الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقطع من يومياتي بعد موتي! الجزء الخامس

محمد عبد المجيد
صحفي/كاتب

(Mohammad Abdelmaguid)

2021 / 3 / 9
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم


قراءة الأجزاء الأربعة الأولى شرطٌ لفهم الجزء الخامس!
كانت هناك فتاة سمراء، عرفتُ فيما بعد أنها من جزيرة لارينيون، المستعمرة الفرنسية، تقترب مني كلما استمعتْ لحكاية أحد المنتظرين، وقالت لي: إن حكاياتــِك لأهل الأرض ستثير غضبَهم؛ فعليك أنْ تتوقف فورًا!
مسقط رأس الفتاة جزيرة لارينيون هي مستعمرة فرنسية تقاذف ملكيتَها البرتغاليون والبريطانيون والفرنسيون حتى انتهتْ أخيرا إلى سيطرة الفرنسيين في عام 1642.
الفتاة السمراء من أصول هندية، عاشت حياتها كلها في لارينيون باستثناء فترة الدراسة الجامعية التي قضتها في مدغشقر.
سألتها عن آخر أنفاسها على الأرض فقالت: رحلتُ إلى باطن الأرض عندما بلغت السابعة والستين من العُمر، وغادرتُ العالمَ كأنني ذاهبة في نزهة بحرية في المحيط الهندي، ولم يصبني أيّ مرض فقد عشت بين الطبيعة وخضرتها وأمطارها وفاكهتها التي لا تقل حلاوة في المذاق عن فاكهة جنتــِـك التي سمعتك تُحدّث الناس عنها.
أنا يا سيدي، أكمَلتْ بهدوء، قبلتُ حياة أرضية هادئة ومسالمة، وتمنيت أن لا تتكرر حياتي مرة أخرى، سواء كان ذلك في الجنة أو في الجحيم.
قلت لها: لكنكِ لا تختارين حياتَكِ الأرضية أو السماوية، فمن خلقك اختار لكِ الحياتين!
قالت متصنعة الهدوء: لكنني لم أكن مؤمنة رغم معرفتي بحُكـْم ثقافتي ودراساتي والأقليات التي عاصرتها مع اليهودية والمسيحية والإسلام والبوذية والهندوسية والبوذية وعشرات من العبادات والعقائد الأخرى، ولم تجذبني عقيدة لأنني كنتُ مكتفية بسلامي النفسي، وصِدْقني مع الناس، وسعادتي بين قومي؛ فعلىَ أي أساس تتم محاكمتي؟
قلت لها: هي ليست محاكمة، لكنها حساب ختامي لكل حياتكِ منذ رُشدِكِ وحتى مماتك!
تعجبتْ من منطقي وقالت: وكيف كنت أعرف أنَّ حياتي الدنيا كانت اختبارًا؛ إنْ نجحت فيه دخلت الجنة، وإنْ رسبت تلذذت بي نار الجحيم؟ أليس من حقي أن أعتذر الآن قبل يوم القيامة؟
كان الحديثُ معها مرهقــًا وممتعــًا، فهي تحتفظ بعقل يقظ، وفي كامل الوعي والتفكير المنطقي.
قلت لها: في كل الأحوال فأنتِ في موقع الانتظار، لا تعذيب فيه ولا مكافأة، لا سعادة فيه ولا تعاسة، وكلنا على قدم المساواة، فخالق الكون أعدل من أن يحكم بيننا مرتين!
قالت: وماذا لو تمنيت أن يتجلــّــى اللهُ هنا، ويسألني عن رغبتي في انتظار يوم القيامة أو جعلي ترابا ونِسْيــًا مَنْسيــًا؟
قلت لها: لستُ أنا من يحكم، فأنا أيضا أنتظر يومَ القيامة حتى لو جاء بعد مليون سنة، فلا تــُقحميني في جدالك الذكي!
قالت: نحن لا نُحاسَب عما نفعله هنا في موقع الانتظار، وإبليس هناك على مبعدة ملايين السنوات الضوئية في الكرة الأرضية، وأعمالنا لا خير فيها ولا شر، لا حساب لها أو عليها، أليس هذا ما تؤمنون به؟
قلت: بلي، وأعترف بأنني لا أملك على تساؤلاتك أية إجابة.
ابتسمتْ شبه ساخرة، ولكن مسالمة، وأدارتْ وجهها، ثم تركتني في حيرتي.
شاهدت بالقرب مني ثلاثة شبان كما هم أهل موقع الانتظار، أي في عُمر الخامسة والعشرين. كانوا هادئين لكن حيرة واضحة تعتمل في صدورهم وتكاد تنطق لولا أن مكان الانتظار يحجب كثيرا من مشاعر الغضب، فهنا سلامٌ حتى مطلع القيامة!
فهمتُ على الفور أنهم في حياتهم الدنيا كانوا رجال دين: الأول حاخام في القدس المحتلة بُعيد نكبة الاحتلال الصهيوني لفلسطين، والثاني قس كاثوليكي في الفاتيكان إبان فاجعة الاعتداء الجنسي على الأطفال التي أغضبت المؤمنين الكُثُر بنقاء المسيحية، والثالث داعية إسلامي في بدايات القرن الواحد والعشرين وهو متطرف ومهووس جنسيا ويفسر القرآن الكريم تفسيرا إرهابيا كأنه يضع بين كل آية وأخرى سيفــًا تقطر منه الدماء.
أخفى الثلاثةُ خجلهم الأرضي بمهارة عجيبة، وعندما سألتهم عن النـَـفــَـس الأخير قبل صعود الروح وحضور مَلــَـك الموت، سمعتُ منهم ما أخجلني أنا، لا ما أخجلهم هُم!
قال الأول بلغة عبرية ونُطْق بولندي، لكنني ككل أهل الانتظار فهمته كما أفهم العربية: كنتُ حاخامـًـا في القدس، وأنا من أصول بولندية، وجئت إليها على ظهر سفينة مزدحمة باليهود الهاربين من خيال زعيم النازية بعد هزيمته بعامين. كانت حكايات كل يهودي عن المحرقة تجعلني اقترب من وطني الجديد حتى لو كان حُلمي فوق جثث أناس لم يضروني بشيء أو يضطهدون قومي فقد عشنا في العالم العربي برمته، خاصة في المغرب ومصر واليمن والعراق وفلسطين، كما يعيش أهله؛ ولا يمنع بين الحين والآخر تمييز وقتي، فكل أقلية دينية أو عرقية أو لغوية بطول زمن الإنسان على الأرض تعرضتْ لهذا التمييز أحيانا.
شاهدت بأم عيني تطهير أرض ليست لنا استنادا إلى كُتُبنا المقدسة ومشاعر بثتها قوى الاستعمار في نفوسنا باعتبارنا شعب الله المختار!
ثم رمقني بنظرة ثاقبة تحمل في طياتها مئة معنىً، وقال: وأنتم أيضا تؤمنون أنكم خير أمة أُخْرجت للناس، وكل أتباع الديانات والفـِرق والعقائد الأخرى يعتقدون بنقاء رباطهم المقدس بالسماء.
لم أردّ عليه، وانتظرتُ أنْ يُكمل حديثـَه، فأسرع يدين نفسَه تارة، ويبرر الاستيلاءَ على أرضٍ ليست لقومه؛ فعرفت أن حيرته ما تزال تطارده وستفعل حتى يوم القيامة.
قال: لقد عاصرتُ إعلانَ دولة إسرائيل، وتقسيم فلسطين بأصوات أممية، والحرب بيننا وبين دول عربية تأتمر جيوشُها البدائية بأوامر القوى الاستعمارية، بريطانيا وفرنسا، فهزمناكم في كل معترك؛ فعقدة الذنب لدى الغرب كانت أكبر من أي شيء آخر، وعودتنا لبلادنا الأصلية، خاصة في الغرب، مستحيل أمام آلة الإعلام الملتصقة بوعود توراتية.
قال أيضا: وعاصرت نكباتٍ عربيةً واحدة تلو الأخرى، وشاهدتُ مذبحة دير ياسين وكفر قاسم وقانا، واحتل جنودنا أرض موسى عليه السلام خلال عدوان ثلاثي على بلدكم انتقاما من اضطهاد الغرب لنا.
لم يرتفع صوتي مرة واحدة رغم أصدقائي ودفء علاقتي بالعرب أصحاب الأرض فكراهيتي لمن نصبوا لنا المحرقة في الغرب جعلتني أتمسك بوعود هلامية مقدسة لا تخفي أنيابها الاستيطانية!
ثم أنهى حديثه قائلا: لم يمنعني ديني السماوي من هضم حقوق العرب لأن الصهيونية كانت أقوى من اليهودية، وكراهيتي لمن اضطهدونا في الغرب وجدت ردّ فعل معاكس لمن كانوا اخوة لنا في الشرق، فدفع العربُ ثمن عنصرية نازية في وطننا الأم، ألمانيا أو بولندا أو فرنسا!
وصمت فجأة، ولعله انتظر مني عفواً بأثر رجعي أرضي توطئة لعفو سماوي قادم لا أعرف عنه شيئا.
كان الثاني متعجلا الحديث لعل جريمته تكون أقل من جرائم صاحبيه، اليهودي والمسلم!
قال بصوت خفيض سمعته بشق الأنفس: كنت أحد أهم الكهنة في الفاتيكان حيث يتزاوج المال والقداسة لأغنى مكان في العالم. كان العالــَم الكاثوليكي يرانا شبه ملائكة متطهرين بوجود الحَبْر الأعظم وبقوة سكانية أكثر عددا من كل أديان الأرض. ولأن الإنسان لا تغيّره أماكن العبادة ولا قوة العقيدة فإنني ومئات غيري من الصائمين عن المُتع البشرية في الزواج والنساء والأطفال والحياة الطبيعية قد ضعفنا أمام الشيطان الذي وسوس لنا في عزلتنا الرهيبة في الفاتيكان، فالمرأة اختفتْ وحل محلها ولدان أبرياء وتلاميذ كأنهم لؤلؤ منثور. كانوا في عزلتنا وحرماننا العائلي والجنسي صورة للإغراء حيث يحل الشيطان محل الله، ونتسلم من عائلات ساذجة فلذات أكبادهم وهم يثقون أن أطفالهم في رعاية الله؛ فإذا هُم في أحضاننا.
