الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مُتْ قاعداً!

ضيا اسكندر

2021 / 3 / 9
الادب والفن


أعرفه منذ أكثر من ثلاثين عاماً. فقد خدمنا معاً بذات الشركة التي كنت أعمل فيها قبل أن نُحال كلانا على التقاعد. لقد كان وما زال رمزاً للطيبة والنزاهة والتسامح والرزانة والفكر الجريء المتّقد. لدى اتصالي به هاتفياً منذ أيام بعد انقطاع دام عدة أشهر، أجاب بصوتٍ واهنٍ أنه مريض وفي أيامه الأخيرة. وأنه يرغب بلقائي ووداعي قبل مغادرته هذه الدنيا. شعرتُ كمن تلقّى صفعة مباغتة. أحسستُ بأن عالمي يرتجّ وينذر بانهيارٍ مروّع. أغلقتُ الهاتف وسارعتُ بالسفر إلى قريته التي لا تبعد كثيراً عن المدينة.
لحظة وصولي إلى بيته الذي سبق وزرته مرات عديدة، حيث كان يدعو زملاءه بين الحين والآخر لوليمته الشهيرة التي كان يعتزُّ بها «رأس عجل مسلوق مع البرغل». لفت انتباهي ذبول نباتات الزينة التي كانت مزروعة بحديقة بيته الصغيرة والتي كان يهتم بها ويفتخر بجمالها. هذا المشهد اعتبرته علامة شؤمٍ وريبة. تردّدتُ قبل قرع الباب متسائلاً بيني وبين نفسي: «كيف سأسلّم عليه؟ هل أعانقه وأقبّله كما أفعل عادةً كلما التقينا، ولو كان غيابنا لا يتعدّى الأسبوعين؟ أم أكتفي بالتلويح بيدي عن بعد التزاماً بالتدابير الوقائية من وباء كورونا الذي نصحت بها منظمة الصحة العالمية؟»
ما إن هممتُ بقرع بابه حتى انفتح فجأةً وطلّت منه زوجته مرحّبةً بقدومي. لدى دخولي الصالون حيث يرقد صديقي على فرشة ممدودة على الأرض قرب مدفأة الحطب المشتعلة. رفع يده من تحت البطانية محيّياً وهو يبتسم بوجهه الوديع وقد ضمر إلى درجة مخيفة. كان يعتمر قبعة صوف تغطي كامل رأسه حتى الحاجبين اللذين تساقط الشعر عنهما إضافةً لأهداب رموش عينيه. خلعتُ حذائي عند العتبة وهرعتُ لمصافحته. إلّا أنه أومأ براحة كفّه معرباً عن حرصه على سلامتي من انتقال العدوى. قلت له «"السرطان" لا يعدي يا صديقي!» واكتفيت بملامسة كفّه النحيلة المرتخية وجلست إلى جانبه.
أول عبارة قالها بعد أن عبَّر عن فرحته بلقائي وهو يعدّل وضعية قبّعته:
- كما ترى يا صديقي، ها هي المصائب تتْرى! وتأبى أن تحضر دفعةً واحدة.
أجبته مهوّناً عليه الأمر:
- لعلّها نعمة وليست نقمة. فلو جاءت دفعة واحدة لعجزنا عن مواجهتها.
هزَّ رأسه ببطء مخالفاً رأيي وقال:
- لو عرفت أنني سأُصاب بهذا المرض الخبيث بعد إصابتي بالجلطة، لرفضتُ إجراء عملية القلب المفتوح التي أهدرتُ بسببها ما تقاضيته من مكافأة نهاية الخدمة بعد تقاعدي. إذ ما إن تماثلتُ للشفاء، حتى جاءني هذا السرطان اللعين ليفتكَ بكبدي.. والمصيبة أنني لا أملك أرضاً لأبيعها ولا رصيداً في البنوك للعلاج.. وراتبي التافه كما تعلم يتبخّر في أقلّ من أسبوع. والله صرتُ أخجل من الناس من طلب الدَّين.. آه، كم أتمنى المسارعة بالرحيل يا صديقي!
الحقيقة كنت في أقصى حالات التحمّل وأنا أستمع إليه. وضبطتُ أعصابي بجهودٍ ضارية لأمنع عينيّ من التعبير عن حالة الحزن التي استبدّت بي. قلت له مواسياً محاولاً مواراة قلقي عليه:
- وكّلْ أمرك لله يا رجل. العلم يتقدّم بخطواتٍ متسارعة. وكل يوم نسمع عن خبرٍ طبّي جديد. وكن على ثقة من أن العلماء شغلهم الشاغل هذا المرض. وهناك أخبار طيبة بهذا الصدد تثلج الصدور. وما علينا إلّا التريّث والانتظار.
أومأ متفهماً بما ينمُّ عن لباقته أكثر من اقتناعه. وأجاب بصوتٍ يكسره التأثر:
- لم يعد لديّ المزيد من الوقت للانتظار. لقد سبق السيف العذل. فقد أكملتُ كافة الجرعات الكيماوية دون أية جدوى. (توقّف عن الكلام لحظات وتابع) سأطلب منك معروفاً أرجو أن تعدني بتلبيته.
قلت متلهّفاً:
- حبيب الروح أنت تأمر! اطلبْ ما شئت. واعتبرْهُ ماثلاً بين يديك.
- أشكرك ولا أشكّ أبداً في نبلك. أعرفك من الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي. وأتمنى عليك أن تكتب خبر وفاتي على الفيسبوك لدى رحيلي على الوجه الآتي:
(غيّبَ الموت (فلان الفلاني) إثر مرضٍ عضال عانى منه الأمرّين. وما زاد الطين بِلّةً أنه اضطرّ للاستدانة من بعض معارفه أثناء علاجه، لأنه محروم من الضمان الصحي بعد تقاعده. ولا أمل بإيفاء ديونه إطلاقاً. فقد أصبح على الحديدة بسبب سياسة الإفقار التي تنتهجها السلطة الحاكمة.
الجميع معفيّون من تقديم العزاء. وإن أبى البعض وأصرَّ على القيام بالتعزية، فإنه يتمنى من الأخوة المعزّين أن يردّدوا العبارة التالية لدى مصافحتهم ذويه: «هنيّالو، ارتاح وريّح»).
- فال الله ولا فالك يا رجل. صدّقني ستُشفى بإذن الله، وسنحتفل معاً، وندعو الأصدقاء إلى وليمتك العظيمة، ونوقد الحطب لسلق رأس العجل مع البرغل ونشرب نخب شفائك.. حدسي يقول لي بأنك ستتعافى قريباً.
ابتسم كما لو أنه استلطف تعليقي وقال:
- هذا أنت، وهذه عادتك، في جبر الخواطر. أعترف بقدراتك في إضحاك حتى الثكالى. على أية حال، الله يسمع منك. قل لي كيف ترى الأمور في البلاد؟ هل من أمل بحلّ الأزمة السورية قبل رحيلي هذا العام؟
- أولاً، لن ترحل هذا العام يا صديقي. بتقديري أنك ستعيش عشرين عاماً قادمة. ثانياً، ما رأيك أن نبتعد عن السياسة في جلستنا هذه، ونكتفي بتذكّر المناسبات الحلوة التي عشناها معاً؟
رسم بوجنةٍ واحدةٍ فقط ابتسامةً ساخرة وتمتم:
- هذا يعني أن الأزمة باقية وتتمدّد.
- لا، ليس بالضرورة. إن حلّ الأزمة مرتبطة بتظهير موازين القوى الدولية الجديدة على الأرض. وأعتقد أن ذلك سنشهده خلال الأشهر القادمة..
بهذه اللحظة سمعنا دمدمة السماء وهي تدقُّ طبولها البعيدة منذرةً بهطول المطر. فأردفتُ متابعاً وأنا أنظر إليه بعينين يتواثب فيهما الأمل:
- وها هي السماء يا صديقي تبشّرنا باقتراب نهاية احتباس المطر. صحيح أن دويّ الرعد بعيدٌ، بعيد، لكننا سنسمعه قريباً.. وبوضوح.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله


.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس




.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في