الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إلى روح علي البدري (ممدوح عبد العليم)

راتب شعبو

2021 / 3 / 12
الادب والفن


ربما كان من الأيسر أن يقلل المرء من التعرف على الأشخاص كي يقلل من ألم فراقهم. يبدو لي أن المعادلة الحياتية غير العادلة حقاً تقول إنه بقدر ما يعطيك الشخص من جمال ومتعة في حياته يسترده حزناً وانقباضاً في فقده. هل كان من الأيسر أن لا نستمتع بشخصية علي البدري في مسلسل ليالي الحلمية كي لا ندفع الضريبة حزناً على الوفاة المفاجئة لممدوح عبد العليم؟
لا يعني لي ممدوح عبد العليم شيئاً مميزاً، ولكن يعني لي علي البدري الكثير. أو لنقل إن الأول يعنيني بقدر ما استطاع أن يكون الثاني.
لسبب ما كان يبدو لي علي البدري شاباً حقيقياً أكثر مما يجب، وكانت عيوني لا تشبع من ملاحقة حركاته والتمتع بها، من رفة عيونه المتكررة، إلى ارتجاف شفته حين يرتبك ودهشة عينيه، إلى طريقته في المشي حين يجعله الحب هائماً على وجهه، إلى ركله حصاة على الطريق حين ينوء تحت ثقل صراعاته الداخلية، إلى عادته في لكم راحة يده اليسرى بقبضته اليمنى حين يرهقه البحث عن مخرج من مشكلة.
لم يكن ليالي الحلمية مجرد مسلسل، كان رواية تلفزيونية، وكان بالنسبة لنا، نحن سجناء الجناح السياسي المزمنين في سجن دمشق المركزي (عدرا)، بمثابة ساعة من الحرية، نافذة على عالم حقيقي وتماس حار مع صراعات حية تستكين لها صراعاتنا البينية وتهدأ أحقادنا ومكائدنا وتسكت دسائسنا ويخرس بوحنا حتى تصبح نفوسنا مسرحاً جاهزاً فقط للحلقة التي توشك أن تبدأ مع تخافت صوت موسيقا الشارة. لم نكن نخرج من السجن ساعة المسلسل ولكن جدرانه كانت تغيب وكانت نفوسنا تتحرر، وننسى الهموم والتفاصيل والنكد السجني لنعيش، ولكن بمتعة هائلة، هموماً وتفاصيل ونكداً آخر. أحد السجناء قال مرة: لو جاءوا للإفراج عني خلال الحلقة سأرفض الخروج قبل أن تنتهي.
كنا نضحك مع العمدة سليمان بيه "صلاح السعدني" بصخبه وسخريته من نفسه ومن "جوز الفدادين" اللذان يحرسانه، ونشعر بجمالية وقار رجل الأعمال سليم البدري "يحيى الفخراني" الممزوج بتهكم رفيع وبروح صبيانية عابثة، ونتفرج بمتعة على ارستقراطية نازك السلحدار "صفية العمري"، ويشبعنا زينهم السماحي (سيد عبد الكريم) بشعبيته وشهامته، وننشد إلى مونولوجات الشيوعي المصري عاصم السلحدار (يسري مصطفى) التي تعكس مساراً متواصلاً من الإحباطات، ولكن علي البدري كان أمراً آخر بعد كل شيء.
ضحية اليتم المبكر ثم ضحية الأفكار السياسية التي أوصلته إلى السجن، ثم ضحية الشعور باليأس من إمكانية التغيير والانغماس في ثروة العائلة مع ملاحظة التوتر الدائم بين ثقافة النشأة وثقافة الموقع.
سجنه لأسباب سياسية قريبة من حالتنا وهو في سن قريبة من أعمارنا، ثم عشقه الجارف "لزهره" (آثار الحكيم ثم إلهام شاهين)، العاطفة التي كنا نفتقدها ونتوق إليها، وربما أيضاً نشأته الفقيرة ويتمه .. كل هذا ساهم في ارتباطنا الروحي بشخصيته. وساهم أيضاً في ذلك أن مسار الشخصية العام يقبل في الغالب الإسقاط على مساراتنا العامة والشخصية حتى. لكن ينبغي أن نضيف أن "ممدوح عبد العليم" كان سبباً إضافياً في ولعنا بعلي البدري. هل لجمال شخصه أم لإتقانه الدور أم لكليهما، لا أدري. المحصلة أن علي البدري شكل جزءاً من عالم حريتنا ونحن في السجن، وكان دخوله الجميل إلى مجالنا النفسي العميق يجعلنا أقل وحشة وأكثر تحملاً وتسامحاً. حتى عداواتنا الصغيرة كانت تجاهد بعد الحلقة كي تستعيد مكانتها في نفوسنا ودون أن تنجح دائماً. الجمال ينقذ الإنسان.
صحيح أن ليالي الحلمية عمل فني متكامل من السيناريو (أسامة أنور عكاشة) إلى الإخراج (اسماعيل عبد الحافظ) إلى الموسيقى (ميشيل المصري) إلى طاقم التمثيل، ولكن يبقى أن علي البدري كان أحد أبرز ورود هذه الحديقة الجميلة.
السلام الدائم لروح علي البدري الذي لا يمكن أن يحيا، على الأقل كما أعرفه وأحس به، بعيداً عن ممدوح عبد العليم.
يناير/كانون الثاني 2016








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و