الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كان يجب أن أُسجن قبل أبنائي

راتب شعبو

2021 / 3 / 11
الادب والفن


إلى ذكرى أبي

حين كانت تطل "بوسطة الضيعة" كنت أترك كل شيء وأركض لأقف في مكان مطل أنتظر عودة أبي المسافر دائماً. غالباً ما كنت أعود وقد دُهس أملي تحت عجلات البوسطة التي لم تتوقف على المفرق، أو تحت أقدام الركاب الذين ينزلون على المفرق نفسه دون أن يكون أبي بينهم. ولكن حين كان يطل وجه أبي من الباب وهو يترجل من البوسطة، كانت تتآلف في لحظة واحدة كل ألون العالم وتزين تلك اللحظة التي ينبت لي فيها جناحان يحملانني إليه. في لحظة إطلالة وجهه، كان يموت خجلي وترددي وأطير إليه دون اعتبار لأحد أو لشيء. تصبح الطريق الترابية الضيقة الكالحة مرجاً أخضر، ويصبح الركض طيراناً وتغدو البوسطة أجمل حامل للبشرى.
هذا الرجل القوي الأنيق الضحوك هو أبي. أصل إلى المفرق وقد تركتْ لي البوسطة عليه أجمل ما أريد من الدنيا، يفيض قلبي بفرح رؤيته، وينساب الفرح مني على هيئة ضحك خالص وأرتمي عليه، فيرفعني بيدين كان يخال لقلبي الصغير أنه لا يوجد أقوى منهما في الكون، ثم يعيدني إلى الأرض، ويلتفت ليسلم على من تقع عليه عيناه ممن يعملون في أراضيهم المجاورة للمفرق.
لكنه كان يغيب طويلاً وكانت أمي تشفق علي لتكرار خيباتي من "البوسطة"، فتثنيني عن الانتظار بالقول إن أبي لن يأتي طوال هذا الشهر. وحين كنت أتذمر من غيابه الدائم كانت تقول لي: حزب ونقابات وما لا أدري، إنه يتبع كل ما لا طائل منه.
في السهرات كان أبي يتكلم عن أناس لا نعرفهم، ويصنفهم في خانة الأعداء (هؤلاء يقفون ضد مطالب العمال). لكن أبي كان يتحدث عنهم كما لو أنهم أعداء شخصيين. حتى أنه ذات يوم أراد أن يطلق اسم أحد الأعداء الألداء، الذي كان يعارض دفع التعويضات للعمال "كأنه سوف يدفعها من جيبه"، على الكلب الذي يتولى حراسة بيتنا. هكذا أبي، كان يتعامل مع هموم النقابة والحزب كأنها هموم شخصية ويعمل لها كأنها مصلحته الخاصة. فقط أمي كانت تقول، بحذر يعرف سببه كل من يعرف أبي، إن اهتمامه الزائد بالنقابات والأحزاب لا دافع له سوى الهروب من العمل في "الرزق".
أبي يرتدي ملابسه بسرعة، وبسرعة واقتضاب شديد يرد على أسئلة أمي التي تستفهم منه إلى أين وهل سيطول غيابه، وسيارة الشركة (شركة الإسفلت) الزرقاء تنتظره على الطريق العام وتستعجله ببوقها، هذا هو المشهد المتكرر المخزون في ذاكرة كل منا. من دمشق إلى القاهرة إلى برلين وموسكو، كان أبي يلاحق أملاً بسوريا قادرة على احترام أبناءها. وهب سنوات عمره لحزب البعث قبل أن يستولي على السلطة في سوريا ويمارس فيها عكس ما يوحي به اسمه، وقبل أن ينصب مشنقة في كل مكان لكل أمل ممكن. وحين استولى حزب البعث على السطة في سوريا في آذار 1963، ظن أبي أن جهوده وأمثاله قد أتت أكلها. يحكون أن أبي حينها حمل راية الحزب مليئاً بالأمل وثبتها على سطح بيتنا. وبعد "النكسة" وهب جهده وطمأنينة عائلته "للحرس القومي" و"حرب التحرير الشعبية" لاسترداد الأراضي المحتلة. ثم راحت عزيمته تتلاشى أكثر فأكثر بعد أن حُسم الصراع والتردد في تشرين الثاني 1970 بانتصار السلطة على البلد.
بعد ذلك، راح الكثير من أصدقاء دربه يترجمون "نضالهم" السابق إلى أموال وأملاك ومناصب ووجاهة. فيما راح أبي يراقب بخذلان ما يجري. في 1979 داهم الأمن "البعثي" بيتنا يبحثون عن أخي "الشيوعي"، بقسوة وحقد كنا نظن أن "الإسرائيليين" وحدهم يجيدونهما. تطاول عناصر الأمن على أبي وهددوه وطالبوه بأن يسلمهم ابنه. راح أبي يزداد عزلة وابتعاداً وانتقاداً لما يراه من فساد واستبداد. ليس هذا ما عمل من أجله وليس هذا ما كان ينتظره. ثم في 1983 اعتقلت المخابرات السورية ابنه الثاني (كاتب هذه السطور) ورموه لسنوات لا تنتهي، بعد تعذيب بات يعرفه جيداً معظم السوريين، في مكان اسمه السجن، وهو من المعالم البارزة "للحضارة" البعثية. وكلما كان حزب البعث يوغل أكثر في طريق "الرسالة الخالدة" كان أبي يزداد فقراً وتهميشاً وعزلة وسخرية صانت روحه من الاكتئاب. وحين رفع صوته بالنقد، لم يجد (حزب العمال والفلاحين) طاقة على احتمال نقد هذا النوع من "الرفاق"، فتصرف، بالمبدئية المعهودة عنه، وهدد أبي بالفصل. غير أن أبي طالب بالفصل وناله، واعتبره شهادة متأخرة على نقاء الضمير، وقال بعفويته المعهودة: كان يجب أن أُسجن قبل أبنائي.
قبل خمسة أشهر ودعته وخرجت من سوريا بعد أن ضاق الخناق من حولي. ودعته دون أن أقول له وداعاً. كان حزين القلب، ولكنه مع ذلك كان يشعرني بتفاؤل لا أعرف مصدره. قبل أيام نام أبي نومته الأبدية. أغمض عينيه وقد أعطى الدنيا أكثر مما أعطته. آمل أن يزهر تفاؤل، أبي وأن يرى من مكان ما في هذا الكون سوريا وقد نهضت من خرابها وتعافت ونفضت عن كاهلها سواد الحزن والاستبداد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع


.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي




.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل


.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج




.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما