الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إنطاق المسكوت عنه في رواية - عندما أعيد خلقنا - للكاتبة السورية غفران سليمان كوسا.

غانم عمران المعموري

2021 / 3 / 14
الادب والفن


اتسمت الرواية بطابع التتبع الدقيق والتنقيب في بؤر المجتمع عِبْر تداعيات سيكولوجية تُحدد حالتها وأحاسيسها وانعكاس لكل التأثيرات الخاصة بها أو المجتمع الذي تنتمي إليه وانبعاثات وارهاصات نفسية واجتماعية تحيط بالكاتبة كان لها الأثر الفعال والمُحرك الجوهري لإظهار الفكرة الأولى بغية الانطلاق والتغلغل في كافة مفاصل الحياة حيث يرى الباحث والناقد العراقي سعد الساعدي" أنَّ الذات المبدعة هي الفاعل الأول والمحرك التوليدي الاساس بامتلاك الموهبة وقدرة البعث والاشتقاق وتشكيل ألوان الابداع بوجود المؤثرات أو لا , اضافة إلى خلق بؤر نصية جانبية أو عامة كجزء متمم لفكرة الموضوع من خلال لغة النص ..."1.

" عندما أعيد خلقنا " الرواية الصادرة من دار ديوان العرب للنشر والتوزيع في جمهورية مصر العربية 2020 والمكونة من مئة وثلاثة وتسعين صفحة, اندرج عنوانها من ضمن العتبات ذات التأثر المُباشر المتضامن مع حيثيات السّرد ومُحفز للمتلقي بإثارة واستغراب ودهشته " إذ يُعد العنوان مرسلة لغوية تتصل لحظة ميلادها بحبل سري يربطها بالنّص بمثابة الرأس للجسد نظراً لما يتمتع به العنوان من خصائص تعبيرية وجمالية كبساطة العبارة وكثافة الدلالة وأخرى استراتيجية إذ يحتل الصدارة في الفضاء النّصي للعمل الأدبي "2.

وإني أرى العنونة الوهّج البصري الأول الّذي يستثير مُخيّلة القارىء ويوقظ شعوره من السبات إلى الحيّوية المفعمة بالتفكير والتأويل والتحليل ليّكون انطباعه الأولي على ما يُّمكن أن ترد عليه تفاصيل الرواية وما تتضمنه من دلالات ومعاني وشخوص وأزمنة وأمكنة ودراما وفكرة ...
جاء العنوان متناغماً ومنسجماً مع لوحة الكتاب المتمثلة بنيران ملتهبة وأشخاص من ضمنهم فتاة ورجل مقتول يسقط على الأرض, حتى الإهداء الذي يمثل عتبة جاء برسالة توجهها الكاتبة " إلى سنابل الضوء إلى الزهور التي ذبلت قبل أت تتفتح إلى زوار الأرض"
طرحت الكاتبة آراء فلسفية بخصوص التشكيل الهيولي وبدأ الإجرام عندما قتل قابيل أخيه هابيل وأسباب القتل الذي دفع قابيل وتسلسل تاريخي وصولاً إلى قصة النبي إبراهيم بذبح الكبش ورمي اسماعيل في الصحراء وانتقالاً إلى قصة موسى والقتل الذي حصل في عهده وصلب النبي عيسى وصولاً إلى بعثة النبي محمد رسول الله والقتل وسفك الدماء " ولا بعد موته فإن تكويننا لا يكتمل إلا على بحار الدم, وهل في الدنيا دم أطهر من دم عليٍّ؟ أول فتى آمن بمحمد ونام في سريرة وزوج ابنته, وهل من يقتل عليّاً يستثني أحداً ؟ وهل بعد عليٍّ من لا يقتل ؟ وبعده ابن رسول الله, وحبيبه ابن عليّ وفاطمة وأولادهم وبناتهم وأين في عقر دار أتباعهم صادقون يرددون قلوبنا معكم وسيوفنا عليكم ..." ص8. من الرواية.
تحدثت لنا الكاتبة عن أحداث تاريخية معروفة عن قصص الأنبياء بتسليط الضوء على واقع القتل والاجرام قبل الدخول في الحكائية التي ينتظرها القارىء ورغم أن المقدمة كانت بأسلوب جميل إلا أنها تُسبب الملل لدى المتلقى وقد يتقاعس عن إكمال قراءة الرواية وكان الأفضل أن تدخل الكاتبة مباشرة إلى السرد الحكائي لأن مقدمة الرواية كانت طويلة ولو افتتحت روايتها بعبارتها الجميلة جداً " سؤالٌ يقلقني وأنا في رقمة نشوتي مع زوجة أو عشيقة لماذا الشعوب التي لم تحدثنا عن وجود الله تعيش بسعادة وانسانية وابداع وجدي عربيٌّ من قبيلة تتنقل وراء لقمة وماء وقطعان ومعها الله تخلت بالقتل عن الكمال ..." رواية.
لكانت أكثر مُتعة وأكثر جاذبية وتلقي من قبل القارىء حيث من تلك العبارة انطلقت روايتها عن دولة سورية على لسان شاب سوري الذي ولد في عام النكسة 1967 من عائلة فقيرة تؤمن بالله حتى ربطت بأسلوب مجازي رائع العلاقة بين أولاد العم والاخلافات الحاصلة بينهم وبين العرب " تماماً أولادهم جياع ونفطهم المتدفق في مولات امريكا وأوروبا يحاك لنا فيه الشباك ..." من الرواية.
تحدثت الرواية على لسان البطل عن تاريخ سوريا ومواقعها الأثرية التي تعود إلى ما يزيد عن ثمانية آلاف عام قبل الميلاد وعن استقلال سوريا وما تبعها من خسارة الجولان وقيام دولة الوحدة بين سوريا ومصر وتشكيل الجمهورية العربية السورية في يوم ولادة أخت البطل لميس, حتى دخول الإرهاب والمعارك الطاحنة التي راح ضحيتها الشباب والنساء والاطفال والشيوخ وتشرد الآخرين ومقارعة الجيش السوري لهم " ومن هنا سنشهد معركة عنيفة في جنوب سورية وأبطالنا تقاتل بشراسة وتضرب الإرهابين الذين بدؤوا يهربون من شارع إلى شارع في درعا كالجرذان كان صوتها رخيماً ولم أكن قد تعرفت عليها قالت : كل الامورواردة لكن قرار حسم المعركة في جنوب سورية مهم جداً ..." ص142من الرواية.
وتحدثت الرواية عن دور الاعلام في الحرب في سورية كما في الحوار الذي دار بين البطل واصدقاءه سعيد وفايز: يا فايز إذا ما فعل أخبرنا بالحقيقة ما كنا لنجلس هنا وبهذا الهدوء بل كنا سارعنا جميعاً بضب ثيابناوالركض حفاة صوب الحدود ..." ص159, رواية.
لم تقتصر الرواية على أحداث سورية وإنما شملت كل الدول العربية ومنها احداث العراق بعد 2003, وسلطت الضوء على مسألة المهجرين السوريين " معركتكم أنتم المهجرين تتصاعد بين المال والوطن فالغرب يدفع المال الكثير من أجل أن يحتفظ بمئات الآلاف من السوريين ويمنعهم من العودة إلى وطنهم وهم في صراع بين حياتهم الهانئة وبين العودة إلى الوطن دون مال " ص 171 من الرواية.
تناولت الكاتبة توثيق تاريخي وظاهرة اجتماعية ترتبط بالمجتمع ارتباط وثيق حيث إنها قادره على إنطاق المسكوت عنه في الخطابات السياسية والثقافية والاجتماعية العامة وتتضمن تفاصيل قد ينساها التاريخ ويلتفت إلى الاحداث العامة دون الجزيئات لذلك جاءت تلك الرواية التاريخية والاجتماعية لتلقي الضوء على المنسي من الذين يعيشون في الظل ولا نستطيع أن نتعرف عليهم لو لا تفاصيل الرواية وهذا ما أكده كارلوس فونتيس حيث قال " أعتقد أن الرواية تمثل الآن تعويضاً للتاريخ إنّها تقول ما يمتنع التاريخ عن قوله ...(مجلة الكرمل العدد 18.
لذا فإن تلك الرواية تشكل جزءاً من التاريخ لكونها تنطلق من سلسلة احداث تاريخية حقيقية وتواريخ مُثبته حيث إن الرواية التاريخية تعطي للكاتب فضاء واسع لكي يخرج من الأطر الضيقة المُحددة من قبل المؤرخون فمن صفات الأدب التمرد على الواقع الاجتماعي المزري للبلد الذي لا يستطيع المؤرخ تثبيته للقيود المفروضة على حرية التعبير في المجتمعات القمعيّة وما يخشاه إلا أن الأديب يستطيع التخفي وراء البطل في الرواية ويتحدث بتمرير ما يُريده بأسلوب مضمر ويوجه من الانتقادات و السلبيات التي رصدها باعتباره عنصراً فعالاً في المجتمع عاصرها بنفسه أو عن طريق الآخرين والغوص في عمق المشكلة دون عين الرقيب بدعوى الفن الروائي الخيالي والاسماء الوهمية للشخوص وربما حتى الأماكن فيلعب التخفي والاظهار والنقد والنصح والرصد لكل ظاهرة اجتماعية وكل مفاصل الحياة وكأنه يسير في الظلالم ويرى بعين البصير دون أن يراه أحد حتى يصل إلى الغاية والهدف السامي عن تشخيص أبرز الاسباب والخلل عن طريق حوار متبادل بين البطل في الرواية والشخوص والتي لا يستطيع مؤرخوا التاريخ إظهاره حيث إننا نعرف طالما يؤرخ المؤرخون الجوانب الايجابية في المجتمع في ظل حكومات قمعيّة ويتجاهلون السلبيات والخفايا لذلك جاء دور الأديب فيبثها بأسلوبه وبراعته بين المراوغ والمضمر لكنها معرفة عند المتلقي المثقف ويحلل ما بين السطور.



المصادر
1-سعد الساعدي- نظرية التحليل والارتقاء- مدرسة النقد التجديدية, دار المتن للنشر, بغداد , 2020 , ص74.
2-سيميائية العنوان في " مقام البوح " لعبد الله العيش, شادية شقروش, محاضرات الملتقى الأول السيمياء والنّص الأدبي, منشورات جامعة بسكرة, 2000, ص25, منشور في الدستور20/تشرين الاول/ 2017.
3- غفران سليمان كوسا, رواية عندما أعيد خلقنا, اصدارات دار ديوان العرب للنشر والتوزيع, جمهورية مصر العربية 2020.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه


.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما




.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة


.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير




.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع