الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ظل آخر للمدينة30

محمود شقير

2021 / 3 / 14
الادب والفن


وتمرّ شهور. نيسان العام 1957 وقت أسود مرير. بعد إقالة حكومة سليمان النابلسي، تراجع النشاط السياسي في القدس وفي سائر أنحاء البلاد. ولم أكف عن متابعة ما يجري في منطقتنا من تطورات. أصبحت إذاعتا القاهرة وصوت العرب هما مصدري الرئيس في ذلك، فنمت نزعتي القومية بتأثيرهما.
كان من نتائج فترة الانفراج التي دامت حوالى سبعة أشهر، أن تفتحت مداركي واتسعت علاقاتي. كنت أذهب أسبوعياً إلى سينما النزهة أو سينما الحمراء، وفيما بعد إلى سينما القدس الواقعة في شارع الزهراء، لمشاهدة الأفلام صحبة زملاء الدراسة أو أبناء العمومة والأقارب (من أبرزهم محمد السلحوت الذي يعيش في الولايات المتحدة الأمريكية الآن، ويدير شبكة من المصالح التجارية التي جعلته واحداً من رجال الأعمال الفلسطينيين الناجحين في الشتات. وقد أكبرت فيه اهتمامه بالحالة الصحية لمحمود درويش حينما كان في أحد مستشفيات مدينة هيوستن، التي يقيم فيها محمد. ولم ينقطع عن زيارة المستشفى أثناء إجراء محمود لعملية القلب الخطرة، وحينما لفظ محمود أنفاسه الأخيرة وصلتني منه رسالة حزينة على الانترنت ينقل إلي فيها الخبر الفاجع).
استهوتنا أفلام العنف قبل غيرها، فصرنا نترصدها ونقبل عليها بشغف، وأصبحنا نتابع أفلاماً لبعض الممثلين المصريين الذين يؤدون أدوار الشر في أفلامهم من أمثال فريد شوقي ومحمود المليجي. ومن ممثلي السينما الغربية تابعنا: جيف شاندلر، ستيوارت جرينجر وآخرين. واستهوتنا كذلك الأفلام الفكاهية التي يقوم ببطولتها الممثل المصري اسماعيل ياسين. وقد راجت موجة أفلامه الكوميدية من طراز: اسماعيل ياسين في الجيش، اسماعيل ياسين في البحرية، اسماعيل ياسين في البوليس الحربي، ألخ .. تظهر فيها بعض قطع السلاح التابعة للجيش المصري (غواصات أو دبابات ألخ ..) فنصفق لها، إنطلاقاً من حسّنا القومي الذي تعزز بعد العدوان الثلاثي على مصر العام 1956، وكنا نعجب بالأداء الكوميدي لكل من عبد السلام النابلسي، وعبد المنعم إبراهيم. ولم نكن نتغافل عن أفلام الحب التي برع فيها فريد الأطرش وعبد الحليم حافظ، وكنا نتلهف على حضور أفلام صباح، وفاتن حمامة وشادية وماجدة وممثلات أخريات، وكان الممثل الأجنبي جيمس دين رائج الشهرة في تلك الأيام.
وأثارت اهتمامنا أفلام رعاة البقر، صرنا نميل إلى تقليد أبطالها، فنحاول ارتداء ملابس تشبه ملابسهم إلى حد ما. نذهب إلى سوق الباشورة، نشتري جاكيتات رخيصة من الجلد، وأحزمة عريضة، نرصعها بصفوف متوازية من الدبابيس ذات الطبعة الكبيرة، وننتعل جزماً سوداء، ونضع على رؤوسنا قبعات متباينة الأشكال، ثم نمشي متمايلين مثلما يمشي أبطال الأفلام، فلا ينقصنا سوى المسدسات التي يحملونها على جنوبهم، ويستلونها في أية لحظة، لإطلاق النار. وفيما بعد، لم تعد تستهويني أفلام رعاة البقر، صرت معنياً بمتابعة الأفلام الواقعية التي تستند إلى روايات بعض الكتاب المصريين، من أمثال نجيب محفوظ ويوسف إدريس. ولم يحدث ذلك إلا حينما انجذبت إلى قراءة الروايات.
وآنذاك، لم يدلني أحد على مكتبة عامة في القدس، أو على إحدى المكتبات التابعة لبعض البعثات الدبلوماسية الأجنبية في المدينة، فلم أهتد إلى قراءة الكتب إلا بعد وقت طويل. وللأسف، فإن أحداً من المدرسين الذين تعاقبوا على تدريسنا في مختلف المراحل الدراسية، لم يقم بلفت انتباهنا إلى أهمية القراءة.
علّمنا المصري الظريف محمود حسين، اللغة العربية في الصف الأول الثانوي، وقد أحببت حصته لما فيها من فكاهة وتشويق. كان يبدأ درس النصوص بشرح البيت الأول من القصيدة، ثم يبتعد عن مادة الدرس، نحو قضايا لها مساس بهموم الإنسان والمجتمع، فيسهم في توسيع مداركنا وهو يعرّفنا على بعض شؤون الحياة، لكنه لم يساعدنا إلا قليلاً على فض مغاليق النصوص التي كان يصعب علينا فهمها، وبالذات حينما يتعلق الأمر بالشعر الجاهلي، وأذكر أنني بقيت زمناً لا أجيد التلفظ بكلمة "لكالطول" في بيت الشعر التالي من معلقة طرفة بن العبد:
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى لكالطول المرخى وثنياه باليد
وعلّمنا أحمد الطيب، وهو فلسطيني من أصل مغربي، اللغة العربية في الصف الثاني الثانوي. كان يتحدث العربية الفصيحة بأسلوب جذاب، ما جعلني راغباً في إتقان اللغة العربية. ذات صباح وصلت المدرسة متأخراً بسبب صعوبة المواصلات. قرعت باب غرفة الصف، وكان الطيب منهمكاً في شرح الدرس، سألني: من أين آتٍ أنت؟ أجبته: من بعيد. سمح لي بالجلوس لمتابعة الحصة، وشعرت بارتياح لأنني تلفظت بالفصحى دون ارتباك.
وذات يوم، وقع بين يدي، عن طريق الصدفة، كتاب ممزق الغلاف، فلم أعرف اسم مؤلفه. قرأته فأعجبني ما فيه من أفكار، ثم عرفت فيما بعد أنه من مؤلفات خالد محمد خالد، واسمه (هذا أو الطوفان). وقرأت، بالصدفة أيضاً، رواية (ماجدولين) التي صاغها، بتصرف، مصطفى لطفي المنفلوطي، فأثارت في نفسي انفعالاً جارفاً، بسبب ما فيها من رومانسية تسبي القلوب. ثم قرأت كتاباً لسلامة موسى، اسمه (المرأة ليست لعبة الرجل) فأدركت أن في الكتب عوالم ينبغي الاقتراب منها، فذهبت إلى مكتبة في شارع صلاح الدين، واشتريت رواية لمحمد عبد الحليم عبد الله اسمها (بعد الغروب)، وذهبت إليها مرة أخرى، واشتريت، لغايات التوسع في فهم المنهاج المدرسي واستيعابه، كتاب (تاريخ الأدب العربي) لجورجي زيدان، وكلفني ذلك كل القروش التي وفرتها من مصروفي الشخصي.
بعد ذلك، صارت القراءة متعة ملازمة لي، وأصبحت ميالاً لممارسة الكتابة، وصرت بين الحين والآخر أشتري صحيفة "الجهاد" أو صحيفة "فلسطين" أقرأ فيهما بعض التعليقات السياسية. وذات مرة، حاولت تقليد أحد كتاب الصحيفة، فكتبت مقالة بعنوان "دويلات ضمن وطن واحد" أرسلتها للصحيفة فلم تنشرها، ولم يقلل ذلك من حماستي للكتابة، بل إنني كتبت بخط بارز على واجهة رف الكتب الذي صنعته في منجرة المدرسة، جملة تقول "كم أتمنى أن أصبح أديباً ملماً باللغة العربية وآدابها". ثم اندثرت هذه الجملة فيما بعد، وساءت أحوال الرف مع تقادم السنين، فلم يفرط فيه أهلي طوال السنوات التي أمضيتها في المنفى. وحينما عدت إلى الوطن، وجدته منزوياً في "الصومعة" وفيه عدد قليل من الكتب التي نجت من قبضة أمي (أحرقت الكثير من كتبي وأوراقي بعد اعتقالي الأول كي لا يتخذ منها المحققون الإسرائيليون أدلة اتهام ضدي، ولم تكن تعرف ما فيها لأنها لا تقرأ)، فلما هدمنا الصومعة، ألقينا به بعيداً مع قطع أثاث أخرى لم يعد لها مكان في بيتنا.
يتبع..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الناقد طارق الشناوي : تكريم خيري بشارة بمهرجان مالمو -مستحق-


.. المغربية نسرين الراضي:مهرجان مالمو إضافة للسينما العربية وفخ




.. بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ


.. كيف أصبحت المأكولات الأرمنيّة جزءًا من ثقافة المطبخ اللبناني




.. بعد فيديو البصق.. شمس الكويتية ممنوعة من الغناء في العراق