة وسياسة القبضة الحديدية
على امتداد سنوات الخمسينات والستينات افتقرت الدولة إلى خطة اقتصادية تساعد على النهوض المتوازن بالاقتصاد ليس فقط في فروعه المختلفة بل وكذلك بالنسبة لمناطق المملكة وألويتها. وترتب على ذلك عوامل سلبية خطيرة، مثل التراجع في أوضاع القطاع الزراعي والتوسع الأفقي العريض في المؤسسات الصناعية الصغيرة والحرفية في ظل ضعف بارز في وتيرة تطور الصناعات المتوسطة والكبيرة نسبيا، وتمركز للصناعة بالدرجة الرئيسية في العاصمة الاقتصادية والسياسية وجوارها على حساب النهوض بالأوضاع في الألوية الأخرى وخاصة في الشطر الفلسطيني من المملكة، الذي تحول إلى مصدر للهجرة الاقتصادية بكل آثارها المدمرة على المستوى السياسي الوطني والاجتماعي والاقتصادي.
وفي سياق عملية التطور غير المسيطر عليها حدث النمو غير المتوازن في فروع الاقتصاد والقوى البشرية العاملة في تلك الفروع، فقد نما بحجم كبير قطاع غير إنتاجي كان يستوعب قسما رئيسيا من القوى البشرية العاملة ويستحوذ على حصة جيدة من التوظيفات الرأسمالية وعلى نسبة عالية من الناتج المحلي الإجمالي والناتج القومي الإجمالي. ووطد ذلك القطاع غير الإنتاجي مواقعه في دوائر الدولة وأجهزتها، التي أصبحت بفضل المساعدات الخارجية، أكبر صاحب عمل في البلاد، كما وطد مواقعه في التجارة والبنوك وشركات التأمين والخدمات وغيرها من القطاعات، التي لا تشارك مباشرة في الإنتاج السلعي وإنتاج الاحتياجات المادية الأساسية للمواطنين. وبسبب عوامل الهجرة الاقتصادية إلى الخارج، التي بدأت في منتصف الخمسينات ونمت نموا سريعا في الستينات كان مستوى نمو القوى البشرية العاملة في البلاد دون حدوده العامة، ولكنه نما على أي حال بفضل الزيادة السكانية بوتيرة أسرع كثيرا من قدرة اقتصاد البلاد على الاستيعاب، ولذلك استمرت البطالة وإن هي أخذت تتناقص تدريجيا في الستينات. كان حجم القوى البشرية العاملة عام 1950 حوالي 270 ألف شخص، عدد المستخدمين منهم لم يتجاوز حوالي 110 آلاف ، أما القسم الآخر، الذي كان بحدود 160 ألف شخص فقد كان عاطلا عن العمل(71). هذا إذا ما تم تجاوز حالات البطالة المقنعة، وكانت بالتأكيد عالية للغاية. كانت نسبة البطالة في الشطر الفلسطيني حوالي 60 بالمئة من القوة البشرية العاملة وفي شرق الأردن كانت نسبة البطالة تقدر بحوالي 30 بالمئة، إذا ما تم استثناء البطالة الموسمية(72). وفي العام 1961 بلغ حجم القوى العاملة حوالي 390 ألف شخص يعمل منهم في الزراعة 137 ألف ، وفي الصناعة والتعدين 43 ألف وفي البناء حوالي 40 ألف وفي التجارة والبنوك وشركات التامين وقطاع النقل وأجهزة الدولة حوالي 142 ألف شخص. أما العاطلون عن العمل باستثناء البطالة المقنعة فقد بلغ عددهم حوالي 27 ألف شخص. وفي العام 1966 قفز حجم القوة البشرية العاملة إلى حوالي 459 ألف شخص، يعمل منهم في الزراعة حوالي 155 ألف ، أي بزيادة قدرها 18 ألف عما كانت عليه العمالة في هذا القطاع عام 1966، وفي الصناعة والتعدين53 ألف شخص، أي بزيادة قدرها عشرة آلاف عن عام 1961، وفي قطاع البناء 59 ألف شخص. أما قطاع التجارة والخدمات فقد قفز العدد إلى حوالي 183 ألف شخص، أي بزيادة قدرها حوالي 41 ألف شخص. أما عدد العاطلين فقد انخفض بفعل الهجرة الاقتصادية إلى الخارج إلى حوالي 16 ألف شخص(73).
الخصائص المميزة للقوة البشرية العاملة
تلك كانت لوحة إجمالية موجزة للقوة البشرية العاملة في المملكة في الخمسينات والستينات. فما هي الخصائص، التي كانت تميز تلك اللوحة، والتي أثرت بوضوح على الحركة العمالية والنقابية في البلاد.
الهيكل السكاني في المملكة بشطريها الفلسطيني والأردني كان يشير دائما إلى ارتفاع كبير في نسبة السكان، الذين تقل أعمارهم عن 15 سنة، أي السكان الذين لا يمكن اعتبارهم في عداد قوة العمل إذ يشكل بعضهم جزءا منها، باستثناء العمال الأحداث. وعلى أي حال فإن عدد العمال الأحداث لا يشكل عاملا مهما في حساب نسبة القوى البشرية العاملة إلى إجمالي السكان. حيث هنالك أعداد أكبر من أعداد العمال الأحداث تتراوح أعمارهم بين 15- 20 سنة من أبناء المدارس الثانوية والجامعيين ولم يمارسوا عملا في أي فروع الاقتصاد. وكانت نسبة السكان الذين تقل أعمارهم عن 15 سنة تتراوح باستمرار حول معدل 50 بالمئة، وهذه نسبة عالية للغاية. يضاف إلى هذه النسبة الهائلة نسبة أخرى أدنى منها بكثير ولكنها كانت ولا زالت تؤثر في احتساب الحجم الفعلي للقوى البشرية العاملة، تتعلق بالأشخاص الذين يعزفون لاعتبارات متعددة من مزاولة العمل في سن الخمسينات وبشكل أوسع بكثير في سن الستينات. فهؤلاء الذين يمتنعون لأسباب متعددة عن مزاولة العمل في سن معينة يرفعون دون شك نسبة عدد السكان، الذين يعتاشون على حساب القوى العاملة. يضاف إلى هذا كله النسبة المتدنية لمشاركة المرأة في العمل، حيث تراوحت نسبة العاملات في الخمسينات وحتى أوائل السبعينات بين 4،5 – 7 بالمئة وهي ونسبة متدنية للغاية قياسا بعدد النساء في سن العمل. وليست النسب بحد ذاتها هي الأهم، بل أن الأهم عند احتساب تلك النسب في الهيكل السكاني للمملكة في الخمسينات والستينات الوقوف على حقيقة في غاية الأهمية تتعلق بمعدلات الإعالة وبمتوسط المداخيل الفردية. في هذا السياق كانت كافة التقديرات على امتداد الخمسينات والستينات تشير أنه كان على حوالي 20 بالمئة من السكان، وهي القوة العاملة، إعالة القسم الآخر من السكان خارج نطاق العمل، والذي كان يعادل تقريبا 80 بالمئة، بكل ما يعنيه ذلك من انخفاض واقعي في متوسط المداخيل الفردية ومن صعوبة نمو حالات ادخار لقطاعات واسعة من السكان .إذن من الخصائص الهامة للقوى البشرية العاملة في الخمسينات والستينات الارتفاع الكبير جدا في معدلات الإعالة والانخفاض المستمر في متوسط المداخيل الفردية والقدرة الشرائية كذلك.
وكانت معدلات الزيادة في القوة البشرية العاملة على امتداد الخمسينات لا تتجاوز حدود 25 ألف شخص سنويا، وقد ارتفعت إلى حوالي 30 ألف سنويا في الستينات. وهذه معدلات متدنية دون شك وهي إذا ما قورنت بمعدلات الزيادة السنوية في عدد السكان، وقد كانت تؤدي بالتدريج إلى ارتفاع معدلات الإعالة، هذا إذا ما تحقق التشغيل التام للقوة البشرية العاملة، ولم يكن هذا هو الحال في الخمسينات بشكل خاص وفي مطلع الستينات. وكانت نسبة مساهمة المرأة، سواء في الحجم الإجمالي للقوة العاملة أو في معدل الزيادة السنوية منخفضة جدا لاعتبارات عديدة منها ما يتعلق بالتقاليد ومنها ما يتعلق بمحدودية انتشار التعليم في صفوف المرأة وكذلك بفرص العمل المتاحة للمرأة آنذاك. صحيح أن بعض مجالات العمل قد انفتحت أمام المرأة تدريجيا وخاصة في قطاع الخدمات، كالتعليم والصحة والأعمال الإدارية، غير أن الإقبال على العمل لم يكن عاليا. يضاف إلى ذلك أنه في الوقت الذي نما فيه إقبال المرأة نسبيا على العمل في فروع العمل المشار إليها، فقد تراجع إقبالها على العمل في الزراعة، وأصبحت المرأة لاعتبارات اجتماعية تفضل الإقامة في البيت على استمرار انخراطها في العمل الزراعي، يضاف إلى هذا أن التوسع في الإنتاج والاستهلاك السلعي في الريف من ناحية والهجرة الواسعة من الريف إلى المدينة كان يلعب دورا في هذا المجال.
ومن الخصائص الهامة كذلك في تكوين القوة البشرية في الخمسينات والستينات الانتشار الواسع للأمية في صفوف القوة العاملة. فحسب إحصاءات 1961 كانت نسبة الأمية بين فئات العمر من 15 سنه فما فوق تعادل حوالي 67 بالمئة ، وهي نسبة عالية للغاية. وقد كانت تلك النسبة في الخمسينات أعلى بكثير، ولكنها انخفضت إلى ذلك المستوى بفعل انتشار التعليم. وقد كانت نسبة الأمية بين الإناث أعلى كثيرا منها بين الذكور، ففي الوقت الذي كانت في الأمية بين الذكور في سن العمل عام 1961 حوالي 49،9 بالمئة كانت النسبة بين الإناث في سن العمل تعادل 84،8 بالمئة. وينعكس ارتفاع نسبة الأمية في صفوف القوة البشرية العاملة بأشكال متعددة على موقعها وتوزيعها على الفروع الاقتصادية المختلفة، وتفسح هذه النسبة المجال واسعا للإقبال على العمل في الفروع غير الإنتاجية، هذا إذا ما تم استثناء الزراعة طبعا كقطاع إنتاجي. ولكن حتى في هذا القطاع الإنتاجي، فإن ارتفاع نسبة الأمية في القوة البشرية العاملة يؤثر بشكل واضح على أوضاع الزراعة واتجاه تطورها وإنتاجيتها، وفي الصناعة يعني ارتفاع نسبة الأمية في صفوف القوة البشرية العاملة تخلف الصناعة وهيمنة فروع الإنتاج الحرفي الصغير عليها وتدني وتيرة تطور الصناعات المتوسطة والكبيرة نسبيا. يضاف إلى هذا كله ما يؤدي إليه ارتفاع نسبة الأمية في صفوف القوى البشرية العاملة إجمالا من تدني في مستوى الوعي الاجتماعي ومن سيادة تقاليد المجتمعات غير الصناعية ومن تدني نسبة الإقبال على الانتظام في منظمات مهنية واجتماعية ونقابية للدفاع عن حقوق العاملين ومن تدني في الروح الكفاحية كذلك.
أما الخصائص الاقتصادية للقوة البشرية العاملة على امتداد الخمسينات والستينات كذلك وخاصة حتى العام 1967 فلم يكن من السهل حصرها نظرا لتعدد المهن وصعوبة تصنيفها في فروع اقتصادية ثابتة. مع ذلك فقد توزعت القوة البشرية العاملة حسب الإحصاءات على الزراعة، التي كانت تستوعب حوالي 40 بالمئة من القوة البشرية العاملة، والصناعة والتعدين التي كانت تستوعب حوالي 9 بالمئة والإنشاءات بنسبة مساهمة تعادل 10 بالمئة والتجارة والخدمات المالية والخدمات الأخرى بنسبة 15 بالمئة، والتخزين والنقل والخدمات المرتبطة بها بنسبة 5 بالمئة والإدارة الحكومية وخدماتها بما فيها الجيش والأمن العام بنسبة 20 بالمئة تقريبا. تلك كانت نسب توزيع القوى البشرية العاملة على فروع الاقتصاد في الستينات تقريبا. وخاصة في نهاية الستينات في شطري المملكة الأردني والفلسطيني، مع فروقات محدودة بين الشطرين لصالح الشطر الأردني في قطاعين هما القطاع الصناعي وقطاع الإدارة الحكومية وخدماتها. ومن هذا التوزيع يتضح أن النسبة الأهم في استيعاب العمالة كانت في القطاع الزراعي، الذي تراوحت معدلات مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي في المملكة بحدود 37 بالمئة كمعدل سنوي في الستينات، مع فارق واسع بين الشطر الفلسطيني والشطر الأردني. ويلي القطاع الزراعي في استيعاب القوة البشرية العاملة قطاع إدارة الدولة وخدماتها حيث بلغت نسبة استيعابه حوالي 20 بالمئة، أي أن قطاع إدارة الدولة وأجهزتها العسكرية والأمنية والمدنية كان يعتبر القطاع الأهم بعد الزراعة في استيعاب العمالة وكان يستحوذ حصة عالية دون شك في الناتج المحلي الإجمالي للمملكة. قطاع الصناعة والتعدين كان دون شك القطاع الأضعف، إذ لم يكن يستوعب أكثر من 9 بالمئة من القوة البشرية العاملة، وكان ذلك مؤشرا هاما على مدى رعاية الدولة لذلك القطاع ومدى مساهمة القطاع الخاص، أي البرجوازية في تنمية دوره. ويعطي الجدول التالي صورة عن حجم مساهمة القطاعين الاقتصاديين، قطاع الإنتاج وقطاع الخدمات في الإنتاج المحلي الإجمالي لبعض الأعوام.
(بمليون دينار) (74)
1959 % 1966 % 1967 %
قطاعات الإنتاج المادي 30 34% 61 40% 71 40%
قطاع إنتاج الخدمات 55 66% 89 59% 106 60%
الإنتاج المحلي بسعر الكلفة 85 100% 150 100% 177 100%
هنا اشتمل قطاع الإنتاج المادي على الزراعة والصناعة والتعدين والإنشاءات والمياه والكهرباء ونقل السلع. ورغم الارتفاع النسبي في حجم مساهمة قطاعات الإنتاج المادي كلها في الناتج المحلي الإجمالي، فإن حجم تلك المساهمة لا تشير إطلاقا إلى أي توازن اقتصادي في اقتصاد المملكة. يضاف إلى ذلك أن قطاع إنتاج الخدمات كان يستوعب قسما كبيرا للغاية من القوى البشرية العاملة بكل ما تعنيه ذلك من اعتماد هذا القطاع الواسع على قطاع الإنتاج المادي وبالطبع على المساعدات الخارجية، التي كانت تغطي على الإسهام المتدني لقطاع الإنتاج المادي في الناتج القومي الإجمالي. إذن كان قطاع الإنتاج المادي يسهم في استيعاب حوالي 60 بالمئة من القوى البشرية العاملة، ولكن نسبة إسهامه في الناتج المحلي الإجمالي كانت أقل من نسبة استيعابه للعمالة، ونسبة إسهامه في الدخل القومي الإجمالي كانت أقل من ذلك بكثير، مما يعطي صوره سلبيه عن أحد أهم الخصائص الاقتصادية للقوة البشرية العاملة.
ومن الخصائص الاقتصادية للقوة البشرية العاملة في القطاع الصناعي تحديدا ضعف معدلات الاستخدام في المؤسسة الصناعية الواحدة بسبب الانتشار الأفقي الواسع للمؤسسات الصناعية الصغيرة والحرفية ،وتدني قيمة إنتاج تلك المؤسسات وتدني جودة منتجاتها وعدم قدرتها على تلبية الاحتياجات الاستهلاكية المتزايدة للسكان، واعتمادها ككل على المواد المستوردة أساسا الأمر الذي كان يؤدي إلى رفع كلفة منتجاتها هذا في ظل تدني واضح في معدلات أجورها، هذا إلى جانب المرونة الاقتصادية الواسعة في الاستخدام، أي عدم الثبات والانتظام في المؤسسة الصناعية الواحدة والانتقال من مؤسسة إلى أخرى ومن مهنة إلى أخرى، خاصة وأن الكثير من المؤسسات ومن المهن لا تحتاج إلى اختصاصات، بل تستطيع القوة البشرية العاملة ممارسة العمل في مؤسسة معينة أو في مهنة معينة بقليل من الجهد والتمرين فيما إذا قررت الانتقال من مؤسسة بحد ذاتها أو تغيير مهنة بحد ذاتها. وللوقوف على بعض هذه الخصائص للقوة البشرية العاملة في الصناعة وبعض خصائص تلك الصناعة نعود إلى ما كانت عليه في العام 1967 في شرق الأردن لتوفر المعطيات والمعلومات بشأنها، ولأنها تجسد الصورة على نحو جيد في هذا السياق.
في العام 1967 كان عدد المؤسسات الصناعية في المملكة بشطريها حوالي 7300 مؤسسة منها حوالي 4300 مؤسسة في شرق الأردن. فكيف كانت أوضاع تلك المؤسسات تحديدا وكيف كانت خصائص القوة البشرية العاملة فيها.
من هذا العدد الكبير للمؤسسات الصناعية كان هنالك فقط 430 مؤسسة تستخدم 5-10 عمال، وهذه المؤسسات لا يمكن النظر إليها كمؤسسات صناعية متوسطة الحجم، بل هي مؤسسات صناعية يغلب عليها الطابع الحرفي وعلى إنتاجها الإنتاج السلعي الصغير. وكانت في معظمها مؤسسات صناعية للمواد الغذائية أو الألبسة والمنسوجات وصناعة الجلود أو لصناعة الآلات والمفروشات أو بعض لوازم البناء.
في تلك المؤسسات كان صاحب العمل على الأغلب يعمل في نفس المؤسسة، ربما بشروط عمل أفضل من بقية العمال، ولكنه على أي حال كان عاملا كغيره ويمارس المهنة كما يمارسها غيره من العمال وكان ينسج مع العمال علاقات عمل من نوع معين تغطي في حدود معينة على علاقة صاحب العمل بالعامل الأجير.
ويتناقص عدد المؤسسات التي تستخدم 10-24 عامل فلم يتجاوز العدد في تلك السنة 103 مؤسسات، أما عدد المؤسسات التي تستخدم أكثر من 25 عامل فلم يتجاوز 62 مؤسسة بعضها كان يستوعب دون شك المئات مثل شركة المصفاة. التي كانت تستوعب أكثر من 600 عامل، والإسمنت التي كانت تستوعب أكثر من 450 عامل وشركة الدباغة، التي كانت تستخدم حوالي 160 عامل و 50 موظف وغيرها من الصناعات الأساسية، التي نشأت في مدينة عمان وجوارها.
ما تبقى من مؤسسات صناعية، وعددها في ذلك العام في شرق الأردن أكثر من 3500 مؤسسة كانت مؤسسة حرفية صغيرة لا تستخدم الواحدة منها أكثر من أربعة عمال. كانت نسبة استخدام تلك المؤسسات الصغيرة يزيد عن 50 بالمئة من مجمل القوة العاملة في الصناعة، وذلك يعني أن أكثر من نصف حجم الطبقة العاملة كان موزعأ على عدد واسع جدا من المؤسسات الإنتاجية الحرفية بكل ما كان يعنيه ذلك من تفتيت الطبقة العاملة في الصناعة وإضعاف لها على أكثر من صعيد. يضاف إلى ذلك أن عددا واسعا من العاملين في تلك المؤسسات الإنتاجية الحرفية والصغيرة لم يكونوا في الواقع عمالا بالمعنى المحدد بقدر ما كانوا يعملون لحسابهم أو لحساب الأسرة. وكان ذلك العدد الواسع من المؤسسات الإنتاجية الحرفية مسؤولا عن صناعات أساسية مثل صناعة الأغذية والألبسة ولوازم البناء ولا تغطي في الوقت نفسه غير جزء محدود من احتياجات السوق المحلية. ولمزيد من التوضيح حول حصة المؤسسات الصناعية الحرفية في الصناعات المشار إليها, تكفي الإشارة أن عدد المؤسسات التي كانت تعمل في / مجال الصناعة الغذائية قد جاوز 1090مؤسسة , وكان عدد المؤسسات التي تشغل أكثر من خمسة عمال في الصناعات الغذائية فقط مئة مؤسسة . وكان عدد المؤسسات التي كانت تعمل في مجال صناعة الأثاث والمفروشات حوالي 1400 مؤسسة , ولم يتجاوز عدد المؤسسات التي كانت تشغل أكثر من خمسة عمال في هذا المجال 55 مؤسسة . أما المؤسسات التي كانت تعمل في صناعة الألبسة والمنسوجات والجلديات فقد بلغ في نفس العام 955 مؤسسة ، كان من بينها حوالي 107 مؤسسه تستخدم أكثر من خمسة عمال (75) . من هذا العرض الموجز للأوضاع المؤسسات الصناعية بما تتضمنه من إشارات إلى حجم العمالة يمكن الاستنتاج أن الصناعة على امتداد الفترة بين 1950- 1967 لم تتجاوز سمات الضعف الأساسية في بنيتها وهيكلها. ويعكس الجدول التالي، وفق مؤشر سيطرة المؤسسات الحرفية الصغيرة، وضع المؤسسات الصناعية في الستينيات والتطور الذي حدث على حجم القوة العاملة في الصناعة وأجورها وغير ذلك من المعطيات، التي تقدم ضمن صورة عن حجم الاستغلال, الذي كانت تتعرض له الطبقة العاملة الصناعية.

المؤسسات الصناعية كما كانت عليه في الستينيات (76).
1963 1966 1969
عدد المؤسسات أكثر من (6000) 7242 7568 (بما فيها الضفة الغربية)
عدد المستخدمين 29591 37257 41034
الرواتب والأجور
(ألف دينار) 3680 5583 7433
متوسط الأجر السنوي للمستخدم 123 150 181
الإنتاج القائم
(ألف دينار) 38340 42343 54087
القيمة المضافة
(ألف دينار) 10600 17267 23115

ويتضح من الجدول أن حجم العمالة في الصناعة قد نما على امتداد 6 أعوام بحجم يفوق قليل 12 ألف عامل , هذا في الوقت الذي نما فيه عدد المؤسسات الصناعية بأكثر من 1400مؤسسة صناعية, ذلك يعني أن توسع الصناعة قد استمر على غرار التوسع الذي أحرزته في الخمسينات, أي توسعاً في المؤسسات الصناعية الصغيرة . أما النمو في حجم الطبقة العاملة فقد كان محدودا ولا يتجاوز في المتوسط ألفي عامل سنويا موزعين على عدد كبير من المؤسسات الصناعية الصغيرة وعدد قليل المؤسسات الصناعية الأساسية . لقد استمر التوسع الأفقي العريض لكل من المؤسسات الصناعية والمستخدمين في الصناعة واستمرت حركة التفتيت في بنية الطبقة العاملة, كما استمرت حالة المرونة الواسعة التي كانت تعيشها الطبقة العاملة, أي استمرت نسبه الثبات المحدودة في المؤسسات الصناعية للمستخدمين. أما حجم الاستغلال, الذي كانت تتعرض له الطبقة العاملة فواضح تماماً من حصة الرواتب والأجور من الإنتاج القائم وكذلك من القيمة المضافة المتحققة في كل عام, كما هو واضح من متوسط الأجر السنوي للمستخدم, وقد كان منخفض دون شك, بسبب النسبة العالية من المؤسسات الإنتاجية الحرفية و الصغيرة , التي كانت تضغط الأجور ومعدلاتها باستمرار.
ومن أجل استكمال عرض الخصائص التي تميزت بها القوى البشرية العاملة في المملكة بشطريها الفلسطيني والأردني, وخاصة في الستينيات, حيث تراجع حجم البطالة بفعل التوسع في المشاريع الاقتصادية وبفعل تدفق الهجرة الاقتصادية إلى الخارج وخاصة السعودية وبلدان الخليج، يجدر التطرق إلى العمالة في فروع الاقتصاد الأخرى, والمقارنة السريعة بين نمو القوة البشرية العاملة في الصناعة وبين نموها في القطاعات الأخرى ومنها قطاعات الخدمات , ففي ذلك جدوى حقيقية في معالجة أوضاع الحركة النقابية . ومن أجل تبسيط الصورة في هذا المجال جرى اعتماد العام 1961م والعام 1966 لقياس حجم القوة البشرية العاملة وتوزعها على فروع الاقتصاد, وهي نفس الفترة التي اعتمدت تقريباً بالنسبة للصناعة , وتستثني هذه الصورة أوضاع القطاعين الصناعي والزراعي , فقد تم التعرض لهما وخاصة لأوضاع وخصائص القوه العاملة في الصناعة. ولاستكمال هذا الجانب بالنسبة للقطاع الزراعي تجدر الإشارة السريعة هنا إلى أن عدد العاملين بأجر في القطاع الزراعي كان في العام 1961م حوالي 37 ألف شخص منهم 20 ألف شخص كانوا يعملون بأجر في الضفة الغربية والباقي في شرق الأردن. وقد ارتفع عدد العاملين بأجر في العام 1967م في القطاع الزراعي فبلغ حوالي 79 ألف منهم 48 ألف شخص كان يعمل بأجر في الضفة الغربية والباقي في شرق الأردن(78).وكانت القوة العاملة بأجر في القطاع الزراعي قوة غير مجمعة بل متناثرة، إذ لم تكن توجد في المملكة بشطريها الأردني والفلسطيني مزارع واسعة تستوعب أعداد كبيرة من العمال الزراعيين كما كان الحال في فلسطين في مزارع الحمضيات مثلا . وكانت هذه القوة البشرية العاملة، التي تساوي في عددها ضعف عدد العاملين في القطاع الصناعي تقريبا محرومة من كل الحقوق بما فيها حقها في الانتظام في نقابات خاصة بها تدافع عن حقوقها . وكانت الأمية منتشرة في هذا القطاع العمالي أكثر مما كانت عليه الحال في القطاع الصناعي، وكان الاعتماد الرئيسي في عملهم يقوم على الاستخدام المكثف للقوة الجسمانية، إذ كان انتشار الآلات الزراعية لازال محدوداً للغاية. وإلى جانب هذا كله فقد كان متوسط الأجر السنوي للعامل الزراعي منخفضاً ويقل كثيرا عن متوسط الأجر السنوي للعاملين في قطاع الصناعة. كذلك كانت معدلات الإعالة مرتفعة بالنسبة للإجراء في العمل الزراعي، وبالنسبة للقوه البشرية العاملة ككل في القطاع الزراعي فقد كان حوالي 35 بالمئة من مجموع العاملين يعيلون أكثر من 45بالمئة من السكان في المملكة كلها(79) . أما القوة البشرية العاملة في القطاعات الأخرى فقد كان توزيعها على النحو التالي:

القوة البشرية العاملة وتوزيعها في قطاعات العمل
باستثناء الصناعة والزراعة. (بالألف) (80)
1961 1966 معدل الزيادة السنوية % التغير المطلق (بالألف)
البناء 39.9 58.7 8.0 18.8
التجارة 31.4 36.3 3.0 4.9
النقل 11.9 13.8 3.0 1.9
الخدمات 53.5 70.7 5.7 17.2
غير معين 45.4 54.4 3.7 9.0
يبحثون عن عمل 27.3 16.1 - -
209.4 250.0 4.7 51.8
وبالمقارنة مع حجم القوة العاملة في الصناعة كما كانت عليه عام 1966، فإن حجم العمالة في قطاع التجارة كان يوازي حجم العمالة في قطاع الصناعة، بينما تفوق قطاع البناء من حيث حجم العمالة على قطاع الصناعة بشوط كبير، أما قطاع الخدمات فقد كان يستوعب في حجم العمالة ما يعادل ضعف القوة البشرية العاملة في الصناعة. ومن بين جميع القطاعات المذكورة يتضح أن قطاع النقل هو الوحيد الذي كان يستوعب حجم عمالة أقل من القوة العاملة في الصناعة . وإذا ما استثني بند القطاع "غير معين" وهو قطاع الجيش، فإن الصورة تصبح واضحة من أكثر من زاوية بالنسبة للقوى البشرية العاملة في المملكة بشطريها في الستينات، خاصة من حيث نسبة تمركزها في القطاعات وكذلك من الزوايا الأخرى، التي جرى التطرق لها في استعراض الخصائص العامة والاقتصادية للقوة البشرية العاملة. ورغم امتدادها الأفقي على عدد كبير جدا من المؤسسات الصناعية، فإن نسبة التمركز في المؤسسة الواحدة في الصناعة كانت أعلى من مثيلاتها بالنسبة لكافة فروع الاقتصاد الأخرى. سواء في الزراعة أم في البناء والتجارة والنقل والخدمات . كما كانت المهارة الفنية في الصناعة أعلى منها في العديد من القطاعات الأخرى الاقتصادية، وهذا يشير إلى لوحة أقل جودة في الخصائص العامة والاقتصادية للقوى البشرية العاملة، إذا ما جرى تعميم تلك الخصائص على الجسم الكلي وليس فقط على القوة العاملة في الصناعة، الأمر الذي زاد من صعوبات تنظيم الطبقة العاملة في حركة عمالية ونقابية نامية وقادرة على الاضطلاع بدورها على الصعيد الوطني والصعيد الاجتماعي والنقابي المطلبي، وقادرة على الاضطلاع بدورها الكفاحي في مواجهة سياسة القبضة الحديدية، التي مارستها الدولة ضد الطبقة العاملة على امتداد الفترة بين 1950-1967 . وفي ظل التمييز والهجرة الاقتصادية بكل ما كان يقف وراءها من دوافع سياسية كذلك وفي ظل الخصائص العامة والاقتصادية للقوى البشرية العاملة في المملكة بشطرها الأردني والفلسطيني بدأت الحركة العمالية والنقابية مسيرتها، فكيف كانت تلك المسيرة، وما هي دروسها الرئيسية.
نشأة الحركة النقابية ونضالاتها
ليس من السهل معالجة نشأة ومسيرة أية حركة نقابية بمعزل عن نشأة ومسيرة حزب الطبقة العاملة، ومع ذلك فإن المعالجة التالية سوف تحصر جهدها في معالجة شؤون الحركة النقابية وحدها، لسبب جوهري يتعلق بندرة الوثائق، التي توضح مسيرة ونضال حزب الطبقة العاملة، أي الحزب الشيوعي الأردني في الفترة التي تتعرض لها المعالجة . ذلك ليس تهربا من مهمة صعبة دون شك، ولكنه إقرار بحقيقة موضوعية، لا تحتاج إلى جدل واسع مع ذلك، فلن يتم القفز جملة وتفصيلا عن الترابط في العملية النضالية بين الحركة العمالية والحركة النقابية، بل إن ذلك الترابط سيفرض نفسه على المعالجة دون أن يعني ذلك تأريخاً لدور الحركة العمالية وحزبها، فتلك مهمة من مهمات الحزب في تلك الفترة الصعبة للغاية في تاريخ الحركة العمالية والنقابية الفلسطينية الأردنية، أو بتعبير آخر وربما أدق، تلك مهمة من مهمات الحزب بالدرجة الرئيسية.
لم يشهد شرق الأردن محاولات لبناء منظمات نقابية قبل مطلع الخمسينيات، إذا استثنينا بعض المحاولات المتواضعة التي كانت في مطلع ومنتصف الثلاثينيات، والتي قمعت بشدة من السلطة آنذاك، ولم يشهد كذلك أية تشريعات حديثة حول علاقات العمل والاستخدام، فقد استمرت القوانين العثمانية القديمة في ظل تشدد مبالغ فيه في تطبيقها رغم تخلفها . فقط في العام 1936 أقرت السلطة قانوناً للجمعيات يتعلق بإنشاء النوادي والجمعيات ويشترط لذلك الحصول على ترخيص مسبق، وكان ذلك القانون مثالا صارخا من الأمثلة على القوانين ذات الطابع الاستبدادي، التي خضع لها شرق الأردن تحت السيطرة البريطانية. فإلى جانب جملة الاشتراطات، التي تضمنها القانون المذكور والتي كانت تفيد إلى أبعد الحدود الحقوق المدنية والديمقراطية. أجاز ذلك القانون للمدعي العام أو من يفوضه حضور أي اجتماع يرغب لأي نادي أو جمعية تتشكل على قاعدة ذلك القانون. وفي ظل أجواء القمع المباشر، التي كانت تمارسه السلطة بتخطيط وتوجيه من سلطات الانتداب البريطاني، وفي ظل أحكام عرفية حقيقية تعطلت محاولتان لبناء حركة نقابية في شرق الأردن، كانت الأولى في مطلع الثلاثينات والثانية في منتصف الثلاثينات . وكانت تلك المحاولات تستلهم توجهاتها في هذا المجال من الشوط الواسع التي قطعته الحركة العمالية والنقابية في فلسطين آنذاك ومن انعكاسات الانتفاضات الشعبية المناهضة للصهيونية والاستعمار البريطاني في فلسطين على الأوضاع في شرق الأردن. وكانت السلطات في شرق الأردن وخاصة سلطات الانتداب البريطاني تدرك تماماً المغزى العميق، الذي تنطوي عليه انعكاسات التطورات على الساحة الفلسطينية على شرق الأردن، لذا عملت على بناء سور متين من الأنظمة والقوانين الرجعية حول شرق الأردن للحيلولة دون أي امتداد للحركة السياسية الفلسطينية وللحركة العمالية والنقابية في فلسطين إلى البلاد .وفي كل مرة كانت السلطات المحلية وسلطات الانتداب البريطاني الحاكم الفعلي للبلاد، تلاحظ وجود امتدادات حزبية أو نقابية فلسطينية في شرق الأردن، كانت تلجأ فورا إلى استخدام أنظمتها وقوانينها الرجعية السوداء بدءا بحلها مرورا باعتقال القائمين عليها وانتهاء بممارسة عمليات النفي والأبعاد، كما حدث لبعض القادة، الذين حاولوا بناء حركة نقابية في منتصف الثلاثينات ولغيرهم كثير. وهكذا حرم شرق الأردن وحتى مطلع الخمسينات من تأسيس أي حركة نقابية، باستثناء جمعية لعمال وموظفي سكة حديد عمان، التي تشكلت في العام 1946م، التي قادها عدد من الشخصيات النقابية الأردنية، والتي كانت مرتبطة بشكل أو بآخر بنقابة عمال السكك الحديدية التابعة لجمعية العمال العرب الفلسطينية في فلسطين. وعلى كل حال لم تستمر تلك الجمعية طويلاً. فقد أقدمت السلطات على حلها بعد نصف عام من تأسيسها وعملها. واستمر الوضع في المملكة الأردنية الهاشمية على ذلك النحو حتى العام 1950م عندما جرى ضم الضفة الغربية إلى المملكة. حيث كانت جمعية العمال العرب الفلسطينية قد بدأت تستعيد حضورها ونشاطها ,أما مؤتمر العمال العرب والحزب الشيوعي الفلسطيني فقد تم الإعلان عنهما كمنظمات ممنوعة وغير شرعيه من البداية. ففي العام 1948 قررت الجمعية نقل مقرها الرئيسي من حيفا إلى نابلس وحافظت على فروعها في كل من القدس وجنين وطولكرم .
وفي العام 1949م قام مجلس إدارة نقابات عمال نابلس في الجمعية بالدعوة إلى مؤتمر نقابي للجمعية، وعقد المؤتمر فعلا وحضره أكثر من عشرين شخصية نقابية كان من بينهم حسني الخفش وزيدان يونس وزكي الشيخ حسن وآخرون ممن كان لهم دور رئيسي في الحركة النقابية فيما بعد. فقد قاد زيدان يونس الحركة النقابية في المملكة الأردنية حتى العام 1957م كأمين عام لها، ثم تولى قيادتها كأمين عام كذالك زكي الشيخ حسن حتى العام 1960م. وكان حسني الخفش قد قاد الجمعية بعد تحويل إسمها إلى جمعية العمال العرب الأردنية منذ مؤتمر نابلس وحتى حل الجمعية بقرار من السلطات عام 1952م وكان من أهم قرارات مؤتمر جمعية العمال العرب الفلسطينية، الذي انعقد في نابلس في العام 1949م (81):

• على كل نقابة العمل على تنظيم العمال أينما تواجدوا وعلى قاعدة ذالك القرار تم إحياء النقابات التابعة للجمعية في نابلس, القدس, جنين وطولكرم وافتتاح فروع جديدة لها في رام الله, بيت لحم, الخليل وبيت إيبا.
• اعتبار مدينة نابلس المركز الرئيسي للحركة العمالية مؤقتا بدلا من حيفا، حيث كان مقرها الرئيسي السابق قبل العام 1948م.
• انتخاب الزميل حسني الخفش أمين سر مجلس نقابات نابلس أمينا عاما بالوكالة للحركة العمالية الفلسطينية. حيث كان أمين عام الجمعية آنذاك الدكتور عمر الخليل في لندن للعلاج.
• العمل على تنظيم العمال في حركة نقابية لأبناء الشعبين الفلسطيني والأردني في المملكة وفتح فروع لها في مدن شرق الأردن.
وقد استمر عمل الجمعية باسمها القديم حتى العام 1952 حيث تحول إلى جمعية العمال العرب الأردنية. وقد حاولت الجمعية القديمة – الجديدة مد نشاطها إلى شرق الأردن، وكانت مدينة عمان هي الهدف المباشر الأول للجمعية، حيث قامت الاتصالات والمراسلات بين مشروع فرع عمان وأمين السر العام للجمعية آنذاك حسني الخفش. جاء في الاتصال الرسمي الأول لفرع عمان مع مركز الجمعية في نابلس ما يلي:


إلى مركز نابلس عمان – 15كانون الثاني 1952
حضرات الإخوان أمين سر وأعضاء إدارة جمعية العمال الأردنية الزهراء – نابلس
تحية العروبة وبعد:
لقد اجتمع في مدينة عمان عدد من العمال في هذا البلد ,ولقد ارتأى الإخوان المجتمعون أن لا ينفردوا بالتنظيم العمالي في مدينة عمان طالما وأن التنظيم العمالي قائم بالفعل في مختلف مدن الضفة بإشراف جمعيتكم الزاهرة، فكان أن قرروا أن يكون التنظيم العمالي في عمان امتدادا لجمعية العمال العربية بشكل فرع . ولما كان من حق جمعيتكم تأسيس فروع لها في مختلف مدن المملكة فقد قرر المجتمعون أن يقدموا إليكم أسماء من اختاروهم ليكونوا هيئة تحضيرية لبدء التنظيم النقابي في عمان . (أدرجت الأسماء)
عن الهيئة التحضيرية
مصطفى عسقلان و جلال حامد
وجاء رد جمعيه العمال العرب الأردنية على كتاب الهيئة التحضيرية لفرع الجمعية في عمان يرحب بالخطوة ويقول :
حضرة الأخوين زكي الشيخ ياسين ومصطفى عسقلان المحترمين
تحية واحتراما وبعد
بالإشارة لكتابكما المؤرخ في 15-1-1952م بخصوص فتح فرع للجمعية بعمان يسرني أن أحيطكم علما بأن الهيئة الإدارية قررت الموافقة على طلبكما وأرسلت إلى دولة وزير الداخلية إشعارا بفتح الفرع تحت إشراف اللجنة التحضيرية التي جاءت بكتابكما آنف الذكر .

المخلص
أمين سر جمعية العمال العرب الأردنية
وفي الوقت نفسه كتب السيد حسني الخفش أمين سر جمعية العمال العرب الأردنية كتابا إلى وزير الداخلية جاء فيه :
رقم المخابرة -20-1925
تاريخ 16-1-1962

صاحب الدولة وزير الداخلية المحترم
سيدي
لي الشرف أن أحيطكم علما بأن الجمعية افتتحت فرعا لها في مدينة عمان وفقا للفقرة (أ) من المادة الثالثة من قانون الجمعية الأساسي الموافق عليه من قبل دولتكم بموجب كتاب سعادة متصرف لواء نابلس الرقم 138/ 14 ، تاريخ 22 نيسان 1951، وقد وكلت الجمعية أمر القيام بهذا الفرع للأخوة المدونة أسماؤهم ( دونت الأسماء )

