الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وسقطت الكاميرا ..نقد (ثقافى - تقنى)

كريم عرفان

2021 / 3 / 8
الادب والفن


بين أيدينا دراسة نقدية لنص قصصى مميز للأديبة والقاصة لمياء حمدى وهو بعنوان " وسقطت الكاميرا " سنتعرض لبعض جوانبه فى اختصار شديد ولكن أولا لنقرأ النص القصصى
ا النص : وسقطت الكاميرا
وقفت الكاميرا - ذات التصوير الليلي – في غرورٍ وتحدٍ خلف تلك النافذة، تسترق النظر إلى نافذة أخرى في مبنى مواجهٍ لها. كانت حدقتها الصفراء تلمع بالحقد الأسود بالرغم من الضوء الخافت المنبعث من أعمدة نور الشارع؛ فتعكس لونا ً مخيفا ً. وكوحش كاسر برقت عينها التي وشت عمّا بداخلها من شرٍ وغل ٍ دفين، فقد ظلت تطاردها لشهور عديدة ظنا ً منها أنها قد تلتفت إلى صاحبها ولكلماته النارية التي كان يلقيها عليها في طريق ذهابها وعودتها من وإلى عملها كل يوم.
لم تغفر لها الكاميرا تلك الخطوات المتغنجة التي كانت تُشعل بها قلوب الرجال، عندما كانت تتبختر أمام ذلك المقهى المقابل لبيتها وما كان يزيد النار اشتعالا ً تلك العينان الجميلتان اللتان يلين لهما قلب الحجر وكبرياؤها وترفعها عن التحدث مع أحد. حتى جاء ذلك اليوم الذي استجمع فيه شجاعته وقرر أن يوقفها ليتحدث معها أو يدعوها لمصاحبته إلى أي مقهى خارج الحي بعيدا ً عن أنظار الجيران ، حينها قالت له بلهجة متعالية ونظرة إحتقارٍ: " أنا !! آجي معاك أنت !!" وكأنها سكبت عليه ماءً بارداً ، حينها حاول إخفاء إحراجه أمام الرجال الجالسين على المقهى والشامتين فيه، قائلا ً بتصنع اللطف: " وماله .. هو أنا مش قد المقام ؟!"
حينها شعرت الكاميرا أن وسيم الحي قد جُرحت كرامته وأن كبرياءه قد كُسر.
"ليتكِ تشعرين بأنامله عندما تتحسس مفاتني .. فتُذيبني عشقا ً وهياماً ".
أخذت تفكر في الإنتقام منها، فتفتق ذهنها عن خطة جهنمية لكسر أنفها.
انتصبت وراء نافذة تطل على غرفة تلك المغرورة، مقررة ً إلتقاط بعض الصور لها في غرفة نومها ونشرها على صفحات "الانترنت".
ككل يومٍ؛ عادت مجهدة ً من العمل تجرجر قدميها بعد عناء يومٍ طويلٍ، أضاءت مصباح غرفتها، نظرت إلى تلك الأشياء المبعثرة فوق السرير فأبعدت لنفسها مكانا ً كي تجلس، رفعت طرف تنورتها في حركة متثاقلة متألمة لتكشف عن أحد ساقيها حينها لمعت عين الكاميرا وتأهبت كتأهب لبؤة تستعد للإنقضاض على فريستها.
نظرت الفتاة إلى قدمها بعينين دامعتين تحولتا سريعاً إلى كتلة من الجمر الأحمر فغاصت بجسدها في اقرب وسادة تفرغ فيها كل ما تشعر به من ألمٍ وحزنٍ. تركت أحضان الوسادة لتكمل ما كانت ستبدأه.
هاله منظر تلك الفتاة المسكينة التي لم يكن يعرف أنها مصدر التعاسة فوق الأرض فارق الكاميرا للحظاتٍ يدور في تلك الغرفة كأسدٍ جريحٍ مشعلا ً لفافة تبغ يسحب أنفاسها بشكل عصبيٍ متوترٍ. اتجه إلى تلك الكاميرا ناظراً إليها بعينين يتطاير منهما الشرر ففريسته لم تكن سوى أرنباً أعرجاً سكن في قلبه الشقاء. لم تتوقع الكاميرا تلك النظرات الغاضبة منه فتلوّنت كالحرباء في ثوب من الإستعطاف والرجاء، مرت لحظات كالسنين يحاول كل منهما تبرئة نفسه وإلقاء اللوم على الآخر. وبغضب عارم باغتها بصفعة قوية أسقطتها أرضا ً فتناثرت أجزاؤها فأخذ يطأ تلك الأجزاء تحت قدميه باحتقار تاركاً تلك الفتاة غارقة في دموعها وساقها الصناعية ملقاة بجوارها على السرير.
الأديبة والقاصة / لمياء حمدى
×××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××

الرؤية النقدية : -

الكاميرا هي البطلة وهى محور النص القصصى الذى أمامنا وهى "الأداة" التي تتصدر المشهد القصصى ؛ وقد تعاملت القاصة والاديبة لمياء حمدى مع الكاميرا وكأنها "شخص" ..شخص حقيقى وصفته وصفا فيزيقيا وأيضا رصدت انفعالاته وأسبغت عليه من المشاعر البشرية ..فالكاميرا في هذا النص ( تقف في غرور وتحد – حدقتها الصفراء تلمع بالحقد الأسود – كوحش كاسر برقت عينها التي وشت عما بداخلها من شر وغل ) .
ولهذا التشخيص دلالته القوية والمؤثرة فمع حضور الكاميرا الطاغى في المشهد نلمح تلاشى " الشخص الحقيقى" الذى يمسك بالكاميرا ويقف خلفها ويحركها ..
فالنص قد احتقر هذا الشخص المتحرش أولا والمتلصص ثانيا وقام بحذفه تماما واستعاض عنه بالأداة "التكنولوجية " التي يحملها ؛ فجعله النص يتماهى تماما ويتوحد مع الكاميرا لتصبح الكاميرا هي البطل الحقيقى ومحور العمل الأدبى الذى يذوب فيه الشخص الحقيقى .

وقد قلنا أن النص قد احتقر ذلك المتحرش ولم يسمه أو يصفه بل اكتفى بأن أطلق عليه "وسيم الحى" ذلك الوصف الذى يدل على أنه لايملك إلا وسامته كى يقوم بمضايقة "فتيات الحى" والتحرش بهن ؛ ذلك الإحتقار قد أتى صراحة في متن القصة فقد قالت له الفتاة " بلهجة متعالية ونظرة احتقار ..أنا آجى معاك انت "
وصفت القاصة بعض الملامح الشكلية والجسدية للفتاة وحرصت على الدمج بين الملامح الجمالية والملامح الخلقية فهى ذات عينين جميلتين يمتلآن بالكبرياء والترفع ؛ ذات خطوات تتميز بالدلال ..تلك الملامح التي استوقفت " وسيم الحى " وجعلته يتحرش بها لفظيا .
- المفارقة أن تلك المشية الممتلئة بالدلال والتي تشعل قلوب الرجال ..هى نتيجة (الساق الصناعية ) والتي تعتبر أداة ثانية ورئيسة مثلها مثل الكاميرا ؛ فتلك الفتاة تمتلك ( ساق صناعية) وهو يعنى أنها تحدت إعاقتها وأيضا تحدت ذلك المتحرش الذى أراد النيل منها .
-المثير للتأمل أن القاصة قد قامت بسحب الشخصيات الحقيقية من المشهد القصصى ودفعت بالأدوات والجمادات ..فنجد الكاميرا ..الساق الصناعية ثم أيضا الوسادة والتي غاصت البطلة بجسدها فيها وأفرغت فيها ما تشعر به من ألم وحزن وجعلت للوسادة " أحضان" تحتويها مما ألم بها .
- هذا الولع بالأدوات والأشياء ووضعها في مصاف البطولة يذكرنا بالتعاطف الانثوى الراسخ مع الكون ومشتملاته ومع الطبيعة ومفرداتها وهاهى الأنثوية تسير شوطا أبعد من ذلك وتتعاطف مع الجمادات والرموز المحيطة بنا ؛ "فالأنثوية" كمبدأ عميق ومهيمن على ذات الكاتبة ونفسها وهى- أي الأنثوية - كامنة في ذلك النص الادبى الذى بين أيدينا ؛ وهاهى تتعاطف مع الجمادات والأدوات التي أسبغت عليها الأنثوية المشاعر والاحاسيس وكأن الأنثى تشمل باحتوائها ومشاعرها ليس الإنسان فقط أو حتى الطبيعة الحية ..بل تضفى من حنانها وروحها على الجماد والأدوات .
-امتلأت القصة بالألوان وهى ألوان ناطقة وزاعقة تثير العين وتلهب المشاعر فنجد ( الحدقة الصفراء –الحقد الأسود- لونا مخيفا –الجمر الأحمر )

تلك البانوراما اللونية عززت "المشهدية" في القصة وجعلت القارىء يتفاعل معها فتلك الألوان منحت حيوية إلى ذلك النص الأدبى ؛ فالأحمر والأصفر من الألوان الدافئة و الحارة أو ما يطلق عليها الألوان النارية والتي تنتمى إلى النار وتستمد قوتها منها ؛وتنجح في وصف المشاعر القوية مثل الغضب والكراهية والحقد كما رأينا في النص.
نأتى إلى أهم مشاهد القصة وهو مشهد "سقوط الكاميرا " وتحطيمها على يد من ؟ على يد الشاب (وسيم الحى) الذى تحرش بالفتاة لفظيا وسقط أخلاقيا عندما أراد أن يصور الفتاة في وضع غير لائق ؛ ومشهد سقوط الكاميرا هو مشهد إنسانى مؤثر وقوى وأيضا به من العمق الإنسانى والنفسى الكثير ..فمشهد الفتاة بساقها الصناعية ورؤية الشاب ذلك بعينيه قد أعاد فجأة الإنسانية المفتقدة إليه وجعل ذلك الإحتقار الذى تسربل به منذ بداية القصة ينسكب على الكاميرا فإذا به يقوم بتحطيم تلك الأداة لتعود إليه إنسانيته وكرامته .

العنوان : جاء العنوان بهذه الصيغة وكأنه يحتفل بسقوط الكاميرا فهو إعلان وتبشير بسقوط ذلك الرمز ( رمز التدنى والحقارة ) على يد من ؟..على يد المتلصص نفسه والذى استفاق لإنسانيته وهزه ذلك المشهد الإنسانى هزة عنيفة ..وكأن الكاتبة تقول إن بداخل كل إنسان بذرة خير تنتظر الوقت المناسب لتبزغ وتنمو ..
أيضا نلمح في ذلك العنوان بعدا آخر وهو موقف "الأنثوية " والتي تمثلها الكاتبة من "التكنولوجيا " فكما قلنا إن الأنثى مرتبطة ارتباطا وثيقا بالطبيعة إن لم تكن هي من أهم تجليات الطبيعة ذاتها و"الكاميرا" هي من أهم المنتجات التكنولوجية الحديثة خاصة بعد ظهور شبكة الإنترنت ؛إذن فهى من أهم تجليات الحداثة والتكنولوجيا ؛ وتحطيم هذا الرمز هو رفض تام وإنكار لكل ماهو تكنولوجى واحتفال لكل ماهو طبيعى .
- بقى لنا أن نشير إلى نقطة في غاية الأهمية وهى أن النص الإبداعى النسائى هو "نص محمل بالمعانى والرموز" أو "هكذا ينبغي أن يكون" فكما قلنا من قبل ان المراة أهم تجليات الطبيعة لذا فيجب على النصوص الإبداعية النسائية أن تكون كذلك محملة بالمعانى شديدة العمق منفتحة على عدة تأويلات ولها أكثر من بوابة يستطيع القارىء الدخول منها ؛ والنص الذى أمامنا خير دليل على ذلك وللنظر كيف يمكننا قراءة النص قراءة أخرى مغايرة ..
- فإذا أعاد القارىء النظر إلى القصة مرة أخرى واهتم "بالتفاتة الضمير " في تلك الفقرة ( حينها شعرت الكاميرا أن وسيم الحى قد جرحت كرامته وأن كبرياءه قد كسر .."ثم جاءت نقلة الضميرهنا " .."ليتك تشعرين بأنامله عندما تتحسس مفاتنى فتذيبنى عشقا وهياما " فأخذت تفكر في الإنتقام منها فتفتق ذهنها عن خطة جهنمية لكسر أنفها " وأعاد النظر في "كينونة" الكاميرا هل هى مجرد أداة تنتمى إلى الجمادات أم بشر من لحم ودم ؟ وأن هذه "الكاميرا " المؤنثة هي امراة حقيقية تلعب ذلك الدور دور التجسس أو التلصص المشين .
- ثم انتقل إلى المشهد الآتى وقرأة قراءة "باطنية " لا تقنع بالظاهر : "مرت لحظات كالسنين يحاول كل منهما تبرئة نفسه وإلقاء اللوم على الآخر وبغضب عارم باغتها بصفعة قوية أسقطتها أرضا ".. وتوقف هنا وقرأ النص قراءة "باطنية " لا تقنع بالظاهر فإنه سيعيد النظر إلى شخصية الكاميرا وإلى النص ذاته وسيشعر أن النص يمده بمفاتيح أخرى للولوج والدخول في بوابته والغوص في أعماقه ؛ وسيعمد بعد ذلك إلى استخدام تقنية "التأويل" فى قراءته لأجزاء النص المتبقية .