كلما أتى بابا جديد للفاتيكان وفتح ملفات انتهاك رجال الدين للأجساد الغضة والبريئة، أغلقها فورا من هول ما رأى.
وأكمل قائلا: وكنت واحدا من هؤلاء الكهنة الذين لم تردعهم تعاليم الحب والتسامح، ولم تعلمهم رهبانية منغلقة ومناهضة لتعاليم السيد المسيح عليه السلام.
وأخطأت و أجرمت عشرات المرات، حتى جاء من يفتح ملفات الانتهاك، وكان نصيبي منها كبيرا!
وسألني: هل تظن أن رب الكون سيعفو عني عندما تقوم الساعة؟
قلت له: لا أدري، فلست هنا لأحاسِب، ولكن لأحاسَب مثلك تماما، وعلينا الانتظار، طوعا أو كرها، حتى يأتي أمرُ الله، وينهي حياة بني آدم على الأرض، ويبدأ يوم الحساب.
نظرت لثالثهما فوجدته يحاول اخفاء وجهه، ثم اضطر للحديث كأنه يريد أن يتطهر قبل وضع ميزان العدالة الإلهي فقال: أما أنا فقد عشت في زمن الخديعة والغش والتحايل والمزايدة الدينية، ووجدت أن الجريمة المقدسة هي أسهل طريقة لخداع الناس.
وقال أيضا: عملت كداعية يقول ما يفعل عكسه، ووجدت أن إبليس قبل أن يوسوس لي بالكذب يقوم باقناع المريدين بتصديقي، وهنا بدأت في ارتكاب كل المعاصي، وحكيت أحقر الأكاذيب، ونقلت للناس من أسلافنا ما تعف عنه الحيوانات، ولم يؤثر القرآن الكريم في نفسي قيد شعرة، واستهوتني الحركات الدينية المتطرفة، وحفظت عن ظهر قلب من كتابات الأقدمين كل اللامعقوليات، خاصة تلك التي تحتقر المرأة.
واستطرد قائلا: كان مدخلي هو الجنس في الآخرة، وأقنعت مئات الآلاف من ذكور قومي أن الله أعد لهم ماخورًا لممارسة الجنس الأبدي مع حور عين و.. وصيفاتهن.
ثم قال: لست مجرما، لكن كان الطريق للفساد والزواج من عدة نساء ودعم الحاكم الظالم ومهاجمة الأديان الأخرى واقناع المؤمنين بالسادية والتعذيب وقطع رقاب المخالفين ورفض حرية العقيدة التي أنزلها الله في كتابه الكريم.
كنت أكره غير المسلمين، وأبث الفتنة الطائفية، وأقوم بتوسعة دائرة تفاهات وسطحيات وقشور على أنها من صُلب الدين.
كانت السلطة السياسية تتركني ما دمت مطيعا لها، فصنعت من المسلمين عبيدًا للحاكم قبل الله.
ثم رفع صوته قائلا: أنا أكثر إجراما من اليهودي والمسيحي، وأشار إليهما! ردّ الكاهن المسيحي: بل أنا المجرم الحقيقي فقد وضع المؤمنون أطفالهم أمانة في عنقي داخل الفاتيكان حيث الإيمان والرهبة معا! ورفع اليهودي يده وقال: بل أنا المجرم الأوحد لأنني كنت صهيونيا رغم أن التوراة التي أنزلها الله والوصايا العشر كانت تنهاني عن المنكر، فاغتصب أرضا ليست أرض اجدادي.
لم أستطع الرد على أي منهم؛ فالثلاثة يحملون في صدورهم كلمات السماء، فاستبدلوا بها إيحاءات الشيطان.
مشيت أو طرت باحثا عن حكايات الموت وما بعده، الضمير وما حدث فيه، العقل وتركيبته، الإنسانية وارتباكاتها، الفاصل بين إبليس والإنسان.

وإلى الحلقة السادسة بإذن الله من (مقطع من يومياتي بعد موتي)!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيقاد شعلة دورة الألعاب الأولمبية بباريس 2024 في أولمبيا الق


.. الدوري الإنكليزي: بـ-سوبر هاتريك-.. كول بالمر يقود تشيلسي لس




.. الصين: ما الحل لمواجهة شيخوخة المجتمع؟ • فرانس 24 / FRANCE 2


.. إسرائيل تدرس -الأهداف المحتملة- للرد على الهجمات الإيرانية




.. سلاح الجو الأردني ينفذ تحليقًا استطلاعياً في أجواء المملكة م