الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قمران في ليل عنيد

راتب شعبو

2021 / 3 / 10
الادب والفن


(إلى عزيز وتمرة)
اضطر "عزيز" أن يترك المدرسة ويتطوع في الجيش، لكي يكمل أخوته دراستهم. وكانت "تمرة" هي الصبية التي اختارها قلبه باكراً، فكان الخيار متبادلاً. هكذا غادرت "تمرة" القرية شابة لتكون زوجة عسكري متطوع في دمشق. وكانت هذه العائلة، لحسن حظي، عائلة أخي.
كان بيتهما الصغير مكاناً واسعاً للطالب الذي جاء يدرس في جامعة دمشق، وللشاب الذي جاء يؤدي خدمته العسكرية الإلزامية، وللمريض الذي عجزت عنه مشافي اللاذقية فجاء مع مرافقيه إلى "المواساة" أو "تشرين"، وللنقابي الذي اضطر للمجيء إلى دمشق لمتابعة همومه العمالية، وللأهالي القادمين إلى دمشق كي يستفسروا عن أبنائهم المختفين، وللأهالي القادمين إلى دمشق كي يزوروا أبناءهم المسجونين لأنهم "ضد الوضع". القادمون إلى ثكنات دمشق أو جامعاتها أو دوائرها أو مشافيها أو سجونها ... الخ، الحاملون همومهم ومخاوفهم وآمالهم وأشواقهم وقلقهم، جميعهم كانوا يلتقون في ذاك البيت الصغير الذي يتسع بالكاد للعائلة التي كبرت وأصبحت ذات أربعة أطفال. ولكنك سوف تشعر، مع ذلك، أن ذاك البيت أوسع من قصر.
وكان لا بد من دمشق، رغم بعدها وغموضها المخيف. في طفولتي كنت أبحث عن تجسيد لهذا الاسم الذي كانوا يخففونه عبثاً إلى "الشام". كنت أنظر للقادم من دمشق بتمعن فقد أرى شيئاً منها عالقاً على ثيابه. أتمعن في كلامه فقد ألحظ أثرها في ألفاظه. مدينة تبعث الرهبة في النفس ولكنها جذابة مع ذلك. جذابة لأنها مخيفة؟ جاذبية المغامرة؟ هذا هو السحر، مزيج من الغموض والرهبة والجاذبية. هذا هو المزيج الذي يقشر الصدأ عن الزمن الرتيب. ذات يوم سمعت أحد شيوخ منطقتنا البارزين وهو يتكلم بثقة تملأ القلب وصوت يملأ الأذن، يتكلم محاطاً بإعجاب مستمعيه: في دمشق يمكنك أن تشرب الخمر ثم يمكنك، بعد ذلك، أن تضع في فمك حبة صغيرة ليست أكبر من "حجر القداحة" فتختفي رائحة الخمر تماماً. يعني يمكنك، بعد جلسة الخمر، أن تحاضر في تحريم الخمر دون قلق. وبينما راح يضحك الحاضرون، راحت دمشق تزداد غموضاً في ذهني.
في كل حديث تذكر فيه دمشق سيقول أبي، الكثير الترحال، بإيقاع فخم وبطريقة تأملية: دمشق مدينة! كأنه يستفز عقول الحاضرين للاستفسار. لا يتأخر الاستفسار. وكان يسعدني أن أسمع أبي يستفيض في الإجابة مازجاً بين متعة السيجارة ومتعة عرض معرفة مكتسبة على متشوقين لها: ماذا يعني مدينة؟! يعني أنها تخطفك، تأخذك من نفسك، تجد أنك صغير أمام اتساعها وازدحامها وتلاوينها. ولكن رغم الازدحام وكثرة البشر في المدينة، تشعر أنك وحيد. يمرون بجوارك ولا يلتفتون إليك. كل شخص في انشغاله وكأنه لا يرى من حوله. مدينة؟! يعني ليس لك فيها إلا جيبك. سوف تأكل من جيبك، وتنام من جيبك، وتقضي حاجتك من جيبك. مدينة؟! يعني "ما في أمي ارحميني". معك مال، تعيش كالملك، ما معك، تُرمى كالكلب. كثيراً ما رأيت أناساً ينامون في الشوارع. هل تظنون أن أحداً سيفتح لهم بابه كي يناموا؟ لا، هذا غير ممكن في المدينة.
في حارة بستان المهدي الواقعة بين حي القابون وحي التجارة وحي مساكن برزة، حيث يقع بيت "عزيز وتمرة"، كانت دمشق ترمي عنها ثوب المدينة ذاك، وتتحول إلى قرية آمنة متضامنة، مادتها مودة واهتمام ومساندة ورفع كلفة وبساطة. واحة للأرواح المتعبة وسند للضعيف الباحث عن سند.
في هذا البيت الفقير ذي السقف الترابي والمدود الخشبية الظاهرة من الداخل، ستنهمك "تمرة" في إعداد الطعام لمريض مقطوع في مستشفى تشرين، صادف أن سريره كان مجاوراً لسرير عمها المريض، وعلمت حاجة الرجل لطعام خاص بسبب وضعه الصحي. وفيه لن يجد الضيف البعيد حرجاً في أن يخلع حذاءه ليأخذ غفوة على الصوفاية، بينما يتحدث الآخرون، وكأنه في بيته. وفيه ستغتنم "تمرة" استعداد أحد أصدقاء "عزيز" العسكريين، وستعدُّ صينية فراريج لترسلها معه إلى سجناء الشيخ حسن، في وقت كانوا ممنوعين من الزيارات ويعيشون على حافة الجوع.
في هذا البيت ستتجمع الزوجات والأمهات استعداداً لزيارة السجناء السياسيين في عدرا وفي صيدنايا.
كانت "تمرة" تثابر على زيارتي في السجن حتى ظن السجانون والسجناء أنها أمي. ولم تكن مستاءة من هذا الظن الذي يفترض أنها أكبر من عمرها الحقيقي بكثير (هذا ما يزعج غالبية النساء والرجال) فهي لا تزيدني سوى بضع سنوات. لكن قلبها كان يميل بها إلى جانب الحق والعدل، فيبقى لذلك نضراً رغم كل الظنون.
أما الحدث الذي لا أنساه من "عزيز"، فهو التالي: في اليوم الذي أعلنت فيه محكمة أمن الدولة في شارع 29 أيار في دمشق، الحكم عليّ وعلى زملائي، كان "عزيز" حاضراً مع الأهالي. كان الحكم علينا بالحد الأقصى (15 عاماً). لم يكن هذا مفاجئاً لنا. لكن وقع الحكم يبقى ثقيلاً مع ذلك. لم يعبر عزيز عن دهشة أو استفظاع، لم يكن لهما إلا أن يثقلا على القلب أكثر، بل اقترب مني وأطلق ضحكة قصيرة وقال بسخريته المعهودة: "منيح اللي تهمتك ما فيها حكم أعلى".
كان إعلان الحكم يوم الاثنين، وكان يوم الثلاثاء الموعد نصف الشهري لزيارة السجناء السياسيين في عدرا. كان يمكن اعتبار لقاءنا في المحكمة بمثابة زيارة فلا حاجة لتكبد عناء الذهاب إلى سجن عدرا في اليوم التالي من أجل الزيارة. هكذا فعل أهالي كثيرون في الواقع. لكني فوجئت بعزيز يأتي لزيارتي في السجن في اليوم التالي. جاء وحيداً، لأن "تمرة" كانت مريضة. جاء يقوده إحساسه بثقل الحكم الذي سمعناه أمس. جاء لا ليقول شيئاً، بل ليكون معي في هذه الساعة المتاحة للقاء. كان صائباً في إحساسه. تأملنا بعض أكثر مما حكينا. وحين حكينا، تكلمنا بمواضيع لا علاقة لها بالمحكمة، وكل منا يداري الثقل الذي في قلبه.
هكذا كان بيت "عزيز وتمرة" قلب كبير في مدينة بلا قلب. وهكذا كان "عزيز وتمرة" قمرين في ليل عنيد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف


.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي




.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال


.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81




.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد