الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التأويل بدل الحقيقة

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2021 / 3 / 8
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


أركيولوجيا العدم
٢٥ - الحقيقة والتأويل

"ليس ثمة حقائق، بل تأويلات"
نيتشة

الارتياب كمفهوم فلسفي ظل ماثلا في تصورات وأعمال الشكاك الجدد، إبتداء من نيتشة وأتباعه ممن ينتمون لتيار ما بعد الحداثة. هذا الفكر الذي يربط بين "التأويل" كمنهج للتفكير خارج الأطر الفلسفية الميتافيزيقية الموروثة بمختلف تمظهراتها الدينية والأخلاقية والإجتماعية أو الجمالية، وبين "الارتياب" كبراديغم أو كنموذج أساسي والذي لم يعد غاية في ذاته كما هو الحال في الفلسفة اليونانية، ولا أداة ووسيلة للوصول إلى الحقيقة وفهم جوهرها كما عبر عن ذلك ديكارت في شكه المنهجي، وإنما أضحى الشك هو الرؤية العامة التي انطلق منها فلاسفة الارتياب. إن النَّقد الجذري لـ"غرائز" المعرفة عند نيتشه واستبدالها بغرائز الحياة، وإستبدال إرادة الحقيقة العقلية بما سماه "الحقيقة الفنية"، اقتضى منه ذلك مراجعة إرادة الحقيقة وقيمة المعرفة بالإحالة دائما إلى شروطها الموضوعية ورهاناتها المصلحية المُنتجة لها. ووأصبح الاعتقاد في الحقيقة المطلقة والثابتة والكلية سواء في صورتها الميتافيزيقية أو العلمية سوى خطأ ووهم مرتبط بالحاجة الحيوية لإنسان حي لا ينفك عن الرَّغبة في الاستقراء والبحث.
مفاهيم مثل الكينونة والحقيقية والزمان والمكان والواقع والعقل والمخيلة .. إلخ مفاهيم لا تباع ولا تشترى، وكما قلنا في البداية كلمة كلب لا تعض ولا تنبح. غير أننا نستطيع أن نغامر ونقول بوجود أشياء ومفاهيم يمكن الإتفاق على مصداقيتها ولو نسبيا، وهذا ما يمكن تسميته بـ "الحقيقة" بطريقة مؤقتة حتى إيجاد كلمة أخرى أكثر مناسبة وأقل إشكالية. فنحن نعرف أن مفهوم الحقيقة هو خرافة أخرى من الخرافات ووهم من الأوهام وسراب يجري وراءه الإنسان منذ بدء الحياة على هذه الأرض، وليس في نيتنا أن ندعي أولوية خرافة على أخرى أو إحلال أسطورة خيالية محل أسطورة عقلية. ولكن ما نسميه مجازا بالحقائق العلمية هي مفاهيم عامة يمكن الإتفاق على طريقة بنائها وتكوينها وتطويرها تدريجيا، وكذلك تقنينها وشرحها وإعطائها صورة مفهومة من قبل الجميع. فاسطورة البق بانق Big Bang مثلا، أو مفهوم التطور والجاذبية وتمدد الكون والثقوب السوداء والكوانتا .. والعديد من هذه المواضيع العلمية، قد تبدو للبعض مجرد أساطير وخرافات، غير ان ذلك لا يمنع أنها قابلة في أي لحظة للنقد والدحض والإنكار وإثبات عكسها، وهذا هو الفرق البسيط والوحيد بين العلم والخرافة، بين أسطورة الصورة وأسطورة المفهوم، بين الأسطورة الدينية والأسطورة الفلسفية، وهذا كما سبق القول لايعني أولوية أو أحقية الواحدة على الأخرى. ولكن من الظاهر، في عصرنا الحاضر، وجود حالة من تقهقر العقل لم يسبق لها مثيل منذ بداية القرن الماضي، حالة من الحصار تتفاقم يوما بعد يوم، منذ أن بدأ العقل يستخدم المطرقة بدلا من المنطق وبدأ في تحطيم ذاته. يقول آلان تورين Alain Touraine بخصوص مفهوم "الحداثة" بـ "أنها تطورت ضد ذاتها. وهذا يعني أنها وجدت من أجل تحرير الإنسان ولكنها وفي سياق تطورها وضعته في أقفاص عبودية جديدة هي عبودية العقل والعقلانية، لقد أصبحت الذات الإنسانية في سياق هذا التطور موضعا للعلم والعقلانية، وتم استلاب هذه الذات من مقومات وجودها الإنسانية." وكأنه في نظر هذا المفكر الإجتماعي، لكي يكون الإنسان إنسانا عليه أن يتخلى عن العقل، وعلي العقل أن يقوم بعملية تزيمتزوم tzimtzúm التي ذكرناها سابقا، أي أن يتقلص وينكمش ليترك مكانا لهذه الذات الإنسانية ومقوماتها، مكرسا بذلك ظاهرة الإنفصام والقطيعة الإبستيمولوجية داخل الواقع البشري. من الواضح إذا وجود حالة الحصار هذه على العقل، وحالة إنحسار المساحات المتاحة أمام العقل لكي يجتاز هذه الفراغات الشاسعة والعميقة من العدم والتي تفصل بين الكلمات ومدلولاتها، وبين معاني الأشياء والمواقف. الحصار ليس فقط حالة إجتماعية وسياسية أو إقتصادية أو فكرية، الحصار ليس فقط الحدود والبوابات والأسلاك الشائكة، ليس فقط جوازات السفر والتأشيرات وشرطة الجمارك وبوابات التفتيش والمعابر، الحصار يكون أيضا حالة عقلية وموقف وجودي. حيث على العقل أن "يتزمزم" ليترك فراغا للمتعالي وللخرافات وللعواطف والأحاسيس "الإنسانية"، لكي ننتج الشعر والفن والأدب وكل ما يتعلق بالخيال. والحصار موقف وجودي من حيث أن كل إنسان يعيش منفردا ومحاصرا في قوقعته الجسدية، منعزلا في جزيرته، مستلقيا في قبره الخاص والفردي. هذه الحالة الإنعزالية ليست نتيجة إرادة إلهية، ولا علاقة لها لا بالله ولا بالسماء ولا بالشيطان، وليست نتيجة مؤامرة خارجية من سكان المريخ لسحق الإنسان وتذويبه في طبيخ العالم. الحصار النرجسي، والعزلة السيلوبسيسية مكون جوهري ومعطى أولي للوعي البشري، وحالة بدائية للإنسان في مواجهة العالم، نوع من القوقعية الإجتماعية، ونوع من التزمزم الفردي لترك الفراغ اللازم لـ "الآخر"، ورد فعل "غريزي" تجاه العواصف والفياضانات والجوائح والكوارث الوجودية المتعددة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لماذا زادت الجزائر إنفاقها العسكري بأكثر من 76 في المئة؟


.. لماذا تراجع الإنفاق العسكري المغربي للعام الثاني على التوالي




.. تونس: هل استمرار احتجاز المتهمين بالتآمر على أمن الدولة قانو


.. ليبيا: بعد استقالة باتيلي.. من سيستفيد من الفراغ؟ • فرانس 24




.. بلينكن يبدأ زيارة للصين وملف الدعم العسكري الصيني لروسيا على