المخلص
حسني الخفش.
ولم يتأخر رد وزير الداخلية طويلا، وجاء فعلاً مخيبا لكل الآمال، فأصدر أمرا بإغلاق مكتب فرع الجمعية في عمان الذي تم افتتاحه في شباط من نفس العام وبدأ اتصالاته العمالية وأصدر بهذا الشأن بعض البيانات ولاقى استجابة عمالية جيدة في فتره زمنية قياسية وبدأ يمد نشاطه باتجاه مدن السلط وإربد، كما أصدر بياناً بحل جمعية عمال العرب الأردنية بمركزها وكافة فروعها القائمة آنذاك في الضفة الغربية أي الشطر الفلسطيني في المملكة .ودلت تلك الخطوة الحكومية على معاني كثيرة , قد أشارت وأكدت أن شهر العسل, الذي كان يعيشه الشطر الفلسطيني بعد انغماسه للمملكة الأردنية الهاشمية ,لا يمكن أن يكون طويلا ,خاصة وأن انعكاسات الوضع في ذلك الشطر قد بدأت تظهر بوضوح في الشطر الأردني من المملكة ، الذي كان لا زال يخضع لقوانين الممنوعات في تشريعات عمالية متخلفة واستبدادية .
وأثبتت الدولة في خطوتها تلك مدى عدائها المطلق لحقوق الطبقة العاملة وخاصة حقوقها في الانخراط في منظمات نقابية تسهر على مصالحها وتدافع عن حقوقها في وجه غول البطالة والغلاء وتدني الأجور السريع والواسع وفي وجه جشع تجار الحرب ,الذين آثروا على حساب نكبة الشعب الفلسطيني من برجوازية تجارية فلسطينية وأردنية وفي وجه تعسف وظلم واستغلال أرباب العمل .وبدلا من الاستجابة للحالة العمالية النقابية المتقدمة نسبيا في الشطر الفلسطيني من المملكة, تم إخضاع شطري المملكة الأردني والفلسطيني على السواء للقوانين العمالية وقوانين الجمعيات التي كانت سائدة في شرق الأردن و موضوعه بدقة وإحكام من سلطات الانتداب البريطاني السوداء.
ولم يتراجع قادة الحركة النقابية أمام إصرار الدولة على حرمانهم من حقوقهم الديمقراطية, بل واصلوا عملهم سرا من مركز الحركة في مدينه نابلس ,ورفعوا المذكرات والعرائض, التي كانت تطالب بضرورة الإسراع في وضع تشريع عمالي يمكنهم من متابعة مسيرتهم ,التي ابتدأت في فلسطين في العالم 1925م, كما لجأ عدد منهم إلى الكتابة في الصحف المحلية مذكرين الدولة بأنهم اكتسبوا حقهم في التنظيم النقابي بكفاح طويلة وجهود شاقة, وأنهم سوف يواصلون نضالهم للحفاظ على ما اكتسبوه في عهد الانتداب البريطاني، كما قام هؤلاء النقابين وجميعهم من قيادات جمعية العمال العربية الفلسطينية ومؤتمر العمال العرب بتنظيم الاتصالات مع عدد من الشخصيات الوطنية والتقدمية في البرلمان.الذين ساندوا من داخل البرلمان مطالب القيادة النقابية وأكدوا موقفهم الإيجابي من ضرورة الإسراع في وضع التشريعات العمالية .يضاف إلى هذا كله تدخل بعض الأوساط العمالية الدولية, من الاتحاد الحر. مع السلطة من أجل وضع تشريعات عمالية ولو جزئية تتيح لطبقة العاملة إمكانية بناء منظمات نقابية في ظل مثل تلك التشريعات الجزئية ,وكان موقف تلك الأوساط إن عدم السماح بتأسيس منظمات نقابية سيكون له انعكاسات أكثر من خطورة من السماح بتأسيس منظمات مسيطر عليها في ظل تشريعات جزئية. فإذا أرادت السلطة أن لا تجد نفسها مرغمة على تسليم بالحقوق الديمقراطية للعمال في ظل نهوض وطني كان يشق طريقه بثبات وعزم في النصف الأول من الخمسينيات في المملكة, فليس أمامها وفق نصائح بعض أوساط الاتحاد الحر, الذي بدأ يتوسط آنذاك بين السلطة والقيادات النقابية, غير حل واحد هو, إصدار تشريع عمالي جزئي يفسح في المجال أمام تأسيس النقابات في ظل قيود شديدة على أوضاعها وأنظمتها ولوائحها .
وجدير بالذكر هنا أن عددا من قيادات الجمعية العمال العرب الفلسطينية كانت تربطه علاقات جيده مع بعض فروع الاتحاد الحر للنقابات, وخاصة الفرع البريطاني ,الذي لعب دورا حازما في شق الاتحاد الدولي لنقابات العمال، وكان من أشد المدافعين عن فكرة تأسيس الاتحاد الدولي لنقابات الحرة الذي تأسس في لندن العام 1949م. ومع ذلك تبقى الحقيقة ثابتة ,وهي أن النضال الذي بدأته القيادات النقابية, والذي لاقى تجاوباً وصدى واسعاً لدى جماهير الشعبين الفلسطيني والأردني والضغوط التي مورست داخل البرلمان, كانت وراء تراجع السلطة وصدور أول تشريع عمالي في المملكة والذي عرف بالقانون رقم 35 لعام 1953م .وصدر في الوقت نفسه قانون آخر هو قانون مقاومة الشيوعية رقم 91 لسنة 1953م .والذي يحظر الانتماء للحزب الشيوعي ويعتبر الترويج للأفكار الشيوعية جريمة يعاقب عليها القانون. كما كانت البلاد تخضع منذ فترة طويلة لقانون الدفاع عن شرق الأردن لسنة 1925الذي يجيز في البند الثاني من الفقرة (2 ) من المادة الرابعة للقانون " القبض على الأشخاص الذين تعتبر أفعالهم مضره بسلامة شرق الأردن توقيفهم ومنع دخولهم إلى شرق الأردن أو إبعادهم منها وتفتيش هؤلاء الأشخاص أو تفتيش عقاراتهم " .وقد وضع قانون الدفاع المشار إليه موضع التنفيذ في الضفة الغربية عام 1948 وحتى قبل ضمها إلى المملكة الأردنية الهاشمية بموجب ملحق قانون الدفاع عن شرق الأردن لسنه 1935م، رقم 20 لسنه 1948م، حيث تم النص على "تطبيقه على البلاد أو المناطق التي يوجد فيها الجيش العربي الأردني أو يكلف بحماية الأمن والنظام فيها" . (83 )
وكان الدستور الأردني قد وضع في مادته الثالثة والعشرين إطارا عاما لتشريع العمل، حيث جاء في نص المادة المذكورة من الدستور :
1. العمل حق لجميع المواطنين وعلى الدولة أن توفره للأردنيين بتوجيه الاقتصاد الوطني والنهوض به
2. تحمي الدولة العمل وتضع له تشريعا يقوم على المبادئ الآتية :
أ‌. إعطاء العامل أجراً يتناسب مع كمية عمله وكيفيته .
ب‌. تحديد ساعات العمل الأسبوعية ومنح العمال أيام راحة أسبوعية وسنوية مع الأجر .
ج‌. تقرير تعويض خاص للعمال المعيلين وفي أحوال التسريح والمرض والعجز والطوارئ الناشئة عن العمل .
د‌. تعين الشروط الخاصة بعمل النساء والأحداث .
ه‌. خضوع العامل للقواعد الصحية.
و‌. تنظيم نقابي حر ضمن حدود القانون.
وهكذا جاءت المادة الثالثة والعشرين من الدستور لتقر أن من واجب الدولة أن تضع التشريعات العمالية، بما في ذلك حقوق العمال في تشكيل نقابات خاصة. وكغيرها من المواد فقد جاء النص حول حق العمال في تشكيل منظماتهم النقابية مقيدا ضمن حدود القانون، بما في ذلك بالطبع قانون الدفاع لعام 1935م، والذي لا زال ساري المفعول منذ خمسين عام، وقانون مقاومة الشيوعية وقوانين أخرى عبرت عن نفسها في العام 1957م بقوانين الأحكام العرفية، التي استمرت حتى تشرين الثاني 1985م ثم فرضت من جديد في الخامس من حزيران 1967م ولا زالت سارية المفعول بعد ثمانية عشر عاما من ذالك التاريخ. وإلى جانب القيود التي أحاطت بقانون العمل رقم 35 لعام 1953م. فقد جاء القانون بحد ذاته مخيباً لآمال القيادات والحركة النقابية، إذ هو لم يكن شاملا أو جامعا بل كان فعلاً جزئياً وأغفل الكثير من الحقوق الديمقراطية للعمال. وخير شاهد على محدودية قانون العمل آنذاك هو صدور قانون العمل رقم 21 لسنة 1960م والتعديلات التي دخلت عليه بقانون رقم 2 لسنة 1965م وبقانون رقم 25 لسنة 1972م هذا إلى جانب مجموعه من الأنظمة والقرارات والإعلانات، التي صدرت في الفترة بين 1962-1968 والتي لا تقل في مجموعها عن ثمانية عشر نظاماً وقراراً وإعلانا استكملت أصلاً ما لم يكن مستكملا في القانون رقم 21 لسنه 1961م، كواجبات مفتشي العمل وصلاحياتهم وأنظمة الإشعار بإصابات العمل، والعمل الإضافي وتسوية النزاعات العمالية والإجراءات المتعلقة بإشعارات الإضراب والإغلاق، وأنظمة الوقاية والسلامة من الآلات والماكينات الصناعية، والأمراض الصناعية وإصابات حوادث العمل وغير ذلك. حتى بعد صدور القانون رقم 25 لسنه 1972م كتب البعض حول قانون العمل بصيغته الراهنة يقول: "إن التشريع العمالي الحالي أصبح مشكلة بحد ذاته لا يشكو منها العمال بل أصحاب العمل والمختصون في دائرة العمل أيضا، وذلك لمشاكل التطبيق الناشئة عن كثرة التعديلات التي طرأت على مواد القانون والحذف، التي جعلت من القانون أشبه بالثوب البالي المرقع".(84)
كان قانون العمل رقم 35 لعام 1953 إذن تشريعاً عماليا جزئيا،ـ وكان تشريعا عماليا للسيطرة على الوضع الذيّ بدأ يتأزم بعد إغلاق فرع عمان التابع لجمعية العمال العرب الأردنية، وحل الجمعية كذلك، في ظل حركة مد وطني وقومي كان يقبل على المنطقة بأسرها. وكان القانون مليئا بالثغرات حتى في إطار نصوصه الخاصة، كما كان مطاطاً إلى أبعد الحدود في نصوص كثيرة، ومنها ما يتعلق بحق النقابات ذاتها في الاندماج في إطار اتحاد العام للنقابات، الأمر الذي كان يؤدي في عدد من الحالات إلى اللجوء لديوان تفسير القوانين للبت والتقرير النهائي بشأن تلك النصوص، يقول الأمين العام الأول للاتحاد في تقريره المقدم إلى مجلس الاتحاد في هذا الشأن:" لاقى طلب تسجيل الاتحاد في وزارة العمل- معارضة لدى المراجع الرسمية واستغراباً وتساؤلا عن الأسباب الداعية لتشكيل الاتحاد حتى أن بعض المسؤولين في ذلك الوقت رفض أن يتسلم الطلب الذي تقدمت به باسم النقابات المذكورة -أي المؤسسة للإتحاد- إلا بعد جدل قانوني طويل".(85)
كذلك كانت بعض نصوص القانون تشجع كل اتجاه لنمو عفوي غير مسيطر في الحركة النقابية، فبعض النصوص جاءت مفتوحة ويجيز لمهنة معينة أو لعمال شركة معينة تأسيس نقابة خاصة. الأمر الذي أثار إرباكاً تنظيميا واسعاً كان يحتاج إلى جهود كبيرة للتغلب عليه. وأجاز القانون كذلك لكل سبعة عمال من مهنة معينة أو في شركة أو مؤسسة حق تأسيس نقابي بهدف تفتيت الحركة النقابية والحيلولة دون تمركزها في منظمات نقابية رئيسية. مثل تلك النصوص كان الهدف الرئيسي منها دفع الحركة النقابية نحو أقصى حد ممكن من التوسع الأفقي في عملية البناء التنظيمي للنقابات في ظل نصوص مطاطة كذلك تمكن من وضع العراقيل في وجه عملية البناء العمودية للنقابات على أساس القطاع المهني الواحد أو قطاع المهن المتشابهة والمتقاربة. صحيح أن القانون حدد الحد الأدنى لعضوية النقابة الواحدة وترك المجال تماماً بالنسبة للحد الأقصى, غير أن تحديد الحد الأدنى بسبعة عمال كان يعني إجازة مفتوحة لمن يرغب بتأسيس دكاكين نقابية. وكذلك كان الأمر بالنسبة للنصوص الخاصة بحق عمال مهنه ما أو شركة ما بتأسيس منظمات نقابية ولم تنبت النقابات أو الدكاكين النقابية أو تنمو كالفطر على أرضية ذلك القانون لاعتبارات متعددة. لعل أهمها يقظة التيارات النقابية للمخاطر المرتبة على ذلك بالنسبة للحركة النقابية وتجربتها الجيدة، التي راكمتها على امتداد الثلاثينيات والأربعينات في فلسطين هذا إلى جانب الحملة التعبوية الجيدة، التي رافقت الانطلاقة الأولى للحركة النقابية بعد صدور قانون العمل وشعور العمال بضرورة المحافظة على انجاز تحقق بصدور القانون لا يجوز التفريط به أو تبديده في عملية بناء وتوسع أفقي لا فائدة منه. لقد أدركت القيادات النقابية منذ البداية خطورة النصوص الغامضة والمطاطة والنصوص التي من شأنها أن تربك العمل النقابي في مراحله الأولى، ولذا فقد جاء عملها اللاحق في بناء النقابات يعكس درجة جيدة من الوعي للمخاطر التي قد تعترض المسيرة النقابية في بدايتها كما سيتضح لاحقا.
على كل حال شعرت القيادات النقابية بأن إنجازا حقيقيا قد تحقق بصدور قانون العمل رقم 35 لعام 1953 رغم كل ما اعتراه من ثغرات. لذا فإنها لم تضع وقتا في عملها، بل باشرت ترتيباتها وخطواتها لتشكيل النقابات وركزت في هذا المجال على منطقة عمان حيث التجمع العمالي الرئيسي. وهكذا تأسست في مطلع العام 1954 النقابات التالية:
1-نقابة عمال البناء العامة بتاريخ 7/1/1954 برئاسة زكي الشيخ ياسين
2- نقابة عمال ومستخدمي شركة دخان وسجائر الشرق العربي بتاريخ 27/12/1957 برئاسة وجيه منكو
3- نقابة شركة سنجر بتاريخ 27/3/1954 برئاسة ضيف الله عودة
4- نقابة عمال مناجم الفوسفات بتاريخ 4/4/1954 برئاسة أكرم دوغان
5- نقابة عمال الخياطة بتاريخ 14/4/1954 برئاسة واصف الجوهري
6- نقابة عمال الأحذية بتاريخ 18/4/1954 برئاسة صالح أبو جعفر.
وفي الأول من أيار من نفس العام عقدت تلك النقابات أول اجتماع مشترك بينها واتخذت قرارا بالاندماج في إطار اتحاد عام للنقابات في الأردن وتقدمت بناء على ذلك بطلب التأسيس للاتحاد في 26 أيار 1954 إلى وزارة الشؤون الاجتماعية، وفي 25 تموز 1954 تم تسجيل الاتحاد والاعتراف به رسميا في الوزارة تحت الرقم 4/4/22/1727.وكان ذلك ميلاد جديد للحركة العمالية الفلسطينية الأردنية. وانتخب السيد زيدان يونس أمنيا عاماً للاتحاد الجديد، وكان السيد يونس أحد قادة جمعية العمال العرب الفلسطينية في الأربعينات وأمين سر النقابة العامة لعمال شركة سبيني في فلسطين قبل العام 1948. كما كان لزملائه الآخرون في قيادة الاتحاد الجديد مواقع قيادية في جمعية العمال العرب الفلسطينية وكان أبرزهم آنذاك السيد زكي الشيخ ياسين. الذي قاد الاتحاد الجديد في الفترة بين 1958-1960 والسيد وجيه منكو.الأمين العام الثالث للاتحاد الجديد في الفترة بين 1960-1964.
وناضل قادة الاتحاد الجديد نضالا باسلا لتثبيت اتحادهم وتوسيع صفوفه في ظروف سياسية مؤاتية نسبيا، حيث توفرت في السنوات الثلاث الأولى من عمر الاتحاد بعض الحريات الديمقراطية والعامة في ظل انتعاش ملموس للحركة الوطنية في المملكة. واستثمر قادة الاتحاد مناخ الحريات العامة النسبي الذي ساد المملكة الأردنية الهاشمية آنذاك، أي في الفترة ما بين تأسيس الاتحاد 1954 وإعلان الأحكام العرفية 1957 لتأسيس نقابات جديد، وكان الاتحاد العام للنقابات في الأردن عشية إعلان الأحكام العرفية يضم في صفوفه النقابات التالية وفق تاريخ تأسيسها:(86)
الرقم اسم النقابة مركزها فروعها تاريخ تأسيسها
1 نقابة عمال ومستخدمي شركة دخان وسجائر الشرق العربي الوطنية عمان - 27/12/1953
2 نقابة عمال وموظفي المصارف عمان - 29/12/1954
3 نقابة عمال شركة كهرباء القدس القدس - 4/1/1954
4 نقابة عمال البناء العامة عمان - 7/1/1954
5 نقابة عمال الذباحين والسلاخين عمان - 7/1/1954
6 نقابة عمال شركة سنجر عمان - 27/3/1954
7 نقابة عمال ومستخدمي مناجم الفوسفات في الرصيفة الرصيفة - 4/4/1954
8 نقابة عمال الأحذية عمان إربد،الخليل، القدس 18/4/1954
9 نقابة بلدية القدس المستقلة القدس - 14/4/1954
10 نقابة سائقي السيارات عمان اربد 5/8/1954
11 نقابة عمال وموظفي المؤسسات والمحلات التجارية عمان اربد 5/8/1954
12 نقابة عمال ومستخدمي الفنادق والمقاهي والمطاعم عمان القدس 19/8/1954
13 نقابة عمال شركة مصانع الاسمنت الفحيص - 9/12/1954
14 نقابة موظفي وعمال الخط الحديدي المجازي عمان - 17/1/1955
15 نقابة عمال الكهرباء عمان - 17/1/1955
16 نقابة الحدادين عمان - 18/1/1955
17 نقابة موظفي تجارة الأقمشة والخردوات عمان - 18/1/1955
18 نقابة عمال الأشغال الخليل - 1/5/1955
19 نقابة عمال ومستخدمي المطارات البريطانية المفرق - 17/7/1955
20 نقابة عمال وكالة الغوث/الأنروا أريحا - 26/7/1955
21 نقابة معلمي ومعلمات المدارس الكاثوليكية عمان - 16/11/1955
22 نقابة عمال البلاط عمان نابلس 16/8/1955
23 نقابة عمال الحلاقة عمان - 24/9/1955
24 نقابة عمال السكب عمان - 29/7/1956
25 نقابة عمال وموظفي تخليص البضائع عمان - 2/9/1956
26 نقابة عمال المواسير عمان - 28/11/1956
27 نقابة عمال الدهان والطراشة الزرقاء - 21/11/1956
28 نقابة عمال دائرة الأشغال العامة عمان - 24/1/1957
29 نقابة عمال وموظفي الشبان المسيحية عمان - 9/2/1957
30 نقابة عمال ومستخدمي بعثة العمل الأميركية في الأردن عمان - 10/2/1957
31 نقابة عمال القسم الفني بوزارة الآثار والتعمير عمان - 11/2/1957
32 نقابة عمال ومستخدمي مستشفى اوغستا / فيكتوريا القدس 17/3/1957
33 نقابة عمال الغزل والنسيج الخليل - 10/4/1957
كما تأسست بعض النقابات الأخرى، التي لم تتقدم بطلبات انتساب إلى الاتحاد العام للنقابات، من تلك النقابات كانت نقابة البنائين المعماريين في إربد ونقابة عمال الدقاقة في الخليل، نقابة عمال الصدف في بيت ساحور. كذلك تشكلت في تلك الفترة نقابات أقدمت الدولة على حلها، لأن قانون العمل لم يكن يجيز تأسيسها، ومن تلك النقابات، نقابة موظفي الصنف الثاني في القدس، نقابة موظفي الصنف الثاني في نابلس، نقابة موظفي الصنف الثاني في عمان، نقابة موظفي الصنف الثاني في عجلون ونقابة المعلمين والمعلمات في المدارس الحكومية في عمان.
ولا تستوفي معالجة شؤون الحركة النقابية في الخمسينات والستينات حقها بمعزل عن الانتباه الجيد أولا لامتداد أيدولوجية جمعية العمال العرب الفلسطينية وطغيانها على سياسة الحركة النقابية الأردنية - الفلسطينية في بداية تكوينها وتطورها، وثانيا للعلاقة التي كانت بين الحركة النقابية من جهة والسلطة بالدرجة الرئيسية من جهة ثانية. لقد طغت كما سيتضح على الحركة النقابية في المملكة نفس أيدولوجية الفصل بين العمل السياسي والعمل النقابي التي انطلقت منها سياسة جمعية العمال العرب الفلسطينية وكان ذلك منطقيا , خاصة وأن قادة الحركة النقابية في الخمسينات ومطلع الستينات. كانوا من القيادات البارزة للجمعية في فلسطين في الأربعينات. لذا , ومن أجل فهم أفضل لسياسة الحركة النقابية في الخمسينيات ومطلع الستينيات تجدر وقفه قصيرة للمقارنة واستخلاص النتائج خاصة وأن أبرز المدافعين عن عملية الفصل تلك دفعوا الثمن مرتين , مرة في ظل الانتداب ومرة أخرى مع إعلان الأحكام العرفية في المملكة عام 1957م وبعد ذلك .أما العلاقة بين الحركة النقابية والسلطة فهي مهمة من زاوية التدرج الزمني في متابعتها ومعالجتها لاستخلاص نتائجها . فقد مرت تلك العلاقة في أطوار ثلاثة , أو مراحل ثلاث , مرحله الصمود في وجه السلطة ومقاومة تدخلاتها في شؤون الحركة النقابية , وقد استمرت تلك المرحلة حتى إعلان الأحكام العرفية , ومرحلة الدفاع عن المواقع في وجه ضغط السلطة وهجومها على الحركة النقابية , التي انتهت عام 1964م تماما بالمرحلة الجديدة , التي يمكن تسميتها بمرحلة الخضوع واللحاق بسياسة السلطة .
إن معالجة امتدادات أيدولوجية جمعية العمال العرب الفلسطينية إلى الحركة النقابية في المملكة الأردنية الهاشمية في مرحله التأسيس والتطور من ناحية والعلاقة التي كانت بين الحركة النقابية والسلطة من ناحية ثانية هما المدخل الأنسب لمعالجة أوضاع الحركة النقابية في ظل الخصائص العامة والاقتصادية للقوى البشرية العاملة, التي تم التطرق بشيء من الإيجاز لها . إذ بدون مثل هذه المعالجة يتعذر الوصول إلى استنتاجات موضوعية تفسر أسباب الضعف البنيوي في حياة الحركة النقابية وأسباب الضعف في دورها على الأصعدة السياسية الوطنية والاجتماعية والنقابية.
سيادة أيدولوجية الفصل بين العمل السياسي والعمل النقابي
لم تسقط أيدولوجية الفصل بين العمل السياسي والعمل النقابي على قياده الحركة النقابية من السماء, ولا هي كانت التعبير عن التزام الحركة النقابية بتحديدات قانون العمل , الذي اشترط على الحركة النقابية من "وجوب عدم اشتغال النقابة بالمسائل السياسية, فمثل ذلك الاشتراط الذي نص عليه قانون العمل نصا واضحا وصريحا لم يلزم الحركة النقابية , كما سيتضح . عدم الاشتغال من حيث المبدأ بالمسائل السياسية. بقدر ما ألزمها بعدم الاشتغال بنوع معين من المسائل السياسية ,وكان ذلك بالطبع سياسة السلطة .وقد التزمت الحركة النقابية بعدم الاشتغال بالمسائل السياسية التي تمس الدولة , وتطرفت حتى عن نصوص قانون العمل باتجاه محاربة كل نشاط حزبي في أية نقابة وفي الحركة النقابية بشكل عام , وشكلت بذلك امتداداً أميناً لجمعية العمال العرب الفلسطينية . فمنذ تأسيسها في العام 1925م التزمت الجمعية في نظامها الداخلي التزاما عنيدا بعدم " تناول الأمور الدينية والسياسية" وهكذا فعلت تقريبا قياده الحركة النقابية الجديدة . وكما قاوم قاده الجمعية تسييس الحركة النقابية قاوم قادة الاتحاد العام للنقابات في الأردن تسييسها منذ البداية . وكما كان سامي طه , أمين سر جمعية العمال العرب الفلسطيني يؤكد حتى اللحظات الأخيرة من حياته أنه " نجا بالحركة النقابية من الانزلاق بالتيارات السياسية والتيارات الحزبية " ويطالب الجمعية " بتطهير صفوفها من كل تيارات حزبيه وسياسية داخلية أو خارجية" كذلك فعل زملاؤه ,الذين أصبحوا في الخمسينيات قيادة للحركة النقابية الفلسطينية و الأردنية .
في هذا السياق يقول الأمين العام الأول لاتحاد النقابات في تقريره المقدم لمجلس الاتحاد في 30 أيلول 1955م واصفاً المشاكل التي واجهت الحركة النقابية في مراحل تأسيسها الأولى : "كانت المشاكل التي واجهها الاتحاد متعددة , ومن هذه المشاكل :
شك العمال بالحركة النقابية كظاهرة مؤقتة , أمام مجموعة الضغوط التي كانت تتعرض لها , وشك الحكومة بنوايا قادة الحركة النقابية واتجاهاتهم ونظرة الريبة التي تنظرها في كل أمر يتعلق بهم ووضعها علامات استفهام حولهم مما كان يعيق زيادة عدد النقابات المسجلة , وموقف أصحاب العمل وتنكرهم لحق الاتحاد في رعاية مصالح العمال , والتدخلات الحزبية في شؤون الحركة النقابية "ويضيف الأمين العام الأول لاتحاد النقابات في تقريره حول التدخلات الحزبية بلغة واضحة وصريحة لا تقبل أي تفسير أو تأويل :
" إن محاوله القضاء على الحركة النقابية لم تقف عند ذلك الحد، فقد اتضح لنا فجأة أن محاولات حزبية بدأت تتكون لقياده حركتنا واستغلالها لمآرب وأهواء حزبية ... وكان الموضوع الثالث وهو التدخلات الحزبية بين العمال شغلنا الشاغل وتفكيرنا الدائم ". ويضيف مستذكرا تراث جمعية العمال العرب الفلسطينية :"وبصفتي من قدماء المشتغلين في الحركة النقابية من سنه 1942 حتى الآن لم أجد أخطر على الحركة النقابية من انقسام العمال على أنفسهم وسيرهم في التيارات الحزبية. إلا أنني لا أنكر على العمال حقهم مشاركة أمتهم نضالها السياسي لأنه من واجبهم أن يناضلوا مع أمتهم سياسيا كأفراد . وكجماعة يجب عليهم أن يعملوا لرفع مستواهم الاقتصادي وتعمير أوطانهم ليقدموا بذلك أكبر خدمة لوطنهم وأمتهم ومستقبل ذرياتهم دون أن يقودهم غيرهم تارة نحو اليمين وتارة نحو اليسار واستخدامهم بوقا للآخرين فيفقدون بذلك شخصيتهم واستقلال حركتهم .(87)
كان الأمين العام الأول للاتحاد, السيد يونس زيدان, يملي بذلك الموقف, أيدولوجية جمعية العمال العرب الفلسطينية, التي كانت السبب الرئيسي في إضعاف الدور السياسي الوطني للطبقة العاملة الفلسطينية ضد الاستعمار البريطاني والحركة الصهيونية في فلسطين. فالفصل بين العمل السياسي والعمل النقابي لا يعني بشكل عام ولم يكن يعني على امتداد النضال ضد الاستعمار البريطاني والحركة الصهيونية في فلسطين قبل العام 1948م, غير أمر واحد, هو تحييد الطبقة العاملة بجهدها الجماعي الموحد وكجيش سياسي واسع في عميلة الصراع التي كانت تدور حول مستقبل البلاد . لم يكن قادة جمعية العمال العرب الفلسطينية ينكرون على العامل كفرد حقه في النضال السياسي مع شعبه وأمته ، ولكنهم كانوا ينكرون على الطبقة العاملة وحركتها النقابية أو جيشها السياسي والنقابي , حق النضال السياسي مع الشعب والأمة ، وقد دفعت الجمعية ودفع الشعب بمجموعة ثمن تلك السياسة . ذلك لا يعني أن ما حل بشعب فلسطين كان نتاج أيدولوجية الجمعية وحدها , بل كان نتاج سياسة جميع القوى الإصلاحية واليمينية والرجعية, التي ما أن تعترف للفرد بحقه في النضال كفرد حتى تتنكر لذات الحق للجماهير الشعبية, أي الجيش السياسي الواسع الذي يستحيل دون عمله الجماعي تحقيق إنجازات أو انتصارات على أي مستوى وأي صعيد.
وكما كانت قيادة جمعية العمال العرب الفلسطينية تدعو لتطهير الحركة النقابية من التيارات السياسة والحزبية, باعتبارها حسب منطق وأيدولوجية الجمعية عربية من الحركة النقابية , كذلك كان يفعل ويطالب قادة الحركة النقابية في المملكة الأردنية الهاشمية في الخمسينيات وفي الأطوار الأولى لنشأة وتكوين الحركة .يقول الأمين العام الأول للاعتماد في تقريره في هذا الشأن كذلك:" اضطررنا لبذل جهود كبيرة لمقاومة هذا الاتجاه (أي الاتجاه الحزبي) وتلك الجماعات والحد من نشأتها بتوجهنا للعمال وإقناعهم بالعمد الذي ينجم عن مثل هذه الاتجاهات, التي نعتبرها غريبة عن الحركة النقابية فلاقينا بذلك صعابا جمة. وساعدنا قبول العمال لإرشاداتنا بإبعاد تلك العناصر عن حركتنا، وقد فصل مجلس اتحاد النقابات عددا من الأعضاء لإقناعه بقيامهم بذلك النشاط المعاكس للحركة النقابية ومنعوا من دخول مكاتب النقابات, وبذلك . اتضحت أهدافنا للعمال وأصبحت نقاباتنا تسير بالاتجاه الذي رسمته لنفسها بموجب أنظمتها الداخلية.(88)
ولم تتجسد خطورة موقف قيادة الاتحاد فقط في فصلها بين العمل السياسي والعمل النقابي أو في إجراءات غير قانونية وغير شرعية كفصل الأعضاء الحزبيين من عضوية النقابات, بل تجسدت خطورة ذلك الموقف في السياق السياسي التاريخي, الذي كانت تمر فيه المملكة بشكل عام . فقد كانت الأوضاع في المملكة في بشطريها الفلسطيني والأردني تمر ولأول مرة في مرحلة من النهوض الوطني وكان الدفاع عن الحريات الديمقراطية والعامة ,التي توفرت نسبياً آنذاك ,مهمة لكل الوطنيين والتقدميين لا تفوقها في الأهمية مهمة أخرى. كانت تتجاذب البلاد آنذاك قوى سياسية واجتماعية متصارعة , بعضها يحاول القفز على الدستور وتسييد منطق قانون الدفاع لعام 1935 و 1939 و 1948 حيث شمل آنذاك القسم العربي من فلسطين الذي عرف فيما بعد بالضفة الغربية , وبعضها الآخر يحاول بكل جهده تكريس حياه دستوريه في ظل الدستور , الذي يضمن العديد من الحقوق والحريات السياسية للمواطن . ورغم صدور قانون مقاومه الشيوعية 1953 , الذي يتعرض دون شك مع الدستور ويتعارض مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة بتاريخ العاشر من كانون الأول 1948 . فإن البلاد كانت تمر بمرحلة في مخاض سياسي حقيقي , وشهدت سنوات الخمسينات , الأولى أجواء من الحريات الديمقراطية والعامة نسبيا كان فيها المجال مفتوحاً أمام القضاء للتدخل والحد من تجاوزات من السلطة السياسية عن حقوق الأفراد والجماعات .وكان أبرز شاهد على ذلك، ذلك القرار الشهير رقم 45-54 الصادر عن محكمة العدل العليا بشأن الترخيص لحزب البعث العربي الاشتراكي كحزب شرعي بعد أن رفض مجلس الوزراء آنذاك ترخيص ذلك الحزب.(89) آنذاك رفض مجلس الوزراء السماح لحزب البعث بالنشاط كحزب شرعي, فأقام مؤسسو الحزب الدعوى رقم 45-54 لدى محكمة العدل العليا للطعن في القرار مجلس الوزراء , وجاء قرار المحكمة يعبر عن انتصار تقدمي للدستور للحريات السياسية في البلاد , التي كانت تشهد مداً وطنيا وقوميا . في ذلك السياق السياسي التاريخي كان موقف قيادة الاتحاد ليس خاطئا فحسب , بل ويشكل خطرا بحد ذاته , ويتعاكس مع المناخ العام السائد في البلاد . وكما دفعت جمعية العمال العربية الفلسطينية ثمن موقفها من تسييس الحركة النقابية وثمن موقفها الخاطئ من العمل النقابي , فقد دفع الأمين العام الأول للاتحاد ثمن موقفه كذلك. فبعد إعلان الأحكام العرفية عام 1957 كان الأمين العام للاتحاد في عمل في دمشق , وكان عليه أن يبقى في الخارج . ليحل محله في قيادة الاتحاد نقابي آخر كان له هو الآخر دوره البارز في جمعية العمال العرب الفلسطينية في فلسطين .
ورغم ذلك الموقف الخاطئ , الذي كان يدعو إلى فصل العمل السياسي عن العمل النقابي وإلى تطهير الحركة النقابية من التيارات السياسية والحزبية , فقط كان للحركة عدد من المواقف الوطنية والقومية المشرفة , حيث كانت حالة النهوض الوطني تفرض على قيادتها حدا من الانسجام مع الحالة الجماهيرية العامة في البلاد , وحيث كانت قواعد وكوادر الحركة تضغط باتجاه دور فعال في الحياة السياسية العامة .وعلى هذا الأساس فقد وقفت الحركة النقابية موقفا مشرفاً من جميع القضايا العربية ومن النضال التحرري الذي كان يخوضه الشعب الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي والشعب اليمني ضد الاستعمار البريطاني ووقفت بمسؤولية ضد الاعتداء الثلاثي على مصر عام 1956. وكان لها كذلك على الصعيد الوطني مواقف مشرفة ضد حلف بغداد ومبدأ ايزنهاور , وناصرت الحكومة الوطنية التي كان يرأسها سليمان النابلسي و دعمت سياستها المعادية للامبريالية ووقفت تدافع عن ضرورة التعجيل في إنهاء المعاهدة البريطانية الأردنية وفك الارتباط بالامبريالية البريطانية , وغير ذلك من المواقف الوطنية . وكان باستطاعة الحركة النقابية , كما هو في مصلحتها ومصلحه الطبقة العاملة أساساً , أن تضطلع بدور أكثر فاعلية في النضال السياسي الوطني والنضال الديمقراطي العام , خاصة في ظل إقبال جمهور العمال على الانتظام في منظماتهم النقابية , غير أن امتداد أيدولوجية جمعية العمال العرب الفلسطينية حول الفصل بين العمل السياسي والعمل النقابي , إلى الحركة النقابية شكل ثغرة بارزة في تراثها النضالي, وأضعف فيما بعد قدراتها على مقاومه تدخلات السلطة في شؤونها الداخلية . إن الفصل بين العمل السياسي والعمل النقابي, إضافة إلى أنه خاطئ من حيث المبدأ يضعف من طاقات وإمكانيات الطبقة العاملة وحركتها النقابية على المستوى السياسي الوطني, هذا إلى جانب أن هذا الفصل بدعة من بدع الاتجاهات الإصلاحية واليمينية في الحركات العمالية والنقابية ويصب بشكل مباشر في طواحين القوى البرجوازية. لا شيء يعجب القوه البرجوازية ويقوي شوكتها ضد الطبقة العاملة وحركتها النقابية غير أيدولوجية الفصل بين العمل. السياسي والعمل النقابي في حياة عمل الطبقة العاملة وحركتها العمالية, لأن الفصل لا يعني أقل من أن تترك الطبقة العاملة ساحة العمل السياسي للبرجوازية وحدها . ولم يحدث قط في تاريخ الرأسمالية منذ ظهورها أن أبدت البرجوازية أدنى قدر من الاستعداد للفصل بين مصالحها الاقتصادية في استغلال الطبقة العاملة وجماهير الكادحين وبين مصالحها في توجيه دفة الحكم للسيطرة والهيمنة على مجموع الشعب . وعندما تصفق البرجوازية للقوى الإصلاحية واليمينية الحركة العمالية والنقابية وتضع اشتراطاتها على الحركة النقابية بضرورة الفصل بين العمل النقابي والعمل السياسي, أي عدم الاشتغال بالمسائل السياسية وتطهير الحركة النقابية من التيارات الحزبية السياسية , فإنها تكون بذالك أمينة ووفية لأيدولوجيتها ومبادئها الاحتكارية التي لا تريد احتكار الثروة فقط , بل واحتكار السلطة السياسية كذلك, باعتبارها الضمانة الملازمة لاحتكار الثروة . الطبقة العاملة وحركتها النقابية ليس لها في هذه الحالة مصلحة على الإطلاق في تقديم مثل هذا التنازل التاريخي للبرجوازية, الذي يعبر عن نفسه بالفصل بين العمل السياسي والعمل النقابي والاكتفاء فقط بالعمل من أجل مجرد تحسين شروط الحياة المادية لجموع الكادحين. وعندما تدافع الاتجاهات الإصلاحية واليمينية عن أيدولوجية الفصل بين العمل السياسي والعمل النقابي, وعن سياسة تطهير الحركة النقابية من التيارات الحزبية والسياسية, فإنها لا تقدم فقط خدمه عظيمه للبرجوازية, بل هي تحاول أن تقدم خدمة لذاتها كفئة بدأت تستقل في تكوينها و ثقافتها ومصالحها عن الطبقة العاملة وبدأت من خلال حصر جهدها في العامل الاقتصادي , الهام للغاية بالنسبة للشغيلة , تقدم التنازلات المجانية للبرجوازية وتسلم لها باحتكار الثروة والسلطة في آن واحد . وبديهي أن من يحتكر الثروة والسلطة , في ظل التنازل الذي تقدمه القيادات العمالية الإصلاحية واليمينية. لن يقدم للطبقة العاملة تنازلات ذات أهمية كبيرة أو حتى نسبية على الصعيد الاقتصادي. ولذا كانت أيدولوجية الفصل بين العمل السياسي والعمل النقابي في تراث الحركات العمالية والنقابية سببا رئيسياً في الإفقار المتزايدة للطبقة العاملة ومجموع الكادحين والسبب الرئيسي في الثراء الفاحش للبرجوازية ذاتها وللتفاوت الطبقي الحاد في المجتمع . يضاف إلى هذا كله أن أيدولوجية الفصل بين العمل السياسي والعمل النقابي في تراث وتاريخ الطبقة العاملة وحركتها النقابية تحرم الطبقة العاملة من عنصر الوعي السياسي الضروري لإدراك الحقوق الاقتصادية ذاتها وتحول دون تحول الحركة النقابية إلى جيش سياسي ضاغط على السلطة السياسية وأرباب العمل من أجل توزيع عادل للثروة الوطنية في الحد الأدنى من ناحية, ومن أجل سياسية داخلية ترتكز على التسليم بضرورة الحفاظ على الحريات العامة والديمقراطية ومن أجل سياسة خارجية ترتكز على جبهة واسعة في الدفاع عن سيادة البلاد واستقلالها وحرمة أراضيها , من ناحية ثانية .
العلاقة بين الحركة النقابية والسلطة
مرت العلاقة بين الحركة النقابية والسلطة بمراحل ثلاث , عبرت الأولى عن نفسها بمرحله الصمود في وجه السلطة وتدخلاتها في شؤون الحركة النقابية . التي أبدت في تلك المرحلة مقاومة باسلة وناجحة, وعبرت المرحلة الثانية عن نفسها بانتقال الحركة النقابية من مواقع الصمود الباسل أمام ضغوط السلطة إلى مواقع الدفاع التراجعي عن المكتسبات التي حققتها في النصف الأول من الخمسينيات . أما المرحلة الثالثة فكانت دون شك مرحلة سقوط خطوط دفاع الحركة النقابية أمام السلطة ومرحلة تدجين الحركة النقابية وتحويلها إلى ظاهرة عادية تفتقر إلى العديد من السمات الكفاحية للطبقة العاملة. معالجة هذه المراحل تبدو مهمة ليس فقط من زاوية التعرف على أشكال نضال الطبقة العاملة وحركتها النقابية في كل مرحلة, بل وكذلك من زاوية استخلاص الدروس الملائمة من التجربة برمتها. في هذا السياق ليس في الدخول في التفاصيل هو الهدف, رغم ما للتفاصيل أحيانا من أهمية , بل الوقف عند محطات معينة من التراث المدون للحركة النقابية ومعالجتها على طريق استخلاص الدروس العامة .والمحطات هنا ليست الفواصل الزمنية , بل الوقائع التي تكثف حصيلة الفترة الزمنية في نضال الحركة النقابية , ولعل التقارير , التي كان يقدمها الأمناء العامون لاتحاد النقابات إلى دورات مجلس الاتحاد عن كل فاصل زمني تكون مفيدة في هذا المجال , مع أنها بالتأكيد ليست كافية .
مرحلة الصمود في وجه تدخلات السلطة :
بعد أن تحقق لعدد من القيادات النقابية تأسيس بعض النقابات كانت الخطوة التالية الدعوة إلى إعلان وحدة النقابات في اتحاد عام . وكانت تلك الخطوة منطقية وتنسجم مع تجربة قيادات جمعية العمال العرب الفلسطينية على امتداد الثلاثينيات والأربعينيات مع مصالح الطبقة العاملة وحركتها النقابية في السيطرة على النمو العفوي والبريء , الذي كان يستخدمه قانون العمل رقم 35 لعام 1953. وهكذا كان وتأسس الاتحاد وتقدم بطلب التسجيل للسلطات , التي أبدت استغرابها لتلك الخطوة. هنا كان الاحتكاك الأول بين الحركة النقابية والسلطة،فالحركة النقابية كانت تريد توحيد صفوفها وعدم السماح بالانتشار الأفقي الواسع للنقابات أو حتى الدكاكين النقابية على حساب الوحدة العمودية وإن في حدودها الممكنة, التي حددها قانون العمل , والحكومة كانت تريد بعثرة الحركة النقابية وقيام نقابات ضعيفة تمثل مهنة معينة أو شركة معينة أو حتى عددا محدودا من العمال لهذه المهنة أو تلك دون أن ينعكس ذلك في بناء وحدوي للحركة. ورفض بعض المسؤولون في وزارة الشؤون الاجتماعية مجرد تسلم طلب تسجيل الاتحاد إلا بعد مماطلات وجدل قانوني طويل . في هذا الشأن يؤكد تقرير الأمين العام الأول للاتحاد المقدم إلى مجلس الاتحاد في دورته المنعقدة في نهاية أيلول ما يلي: " وقبل أن نحصل على تصريح من الحكومة بتسجيل الاتحاد رسميا, استأجرت النقابات المقدمة طلب الاتحاد مكتبا لها لجميع النقابات في عمارة واحدة, فلاقينا معارضة من الدوائر المسؤولة, حتى إن إحدى الوزارات حاولت التدخل في اجتماعنا في شهر حزيران 1954, لكن صلابتنا وإيماننا بحقنا وشرعية ما تقوم به جعلنا نرفض أي تدخل أو الخضوع للضغط , الذي استعملت فيه شتى الوسائل من عدة دوائر . فأظهر الأعضاء المؤسسون للاتحاد صلابة من موقفهم تجاه حق العمال والحرية النقابية وأعصابا قوية مما جعلهم ينقلبون على كل ضغط ,الأمر الذي جعل وحدة العمال قائمة دوافعه وهكذا سجل الاتحاد رسميا 25 -7 -1954" .(90)
ومن التدقيق السريع بهذه النصوص الواردة في تقرير الأمين العام للاتحاد , الذي ألقى على أعضاء مجلس الاتحاد في جلسة علنية وليس في جلسه سرية يتضح أن الحركة النقابية كانت في علاقتها مع السلطة منذ البداية أمام أحد الخيارين . الخضوع لرأي السلطة أو حتى مجاراتها أو رفض كل تدخل من طرفها في شؤون الحركة النقابية , ورفضت قيادة الحركة الخضوع أو حتى المجاراة, بل هي أكدت منذ البداية وكان ذلك واجبها أنها ترفض التدخل في شؤون الحركة ولم يكن الأمن سهلا آنذاك , فتقرير الأمين العام يتحدث عن تدخلات وضغوط متعددة وفعلية ويتحدث عن الصلابة في الموقف. التي كانت تتطلب أعصابا قوية. وهكذا فازت الحركة النقابية في أول مواجهة مع السلطة أو بعضها على الأقل, وكان للعمال حركة نقابية موحدة ترفض تدخلات السلطة في شؤونها الداخلية.
المواجهة الثانية بين الحركة النقابية والسلطة كانت حول حق الاتحاد في تأسيس فروع لنقاباته المركزية في مختلف مدن المملكة , وكانت تلك مسألة في غاية الأهمية وتتصل بمحتوى التشكيل التنظيمي الذي ستتخذه الحركة النقابية, فإما أن تتخذ محتوى متقدما لتشكيل تنظيمي يحفظ لها قدرا أكبر من الوحدة على أساس التوسع الأفقي المترابط مع درجة من الوحدة على أساس عمودي، أو تتخذ محتوى متخلفا يفسح المجال أمام النمو العفوي والبريء للحركة النقابية وربما للدكاكين النقابية. كان الاتحاد قد انتهى من تأسيس نقابة مركزية لعمال ومستخدمي الفنادق والمقاهي والمطاعم في عمان في آب من العام 1954 وتوجه لافتتاح فروع لها في بعض مدن المملكة . يقول تقرير الأمين العام للاتحاد في هذا الصدد : (91)
"فتحنا فرعا لنقابة عمال المقاهي والمطاعم والفنادق بالقدس وفرعا لنقابة عمال الخياطة بمدينه إربد , فسارعت الحكومة لإغلاق فرع نقابة عمال المطاعم والفنادق والمقاهي بالقدس واعتقلت عددا من أعضاء الهيئة الإدارية للفرع بحجة عدم سماح القانون ( أي قانون العمل ) بفتح فروع لها لعدم وجود نص في قانون نقابات العمال رقم 35 لسنة1953 يجيز فتح فروع لها , مع العلم أن أنظمة النقابات و الاتحاد تنص على إجازة فتح الفروع بجميع أنحاء المملكة الأردنية , وقد ووفق على تلك الأنظمة بموجب القانون المذكور, إلا أنه أفرج عن أعضاء فرع القدس بعد أن تدخل أحد المحامين هناك, ولم يطل اعتقالهم "
كانت هنا مواجهة حقيقية ولها مغزى كبير بين الحركة النقابية والسلطة. فالسلطة لها تفسيرها لقانون العمل، وهي رغم إجازتها وموافقتها على أنظمة النقابات والحركة النقابية ولوائحها الداخلية, تسعى لفرض تفسيرها الخاص لقانون العمل بما ينسجم ورغبتها في تقييد حرية العمل النقابي. وكان للحركة النقابية تفسيرها الخاص والمتعاكس مع تفسير السلطة لقانون العمل, هذا إلى جانب ما أظهرته من إصرار في الدفاع عن أنظمتها ولوائحها الداخلية, التي تجيز لها فتح فروع للنقابات، حتى لا تنشأ في آنذاك المستقبل حالة ووضعية في الحركة النقابية يصعب بل ويستحيل السيطرة عليها. في هذا السياق أضاف التقرير المذكور للأمين العام يصف حالة المواجهة حول تلك المسألة الحيوية ونتائجها:
" وقد اهتم الاتحاد بالموضوع وراجعنا وزارة الشؤون الاجتماعية, فرفضت السماع لحجتنا أو الاعتراف بحقنا بتنفيذ أنظمتنا الداخلية المصدقة منها, فكانت ضربة قوية وجهت لحركتنا. إلا أننا لم نستسلم وأوعزنا إلى أعضاء الفرع المذكور لإعادة نشاطهم وأخفينا عنهم رأي وزارة الشؤون الاجتماعية بقانونية عملنا أو عدمه, ووجهنا كتابا لمعالي وزير الشؤون نشرح فيه حقنا بتطبيق أنظمتنا ونعلمه أننا سنستمر في فتح الفروع, مبينين لمعاليه أنه ما دام قانون النقابات لا يمنع ولا يجيز فتح الفروع , فإن أنظمة نقاباتنا أجازت لنا فتح الفروع وأنظمتنا صدق عليها بموجب القانون المذكور, فلا يمكننا أن نتنازل عن حق نملكه "
ويضيف تقرير الأمين العام المقدم إلى مجلس الاتحاد فيقول:
" وقبل البدء بالموضوع فتحنا فروعا في إربد لنقابتي الكهرباء وسائقي السيارات , فأصبح لنا بذلك أربعة فروع للنقابات, فرع واحد في القدس وثلاثة فروع للنقابات في إربد دون إعلام وزارة الشؤون الاجتماعية استنادا إلى أنظمتنا الداخلية والناحية الفنية بالتنظيم معتبرين فتح الفروع عملا داخليا يتعلق بحركتنا فقط وأنه تطبيق لقانون موجود لا حاجة للموافقة عليه, وأعلمنا وزارة الشؤون الاجتماعية بكتاب رسمي عن عزمنا على عدم التنازل عن أي حق تعطيه لنا أنظمتنا الداخلية , وقد أحيل الموضوع لديوان تفسير القوانين, الذي أعطى قراره بحقنا بفتح الفروع ".
في تلك المواجهة الحقيقة بين السلطة والحركة النقابية وفي ظل أجواء الحريات الديمقراطية والعامة التي توفرت نسبيا آنذاك حققت الحركة النقابية نجاحاً جديدا. ومن التدقيق السريع في محتوى ذلك النجاح تتضح أمور عديدة . فالسلطة كانت تريد تقييد نمو الحركة النقابية وإخضاعه لتفسيرها الخاص لقانون العمل الذي كانت تعتبره مشروعاً جزئيا يحول دون تفاقم النضالات العمالية لانتزاع حق الطبقة العاملة في تنظيمها النقابي المستقل , كما كانت تريد أن تنمو في الحركة النقابية حالة من التوسع الأفقي العشوائي , الذي يضع العراقيل في وجه وحدتها ويحول بينها وبين قدرتها على قيادة تحركات عمالية مطلبية ناجحة، ويحول كذلك دون تحولها إلى قوة اجتماعية فاعلة ومؤثره في الحياة العامة في البلاد.
ربما لم تكن قيادة الحركة النقابية, في ظل أيدولوجية الفصل بين العمل السياسي والنقابي , تعطي اهتماماً كبيرا لكل هذا في سياسة السلطة , ولكنها وذلك واضح في التقرير , أعطت اهتماماً كبير وحقيقياً للدفاع عن أنظمتها ولوائحها الداخلية , أي عن استقلالها عن السلطة في ظل مفاهيمها الخاصة عن العمل النقابي وصيغه التنظيمية , ولم تتراجع أمام السلطة, ولم تنتظر حتى يبت ديوان تفسير القوانين بالخلاف القائم بينها كممثل للحركة النقابية من جهة وبين وزارة الشؤون الاجتماعية كممثل للسلطة من جهة أخرى, بل أوعزت لكوادر الحركة النقابية في كل من إربد والقدس بالاستمرار في بناء الفروع النقابية للنقابات المركزية في عمان , وحددت بوضوح : أنها حين تقف أمام خيار الالتزام في النصوص الغامضة والمطاطة لقانون العمل كما أرادته السلطة أن يكون وبين الحقوق المكتسبة التي تعبر عنها أنظمتها ولوائحها الداخلية سوف تختار خط الدفاع عن أنظمتها ولوائحها حتى تحول دون إفراغ السلطة لتلك الأنظمة واللوائح من محتواها الحقيقي . وعلى هذا الأساس وجهت كتابها لوزير الشؤون الاجتماعية تشرح فيه حقها في تطبيق أنظمتها الداخلية على أوضاعها ووجهت كوادرها للاستمرار في افتتاح الفروع بصرف النظر عن موقف وزارة الشؤون الاجتماعية , وقد نجحت في مواجهتها الثانية مع السلطة وصانت أنظمتها ولوائحها الداخلية وحالت دون التدخل في شؤونها وفرض منطق السلطة على أوضاعها.
وتبع المواجهة الأولى والثانية مع السلطة مواجهات أخرى , كانت السلطة في بعضها تلتزم موقف أكثر مرونة وأكثر استعدادا لاحترام استقلال الحركة النقابية وحقها في تمثيل عمالها والدفاع عن حقوقهم ومصالحهم . حدث ذلك في أول مواجهه بين الحركة النقابية وبين أرباب العمل . حين أقدم أحد أصحاب معامل البلاط في عمان على فصل أربعة عمال من معمله لمحاولتهم لتأسيس نقابة لعمال البلاط وتنسيب عمال المعمل في تلك النقابة في نهاية أيار 1955. واعتبرت الحركة النقابية فصل العمال الأربعة من العمل حلقة في سلسلة مؤامرات أصحاب العمل ضد الحركة النقابية، كما جاء في بياناتها, وأعلنت لمجرد فصل العمال الأربعة والتعدي على حقوقهم التي يكفلها لهم قانون العمل حالة الطوارئ. في هذا السياق يكون تقرير الأمين العام الأول للاتحاد والمقدم إلى مجلس الاتحاد في دورته المذكورة ما يلي:(92)
"لقد ثبت لنا صحة المعلومات التي كانت تصلنا عن التآمر ضد حركتنا, فدعونا لعقد جلسه لمجلس الاتحاد حضرها ممثلون عن 18 نقابة بعمان , وعرضت عليهم جميع المعلومات التي لدينا . وبعد دراسة جميع الاحتمالات تقرر بالإجماع العمل على إحباط كل مؤامرة كلفت من تضحيات غالية , وأنشأنا صندوقا للطوارئ ساهم فيه العمال كأفراد والنقابات والمناصرون للحركة العمالية النقابية. وقد أظهر العمال حماساً كبيرا للصندوق المذكور حتى إن عددا منهم تبرعوا بأجر يوم كامل وتقدم عشرات منهم معنيين استعداداهم للبذل والتضحية ووضع أنفسهم تحت تصرف الاتحاد للدفاع عن التنظيم النقابي . وكان مما أظهره العمال من استعداد للبذل والتضحية والروح المعنوية العالية دافعنا لنا كي نبدأ بالدفاع عن الحقوق العمال بشتى الوسائل " وأصدر الأمين العام للاتحاد آنذاك تعميما حول ذلك الموضوع يقول فيه(93):
"كنا نرغب أن لا نجد اصطدامات مع أصحاب العمل وأن نحل مشاكلنا بالطرق السلمية والودية ولإيجاد التشاريع العمالية وكنا نؤيد التعويض على العمال ... وقانون العمل . وقد تقدمنا بكل جرأة إقدام بحملة واسعة لتحسين شروط استخدام العمال مع أصحاب العمل ...فبدأت تعقد الاجتماعات وتحاك المؤامرات الدنيئة ضد الحركة العمالية للقضاء عليها وجرها لخلافات ومشاكل تكون الحركة النقابية أمامها أمام خيارين ,فإما الصمود والنضال والتضحية لرد كيد المتآمرين لنحورهم، فإما الانهيار وفقد الثقة وشل الحركة النقابية وبالتالي القضاء عليها لا سمح الله. لهذا فقد قرر مجلس إدارة اتحاد النقابات في جلسته المنعقدة بتاريخ31 -5-1955 إيمانا منه بوعي العمال وحقهم بالتنظيم والحياة الحرة الكريمة اختيار الطريق الأول, طريق النضال والكفاح والتضحية بالدفاع عن حقوق العمال وكرامتهم والصمود أمام جميع التيارات والقضاء على كل مؤامرة ضدنا مهما كلفت من تضحيات. " وقد وزع ذلك التعميم الإداري على جميع مراكز وفروع الحركة النقابية في الحادي عشر من حزيران عام 1955 معلنا أن الإضراب هو الوسيلة الوحيدة للدفاع عن حقوق العمال المفصولين وللوقف في وجه التآمر على حرية العامل وحقه في التنظيم النقابي , الذي كفله قانون العمل. وحدد أول إضراب في تاريخ المملكة آنذاك , وتراجع صاحب العمل وحققت الحركة النقابية نجاح جديد . هنا لم تتدخل السلطة , وجاء في تقرير الأمين العام للاتحاد المقدم إلى مجلس الاتحاد في نهاية أيلول ما يؤكد ذلك , إذ أكد التقرير المذكور(94):
" وقد أرسلنا مذكرة للحكومة نعلمها بقرار الإضراب وبتنفيذ العمال للإضراب وشرحنا وجهة نظرنا بشرعية عملنا , فلم تتدخل الحكومة ووقفت موقف الحياد التام وهذا ما كنا نريد"
وإذا كانت الحكومة قد وقفت موقف الحياد التام في نزاع العمل بين الحركة النقابية وصاحب معمل البلاط في عمان . فإن موقفها لم يكن كذلك عندما نشب نزاع عمل بين الحركة النقابية وبين إدارة شركة مناجم الفوسفات وإدارة شركة مصانع الاسمنت . فقد زاد انتصار عمال معمل البلاط من حماس عمال شركة مصانع الاسمنت , الذين بدأوا ينظمون أنفسهم للانتصار لزملائهم السائقين والخضراء في الشركة .
الذين حرمتهم إدارة الشركة من شروط الاستخدام الشهرية . وفي الوقت الذي كان فيه الاتحاد منشغلا بتسوية نزاع العمل في مصانع الإسمنت , فوجئ بطرد خمسين عاملاً من شركة مناجم الفوسفات وجميعهم كانوا أعضاء في نقابه عمال ومستخدمي مناجم الفوسفات في الرصيفة , وكان أمين سر النقابة على رأس قائمة العمال الذين فصلتهم إدارة الشركة . كما تعرض أمين سر النقابة للاعتقال على أيدي الشرطة في الرصيفة , ولكنه تمكن من الهرب واللجوء إلى المركز الرئيسي لاتحاد النقابات, الذي قدم له الحماية آنذاك، في هذا السياق يقول الأمين العام الأول للاتحاد في تقريره المقدم لمجلس الاتحاد في نهاية أيلول عام 1955:(95)
" ونظرا لخطورة طرد الخمسين عاملا وما له من تأثير على مستقبل نقاباتنا عقد مجلس الاتحاد جلسة طارئة مساء يوم الحادث "أي مساء يوم 22 حزيران 1955 " تجلت فيه إخوة العمال ووحدة آلامهم وآمالهم واتخذوا قراراً تاريخياً رائعا أذهل خصوم الحركة النقابية, واهتم المسؤولون ووضعت جميع النقابات أموالها تحت تصرف الاتحاد وأعلنت حالة الطوارئ بين العمال ليكونوا على أهبة الاستعداد لحماية العمل بمناجم الفوسفات في حالة وقوع إضراب بالمناجم. وصباح يوم 23 حزيران 1955, استدعيت " - أي الأمين العام- لعدة دوائر حكومية حيث طلب مني العمل على عدم تنفيذ قرارات مجلس الاتحاد فرفضت ذلك معربا لهم عدم استعدادنا بقبول أي تدخل بأمور حركتنا النقابية , مؤكدا أن كل قرار سينفذ مهما كانت النتائج."
ويضيف الأمين العام للاتحاد في تقريره حال نزاع العمل مع إدارة شركة مناجم الفوسفات فيقول : "وابرق لنا العمال في إربد والقدس ونابلس معلنين استعدادهم لتنفيذ قرارات مجلس الاتحاد ووضع أنفسهم تحت تصرفه . فكان مما أظهره العمال من وحدة الكلمة واستعدادا للبذل والتضحية ضربة قضت على كل المؤامرات التي اتضحت لنا والتي عرفنا كيف نرد عليها ونحطمها, وبذلك كان انتصارا رائعا للحركة العمالية. فأعيد العمال لعمالهم بتاريخ 24 حزيران 1955 وأزيلت أسباب شكواهم , فكان عملنا أول عمل جماعي تشترك فيه جميع النقابات في المملكة الأردنية الهاشمية تمثل تسعة آلاف عامل تمثيلا صحيحا وقانونيا. وأحدث ضجة تناقلتها جميع الصحف المحلية والخارجية ومحطات الإذاعة على إثر المؤتمر الصحفي الذي عقدناه بدار الاتحاد، وأوضحنا فيه أهداف حركتنا وتنظيمها واستعداد نقابتنا لمقاومة كل مؤامرة مهما كانت ومن أي مصدر أتت."
وكان ذلك النجاح الكبير, الذي حققته الحركة النقابية في نزاع العمل مع شركة مناجم الفوسفات يعبر عن التحسن في نسبه القوى بين الحركة النقابية وخصومها في ظل حالة المد الوطني الذي كانت تشهده البلاد، وفي ظل اعتراف بعض الأوساط الحكومية بضرورة الاستجابة للمطالب المحقة لعمال الشركة وإعادة المفصولين إلى عملهم والاستجابة على نحو ايجابي لحل مطالبهم . طبعا كانت هناك أوساط حكومية أخرى تقف في الخندق الآخر المواجه للحركة النقابية, ولذا مارست الضغط على الحركة النقابية كما أشار تقرير الأمين العام، حتى لا تنتقل مواقف مجلس الاتحاد وقراراته إلى حيز التنفيذ, وكان ذلك تدخلا في شؤون الحركة النقابية قاومته بوضوح. الأمر الذي اضطر تلك الأوساط واضطر إدارة شركة مناجم الفوسفات للتراجع أمام التضامن العمالي والشعبي الواسع مع عمال المناجم . وكما حققت الحركة النقابية نجاحا باهرا في نزاع العمل في مناجم الفوسفات . رغم تدخل بعض الدوائر الحكومية لصالح الإدارة، فقد حققت كذلك نجاحاً مماثلا في نزاع العمل مع شركة مصانع الإسمنت . وبعد مماطلات استمرت أكثر من شهرين اضطرت إدارة الشركة إلى التراجع أمام قرار الحركة النقابية " بإعلان الإضراب في الثاني عشر من تموز 1955، إذ لم تتراجع إدارة الشركة عن موقفها وتعيد السائقين والخضراء للصفة الشهرية في العمل وتعترف بحق النقابة بالتدخل للدفاع عن حقوق العمال ورفع مستواهم (96). وتراجعت إدارة الشركة عن مواقفها وأعادت العمال إلى الصفة الشهرية وأعلنت اعترافها بالنقابة وحقها في تمثيل عمال الشركة والدفاع عن مصالحهم، خاصة بعد أن تأكد لإدارة الشركة أن الحكومة غير راغبة في الدخول في مواجهة مع الحركة النقابية , التي كانت تتمسك بقوة مواقفها وترفض التدخل في شؤونها. يتضح مما ورد أن العلاقة بين الحركة النقابية والسلطة قد تدرجت من محاولات مستمرة تقوم بها السلطة للتضييق على الحركة النقابية إلى محاولات التعايش المؤقت مع تلك الحركة التي كانت تدافع ببسالة عن الحقوق الديمقراطية والنقابية، التي منحها الدستور وقانون العمل المليء بالثغرات. في تلك المرحلة حققت الحركة النقابية أكبر قدر من الاستقلال في تاريخها منذ تأسيسها عام 1954. على أن تلك المرحلة لم تكن تمر دون مواجهة واسعة بين ما تبقى من مواقع الاستعمار البريطاني طبقا للمعاهدة البريطانية- الأردنية وبين الحركة النقابية في ظل التواطؤ من أذناب الاستعمار, حسب تعبير الأمين العام الأول للاتحاد، مع قيادة المطار البريطاني في المفرق، التي ناصبت الحركة النقابية العداء ودخلت معها في مواجهة ساخنة إثر قرارها بطرد أكثر من ثلاثين عاملاً من عمال المطارات البريطانية في الأردن في تشرين الثاني 1955 . وكانت تلك المواجهة جزءاً من التحرك الشعبي العام ضد المعاهدة البريطانية - الأردنية وضد التواجد العسكري البريطاني على الأراضي الأردنية . ولم تكتفي قيادة المطار البريطاني في المفرق بفصل ذلك العدد الكبير من العمال من عملهم , بل طالبت ممثل الاتحاد العام للنقابات وأمين سر نقابة عمال ومستخدمي المطارات البريطانية بحل النقابة, لأن قيادة المطار" لا تعترف بقانون العمل لأنه غير منصوص عليه في المعاهدة المعقودة بين الأردن وبريطانيا.(97)" وفي السابع من كانون الثاني 1956 قررت بعض أجهزة السلطة الانحياز إلى قيادة المطار البريطاني في المفرق, فقامت بحملة اعتقالات واسعة شملت عددا كبيرا من أعضاء النقابة . وكان لانحياز بعض أجهزة السلطة إثر رفع في وتيرة الإجراءات الهجومية ضد حقوق العمال التي أقدمت عليها قيادة المطار بعد ذلك, إذ بدأت تمارس على العمال ضغوطا واسعة لتوقيع تعهد بعدم الانضمام للنقابة ما دامت وزارة الحربية البريطانية لا تعترف بها.(98)
ولم تقف الحركة النقابية مكتوفة اليدين من هذا التحدي السافر الذي يتنكر لقوانين البلاد وسيادتها , وفي هذا الصدد يؤكد الأمين العام للاتحاد في تقريره المذكور(99):
"رفض العمال توقيع التعهد معتبرين ذلك تحديا للقوانين الأردنية وتعديا على الحرية النقابية التي كفلها الدستور في المملكة الأردنية الهاشمية، وأظهر العمال روحاً عالية واستعداداً للتضحية وتحمل المسؤولية دفاعاً عن كرامتهم (الوطنية)، وقد أبرق اتحاد نقابات العمال برقية لقائد الطيران يحمله مسؤولية تحديه للقوانين الأردنية وتعديه على الحرية النقابية للعمال . كما أرسل مذكرة لدولة رئيس الوزراء ووزارة الشؤون الاجتماعية والدفاع والداخلية والعدلية شرح فيها تحدي السلطات البريطانية لقوانين الدولة ".
وتمادت قيادة الطيران البريطاني في المفرق في مواقفها المعادية للعمال, والتي شكلت دون شك تجاوزا فظاً على القوانين بما فيها قانون النقابات , واستمرت في رفض بحث شروط الاستخدام مع الاتحاد وأي من النقابات وخاصة مع نقابة عمال ومستخدمي المطارات البريطانية في المملكة , وتطاولت في اعتداءها على حقوق العمال , بل وأقدمت في السادس عشر والسابع عشر من حزيران 1956 على طرد 125 عاملا من عملهم ،ورفضت كل الجهود لإعادتهم لأعمالهم أو دفع أية تعويضات لهم بموجب قانون التعويض رقم 17 لعام 1955, وكانت تعتمد في موقفها ذلك على صمت وتواطؤ بعض الأجهزة الحكومية معها وضد الحركة النقابية . ويبدو أن تلك المعركة كانت أكبر من إمكانيات الحركة النقابية , وجاءت في ظروف حرجه , اشتد فيها الصراع بين الحركة الوطنية والأجنحة الأكثر رجعية في السلطة . لذا لم يكن أمام الحركة النقابية إلا أن تعبر في ذلك الصراع عن موقف مبدئي عبر عنه الأمين العام للاتحاد في تقريره المذكور بما يلي(100) :
" مما تقدم يتضح أن محاربة التنظيم النقابي للعمال هو من الأعمال الرئيسية للاستعمار وأذنابه، مما يتطلب من النقابات ومؤيديها العمل على تحطيم هذه المؤامرة والقضاء عليها وإفهام أذناب الاستعمار بأن عهد السيطرة والتحكم والتدخل في شؤون البلد الداخلية قد مضى وأن العمال بالتعاون مع الفئة الوطنية الواعية من الشعب لن يسكتوا عن التدخل في شؤونهم أو التلاعب في مقدراتهم ".
كان لتلك المواقف , التي اتخذتها قيادة الاتحاد العام للنقابات أثر فعال في النهوض بأوضاع الحركة النقابية , ففي ظل المواجهة في الأشهر الأولى من تأسيس الاتحاد مع السلطة وفي ظل المواجهة مع أرباب العمل ومع بقايا الاستعمار البريطاني في البلاد، ازداد التفاف العمال حول الحركة النقابية وانخراطهم في منظمات نقابية تدافع عن حقوقهم ومصالحهم . وهكذا لم يمض أكثر من أحد عشرة شهرا على تأسيس الاتحاد حتى كان عدد أعضاء نقاباته قد تجاوز تسعة آلاف عامل , ثم لم يمض أكثر من خمسة عشر شهرا حتى وصل عدد أعضاء الاتحاد حوالي خمسة عشر ألف عضو (101), وكان ذلك إنجازا كبيرا حققته الحركة النقابية في فتره زمنية قياسية. وأثبتت تجربة الحركة النقابية في الفترة بين تأسيس الاتحاد 1954 وإعلان الأحكام العرفية في الخامس والعشرين من نيسان 1957 ،أن أقصر الطرق وأفضلها رغم صعوباتها وتحدياتها لجذب العمال نحو نقاباتهم وحركتهم النقابية هو طريق الدفاع عن حقوق ومصالح العمال بقوى وطاقات العمال أنفسهم ، والدفاع عن استقلال الحركة النقابية ورفض ومقاومة التدخل في شؤونها الداخلية أيضا بقوى وطاقات العمال المنظمين وليس بالمذكرات و العرائض السياسية وحدها أو بأعضاء خط العمل البيروقراطي, الذي يهرب من مجابهة الهجوم على حقوق الطبقة العاملة بقواها المنظمة باتجاه الارتماء في أحضان السلطة واستجدائها .
مرحلة الدفاع التراجعي عن المكتسبات تحت وطأة إعلان الأحكام العرفية 1957
تصدر الأحكام العرفية بموجب المادة 125 من الدستور في المملكة الأردنية الهاشمية بإرادة ملكية بناء على قرار من مجلس الوزراء, ولا يتطلب نص المادة 125 من الدستور عرض الأحكام العرفية على السلطة التشريعية. وقد صدرت الأحكام العرفية في المملكة في فترتين, كانت الأولى في الخامس والعشرين من نيسان عام 1957 لمعالجة أوضاع داخلية كانت تمر بها البلاد واستمرت حتى التاسع والعشرين من تشرين الثاني 1958, وكانت الثانية في الخامس من حزيران 1967 , بحجة ظروف الحرب مع إسرائيل آنذاك وانتهت الحرب، ومر عليها حتى الآن سبعة عشر عاما لم تدخل المملكة فيها مباشرة في حرب مع إسرائيل ، ولا زالت الأحكام العرفية مستمرة. وتشكل الأحكام العرفية في العادة خطرا على الحقوق الشخصية والحريات العامة ولتوضيح خطورتها على الحريات الشخصية والعامة نتوقف أمام نصوص بعض موادها (102):
المادة الرابعة (أ): على الرغم مما جاء في أي قانون أو نظام آخر يجوز للحاكم العسكري العام وللحكام العسكريين المحلين أن يأمروا بإلقاء القبض على أي شخص وتفتيشه وتوقيفه وحجزه للمدة التي يرونها في أي مكان من المملكة وبدخول المنازل والمساكن والمحلات الأخرى والتحري فيها وتفتيشها في أي ساعة من ساعات الليل والنهار .
المادة الخامسة: تكون الأوامر التي يصدرها الحاكم العسكري العام أو الحكام العسكريون المحليون نافذة بالحال, ولا تتبع أي وجهة من وجوه الطعن أو المراجعة أمام أي محكمة من المحاكم بما في ذلك محكمه العدل العليا .
المادة الثامنة: تمارس المملكة العرفية العسكرية حق القضاء على جميع الأشخاص في ما يتعلق بالجرائم والمخالفات التالية :
ح – مخالفة قانون مقاومة الشيوعية رقم 91 لسنه 1953
ط – الانتساب إلى أي حزب سياسي منحل أو مرخص ( جميع الإحزاب في المملكة إما غير مرخصة أو صدر قرار بحلها باستثناء حزب الإخوان المسلمين ) .
ى – مخالفة أحكام قانون الدفاع أو نظام آخر صدر بمقتضاه .
ولا تحتاج هذه المواد لقوانين الأحكام العرفية إلى تفسير واسع , خاصة وأن البحث في هذا السياق ليس بحثا قانونيا أو حقوقيا , ومواد تلك القوانين تفسر نفسها بنفسها تماما , وتشكل تنكرا تام واعتداء صارخا على الحريات الشخصية والعامة . وقد مست الأحكام العرفية بشكل مباشر أوضاع الحركة النقابية في البلاد فشكلت ضربه قاسيه للغاية لحقوق العمال النقابية ووضعت قيودا شديدة على التطور المستقل للحركة العمالية النقابية. ولم تكن الأحكام العرفية, التي تتضمن كذلك قانون مقاومة الشيوعية وقانون الدفاع, الذي تمت الإشارة إلى بعض مخاطره على الحريات الشخصية والعامة, هي الوحيدة التي وضعت القيود على التطور المستقل للحركة العمالية والنقابية, بل لقد جاء قانون العمل 35 لعام 1953 وقانون العمل رقم 21 لسنه 1960 ليضع قيودا إضافية على حقوق العمال النقابية وعلى التطور المستقل للحركة النقابية , الذي حاولت الحركة الدفاع عنه قبل الإعلان عن الأحكام العرفية 1957 . وجاءت المادة 86 من قانون العمل لتجسد حقيقة تلك القيود . في هذا الشأن تنص المادة 86 من قانون العمل على ما يلي :
يحق للوزير ( وزير العمل والشؤون الاجتماعية ) أن يطلب من محكمة البداية الحكم بحل النقابة في إحدى الحالات التالية :
1- إذا وقعت منها مخالفة لأحد الأحكام الواردة في هذا القانون رغم سبق إنذارها كتابة بإزالة سبب المخالفة ومضي شهر على هذا الإنذار دون إزالة السبب .
2- إذا أصدرت النقابة قرارًا أو أقدمت على عمل من شأنه ارتكاب إحدى المخالفات أو الجرائم التالية:
أ‌- التحريض على قلب النظام أو على كراهيته وازدرائه أو تجنيد أو ترويج المذاهب الهدامة والتي ترمي إلى تغير مبادئ الدستور أو النظم الأساسية للهيئة الاجتماعية في المملكة .
ب‌- ترك العمل أو الإمتناع عنه بقصد الإضراب أو الاعتصام أو التظاهر أو التحريض عليها والاشتراك بها .
ج- استعمال أو التحريض على استعمال القوة أو العنف أو الإرهاب أو التهديد أو التدابير غير المشروعة في الاعتداء أو الشروع في الاعتداء على حق الغير في :
1- العمل
2- الاستخدام
3- الامتناع عن استخدام أ ي شخص .
4- الاشتراك في جمعية من الجمعيات أو نقابه من النقابات .
3- يجوز لمجلس الوزراء بتنسيب من الوزير حل أي نقابة لمقتضيات الأمن والسلامة العامة ويكون قراره قطعيا غير قابل للطعن .
كما جاءت بعض بنود المادة 78 من قانون العمل رقم 21 لسنة 1960 تحكم الحصار وتشدد القيود على حرية العمل النقابي واستغلاله . تقول الفقرة ب من المادة المذكورة : " لا يجوز قيام تجميع نقابي إلا بقرار من مجلس الوزراء وتنسيب الوزير المختص وموافقة مجلس الوزراء على نظامه الداخلي " . كما تقول الفقرة ج من نفس المادة : " يحل التجمع النقابي بقرار من مجلس الوزراء لأمور أمنية وللسلامة العامة ".
كيف عالجت الحركة النقابية هذا الهجوم الواسع على الحريات النقابية بشكل خاص . للإجابة على هذا السؤال لا بد من العودة إلى التقارير الأساسية, التي كان الأمين العام التالي السيد زكي الشيخ حسن والأمين العام الثالث للاتحاد السيد وجيه منكو يقدمانها إلى دورات مجلس الاتحاد في نهاية كل دورة نقابية , مع التأكيد سلفاً أن تلك التقارير لا تقدم جوابا كافيا على السؤال الخطير .
قبل إعلان الأحكام العرفية بفترة وجيزة غادر الأمين العام الأول للاتحاد عمان إلى دمشق لحضور اجتماعات اتحاد العمال العرب, وأثناء ذلك تم الإعلان عن الأحكام العرفية , ولم يعد الأمين العام إلى عمان بسبب الأحكام العرفية , وهكذا استمر منصب الأمين العام شاغرا حتى نهاية آذار 1958 , حيث انتخب الأمين العام الثاني للاتحاد السيد زكي الشيخ حسن, الذي كان كسابقة أحد قادة جمعية العمال العرب الفلسطينية في الأربعينيات . وفي الرابع عشر من نيسان 1960 قدم الأمين العام الجديد للاتحاد تقريره إلى مجلس اتحاد النقابات من فتره رئاسته للاتحاد , وكانت العناوين الرئيسية للتقرير المذكور تشير إلى حاله الدفاع التراجعي عن المكتسبات التي حققتها الحركة النقابية قبل إعلان الأحكام العرفية وتشير إلى الفارق الواسع بين خط النضال الذي سلكته الحركة النقابية قبل إعلان الأحكام العرفية وبين خط الدفاع التراجعي بعد ذلك .
التقرير المشار إليه والمقدم من الأمين العام الثاني للاتحاد يشمل الفترة بين أول نيسان 1958 حتى منتصف نيسان 1960 , وهي الفترة التي تولى فيها قيادة الاتحاد . يخلو التقرير تماماً من الروح الكفاحية التي تميزت بها تقارير الأمين العام الأول , قبل إعلان الأحكام العرفية , لا بسبب فوارق جوهريه بين الرجلين , فكل منهما خريج مدرسة جمعية العمال العرب الفلسطينية وكان يعمل وفق سياسة تلك المدرسة , بل بسبب تغير ظروف النضال نفسها وانتقال زمام المبادرة في الهجوم على حقوق العاملين إلى أيدي السلطة وأرباب العمل. وحيث يجد التقرير نفسه أمام مواجهة مع السلطة كانت صياغاته تأتي خالية من المضمون المباشر لتشيع مناخ الدفاع التراجعي المفروض على الحركة النقابية. يقول التقرير في هذا المجال(103): "بعد أن تخطى اتحادنا جميع الصعاب التي وضعت في طريق تكوينه من ذوي الأغراض أو خلافهم، كان واجبا حتميا حقا على هذا الاتحاد الممثل لعمال هذا البلد على مختلف مهنهم، على أن ينهض لتحقيق طلباتهم المتمثلة في رفع مستواهم الاجتماعي والمادي والثقافي".
وحيث كان التقرير يتعرض للأعمال التعسفية، التي كان أصحاب العمل يمارسونها في ظل تواطؤ أجهزة السلطة معهم، كان يكتفي بعرض نماذج محدودة للغاية، دون أن يطرح على جماهير العمال مهمات كفاحية لمجابهة تلك الأعمال التعسفية ، كالفصل من العمل والحرمان من الحقوق. يقول التقرير في هذا المجال:(104)" تعرضت الحركة العمالية في هذه الفترة إلى عدة أعمال تعسفية قصد بها ضرب الحركة العمالية والقضاء على وحدتها. وقد ساعد في تسهيل هذه الغاية عدة عوامل بعضها مادي صرف والبعض الآخر معنوي، وأبرز هذه الحوادث حادثتان:-
الأولى: حدثت عندما رفع بعض عمال الفوسفات مطالب العمال إلى مجلس إدارة الشركة بصفتهم ممثلين عن العمال حيث اعتبرت الشركة هذه الأعمال من قبيل الشغب، وقد انتهزت هذه الفرصة لضرب العمال وإبعادهم عن النقابة (التي كانت مجمدة النشاط تماما منذ وقت طويل، فاستدعتهم الشرطة لهم واتهمتهم بإثارة الشغب حيث جرى اعتقالهم...الخ)
والثانية: فهو ما تعرضت له نقابة عمال الإسمنت، إذ قامت الشركة على إثر مطالبة النقابة بعطلة عيد المعراج الشريف بنفس الإجراءات التي اتخذتها شركة الفوسفات، ولا غرابة في ذلك، وعدد كبير من هيئة إدارة الأخيرة هم أعضاء في تلك الشركة. ونتيجة لذلك فقد فصلت الشركة ست عمال وبعد فترة عادت ففصلت ما يقرب من هذا العدد كما أن بعض منهم ما زال ملاحق من قبل الشرطة والتهمة الموجهة إليهم هي محاولة التخريب في معامل الشركة".
وعندما جاء التقرير يعالج في عنوان رئيسي المشاكل التي تعرقل سير الحركة العمالية وتقدمها، فقد اكتفى بمجموعة من التوجهات والإجراءات الإدارية، التي كانت تعبر عن نسبة القوى بين الحركة النقابية من جهة وبين أرباب العمل والسلطة من ناحية ثانية.يقول التقرير في هذا الشأن(105):
1- "على النقابات واجب التعرف على أصحاب العمل وبسط أهداف وغايات النقابة لهم مع التأكيد بأن النقابة لن تخدم العامل فقط بل أنها تخدم صاحب العمل بنفس المقدار الذي تخدم فيه العامل".
2- "على النقابات دراسة القضايا المطلوب معالجتها دراسة دقيقة وحصر المراجعات مع أرباب العمل بأشخاص محدودين مع عدم السماح مطلقا لدي عضو غير مكلف بالاتصال برب العمل لأي سبب كان..."
3- "يجب ألا تلجأ النقابة للشكوى ضد رب العمل إلا في الحالات المستعصية على الحل".
وبالمقارنة بين الكيفية التي كانت تعالج فيها الحركة النقابية خلافاتها ونزاعات العمل سواء مع السلطة أو مع أرباب العمل قبل إعلان الأحكام العرفية وبعدها، يتضح أن الحركة النقابية قبل إعلان الأحكام العرفية كانت تشدد، وذلك من حقها وواجبها، على الروح الهجومية الكفاحية للطبقة العاملة في مواجهة تدخلات السلطة وتعسف أرباب العمل، وعلى رفع الحالة التعبوية في صفوف العمال والدعوة إلى دعم صندوق الطوارئ كلما اقتربت حالات نزاع العمل من المواجهة المباشرة واحتمالات الإضراب. وعلى رفع وتيرة الصمود بالاعتماد على النشاط العمالي والالتفاف العمالي حول الحركة كلها حاولت السلطة ممارسة ضغط أكبر على الاتحاد أو حاولت التدخل في شؤونه الداخلية لعرقلة مسيرته. وكان الأمين العام الأول للاتحاد يسمي الأشياء بمسمياتها الحقيقة ويخاطب النقابات والفروع النقابية المختلفة مباشرة ويدعوها لتحمل مسؤولياتها أمام كل خلاف مع السلطة أو تدخل من جانبها في غير صالح الحركة النقابية وأمام كل تعدٍ لأرباب العمل على حقوق العمال. آنذاك، أي في الفترة التي سبقت إعلان أحكام العرفية، ازداد التفاف العمال حول نقاباتهم وإتحادهم وبلغ عدد أعضاء الاتحاد في الأشهر الخمسة عشر الأولى من تأسيسه حوالي 15 ألف عضو.
وبعد إعلان الأحكام العرفية وما نتج عنها من قمع سافر لحركة المعارضة الوطنية والقوى الشعبية ومن انتهاك واسع للحريات الشخصية والعامة، بدأت موازين القوى تختل على نحو حاسم لصالح السلطةـ ولم تجد الحركة النقابية من وسيلة للحفاظ على المكتسبات التي حققتها قبل العام 1957 غير الدفاع التراجعي عن تلك المكتسبات، ووقعت بذلك في خطأ جسيم، فاقم من النزعة الهجومية للسلطة ولأرباب العمل ضد الحقوق العمالية. وأشاعت سياسة الدفاع التراجعي عن حقوق ومكتسبات العمال التي سارت عليها قيادة الاتحاد جوا من الإحباط داخل الحركة النقابية في أوساط كادراتها وفي قواعدها، التي لم تكن قد تصلب عودها وراكمت خبرة نقابية متقدمة وتمرست في النضال ضد هجوم السلطة وأرباب العمل على الحركة النقابية.
لم تعد تدخلات أجهزة السلطة تواجه بمثل تلك الروح التعبوية العالية التي كانت تواجه بها قبل إعلان الأحكام العرفية، ولم تعد الأعمال الاستفزازية لأرباب العمل من أعمال الفصل التعسفي للعمال وغيرها تواجه بدعوة العمال إلى حشد قواهم، ولم تعد المشكلات التي تواجه الحركة النقابية بشكل عام تعالج بدعوة العمال إلى مزيد من العمل لتوسيع صفوفها بنقابات وفروع نقابية جديدة وإلى مزيد من الوحدة العمالية في مواجهة اتحاد أصحاب العمل، كما كان يحدث دائما في مناجم الفوسفات ومصانع الإسمنت. وأصبحت المشكلات التي تواجه الحركة النقابية تعالج بدعوة النقابات للتعرف على أصحاب العمل ومحاولة إقناعهم بأن النقابة لن تخدم العامل فقط بل وصاحب العمل كذلك وبنفس المقدار، وكان ذلك خطأ فادحاً وتنازلا واسعاٍ أمام أصحاب العمل. فالنقابة وجدت أساساً لخدمة العامل والعامل فحسب وليس صاحب العمل، الذي يملك وبات يملك بعد إعلان الأحكام العرفية من الرسائل لخدمة مصالحه ما دفعه لموقف عدائي سافر من النقابة والحركة النقابية ومن قانون العمل. فقد وجد صاحب العمل السلطة وأجهزة الشرطة وغيرها إلى جانبه في هجومه المعاكس ضد الحركة النقابية، ووجد حالة الدفاع التراجعي أمامه، فلن يتمالك نفسه من شدة الاغتباط بذلك الانقلاب في موازين القوى.
فمارس الفصل التعسفي على نطاق واسع، وشدد من قبضة الاستغلال للعمال حتى حدود الاسترقاق. "وفقدت اتفاقات العمل الجماعية التي توصل إليها الاتحاد (مع أصحاب العمل قبل إعلان الأحكام العرفية ) فاعليتها بعد أن تنكر لها أرباب العمل. ساعدهم في ذلك الظروف الطارئة من ناحية (الأحكام العرفية) وضعف النقابات وعدم وجود قوانين رادعة في القانون تحمي هذه الاتفاقات من ناحية أخرى"(106).
كانت دعوة النقابات للتراجع تنطوي على مخاطر من نوع استراتيجي خطير، رغم أن قيادة الحركة النقابية آنذاك تعتقد أن تلك المخاطر ستزول في اللحظة التي تستعيد فيها الحركة أنفاسها. فمن الأخطاء الجسيمة التي ارتكبتها قيادة الحركة آنذاك، دون أن تفقد الأمل باستعادة حرية العمل النقابي، دعوة قيادات النقابات إلى محاولة الوصول إلى صفقات مع أصحاب العمل، صفقات محدودة وجزئية للغاية، بالطبع, بمعزل عن العمال أنفسهم، ومن هنا جاء تقرير الأمين العام الثاني يشير إلى حصر المراجعات مع أرباب بأشخاص محدودين وعدم السماح مطلقاً لأي عضو غير مكلف بالاتصال برب العمل لأي سبب من الأسباب ،ويشير على النقابات أن لا تلجأ للشكوى ضد رب العمل إلا في الحالات المستعصية. ربما كانت قيادة الحركة النقابية تشعر أن نسب القوى بدأت تميل لصالح أرباب العمل، ولم تكن مخطئة بالتأكيد، وربما كانت تعتقد بأن الاتصال بأرباب العمل في إطار مغلق، وبمعزل عن معرفة الكوادر والقواعد العمالية ومشاركتها، أنجح من مواجهتهم بالحقوق المكتسبة في قانون العمل، الذي كان يضمن حق التنظيم النقابي، وقانون التعويض عن العمال لعام 1955، وباتفاقات العمل الجماعية، كانت القيادة العمالية مخطئة تماماً في ذلك. حتى لجوء النقابة إلى الدفاع عن حقوق عمالها بالشكاوي القانونية ضد أرباب العمل ثم التضييق عليه خشية استفزاز."
أرباب العمل واستنفار مكائدهم ضد الحركة النقابية، أصبح هو الآخر جزءا من سياسة الدفاع التراجعية، التي انتهجتها دون سوء قصد بل وبحسب نية قيادة الحركة النقابية، التي وقفت مشلولة أمام الهجوم الواسع للسلطة وأرباب العمل على الحركة العمالية والنقابية. وهكذا "حدت الأحكام العرفية من نشاطات الحركة النقابية لدرجة كبيرة بحيث أصبح مجرد التفكير بمزاولة النشاط النقابي بشكل فعال، مثل المفاوضة الجماعية أو التهديد بالإضراب ( عدا عن ممارسته ) يؤدي إلى اعتقال القائمين عليه بل أبعد من ذلك إلى تجميد النقابة أو حلها مثل ما حدث لنقابتي الفوسفات والإسمنت(107).
وبسبب تلك السياسة التي انتهجتها القيادة الإصلاحية للحركة النقابية، التي لم تتخل إلا لفترة قصيرة عن نهج جمعية العمال العرب الفلسطينية. ازدادت شراسة السلطة وأرباب العمل حتى مطلع الستينات، وبدأت حركة من التراجع تترك آثارها الواسعة على أوضاع الحركة النقابية. وهكذا تراجع "عدد النقابات المسجلة من 39 نقابة في عام 1955 – 1956 إلى 29 نقابة عام 1958 -1959 ثم إلى 16 نقابة عام 1960 -1961. كما انخفض عدد الأعضاء في النقابات عام 1959 – 1960 إلى أدنى مستوى له بالمقارنة مع السنوات القليلة السابقة، حيث بات عدد العمال النقابيين يقل عن تسعة آلاف عضو" (108).
ومع ذلك ينبغي أن يسجل للأمين العام الثاني لاتحاد النقابات أنه بذل جهدا في سبيل الحفاظ على الحركة النقابية في ظروف بالغة الصعوبة، رغم أنه كان يواجه في أكثر من مكان أخطار التصفية الجسدية من قبل أرباب العمل(109).
ولم تطل كثيرا قيادة الأمين العام الثاني، السيد زكي الشيخ حسين لاتحاد النقابات، ففي تموز 1960 جاء إلى قيادة الاتحاد كأمين عام ثالث، السيد وجيه محمد منكو، بتحالفات كانت تحضر نفسها لوراثة قادة جمعية العمال العرب الفلسطينية وكانت تحضر نفسها للسير بالاتحاد في طريق الخضوع للسلطة وتحويل الحركة النقابية إلى حركة مدجنة تخاطب في مذكراتها وعرائضها أجهزة السلطة أكثر من مخاطبتها للجماهير العمالية ذاتها.
الحركة النقابية بين الهجوم والدفاع: -
على الرغم مما كان يعتري الحركة النقابية في مطلع الستينات من ضعف نتيجة الهجوم الواسع للسلطة وأرباب العمل ضد الحقوق والحريات النقابية منذ إعلان الأحكام العرفية عام 1957، إلا أنها استمرت تعمل وتحاول التوثيق تارة بين السياسة الهجومية وتارة أخرى بين السياسة الدفاعية. لم تكن الحركة النقابية قد وقعت بعد تحت سيطرة الاتجاهات اليمينية الانتهازية والصفراء التي كانت تبدي استعدادا أوسع للخضوع والتبعية للسلطة، بل هي كانت تمر في مرحلة انتقالية استمرت حتى العام 1964، حيث تسلمت العناصر النقابية الصفراء المواقع الحساسة في قيادة الاتحاد. في تلك المرحلة الانتقالية كان لبعض العناصر النقابية الصفراء، التي بدأت تتسلل عبر مواقع التأثير البيروقراطية، دور في توجيه الاتحاد نحو الارتماء تحت أقدام السلطة ونحو التخلي عن ميول الدفاع عن استقلالية الحركة النقابية، وتعزز دورها كثيرا بعد الهجوم الواسع، الذي شنته السلطة ضد القوى الوطنية والديمقراطية في الحركة النقابية والحركة الوطنية عام 1966 ، حيث زج بقيادات تلك القوى في سجون السلطة.
وللتعرف على تطورات تلك المرحلة الانتقالية في حياة الحركة النقابية وعلى سياسة المراوحة بين الهجوم والدفاع في ظل الميل الواضح لبعض القوى والعناصر النقابية الصفراء والرجعية للتكيف مع سياسة السلطة، نعود إلى تقارير الأمين العام الثالث للاتحاد، السيد وجيه محمد منكو، الذي قاد الاتحاد في الفترة بين 1960 – 1964 ، أي لمرحلتين انتخابيتين انتهت الأولى عام 1962 وانتهت الثانية عام 1964.
في نهاية الدورة الانتخابية الأولى قدم الأمين العام الثالث تقريرا مجلس الاتحاد في تموز عام 1962، مثل في خطة العام امتدادا لنزعة الحرص على الاستقلال النسبي للحركة النقابية عن السلطة ولنزعة الحرص على مجابهة محدودة مع أرباب العمل، الذين تفاقم تنكرهم للحقوق والحريات النقابية.
في بداية تقريره حاول الأمين العام الثالث للاتحاد العودة إلى تراث الحركة النقابية في الخمسينات للحث على" مزيد من العمل ومزيد من الإيمان والحركة للحفاظ على هذا التقدم الذي ظهر للوجود". (110) وعادت 108 تظهر بحذر ملحوظ " النزعة الهجومية " في سياسة الحركة النقابية على المستويين السياسي والنقابي. في هذا الصدد يقول التقرير: " في خلال السنتين الماضيتين تعرض الاتحاد لأزمات وأحداث أعتقد أن غالبية الزملاء عاصرها وعاشها، وكما تعلمون فقد جابهنا هذه الأحداث بعزم وإخلاص صادقين. لقد وقف اتحادنا في الشهر الخامس من عام 1960 وقفته الشهيرة من قضية الباخرة العربية كليوباترا وأعلن تضامنه الكامل مع العمال العرب في كل مكان، ولبى النداء الذي وجهته اللجنة التنفيذية لاتحاد العمال العرب بإعلان المقاطعة 109 ضد السفن الأمريكية"(111).
كما كان للحركة النقابية على المستوى السياسي دور جيد في الإعراب عن التضامن العمالي في البلاد مع نضال شعب وعمال الجزائر واليمن ، وأكد التقرير المذكور في هذا الشأن: " في هذه الآونة يتعرض شعبنا العربي في عدن إلى حملة مجنونة من العسف والاضطهاد، هذه الحملة التي عرف الشعب العربي أشباهها في كثير من بقاع الوطن الكبير. لن تنجح في حمل أحرار العرب على إلقاء السلاح الحق الذي شهروه من أجل الحرية والاستقلال" وأضاف يقول: " إن اعتقال قادة الحركة العمالية في عدن ونفي بعضهم للخارج، خرق فاضح للمادة الثالثة والعشرين من حقوق الإنسان، الذي أعلنته دول الأمم المتحدة ومن بينها بريطانيا نفسها(112)." ولم تكن قيمة تلك المواقف السياسية في تضامن الحركة النقابية في المملكة الأردنية الهاشمية مع عمال البلدان العربية فقط، بل وفي لفت الانتباه كذلك إلى الحالة التي كانت الحركة تعيشها في ظل الأحكام العرفية وبعدها. فإدانة اعتقال قادة الحركة النقابية في عدن لم تكن مقصودة لذاتها بل هي كانت تتضمن في الوقت نفسه إدانة ضمنية لسياسة السلطة، التي كانت تمارس الاعتقالات ضد الحركة النقابية كذلك. على أي حال في الفترة الأولى من قيادة الأمين العام الثالث للاتحاد كان هنالك فاصل بين الحرص على استقلال الحركة النقابية وبين الخضوع التام للسلطة. ليس فقط على المستوى السياسي بل وكذلك على المستوى النقابي والنضالات المطلبية ، هذا في ظل ميل متزايد نحو المساومة مع السلطة وأجهزتها.
وعلى المستوى النقابي حدثت تطورات مهمة عززت في البداية مواقع القوى الحريصة على استقلال الحركة النقابية والحريصة كذلك على تعزيز دورها في الحركة المطلبية. فقد أعلنت السلطة عن قانون العمل الجديد رقم 21 لسنة 1960 ، الذي شكل تقدما نسبيا على قانون العمل رقم 35 لسنة 1953 ، ووجدت القوى الوطنية في القانون الجديد، رغم كل ثغراته، فرصة مناسبة لاستنهاض أوضاع الحركة النقابية ولتنشيط دورها في الدفاع عن حقوق ومصالح الجماهير العمالية. ورغم المقاومة العنيفة التي أبداها أرباب العمل ضد قانون العمل الجديد. إلا أن الحركة النقابية شعرت بشيء من الانتعاش وعاشت حالة من النهوض النسبي وتمكنت من عقد عدد من اتفاقيات العمل الجماعية مع أرباب العمل. فقد عقدت نقابة عمال ومستخدمي شركات الدخان والسجائر ومشتقاتها اتفاقية جماعية مع شركة التبغ والسجائر الأردنية الوطنية ضمنت فيها رفع الحد الأدنى للأجور ودفع الإجازة المرضية للعمال وتحديدها بحوالي أسبوعين ودفع بدل العطلة الأسبوعية وعطلات الأعياد وبدل أعطال العمل كذلك. كما عقدت نقابة المطابع اتفاقية عمل جماعية مع أصحاب المطابع تحققت من خلالها مكاسب إضافية لعمال المطابع، وأعيد العمل باتفاقية العمل الجماعية التي عقدت في العام 1961 وجمد تنفيذها حتى العام 1963 بسبب موقف أرباب العمل وعقدت نقابة المؤسسات العامة اتفاقية جماعية مع أصحاب مصانع الألمنيوم تم الاتفاق فيها على دفع نصف بدل العطلة الأسبوعية ودفع بدل الإجازة المرضية الناتجة عن إصابة العمل. دون شك شكل قانون العمل الجديد، رغم ثغراته الكبيرة، وشكلت اتفاقات العمل الجماعية دفعة جديدة للحركة النقابية، وساعدت على إعادة إحياء بعض النقابات وتأسيس نقابات جديدة، كما ساعدت في توسيع قاعدة الحركة النقابية وانضمام المزيد من العمال إلى النقابات. ولم تكتفي الحركة النقابية بما تحقق من خلال قانون العمل الجديد، بل هي تابعت نضالها وحملتها من أجل إضافة تعديلات إلى القانون الجديد تضمن الوصول إلى مكاسب عمالية جديدة، هذا في ظل إحجام واضح من السلطة وفي ظل مقاومة عنيفة من أرباب العمل للقانون الجديد. وفي سعيها من أجل إضافة تعديلات جديدة على قانون العمل الجديد تمكنت الحركة النقابية من الوصول إلى اتفاق مع السلطة لتشكيل مجلس استشاري يضم ممثلين عن الحركة النقابية والسلطة وأرباب العمل وبدأ المجلس أعماله في مطلع حزيران 1962 وتعطل بعد ذلك لثلاث سنوات كاملة بفعل معارضة مجلس النواب ومقاومة أرباب العمل لأية تعديلات.
وفي هذا المجال بدا أن الحركة النقابية قد بدأت تمسك بخط عمل أقرب إلى الاعتماد على القواعد العمالية منه إلى البحث عن صفقات خفية مع السلطة وأرباب العمل، فدعت إلى " تشكيل اللجان العمالية وإلى قيام الهيئات الإدارية للنقابات بدعوة الهيئات العامة للنقابات بصورة منتظمة لمناقشة مشاكلهم ومطالبهم ليكون الاتصال وثيقا بين القاعدة والمسؤولين، وبأن لا تقدم اقتراحات في المجلس الاستشاري إلا باسم المجموعات العمالية جميعها" (113). ويبدو أن محاولة الإمساك بذلك الخط لم تكن تعبر عن سياسة ثابتة، خاصة في ظل الصراع الخفي الذي كان يدور في أوساط الحركة النقابية والنشاط الملحوظ للعناصر النقابية اليمينية الرجعية والصفراء، فجاء تقرير الأمين العام يؤكد الخشية من أن تصبح الحركة النقابية هيكلا بدون روح. ومحتوى يفتقر لبواعث التنظيم الحي المتجدد، القادر على ملاحقة التطور المستمر في مجالات الحياة المختلفة"(114).
وفي تموز العام 1962 انتخبت لجنة تنفيذية جديدة للاتحاد، وأعيد انتخاب السيد وجيه منكو أمينا عاما للاتحاد لدورة جديدة، وكان واضحا أن الفترة الانتقالية تقترب من نهايتها وأن القيادات النقابية الصفراء قد بدأت تعزز مواقعها في الاتحاد وأن سقوط الحركة النقابية في دائرة التبعية للسلطة لم يعد بعيدا. كان ذلك واضحا من خط العمل، الذي ساد أوساط الحركة النقابية، وأسلوب قيادتها في معالجة مشكلاتها وفي معالجة علاقتها مع السلطة ونزاعات العمل مع أرباب العمل. فقد بدأ يتبلور خط الابتعاد عن أشكال النضال النقابية الجماهيرية وخط الاقتراب من الحوار مع السلطة وأرباب العمل، الذي كان يجري في الخفاء وبمعزل عن مشاركة القواعد العمالية. وبدأت القيادة النقابية تتعامل مع السلطة كوسيط بينها وبين أرباب العمل هذا في ظل معرفتها التامة بأن السلطة ذاتها تقف تماماً إلى جانب أرباب العمل. وبدل الاعتماد على الجماهير العمالية وعلى النقابات ذاتها في مواجهة أرباب العمل ومواقفهم وممارساتهم الاستفزازية من الحقوق والحريات النقابية بدأت القيادة النقابية تتوجه بمذكراتها إلى السلطة وتستعطفها التدخل لإنصاف المطالب العمالية ومنها إدخال التعديلات الجديدة على قانون العمل رقم 21 لسنة 1960. يقول التقرير الذي قدمه الأمين العام الثالث للاتحاد إلى مجلس الاتحاد في دورته المنعقدة في آب 1964 عن الفترة بين 19/7/1962 – 27/8/1964 :
" لقد طلب جلالة الملك من وزير الشؤون الاجتماعية إبلاغ اللجنة القانونية (في البرلمان ) رغبته السامية بإقرار التعديل. ولغاية هذا التاريخ لم يقر هذا التعديل من قبل اللجنة القانونية لمجلس النواب، ويقال أن هناك مقاومة عنيفة من قبل اللجنة القانونية ومن بعض أعضاء مجلس النواب المحترمين، وعليه فإننا نأمل من اللجنة القانونية بأن تبادر بإقرار التعديل الخاص"(115). وكانت قيادة الحركة النقابية قد توجهت قبل ذلك التاريخ بحوالي خمسة أشهر أي في آذار 1964 بمذكرة للجنة القانونية في مجلس النواب تقول فيها: " يتوجه الاتحاد العام لنقابات العمال في الأردن بشكره الجزيل إلى حضرة صاحب الجلالة الملك الحسين المعظم وحكومته الرشيدة لدعوة مجلس النواب الكريم للانعقاد في دورة استثنائية لدراسة بعض المشروعات والقوانين وإقرارها ومن بينها مشروع قانون العمل المعدل"، وأضافت المذكرة : " لقد شرع الأردن بقيادة مليكه المحبوب على استكمال واستحداث جميع متطلبات نهضته المباركة في جميع مجالاته الحيوية سواء منها التصنيع والتجارة والعمل في سبيل ذلك استقدم الأردن العديد من الخبراء لوضع الدراسات والتواصي وكان من بينهم الخبراء الدوليون في قانون العمل، التي بدأت الدراسات بشأنه منذ عام 1956 الأمر الذي أدى إلى إصدار القانون الحالي" .
وبعد الحديث العام حول جسور الثقة بين العمال ومستخدميهم تخلص القيادة النقابية إلى ما يلي في مذكراتها:
" وعليه فإن الإتحاد العام لنقابات العمال يرجو ويأمل أن يصار إلى دراسة هذا القانون وإقراره في دورتكم نظرا لما يعلق عليه من أهمية قصوى، وبذلك يكون مجلسكم الكريم قد تعززت به ثقة المواطن من جديد كما كان دائما. ويتأكد للشعب أن اختياره لممثليه كان في موضعه الصحيح. وفي الانتظار نكرر عظيم شكرنا وتحياتنا".(116) وانتهت الدورة الاستثنائية لمجلس النواب واستمرت قيادة الحركة النقابية تنتظر.
وبدلا من العودة إلى النقابات والقواعد والكوادر النقابية لعرض الموقف عليها ودعوتها للنضال دفاعاً عن حقوقها، وخاصة في ظروف اشتدت فيها أعمال الفصل التعسفي والأعمال الاستفزازية الأخرى لأرباب العمل، لجأت القيادة النقابية من جديد إلى السلطة السياسية، فتوجهت بمذكرة إلى وزير الشؤون الاجتماعية في نهاية تشرين الأول 1963، جاء فيها: (117)
" يرى إتحاد نقابات العمال أن يضع بين يدي معاليكم. وأنتم أقدر من يتحسس ما يعانيه العمال من متاعب بحكم مواكبتكم لهذه الحركة منذ نشأتها حتى هذه الساعة، يدفعنا إلى هذا اعتقادنا برغبتكم معرفة هذه المطالب للعمل على معالجتها .وهي في رأينا تتعلق ببضعة أسباب رئيسية من بينها دائرة العمل ذاتها وقانون العمل ومطالب بعض النقابات التي مضى عليها أكثر من عام ونصف، أما الرابع فيتعلق بالناحية الاقتصادية وبخاصة الاستيراد" .
ثم تستطرد المذكرة في الحديث عن المواضيع المشار إليها وكأن حلها يتصل بمرسوم إداري يصدر عن وزارة الشؤون الاجتماعية أو حتى عن مجلس الوزراء. ولم تخلو مذكرة القيادة النقابية من المواقف المغرقة في انتهازيتها وفي إبداء ميول المساومة التافهة مع السلطة وميول التواطؤ ضد النقابات وجماهيرها العمالية. فقد كانت العديد من المطالب العمالية المحقة لازالت معلقة منذ مدة طويلة، كمطالب عمال أمانة القدس في صرف مكافآت الخدمة وغلاء المعيشة، ومطالب عمال الخط الحديدي بتحويل العمال من يوميين إلى شهريين وزيادة رواتبهم لتتناسب مع رواتب موظفي الدولة وصرف الزيادة السنوية المقدرة في موازنة العام 1963 / 1964 ، ومطالب عمال ومستخدمي وزارة الأشغال العامة بإعداد اتفاقية عمل جماعية تشملهم وهم الذين كانوا يعانون أشد المعاناة من شروط وظروف الاستخدام، ومطالب عمال شركات التخليص والملاحة في ميناء العقبة، الذين كانوا يستخدمون بطريقة يندى لها الجبين حسبما جاء في المذكرة، ومطالب عمال المحاجر والبناء، الذين كانوا يشكلون أكبر كتلة عمالية حرمت من الانتفاع تماماً من قانون العمل، وغير ذلك من المطالب. في تلك المذكرة وتعليقا على المطالب المذكورة يظهر بوضوح مدى تغلغل الاتجاهات الانتهازية والنقابية الصفراء في قيادة الحركة النقابية، خاصة حين تؤكد المذكرة أن " استمرار العديد من المطالب النقابية معلقا لمدة تزيد عن العام ونصف العام دون أن يصار إلى حلها ولو جزئيا أصبح يخشى معه أن يفلت زمام الموقف من النقابات والاتحاد على السواء فتحدث مضاعفات نعتقد أننا لسنا في حاجة إليها". هنا لا تبرز الانتهازية اليمينية على نحو سافر فحسب، بل تبرز كذلك ميول تآمرية للتواطؤ مع السلطة، وإلا لماذا تخشى القيادة النقابية أن يفلت زمام الموقف من النقابات والإتحاد، الذي لم يتشكل في الأساس إلا من أجل قيادة نضال الجماهير العمالية في مواجهات حقيقية مع القوى التي تتنكر لحقوقها، سواء كانت تلك القوى السلطة ذاتها أم أرباب العمل، وقد كانت حق الطرفان معا.
ولم تكن المذكرة المشار إليها هي اليتيمة في سجل خط الاعتماد على وساطات وتدخلات السلطة في شؤون الحركة النقابية. بل سبقها الكثير من تلك المذكرات وتبعها كذلك الكثير، وهكذا بدء تحول جوهري يشق طريقه في تقاليد الحركة النقابية يقوم على الابتعاد عن خط النضال الجماهيري بالاعتماد على النقابات وجماهيرها العمالية. وحيث كان أرباب العمل يتطاولون على قانون العمل ويلجأون إلى سلاحهم الاستفزازي بالفصل التعسفي من العمل، كانت قيادة الاتحاد تعمل على وقف تلك الأعمال الاستفزازية باللجوء إلى السلطة، بدل دعوة النقابات كافة إلى حالة طوارئ وإنذار أرباب العمل بوقف جميع أنواع الفصل التعسفي بحق العمال. صحيح أن قانون العمل رقم 21 لسنة 1960 كان يضع قيودا واسعة على حق اللجوء إلى الإضراب، ولكن القانون لم يقيد ذلك الحق في مطلق الأحوال. بالمقابل كان قانون العمل نفسه يضع قيودا، كانت دون شك نظرية مجددة، على أعمال الفصل التعسفي الاستفزازية وغيرها من الأعمال التي كان أرباب العمل يلجأون إليها، غير أن أرباب العمل لم يكونوا ليتقيدوا بقانون العمل في العديد من مواقع العمل والمؤسسات والشركات، وكانت تحكم عددا من إدارات المؤسسات علاقات تعاضد في مواجهة قانون العمل وفي مواجهة الحركة النقابية، وكان من واجب قيادة الحركة النقابية أن تعود في كل حالة يبرز فيها هجوم أرباب العمل على الحقوق والحريات النقابية إلى النقابات وقواعدها وكوادرها لا أن تتوجه إلى السلطة. فالتوجه إلى السلطة لا يؤدي مطلقا وكان ذلك ثابتا وملموسا إلى التوازن في علاقة الحركة النقابية بأرباب العمل، بل كان يؤدي إلى مزيد من اختلال التوازن لصالح أرباب العمل بالتحديد، ولو لم يكن الأمر كذلك لما استمرت المطالب العمالية معلقة لفترات طويلة وما تمادى العديد من أرباب العمل في أعمالهم الاستفزازية آنذاك ضد الحقوق والحريات النقابية. وكان ذلك واضحاً تماماَ في تقرير الأمين العام الثالث المذكور في مجلس الاتحاد. يقول التقرير المذكور بشان أعمال الفصل التعسفي مستندا إلى ما حدث في شركة مصفاة البترول.(118)
"قامت شركة مصفاة البترول بتاريخ 21/12/1963 لحكمة لا يعلمها إلا الله والراسخون في العلم –أما حكي- بإنهاء خدمات سبعة عشر عاملا يعتبرون من خيرة شبابنا العامل وذوي الخبرات المكتسبة نتيجة مراسهم الطويل لأعمال البترول في شركات أجنية.وأحب أن أنوه في هذا المجال أن الاتحاد لم يأل جهدا بالعمل الدائب من أجل إرجاع هؤلاء الموظفين لعملهم".أما طبيعة تلك الجهود فكانت كما يضيف التقرير:"لقد قابلت المسؤولين مرات ومرات شارحين لهم الموقف"، طبعا دون نتيجة، ثم يضيف:
"لقد تضمنت مذكراتنا لجلالة الملك والتي أرسلت بتاريخ 1/2/1964 شرحا مفصلا للقضية، وطلبنا من جلالته إنصاف هؤلاء بإعادتهم إلى عملهم، وفي المقابلة التي تمت بتاريخ 7/7/1964 (أي بعد خمسة شهور من المذكرة) برفقة معالي وزير الشؤون الاجتماعية مع جلالة الملك حفظه الله شرحنا له الموقف من جميع جوانبه وقد لمست تجاوبا مخلصا وعطفاً أكيدا من جلالته لحل هذه القضية، وقد طلب من وزير الشؤون الاجتماعية الاتصال بمدير المخابرات العامة وإنهائها.والاتحاد العام لنقابات العمال في الأردن ليرجو أن تحل هذه القضية حلا يتفق مع العدل والإنسانية".
مرحلة الوقوع في دائرة التبعية
سقطت مرحلة صمود الحركة النقابية أمام السلطة وأرباب العمل بإعلان الأحكام العرفية عام 1957، لتبدأ مرحلة الدفاع التراجعي عن الحركة. وسقطت تلك هي الأخرى عام 1964 بسقوط خطوط الدفاع عن استقلال الحركة واحداً تلو الآخر لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ الحركة. وكان للهجوم الواسع الذي شنته السلطة على القوى الوطنية والحركة النقابية عام 1966 أثر حاسم في وقوع الحركة في دائرة التبعية للسلطة وفي صعود الاتجاهات النقابية الصفراء إلى المراتب المسؤولة في اتحاد النقابات. ولعل أفضل وصف لسياسة القيادة النقابية في تلك المرحلة هو ما جاء في مجلة "الأردن الجديد" التي كتبت تقول:
"أشاعت الانتهازية النقابية مفهومها الخاص للنضال المطلبي.هذا المفهوم الذي يحصر النضال المطلبي في حفنة من القادة النقابيين، الذين يقتصر دورهم على التوسط بين أرباب العمل والقطاعات العمالية المعنية للبت في مطالب الأخيرة.(119) وكان هذا في الحقيقة ما حاول محمد جوهر، الأمين العام الرابع للاتحاد تكريسه في الحركة النقابية حتى قبل أن يصبح أمينا عاما في العام 1964.
الخصائص العامة للحركة النقابية في الخمسينات ومطلع الستينات
معالجة الخصائص العامة للحركة النقابية في الخمسينات ومطلع الستينات عملية غير مجدية إذ هي لم تستند إلى فهم الخصائص العامة والاقتصادية للقوى البشرية العاملة بشكل عام وقوى الطبقة العاملة في قطاع الصناعة بشكل خاص. وفي مطلع هذا الفصل جرت محاولة سريعة للتعرف على أوضاع الصناعة في شطري المملكة الفلسطيني والأردني وباقي فروع الاقتصاد الوطني بما فيها الزراعة وقطاع الخدمات الذي كان يستوعب حجما من العمالة يفوق ما كانت تستوعبه المؤسسات الصناعية. كما جرت كذلك محاولة سريعة للتعرف على أشكال تنظيم وأشكال نضال الحركة النقابية في مراحل ثلاث تشكل التراث الفعلي للحركة. وعلى قاعدة ما تم التعرف عليه من خصائص عامة واقتصادية للقوى البشرية العاملة بشكل عام ومن أشكال نضال وأشكال تنظيم للحركة النقابية يصبح أيسر التعرف على الخصائص العامة للحركة النقابية ذاتها.دون شك خضعت تلك الخصائص في سياق تطورها لقيود واسعة ومتعددة. كانت تفرضها حكما الخصائص العامة والاقتصادية للقوى البشرية العاملة وخاصة في المجال الصناعي. فقد كان واضحاً الضعف الهيكلي في البناء الصناعي في شطري المملكة حتى العام 1967، حيث كانت المؤسسات الإنتاجية ذات الإنتاج السلعي الصغير تحكم هيمنتها على ذلك الهيكل، وحيث كانت المؤسسات والورش والمحلات الحرفية التي تستوعب أقل من خمس أشخاص تشكل حوالي 90 بالمئة من ذلك الهيكل وتستوعب حوالي 58 بالمئة من القوى العاملة في الصناعة وتشارك في 32 بالمئة من مجموع قيمة الإنتاج الصناعي، هذا على الأقل في شرق الأردن، حيث كانت تتمركز الصناعات المتوسطة والكبيرة نسبيا في منطقة عمان وجوارها. ولم يكن الضعف الهيكلي في الصناعة يقتصر على هذا الجانب فقط، بل هو كان يمتد ليشمل التكوين الرأسمالي برمته حيث لم تتجاوز نسبة قيمة المعدات والآلات في مجموع التكوين الرأسمالي حدودا تراوحت 20 بالمئة عام 1962 وحوالي 26 بالمئة عام 1967. الصناعة نمت وتطورت، ذلك أمر لا جدال فيه، ولكن نموها وتطورها كان في الغالب أفقيا ويغلب عليه طابع الإنتاج السلعي الصغير، العاجز عن سد الاحتياجات الاستهلاكية للسكان. في الوقت نفسه كان التوزيع المهني للقوى البشرية العاملة ينطوي على ضعف استيعاب قطاع الصناعة والتعدين مقابل تضخم في نسبة استيعاب الخدمات بأنواعها، وهذه كلها عوامل تؤثر دون شك ليس فقط في الخصائص العامة والاقتصادية للقوى البشرية العاملة بل وبكل تأكيد في الخصائص العامة للحركة النقابية. يضاف إلى هذا كله التأثيرات المباشرة للقيود والعراقيل، التي وضعتها قوانين العمل والسلطة وأرباب العمل في وجه تطور الحركة النقابية، وهي قيود وعراقيل كان لها دور فعلي في تحديد الخصائص التي ميزت الحركة النقابية في الخمسينات وأوائل الستينات.
في ظل استيعاب هذه العوامل، كيف تطورت الحركة النقابية في الفترة، التي نحن بصددها .لا شك أن الحركة النقابية نمت في بداية تأسيسها نمو مضطردا، وأقبل العمال بأعداد كبيرة على الانتظام في النقابات معبرين بذلك عن ميل واضح نحو التنظم للدفاع عن حقوقهم ومصالحهم. ووصل عدد أعضاء اتحاد النقابات بعد خمسة عشر شهرا من تأسيسه حوالي 15 ألف عضو حسب تقارير لجنته التنفيذية. الأمر الذي كان يحتاج إلى تفسير في ظل المعطيات التي تم التعرض إليها حول الخصائص العامة للقوى البشرية العاملة والتكوين الهيكلي للصناعة كذلك. لا شك أن وضع الحركة الوطنية الذي كان يعيش في حالة من المد الوطني قد ساعد في عملية النمو الذي شهدته الحركة النقابية، وبالمقابل كان لخط العمل الجماهيري، خط الدفاع عن حقوق ومصالح العمال والدفاع عن الحقوق والحريات النقابية ومقاومة تدخل السلطة في شؤون الحركة دور لا يستهان به في عملية النمو تلك. ومع ذلك، ورغم حالة النمو التي شهدتها الحركة النقابية قبل العام 1957، أي قبل الإعلان عن الأحكام العرفية، فإن الخصائص العامة للحركة كانت محكومة بالخصائص العامة والاقتصادية للقوى البشرية العاملة وبالتكوين المهني للطبقة العاملة ومجموعة العوامل، التي أشير إليها، وهذا ما يبرزه الجدول التالي:
تطور وتكوين الحركة النقابية حتى مطلع الستينات (120)

نوع النقابات عدد النقابات
56/1957 57/1958 58/1959 59/1960 60/1961 عدد أعضاء النقابات
56/1957 57/1958 59/1960 60/1961
نقابات العمال المهنية 16 14 14 12 10 4662 4662 5364 5517
نقابات العمال العامة 14 10 10 8 5 4597 3889 2888 2401
نقابات العمال الحرفية 7 7 7 5 3 3430 3167 3074 1886
نقابات العمال الكتابية 3 1 1 1 1 142 13 12 12
اتحاد نقابات العمال 1 1 1 1 1 - - - -
المجموع 40 32 32 26 20 12831 11731 11338 9816
ومن الجدول يتضح أن الطابع المهيمن على الحركة النقابية كان الطابع المهني، والحرفي بفعل هيمنة نفس الطابع على الهيكل العام للصناعة في شطري المملكة، وقد كان عدد النقابات، التي تمثل حقا مؤسسات إنتاجية صناعية متوسطة وكبيرة محدودة للغاية، خاصة السنوات الأولى لتأسيس الاتحاد العام للنقابات. فإذا استثنينا نقابات عمال الكهرباء، ومصانع الإسمنت ومناجم الفوسفات وعمال وكالة الغوث، وعمال السكك الحديدية، والتبغ والسجائر، فإن بقية النقابات كانت نقابات تقوم على الروابط المهنية والحرفية للمؤسسات الإنتاجية الحرفية والصغيرة، بكل ما ترتب على ذلك من تقاليد ومن مقدرة على تلمس المصالح الطبقية الحقيقية في الوحدة العمالية والتضامن العمالي، ومن مرونة في الحركة في القاعدة النقابية ملازمة لمرونة الحركة ذاتها في التكوين المهني للطبقة العاملة. في ظل هذا التكوين تلعب وتيرة التعبئة السياسية والأيدولوجية دون شك دورا في التغلب على مظاهر الضعف المشار إليها، ولكن حين يصطدم ذلك التكوين بهجوم واسع من السلطة وأرباب العمل، كما حدث بعد إعلان الأحكام العرفية عام 1957 وتتراجع وتيرة التعبئة الديمقراطية في صفوف الطبقة العاملة فإن مظاهر الضعف تبرز بأشكال أخرى وعلى نمو تراجعي في الحركة العامة لأشكال التنظيم النقابي للطبقة العاملة, وهو ما حدث فعلا بعد إعلان الأحكام العرفية,. ليس هذا فحسب، بل حين يصطدم ذلك التكوين بهجوم واسع من السلطة وأرباب العمل، تتوفر الظروف المواتية لنشاط العناصر والقوى الانتهازية اليمينية والنقابية الصفراء. التي تبدأ رحلة التنازل أمام السلطة وأرباب العمل دون أن تجابه بقوى نقابية رئيسية قادرة على كبحها وردعها. ويستغل خطر الاتجاهات النقابية الصفراء في مثل هذه الوضعية، إذا هي لم تجابه بتعبئة ديمقراطية واسعة لكافة القوى الوطنية والديمقراطية الشريفة تحت شعارات واضحة تنطلق من التقاط عناصر هجوم السلطة وأرباب العمل على الحقوق والحريات النقابية وتصوغ ردها على ذلك الهجوم بسياسة واقعية ثورية ودؤوبة يستلهم منها العمال روح النضال للدفاع عن حقوقهم ومصالحهم الحيوية المباشرة. ويبقى العمل المحوري في هذه العملية صياغة السياسة الواقعية التي تضع الجماهير العمالية أمام خيار رئيسي يتصل بالدفاع عن استقلال الحركة النقابية والحيلولة دون كل مساومة على تلك الاستقلالية ودون كل مراهنة ,بقصد أو بدون قصد، على حسب نوايا السلطة أو حسن نوايا أرباب العمل، فاستقلال الحركة النقابية إما أن يكون أو لا يكون ولا مجال للخيار بين النقيضين، لأن مثل هذا الخيار يعرض الحركة النقابية، خاصة في ظل الخصائص التي تمت الإشارة إليها في تكوين القوة البشرية العاملة وتكوين الطبقة العاملة، لا ندع المخاطر بسبب ضعف التقاليد التنظيمية وروح العمل الجماعي وتدني مستوى الروح الكفاحية والقلق المشروع على موقع العمل ومصدر الرزق والمعيشة وعوامل أخرى كذلك. هذا ما كانت تؤكده بصورة مباشرة وغير مباشرة تقارير الأمناء العاملين للاتحاد إلى مجلس الاتحاد في ختام كل دورة نقابية انتخابية. في هذا المجال، جاء تقرير الأمين العام الثالث للاتحاد المقدم إلى مجلس الاتحاد في تموز 1962، يلخص المعاني الحقيقي لهذا الموضوع، إذ يقول التقرير:" طيلة السنوات التي سبقت صدور قانون العمل، (رقم 21 لسنة 1960) ونحن نطالب المسؤولين بإيجاد التشريع الذي يحفظ للعامل حقه ويحميه من عبث رب العمل ...وحين صدر القانون ظننا أننا ملكنا كل شيء...ولم نكن ندرك أن القانون سوف يكون من أهم العوامل والأسباب في طعن التنظيم النقابي ودفعه للوراء".(121) بالتأكيد كان قانون العمل كثير الثغرات، ولكنه كان متقدما على قانون العمل رقم 35 لسنة 1953، وقد تحقق بنضال العمال وجهودهم، ولا يمكن أن يكون من أهم العوامل والأسباب في طعن التنظيم النقابي ودفعه إلى الوراء، بل إن من أهم العوامل والأسباب في تراجع الحركة النقابية يكمن في تراجع دور الحركة النقابية ذاتها وعدم اضطلاعها بدورها كما ينبغي في ظل استيعاب جيد للمعادلة السياسية التنظيمية والنقابية التعبوية التي يجب أن تحكم الخصائص العامة للقوى البشرية العاملة وللطبقة العاملة من جهة والعامل المحوري في تجاوز ما يترتب على تلك الخصائص من مظاهر ضعف ظاهرة أو كامنة من ناحية أخرى.
وعند التدقيق بأوضاع الحركة النقابية كذلك في الخمسينات وبداية الستينات يتضح أن الحركة النقابية ركزت معظم جهودها على العاصمة السياسية والاقتصادية. فقد تركزت معظم النقابات، بل أغلبيتها الساحقة في منطقة عمان وجوارها، وجرى إهمال التوسع في بناء الحركة النقابية لتغطي جميع المدن في شطري المملكة الفلسطيني والأردني.ذلك واضح من جدول النقابات المتضمن كل النقابات التي تأسست حتى العام 1957. فمن بين ثلاث وثلاثين نقابة تأسس في عمان وحدها ثلاث وعشرين نقابة، ولم يتأسس في القدس مثلا غير ثلاث نقابات محلية أو في إربد غير نقابة واحدة لم تكن أصلا عضوا في الاتحاد، أما في مدينة نابلس، وكانت مركزا للحركة النقابية في بداية العمل لتأسيس الاتحاد فلم يتأسس نقابة واحدة مركزية محلية.وهكذا ضيقت الحركة النقابية على نفسها رقعة انتشارها في مدن المملكة وحصرت جهدها في عمان وجوارها وغرقت في مواجهة مع أرباب العمل في العاصمة، بينما لم تكن معاناة العمال من أرباب العمل أقل حدة في بقية مناطق ومدن المملكة. وهكذا أصبحت الحركة النقابية في منطقة عمان وجوارها ظاهرة عامة ومنتشرة وتحولت في باقي مناطق ومدن المملكة إلى ظاهرة هامشية. حتى تأسيس الفروع للنقابات المركزية التي كان مكان تواجدها الرئيسي في عمان خفت وتيرته كثيرا بعد أن انتزعت قيادة الاتحاد حق الحركة النقابية بافتتاح الفروع بعد اللجوء إلى ديوان تفسير القوانين 1955. وعندما قررت قيادة الحركة افتتاح الفروع في كل من القدس ونابلس في مطلع الستينات اكتشفت أنها لا تملك القدرات المالية على مثل تلك الخطوة. جاء في كلمة الافتتاح للمؤتمر الثاني للاتحاد الذي انعقد في الفترة بين 13-20 آب 1965 في هذا الشأن ما يلي:(122)
"قامت محاولة لفتح فروع للاتحاد في القدس ونابلس، وبعد إجراء الدراسات عن الحاجة المادية للإنفاق عليها تقرر التريث مؤقتا إلى أن تحل مشكلة العجز الذي سينجم عن الفارق بين ما تستطيع النقابات المحلية دفعه وحاجز الفرع الحقيقية للإنفاق".
ومثل هذا الموقف الذي تقدمت به اللجنة التنفيذية حول تأسيس فروع للنقابات المركزية في مناطق ومدن المملكة يعبر عن الحالة التي انتهت إليها الحركة النقابية في بداية ولاية القيادات النقابية الصفراء، فالحركة النقابية لم تكن بالنسبة لها حركة جماهيرية تتطور بديناميكية ذاتية بمقدار ما يتاح للعمال من فرص للتعبير عن الحضور السياسي والاجتماعي والنقابي في معارك الدفاع عن الحقوق والحريات النقابية, بل كانت الحركة النقابية في مقاييسها شأنا من شؤون العمل البيروقراطي يتكامل بالمقر النقابي ومصروفاته وصلاته القوية مع السلطة وأرباب العمل من مواقع التبعية وبمعزل عن مشاركة العمال أنفسهم. ربما يتبادر في هذا السياق تساؤل حول الكيفية التي كانت القيادة العمالية تنكر فيها لحل مشكلة العجز الذي كان "سينجم بين ما تستطيع النقابات المحلية دفعه وحاجة الفرع الحقيقية للإنفاق"، بالتأكيد لم تكن القيادة العمالية تفكر باللجوء إلى العمال أنفسهم أعضاء النقابات أو الفروع النقابية، وإلا لما ترددت في قرار تأسيس تلك النقابات والفروع، بل هي كانت تفكر في المساعدات المحدودة التي كان الاتحاد يتلقاها من الدولة، تلك المساعدات التي تناقصت من ثلاثة آلاف دينار حتى العام 1965 إلى 2200 دينار عام 1966، إلى 1285 دينار في العام 1967.(123)
هنا لم تكن المشكلة بالأساس مشكلة العجز الوهمي بين ما تستطيع النقابات تحمله من نفقات وبين احتياجاتها الفعلية، بل إن المشكلة كانت في خط عمل انتهازي فرض نفسه على الحركة النقابية وحاول تحويلها من حركة جماهيرية تضم في صفوفها أعدادا تتزايد باستمرار من الطبقة العاملة إلى هياكل بيروقراطية تعتمد على نشاط عدد من الكوادر النقابية بصفقات مع السلطة وأرباب العمل من وراء ظهر الحركة النقابية والجماهير العمالية ذاتها. فمثل ذلك العجز الوهمي لم يكن موجودا في المرحلة الأولى لتأسيس الحركة النقابية، أي مرحلة الصمود في وجه السلطة وأرباب العمل ومرحلة النهوض في تاريخ الحركة الوطنية والحركة النقابية قبل فرض الأحكام العرفية 1957. فأمام كل نزاع عمل كانت قيادة الحركة تتوجه مباشرة إلى النقابات وقواعدها العمالية وتعلن عن تشكيل صندوق للطوارئ, وكانت النقابات وجماهيرها العمالية تقدم التبرعات بسخاء إلى قيادة الاتحاد وصندوق الطوارئ . وكان ذلك طبيعي وبديهي، فالعامل لا يقدم تبرعاً لهيكل نقابي يتربع على قمة هرمه التنظيمي المتدامي حفنة من القيادات النقابية البيروقراطية من ذوي الاتجاهات النقابية الصفراء، ولكن نفس العامل كان في مرحلة من مراحل تطور الحركة النقابية على استعداد للتبرع بأجر عمل يومي رغم الضائقة المعيشية من أجل إسناد قضية عادلة لعامل آخر وفي موقع آخر من العمل، كما كانت تقارير اللجنة التنفيذية الأولى للاتحاد تؤكد في أكثر من مناسبة. في أجواء الدفاع عن الحقوق والحريات النقابية وعن استقلال الحركة النقابية عن السلطة وأرباب العمل وفي أجواء النضال المطلبي تتحول الحركة النقابية إلى حركة جماهيرية تتطور بديناميكية ذاتية وتغطي احتياجاتها بجهودها الذاتية وتتوسع صفوفها على الدوام بمتوالية هندسية رياضية، وعندما تقف الحركة النقابية عاجزة عن افتتاح فروع جديدة بحجة العجز عن تغطية نفقات ليست أكثر ولا أقل من نفقات على المقر وتوابعه البيروقراطية, فإن ذلك مؤشر حقيقي على الوضعية التي أصبحت عليها الحركة برمتها ومؤشر حقيقي على انعدام جماهيرية سياسة قيادة الحركة ذاتها.
أما التشكيل التنظيمي للحركة النقابية فلم يكن متطورا, بل كان ينتشر في المدن دون أن يحكم انتشاره وحده على المستوى القطري باستثناء الاتحاد العام للنقابات. صحيح أن عددا من النقابات تمكنت حتى العام 1967 من بناء هيكل نقابي متواضع ينتشر جغرافيا أفقياً على نطاق محدود ويتوحد على المستوى القطري في النقابة الأم. غير أن هذه كانت ظاهرة محدودة وترتبط بالأساس بنشاط الهيئة الإدارية للنقابة المركزية أو النقابة الأم. أما الحركة النقابية ككل، فلم تكن تملك خط عمل يقوم على توسيع الانتشار الأفقي لنقابات المهنة الواحدة أو الصناعات المتشابهة، على توحيدها العمودي على المستوى القطري في اتحاد لنقابات المهنة الواحدة أو الصناعات المتشابهة، وكانت تلك مظهر من مظاهر الضعف البارزة في تكوين الحركة النقابية، أضعفت ليس فقط التشكيل التنظيمي للحركة بل وكذلك أشكال نضالها وأضعفتها بالتالي أمام أرباب العمل. الجدول التالي يعطي فكرة عن وضع الحركة النقابية في هذا المجال، كما كانت في أيلول 1967.

التشكيل التنظيمي للحركة النقابية عام 1967.(124)
الرقم النقابات في الاتحاد المركز الفروع
1 نقابة عمال ومستخدمي الأشغال العامة عمان إربد/نابلس/الخليل
2 نقابة عمال الحدادة والميكانيك العامة عمان -
3 نقابة عمال ومستخدمي الصناعات الجلدية والمطاطية ومشتقاتها عمان الزرقاء
4 نقابة عمال البلاط والموازييك عمان -
5 نقابة عمال النجارة عمان -
6 نقابة عمال الخياطة عمان القدس/نابلس/اربد
7 نقابة عمال الفنادق والمطاعم والمقاهي عمان نابلس
8 نقابة عمال المطابع عمان القدس /نابلس
9 نقابة عمال وموظفي شركات التخليص ونقل البضائع /العقبة عمان -
10 نقابة عمال ومستخدمي شركات الدخان عمان
11 نقابة عمال وموظفي شركة الكهرباء عمان اربد
12 نقابة عمال المناجم والمحاجر والبناء عمان -
13 نقابة عمال ومستخدمي الخط الحديدي المفرق -
14 نقابة مستخدمي الصيدليات والمستودعات الطبية نابلس -
15 نقابة مستخدمي المصارف عمان القدس/نابلس
16 نقابة عمال المخابز عمان القدس/نابلس/الزرقاء
17 نقابة عمال البلديات والمؤسسات العامة عمان إربد/نابلس/رام الله/الخليل/الزرقاء/أريحا/بيت لحم/السلط/جنين/طولكرم
18 نقابة عمال البناء العامة نابلس -
19 نقابة عمال أمانة القدس القدس -
20 نقابة عمال الخياطة الزرقاء -
21 نقابة عمال سائقي السيارات وعمال الكراجات والنقل نابلس -
22 نقابة عمال البناء والأعمال العمرانية القدس -
23 نقابة عمال الفنادق والمطاعم والمقاهي القدس -
24 نقابة عمال الأحذية لمحافظة القدس القدس -
25 نقابة مستخدمي تجارة الأقمشة والنوفونيه عمان -
26 نقابة موظفي شركات السياحة والطيران القدس -
27 نقابة عمال الدهان والطراشة القدس -
28 نقابة عمال ومستخدمي أمانة العاصمة عمان -
29 نقابة عمال ومستخدمي شركة مصفاة البترول الزرقاء -
وإلى جانب تلك المنظمات والتي كانت منضوية تحت عضوية الاتحاد، كان هناك عدد آخر من النقابات المنفردة، التي لم تكن عضوا في الاتحاد، من أهم تلك النقابات:(125)
1- نقابة سائقي وعمال السيارات بالأردن ومركزها عمان ولها فرعان الأول في إربد والثاني في القدس.
2-نقابة عمال ومستخدمي البترول بالأردن ومركزها في عمان.
3- نقابة عمال شركة كهرباء القدس ومركزها في القدس.
4- نقابة موظفي مستشفى اوغستا فيكتوريا ومركزها في القدس.
5-نقابة عمال الغزل والنسيج ومركزها الخليل.
6- النقابة العامة لسائقي سيارات الشحن ومركزها عمان.
7-نقابة عمال مشاغل الحداده والميكانيك ومركزها الخليل.
8-نقابة أدلاء السياحة ومركزها القدس.
9- والاتحاد العام لعمال وموظفي النقل في المملكة الأردنية الهاشمية، ومركزها عمان.
إن نظرة سريعة على تشكيل وأوضاع الحركة النقابية تعطي صورة حية حول المستوى التنظيمي المتدني للحركة النقابية بعد ثلاثة عشر عاما من تأسيس الاتحاد. فعدد من النقابات لها فروع في بعض المدن، ولكن تلك الفروع لم تكن تغطي جميع المدن، وإذا استثنينا نقابة عمال البلديات والمؤسسات العامة، التي تمكنت من تأسيس فروع في أغلب المدن وليس كلها فإن تأسيس الفروع لعدد آخر من النقابات كان يسير بطريقة عفوية وغير مسيطر عليها إطلاقا. وحتى النقابات التي تمكنت من تأسيس فروع فإن هيكلها التنظيمي لم يأخذ شكلا متطوراً يقوم على أساس هرمي يمتد في إطار مركزي يوحد الشكل التنظيمي للنقابات ويوحد بالتالي أشكال نضالها، كانت تلك النقابات تتجاور مع النقابة المركز ولا تخضع لسلطة نقابية موحدة، ولذا كانت العلاقات فيما بينها علاقات دون مستوى التنسيق، أي علاقات هشة وشكلية تنسجم مع العقلية البيروقراطية للقيادة النقابية ذاتها، وبشكل إجمالي فقد كان التشكيل التنظيمي عبارة عن موازييك متناثر، حتى للنقابات المهنية أو نقابات الصناعات المتشابهة. قطاع الخياطة كان منتشرا في جميع مدن المملكة بشطريها الأردني والفلسطيني وكان من السهل بناء نقابة مركزية في العاصمة أو غيرها والشروع في تشكيل فروع لها في كافة المدن كخطوة حاسمة على طريق تشكيل اتحاد قطري لعمال النسيج والخياطة في المملكة، وهذا لم يكن ينطبق على هذه المهنة، أو الصناعة الواحدة، بل كان ينطبق بالتأكيد على جميع المهن والصناعات الواحدة أو المتشابهة على المستوى القطري. ولم تلجأ القيادة النقابية إلى مثل تلك الخطوات، التي كان من شأنها أن ترتقي ليس فقط بالشكل التنظيمي للاتحاد بل وبأشكال نضال الحركة النقابية بكافة فروعها، خاصة وأن أشكال النضال تتلازم وتتطور بنفس مقدار تطور الأشكال التنظيمية. وأحجمت القيادة العمالية عن الإقدام على تلك الخطوة الحاسمة لا بفعل تعقيدات وقيود كان قانون العمل يضعها أمام الحركة النقابية، بل لأن السلطة لم تكن تشجع اتجاها كهذا، ولأن خطوة حاسمة في هذا الاتجاه كان سيثير أرباب العمل، وهو ما كانت تخشاه القيادة النقابية الإصلاحية والقيادات النقابية الصفراء بالتحديد. في ظل مرحلة الدفاع التراجعي والدفاع عن المواقع بعد الأحكام العرفية وحتى مطلع الستينات كانت القيادة الإصلاحية منشغلة بالسيطرة على الأوضاع للحيلولة دون انهيار خطوط دفاعاتها أمام الهجوم الواسع للسلطة وأرباب العمل، ومنذ مطلع الستينات وحتى العام 1967 كانت القيادة النقابية قد سقطت في دائرة التبعية للسلطة ولم يكن الشكل التنظيمي الملائم للنضال النقابي والمطلبي للحركة النقابية على جدول أعمالها، أي أنها لم تطرح على جدول أعمالها مهمة تنظيم الطبقة العاملة في أشكال تنظيمية نقابية ملائمة تساعدها على خوض النضال الحقيقي ضد سياسة السلطة وأرباب العمل، ضد الفصل التعسفي، وتدني مستوى الأجور وارتفاع وتيرة الاستغلال ومن أجل الدفاع عن الحقوق والحريات النقابية وعن الاستغلال التام للحركة النقابية. ولهذا استمرت سياستها متباطئة ومتثاقلة على المستوى التنظيمي ومنسجمة تماماً مع أيديولوجيتها اليمينية وميولها العفوية واستعدادها الواسع لمساومة السلطة وأرباب العمل ليس فقط على أشكال نضال الطبقة العاملة بل وأساسا على أشكال تنظيم الحركة النقابية ذاتها حتى تنسجم المعادلة بين أيديولوجيتها وميولها العفوية والنخبوية مع استعداداتها الواسعة للمساومة في ظل التبعية التامة للسلطة والتفريط باستقلالية الحركة.
يضاف إلى هذا كله نشوء نتوءات نقابية على هامش الاتحاد والحركة النقابية، عبرت عن نفسها بتأسيس النقابات المنفردة، التي كان يرعى بعضها ويدعمها الاتحاد الدولي للنقابات الحرة الموالي لسياسة البلدان الرأسمالية. كما كان حال نقابة سائقي وعمال السيارات بالأردن ونقابة عمال ومستخدمي البترول، اللتان لم تكونا تابعين للاتحاد ونقابة الخط الحديدي الحجازي كذلك. وكان نشوء تلك الإدارات النقابية على جسم الحركة النقابية ذا دلالات كبيرة. وخاصة وأن الاتحاد لم يقم بدوره في كشف نوايا الاتحاد الدولي للنقابات الحرة لاختراق الحركة النقابية بنقابات طفيلية لاقت مصيرها الحتمي بعد العام 1967 بفعل المقاطعة العمالية الواسعة لها، خاصة بعد أن تكشف دور الاتحاد الدولي للنقابات الحرة في دعم الاتحاد العام للنقابات في إسرائيل-الهستدروت- وفي دعم السياسة العدوانية، التي سارت عليها دولة إسرائيل منذ تأسيسها. بالتأكيد لم تكن تلك النتوءات النقابية الطفيلية تظهر على هامش الحركة النقابية لولا مظاهر الضعف البارزة في أشكال تنظيم الحركة وفي أشكال نضالها كذلك.
ومن التدقيق بالجدول السابق، الذي يعطي فكرة واضحة عن التشكيل التنظيمي للحركة النقابية يتضح مدى انحسار الحركة النقابية في إطار حدود جغرافية جهوية ضيقة. فالنقابات تأسست أساسا في منطقة عمان وبدرجة أقل في مدينتي نابلس والقدس. الملفت للانتباه هنا أن أياً من مدن الجنوب في الشطر الأردني من المملكة لم تعطها القيادة النقابية أي اهتمام، باستثناء نقابة السكك الحديدية في المفرق، إذ لم تتأسس حتى نقابة لعمال البلديات والمؤسسات العامة في أي من الكرك أو معان أو الطفيلة أو العقبة. دون شك كان لسياسة السلطة دور في ذلك، وهكذا الحال بالنسبة للبرجوازية في المملكة التي أحجمت عن الاستثمار في المناطق الجنوبية من الشطر الأردني للمملكة، غير أن عدد جيدا من المهن والحرف كان ينمو في مناطق الجنوب تلك بتغلغل علاقات الإنتاج الرأسمالي في البلاد وكان تأسيس بعض النقابات عملية ممكنة وضرورية لا لتوسيع رقعة الانتشار الجهوي للحركة النقابية فحسب، بل ولتعزيز حضورها السياسي الوطني والاجتماعي والنقابي والمطلبي على المستوي القطري. وما ينطبق على نمو صارخ على مناطق الجنوب في الشطر الأردني للمملكة ينطبق ولو بدرجة أقل على لواء البلقاء وبدرجة أعلى على منطقة الشمال، التي كانت دون شك أكثر تطورا في درجة نمو مؤسساتها الصناعة الإنتاجية من مناطق الجنوب، كما ينطبق كذلك على مناطق الشطر الفلسطيني من المملكة، التي كان الشكل التنظيمي للحركة النقابية فيها يعبر عن درجة عالية من التبعثر ودرجة أعلى من سوء التخطيط والارتجال في العملية التنظيمية النقابية.
أضف إلى ذلك أن تأسيس الحركة النقابية كان يمكن أن يبنى على أساس قطري في كل من شطري المملكة الفلسطيني والأردني دون أن يترتب على ذلك أي مساس بالوحدة الجوهرية للطبقة العاملة الفلسطينية-الأردنية في المملكة، وخاصة وأن الإطار السياسي الدستوري للعلاقة بين الشطرين كان يسهم بفعالية كبيرة في وحدة أهداف نضال الطبقة العاملة في المملكة ضد سياسة السلطة، التي قامت على التمييز وعلى نفي الهوية الوطنية للشعب والطبقة العاملة الفلسطينية في الضفة الغربية. فالطبقة العاملة في شطري المملكة كانت موحدة في أهداف نضالها من أجل فك ارتباط البلاد بالدول الامبريالية وفك تبعيتها الواسعة لها واعتمادها على مساعداتها المالية المشروطة والتي كانت تضع قيودا حقيقية على السيادة الوطنية والاستقلال الوطني. وكانت موحدة في أهداف نضالها من أجل سيادة الحريات الديمقراطية والعامة وضد قوانين الدفاع والأحكام العرفية وغيرها من القوانين التي تشكل تنكرا للحريات الخاصة والعامة للمواطنين وتنكرا للحريات والحقوق النقابية ذاتها، وكانت موحدة كذلك في أهداف نضالها للحد من البطالة ووقف الهجرة الاقتصادية للقوى العاملة الفنية وخاصة من الشطر الفلسطيني نحو الخارج، لما في ذلك من خسارة جسيمة لاقتصاد الوطني وفق تأثيرات سلبية واسعة على صمود جماهير الفلاحين والعمال وسّائر الكادحين في ما تبقى من الوطن الفلسطيني، وكانت موحدة في النضال ضد تدخلات السلطة في شؤون الحركة النقابية كما لمسنا بوضوح في رحلة تأسيسها الأولى وضد شتى الأعمال التعسفية لأرباب العمل. بدءاً من أعمال الفصل التعسفي مروراً من وتيرة الاستغلال العالية وتدني مستوى الأجور في ظل ارتفاع تكاليف المعيشة وانتهاء محاربة العامل في حقه المشروع في التنظيم النقابي. تلك كانت عوامل وحدة راسخة تجمع الكادحين من أبناء الشعبين في شطري المملكة وتوحدهم في النضال على كل مستوى وصعيد. وكان من شأن بناء أطر الحركة النقابية على أساس قطري في شطري المملكة أن يوسع ويعمق خط المواجهة مع سياسة التمييز الاقتصادي التي كانت تمارسها السلطة ومع سياسة نفي الهوية الوطنية للطبقة العاملة في أحد شطري المملكة، التي لم يكن لكادحي الشعب الأردني فيها مصلحة أو قرار. وليس المقصود هنا وفي هذا السياق توسيع وتعميق خط المواجهة مع سياسة التمييز الاقتصادي للسلطة والقوى البرجوازية على اختلاف على اختلاف فئاتها بالنسبة للضفة الغربية, أي الشطر الفلسطيني من المملكة، وحدها، بل وكذلك بالنسبة لباقي ألوية الشطر الأردني خارج نطاق العاصمة السياسية الاقتصادية وجوارها، إذ هي تعرضت أيضا لنفس السياسة، وإن كانت نتائجها السياسية أقل كلفة بكثير من النتائج السياسية التي ترتبت على سياسة التمييز الاقتصادي التي مارستها السلطة وتهافتت عليها القوى البرجوازية بما فيها الفلسطينية سعيا وراء مصالحها الطبقية الأنانية العنيفة مراعية أكبر قدر من الأرباح على حساب صمود الشعب وثباته في ما تبقى من أرضه ووطنه.
هذه بعض الخصائص العامة للحركة النقابية في المملكة على امتداد الخمسينات ومطلع الستينات. وتبقى إلى جانب هذه الخصائص، خصائص أخرى تتصل بالأنظمة الداخلية للاتحاد والنقابات التي كانت تنضوي تحت لوائه وما كان يترتب عليها من أشكال علاقات كانت دون شك عاجزة عن تحقيق الحد المقبول من التضامن العمالي في الحركة النقابية، وخصائص أخرى تتصل بمحدودية القاعدة النقابية بسبب طبيعة التشكيل الأفقي والنمو والتطور غير المسيطر عليه للحركة النقابية، وبسبب طبيعة النهج البيروقراطي والنخبوي الذي فرضته خاصة القيادات النقابية الصفراء على الحركة النقابية مع مطلع الستينات وبسبب سياسة السلطة وأرباب العمل كذلك. فتدخلات السلطة في الشؤون الداخلية للحركة النقابية من ناحية وغموض وجزئية ومطاطية قوانين العمل من ناحية ثانية وفرض الأحكام العرفية وملاحقة القيادات النقابية من ناحية ثالثة كانت تحد من نسبة إقبال الجماهير العمالية أيضا على الحركة النقابية. وكذلك كانت الأعمال التعسفية لأرباب العمل تحد من إقبال العمال على الحركة النقابية. خاصة إذا كانت العضوية النقابية عضوية فعاله وايجابية, أي نشطة في مهامها التنظيمية لتوسيع صفوف النقابة النشطة في مهامها النضالية على الصعيد المطلبي. وقد استمرت حالة الضعف تلك تسيطر على الحركة النقابية. وتراجعت تلك الحالة على أي حال بعد أن تربعت الاتجاهات النقابية الصفراء على قمة الهرم التنظيمي للإتحاد، فازداد عدد الأعضاء المنتسبين للاتحاد، دون أن يثير ذلك ردود فعل ملموسة من السلطة أو أرباب العمل، لأن الزيادة كانت عددية وحسب وتفتقر الفعالية النضالية. وقد استمرت تلك الخصائص تسيطر على الحركة النقابية حتى العام 1967، حيث شقت طريقها مسيرة جديدة للحركة النقابية في كل من الأردن والضفة الغربية بفعل الاحتلال الإسرائيلي لبقية أجزاء فلسطين.




مراجع: الفصل الثاني:
1) هاني حوراني، التركيب الاقتصادي الاجتماعي لشرق الاردن، مقدمات التطور المشوه 1921/1950،م.ت.ف مركز الابحاث 1978،ص 147
2) راجع بهذا الشأن،سّعيد حمادة،النظام الاقتصادي في فلسطين،مصدر سبق ذكره ص 378-381
3) الاردن الجديد مجلة سياسية نظرية مفصلية، عن اسرة تحرير "طريق الشعب" الاردنية الناطقة بلسان منظمة الجبهة الديمقراطية في الاردن.السنة الاولى، العدد الاول تموز 1984، ص20
4) هاني حوراني، نفس المصدر ص 161-1962 نقلا عن A.Konikolf, Fransjordan, An Economy Snrvey,Jerusalem 1946 p.63
5)Report to General Assembly by the UNSCOP,1947.p.16.
6) Jerusalem,1946 p.v11,1945, 1944Statistical Abstract of Palestine,
7) المملكة الاردنية الهاشمية، دائرة الاحصاءات العامة، التعداد العام للسكان والمساكن 18 تشرين الثاني 1961.المجلد الاول، الخصائص العامة للسكان، ت
8) محمد علي خلوصي، التنمية الاقتصادية في قطاع غزة 1948-1966، اذار 1967، ص 51
9) The International Bank of Reconstruction and Development
IBRD )) the Economic Develpartment of Jordan
10) تناقصت تقديرات -الاونروا- لعدد من اللاجئين من عام لاخر .فقد قدرت عدد اللاجئين عام 1949 بحوالي 982700 شخص وعام 1951 بحوالي 829654 شخص وعام 1953 حوالي 772166 وهو الاقرب الى الدقة اذا ما اعتمد عدد اللاجئين عام 1948 بحوالي 640 الف شخص كعدد تقريبي.
11) جميل هلال، الضفة الغربية، التركيب الاجتماعي الاقتصادي 1948-1974،بيروت،م.ت.ف، مركز الابحاث 1974، ص 19
12)IBRD-The Economic Deveopment of Jordan 1961,p.41
13) منيب ماضي وسيلمان موسى، تاريخ الاردن في القرن العشرين، عمان 1959،ص448 /449
14) راجع: R.S.Porter,Ecomomic Survey of Jordan, British middle East Office,1953,p.16
15) للاطلاع على مساحة الاراضي المزروعة وإنتاجيتها في الضفة والقطاع.راجع عنان العامري، مصدر سبق ذكره، ص 44-48 (مجموعة من الجداول والارقام).
16) عنان العامري، مصدر سبق ذكره، ص 71
R.S.Porte ,Ibid , P.19 (17)
18) محمد علي خلوصي، المصدر السابق، ص60،56
19) د.برهان الدجاني، محاضرات عن التنمية الاقتصادية للاردن، جامعة الدول العربية، معهد الدراسات العربية العالية، 1957،ص 28
20)جميل هلال، المصدر السابق، ص 26
21) النشرة الاحصائية السنوية لعام 1953،الصادرة عن مديرية المطبوعات والنشر، عمان، ص 32
22) جميل هلال، المصدر السابق، ص 37
23) H.L.Harris,Jordan,Its People, Its Society, Its Culture, Krafl Press,New Haven,1958,P.226 (من الجدول )
24) N.L.Harris,Ibid,P.226
25) N.L.Harris,Ibid,P.129
26) جميل هلال، المصدر السابق، ص 28
27) عنان العامري، المصدر السابق , ص 44
28) د.برهان الدجاني، المصدر السابق ص 28، والنشرة الاحصائية لعام 1953، ص 32 راجع كذلك: Nusman Burus,Bullatin of Econemic Development Nr.14 Special Report of Jordan,United Nations Relief and work Agency for Palestine,UNRWA,1956,P.81
29) د.برهان الدجاني، المصدر السابق، ص 32
30) عنان العامري، المصدر السابق، ص 44
31) Yusif Sayigh, The Econemic of the Middle East Development Since 1945, London, 1978,P.193 (من الجدول ) راجع كذلك :د.برهان الدجاني، نفس المصدر، ص 30 من الجدول.
32) Yusif Sayigh, Ibid, P.193
33) د.برهان الدجاني، المصدر السابق، ص 30
34) د.برهان الدجاني، المصدر السابق، ص 100
35) د.برهان الدجاني، المصدر السابق، ص 38
36) د.برهان الدجاني، المصدر السابق، للسنوات 1955،1954،1953، ص 34
37) Sir Reader Bullard, The Middle East,Apotitical and Economic Survey.London, 1958,P343
38) هاني الحوراني، التطور الاقتصادي والصناعي في الاردن واثره على تشكل الطبقة العاملة 1950-1957، شؤون فلسطينية العدد 87/88، شباط / اذار 1979، ص 117
39) Sir Reader Bullard, The Middle East, P.345 (من الجدول)
40) هذا التصنيف للصناعة بين ثقيلة ومتوسطة وخفيفة كان يرد في النشرات الرسمية الحكومية، وكانت الصناعات تصنف كصناعات ثقيلة اذا زاد حجم عمالة المصنع عن خمسين عامل، وكصناعة متوسطة اذا قل عن خمسين عامل، اما الصناعة الخفيفة فكانت المحلات والورش التي كانت تستوعب خمسة عمال واقل.
41) Yusif Sayigh, Ibid, P.19
42)201 Yusif Sayigh, Ibid, P.
43) النشرة الاحصائية السنوية لعام 1950، العدد الاول، عمان، 1951، ص 158
44) النشرة الاحصائية السنوية لعام 1950، ص 159
45) G.L.Harris,Ibid,P.326 (الجدول)
46) النشرة الاحصائية السنوية لعام 1952، صادر عن دائرة الاحصاءات العامة الاردنية، ص 413
47) IBRD,The Economic Development of Jordan,1957,P.207-209
48) جميل هلال، المصدر السابق، ص 175 (جدول مقارن للصناعات في كل من الضفة الغربية وشرق الاردن)
49) دائرة الاحصاءات العامة، عمان، اذار 1972، دراسة لأوضاع القوى العاملة 1970، المقدمة
50) المملكة الاردنية الهاشمية، الكتاب السنوي 1964، معلومات رسمية عن المملكة الاردنية الهاشمية، المديرية العامة للمطبوعات والنشر، عمان 1964، ص 68
51) مجلس الاعمار الاردني، دراسة القوى البشرية للمؤسسات الصناعية في حزيران 1967، عمان 1965، من الجدولين 8،7 .
52) مجلة التنمية، كانت تصدر عن وزارة الثقافة والاعلام الاردنية، العدد 5، تموز 1973،ص 21
53) Yusif Sayigh,Ibid,P.195
54) د.هاشم الدباس، مسيرة الصناعة الاردنية منذ الخمسينات حتى اليوم، مجلة التنمية الاردنية العدد 11،كانون الثاني 1974،ص 6 (الجدول)
55) علي الدجاني، الصناعات الاردنية الصغيرة، هي العصا في دولاب التقدم الصناعي، مجلس التنمية العدد 9، تشرين الثاني 1973، ص 32-35 (المعلومات نسقت في جدول لتسهيل الاستخدام)
56) واصف عازر، الانتاج القومي الاردني وتطوير الحسابات القومية، العدد التالي، اذار- نيسان 1973، ص 16 جدول رقم 1
57) د.تيسير عبد الجابر، الادخار ادارة التنمية، مجلة التنمية الاردنية، العدد الثاني 1973، ص 24، (جدول يشتمل على عرض للتكوين الراسمالي الثابت للسنوات من 1959-1969).
57) للاطلاع على التكوين الرأسمالي الثابت لرأس المال الخاص والحكومي وعلى اساس تفصيلي راجع: Br.Hilde Wander,Bevelkrungd problems in Wirtsohttlichen Aufban Kleiner lander-Das Brispiel Jordan,Tubingen,1969,p.93 (بالالمانية)
58)Ch. A.Cooper, and S.A Sidney, Econemic Development and Population Growth in the middle East, New York, 1972,p.236
(جدول بتوزيع العمالة على القطاعات).
59) جميل هلال، المصدر السابق، ص 156
60) عمر النابلسي، الموقف السكاني في الاردن وانعكاساته على اهداف التنمية، مجلة التنمية الاردنية السنة الثانية، العدد 22، كانون الاول 1974 ، ص 6-7.
61)Cooper and Sidney: Ibid, p.236
62) منيب ماضي وسليمان موسى، تاريخ الاردن في القرن العشرين، عمان 1959، ص 448
63) على اية حال، كان جهاز الاحصاء والاجهزة المتخصصة في الاردن متخلفة وغير مكتملة النمو، ليس في الاحصاء السكاني وحسب بل وايضا في حسابات الدخل القومي، حيث كانت الحكومة تستعين بجهات اجنبية ففي العام 1955 استعانت بمعهد البحوث الاقتصادية في الجامعة الاميركية في بيروت لقياس الدخل القومي. ثم استعانت بعد ذلك بالسيد روبرت بورتر احد كبار موظفي وزارة التنمية البريطانية لما وراء البحار لاحتساب الدخل القومي واتجاهات الاقتصاد الاردني 1954-1959، حيث وضع تقريرا بذلك، ثم استعانت ببعثة البنك الدولي للانشاء والتعمير 1955 لنفس الغرض واعدت البعثة افضل التقارير حول وضع الاقتصاد الاردني باللغة الانجليزية تحت عنوان "التطور الاقتصادي الاردني" وفقط بعد العام 1959 بدأت الاردن يعتمد على مؤسساته الخاصة للقيام بالاحصاءات المدقق بها.
65) اوردت وكالة الغوث، المركز الرئيسي، بيروت، الرقم 200 الف كعدد للنازحين حتى 15 ايلول 1967.UNRWA. Puble Information Office, 1967 p.1
66)جميل هلال، المصدر السابق ص 152-158 (الجدول مستخرج من المعلومات الواردة في تلك الصفحات والمسنده بمراجع رسمية اردنية).
67) د.وديع شرايحه، المرجع السابق، ص 178 (من الجدول).
68) علي الدجاني، الصناعات الاردنية الصغيرة، المرجع السابق، ص 34
69)التعداد العام للسكان 1961، المجلد الاول، البيان 1/10، ص 29
70) التعداد العام للسكان 1961، المجلد الاول، البيان 5/1، ص 31
71) د.برهان الدجاني، المصدر السابق، ص 28
72) د.برهان الدجاني، المصدر السابق، ص 28
73) Coopar A.Sidney, Ibid, P.236
74) واصف عازار، الانتاج القومي الاردني، مصدر سبق ذكره، ص 17
75) على الدجاني، الصناعات الاردنية الصغيرة، مصدر سبق ذكره، ص 32-35
76) هشام الدباس، مسيرة الصناعة الاردنية، مصدر سبق ذكره، ص 6
78) جميل هلال، المصدر السابق، ص 156
79) مجلة التنمية الاردنية، العدد السادس، 1973،ص 57
80) Cooper and Sidney, Ibid,P.236
81) محمد سليمان القيمري، الحركة العمالية النقابية في الاردن، 1950-1970 ، عمان 1982، ص 15
82) المراسلات موجود بكتاب محمد سليمان القيمري، المصدر السابق، ص 10-13
83) المحامي ابراهيم بكر، دراسة عن حقوق الانسان، في مجلة "الابحاث" الصادرة عن نقابة المحامين الاردنيين، الملحق رقم 11، اب 1981، ص 23
84) سليم جدعون، الاتحاد العام لنقابات العمال، مجلة التنمية، العدد الثالث، ايار 1973،ص 14
85) تقرير الامين العام لاتحاد نقابات العمال في الاردن المقدم الى مجلس الاتحاد في دورته بتاريخ 30 ايلول 1955، محمد سليمان القيمري، المصدر السابق، ص 35
86) بالاعتماد على المصادر التالية:
*هاني الحوراني، سمات الحركة العمالية الاردنية وتركيبها الداخلي، شؤون فلسطينية العدد 97، لسنة 1979، ص 105
*محمد جوهر ، الحركة العمالية في الاردن، مطابع مؤسسة الاهرام (بدون تاريخ) ص 256-258
*محمد سليمان القيمري، المصدر السابق، ص 82-84
87) تقرير الامين العام للاتحاد المقدم الى مجلس الاتحاد في دورته المنعقدة في 30 ايلول 1955، المصدر السابق، ص 42
88)المصدر السابق، ص 42
89)ابراهيم بكر، مصدر سبق الاشارة اليه، ص 51
90) تقرير الامين العام الاول للاتحاد، في كتاب القيمري، المصدر السابق ص 35
91) تقرير الامين العام الاول للاتحاد، المصدر السابق، ص 3-39
92) محمد سليمان القيمري، المصدر السابق، النص الكامل للتعميم الاداري ، ص 24-26
93) تقرير الامين العام الاول للاتحاد، المصدر السابق، ص 44
94) تقرير الامين العام الاول للاتحاد، المصدر السابق، ص 44
95) تقرير الامين العام الاول للاتحاد، المصدر السابق، ص 45
96) تقرير الامين العام الاول للاتحاد، المصدر السابق، ص 47
97) تقرير الامين العام الاول للاتحاد، المصدر السابق، ص 70-71(موجز عن اعمال مؤتمر العمال العرب الاول الذي عقد في دمشق بتاريخ 22،23،24/3/1956)
98) تقرير الامين العام الاول للاتحاد، المصدر السابق، ص 71
99) تقرير الامين العام الاول للاتحاد، المصدر السابق، ص 72
100) تقرير الامين العام الاول للاتحاد، المصدر السابق، ص 72
101) محمد سليمان القيمري، المصدر السابق ، ص 46، 52
102)ابراهيم بكر، المصدر السابق، ص 32-35
103) تقرير الامين العام الثاني للاتحاد المقدم الى مجلس الاتحاد بتاريخ 14 نيسان 1960 عن الفترة بين 28-3/1958-28-3/1960. التقرير منشور كذلك في كتاب : محمد سليمان القيمري، مصدر سبق الاشارة اليه، ص 91
104) تقرير الامين العام الثاني للاتحاد، المصدر السابق، ص 95
105) تقرير الامين العام الثاني للاتحاد، المصدر السابق، ص 97
106) محمد جوهر (الامين العام الرابع للاتحاد)، المصدر السابق، ص 31
107) محمد جوهر (الامين العام الرابع للاتحاد)، المصدر السابق، ص 31
108) الاردن الجديد، مصدر سبق الاشارة اليه، ص 23
109) محمد سليمان القيمري، المصدر السابق، ص 98
110) تقرير الامين العام الثالث للاتحاد في دورة مجلس الاتحاد عن الفترة بين تموز 1960 -تموز 1962 منشور في كتاب: محمد سليمان القيمري، المصادر السابق، ص 108
111) تقرير الامين العام الثالث للاتحاد، نفس المصدر، ص 109
112) تقرير الامين العام الثالث للاتحاد، نفس المصدر، ص 113
113) تقرير الامين العام الثالث للاتحاد، نفس المصدر، ص 117
114) تقرير الامين العام الثالث للاتحاد، نفس المصدر، ص 118
115) تقرير الامين العام الثالث للاتحاد في دورة مجلس الاتحاد عن الفترة بين 19/7/1962-27/8/1964 منشور في كتاب محمد سليمان القيمري، المصدر السابق، ص 124-125
116) تقرير الامين العام الثالث للاتحاد في دورة اب 1964،ص 123-124، حيث النص الكامل للمذكره الموجهة الى مجلس النواب في اذار 1964
117) تقرير الامين العام الثالث للاتحاد في دورة اب 1964، المصدر السابق، ص 128-132 حيث النص الكامل للمذكرة الموجهة الى وزير الشؤون الاجتماعية بتاريخ 27/10/1964
*نفس المذكرة منشورة في كتاب محمد جوهر، الامين العام الرابع للاتحاد 1964-1971 - الحركة العمالية في الاردن، حيث يوحي جوهر ان المذكرة كانت من صياغته، ومعروف ان جوهر كان يعمل انذاك كمتفرغ في الاتحاد، ثم اصبح امين سر نقابة المؤسسات العامة ثم الامين العام للاتحاد عام 1964.
118) تقرير الامين العام الثالث للاتحاد، في دورة اب 1964، المصدر السابق، ص 141-942،وقد حلت قضية عمال المصفاة بعد 14 شهرا من فصلهم واثناء رئاسة محمد جوهر للاتحاد.
119)مجلة "الاردن الجديد" ، مصدر سبق ذكره، ص 26
120) علي خريس، الحركة الاجتماعية في الاردن، مقالة في "الاردن الحديث" مجموعة مقالات ومعلومات عن المملكة الاردنية الهاشمية-المديرية العامة للمطبوعات والاعلام والنشر" عمان-بدون تاريخ-ص 135-156
121) تقرير الامين العام الثالث، المقدم الى مجلس الاتحاد المنعقد في تموز 1962، منشور في كتاب محمد سليمان القيمرى، المصدر السابق، ص 110
122) محمد جوهر، المصدر السابق، ص 63
123) محمد جوهر، المصدر السابق، ص 54
124) محمد جوهر، المصدر السابق، ص 259-262
125) محمد جوهر، المصدر السابق، ص 263-264








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سقوط قتلى وجرحى في غارة إسرائيلية على سيارتين في منطقة الشها


.. نائب المتحدث باسم الخارجية الأمريكية: الوضع بغزة صعب للغاية




.. وصول وفد أردني إلى غزة


.. قراءة عسكرية.. رشقات صاروخية من غزة باتجاه مستوطنات الغلاف




.. لصحتك.. أعط ظهرك وامش للخلف!