××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××

وإذا ألقينا الضوء على بعض "التقنيات" والفنيات الأدبية والسردية في القصة وتحدثنا عن بعضها في اختصار شديد فصنجد أن :-
السرد : جاء السرد هنا بضمير الغائب أو ما يعرف بتقنية الراوى العليم وهو هنا يقدم النص أمام القارىء وكأنه بورتريه يطوف بالقارىء ويريه كل جوانب النص وتفاصيله ويدخله أعماق الشخصيات وأيضا يدخل معه الغرف المغلقة والبيوت الموصدة ؛ بالإضافة إلى أن تلك التقنية كانت مناسبة جدا خصوصا وأن الشخصية الرئيسة في هذا العمل أداة تنتمى إلى عالم الجمادات وهى الكاميرا بحسب الظاهر.وجاءت اللغة السردية هنا لغة راقية واصفة ناقلة أحيانا ومليئة بالتشبيهات الفنية والإنزياحات اللغوية .

الحوار : امتلأت القصة بالسرد وجاء الحوار قصيرا جدا يتسم بالتكثيف والإيجاز ويتناسب مع عقلية الشخصيات وتركيبتها النفسية فجاء رد الفتاة متناسبا تماما مع ماوصفته من كبرياء وترفع يشع من عينيها فالحوار أضاف إلى الأحداث ولم يشكل عبئا عليها وجاء بعامية راقية غير مبتذلة متناسبة مع الحدث .

الشخصيات : وصفت القاصة الكاميرا بطلة القصة بالتفصيل كما ذكرنا ..جاء ذكر الأوصاف الفيزيقية وأيضا المشاعر النفسية وما تكنه من حقد وغل في داخلها ..
وأيضا وصفت الفتاة من حيث الملامح ( العينان الجميلتان ) وأيضا ما تتشبع بها نفسها من كبرياء وأيضا وصفت حركة الفتاة ( الخطوات المتغنجة –المشية المتبخترة ) وأيضا حركتها المتثاقلة وهى ترفع طرف تنورتها وعرفتنا على السبب في هذه اللغة الحركية للفتاة ..
أيضا جاء وصف الشاب في غاية الإيجاز وقد اكتفى النص بوصفه ب "وسيم الحى " وقد جردت القاصة الأبطال من الأسماء تماما .
..وإن كنا نود أن يكون وصف الشخصيات أكثر من هذا فيجب أن يرى القارىء أوصاف الفتاة والشاب بشكل بانورامى يطوف به من أبعاد نفسية وجسمية واجتماعية وتأثير الملامح الشكلية والجسدية النفسى على الشخصيات الأخرى وعلى النص .. ويحمد للقاص لو أنه قام بنقل هذه الصفات بشكل فنى ملىء بالتشبيهات الفنية والإنزياحات اللغوية ..ولو أنه أيضا قام بتسمية الشخصيات في النص ومنح الأسماء دلالات تشير إلى أبعاد أخرى .
كانت هذه جولة سريعة قمنا بها داخل هذا النص القصصى المميز ..جولة (ثقافية –تقنية ) إن جاز التعبير تعرفنا على المحتوى والمضمون الذى يحتويه النص وكذلك تعرفنا على بعض ما يتصل بالتكنيك الادبى وفنيات السرد .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع


.. سر اختفاء صلاح السعدني عن الوسط الفني قبل رحيله.. ووصيته الأ




.. ابن عم الفنان الراحل صلاح السعدني يروي كواليس حياة السعدني ف


.. وداعا صلاح السعدنى.. الفنانون فى صدمه وابنه يتلقى العزاء على




.. انهيار ودموع أحمد السعدني ومنى زكى ووفاء عامر فى جنازة الفنا