الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المُخرج جعفر مُراد يستعين بالتجريب ويراهن على النَفَس الحداثي

عدنان حسين أحمد

2021 / 3 / 14
الادب والفن


لا يمكن الحديث عن تجربة المُخرج السينمائي جعفر مراد من دون الأخذ بنظر الاعتبار تقنياته الحديثة التي يواكب فيها روح العصر، فقد درسَ الإخراج والمونتاج والتصوير في جامعة شفيلد هالام؛ إضافة إلى ذلك فهو ممثل وكاتب سيناريو مُحترف، ولا نجد حرجًا في القول بأنه يسعى جديًا لتكريس "سينما المؤلف" التي أحبّها لأسباب متعددة من بينها تأكيد رؤيته الإخراجية القائمة على استنطاق أحاسيسه ومشاعره الداخلية التي يَعُدّها معيارًا دقيقًا ومُرهفًا لمصداقية الفيلم وأصالته، وعدم سقوطه في فخّ الكذب والافتعال. كما أن شحّة الميزانية، وصعوبة الحصول على الدعم المالي هو الذي يدفعه إلى هذا النمط المتقشف في السينما لكنه، بالمقابل، يحرّره من التبعية للمنتجين والمموّلين الذين يفرضون اشتراطاتهم الفنية والفكرية التي يمكنها أن تقلب العمل السينمائي رأسًا على عقب.
على الرغم من أهمية الموضوع في الفن السابع عمومًا، إلاّ أن التقنية، وطريقة المعالجة، وزاوية نظر المُخرج قد تغيّر الأمر جملةً وتفصيلا. ومَنْ يشاهد أفلام جعفر مُراد القصيرة على وجه التحديد، روائية أو وثائقية، سيكتشف من دون لأي أنها مكثّفة إلى أبعد حدّ، ومُختزَلة بطريقة ذكيّة تحفّز المتلقي على المُشاركة في صنع الحدث، أو الاندماج فيه إلى حدّ التماهي. وهذا الأمر يخلق مُشاهِدًا مُتفاعلاً مع الخطاب البَصَري الذي يقّدمه جعفر مراد بطريقة مثيرة تعتمد على عناصر الشدّ والتوتّر والتشويق التي يمكن أن يجدها المُشاهد في غالبية أفلامه إن لم أقل كلها بالمطلق.
يعوّل مُراد في أفلامة القصيرة على أساليب محددة تبتعد، في الأعمّ الأغلب، عن الأساليب التقليدية التي عفا عليها الزمن، ولعلّ أحد أسباب نجاح أفلامه هو نبوّها عن المنحى الكلاسيكي ومُراهنتها على النفَس الحداثي، فهو لا يكتفي بأن تكون المُقاربة نفسية وإنما يستعين بالكوميديا، ويلوذ بالتجليات الفنتازية، وربما يذهب أبعد من ذلك حينما يلتجئ إلى التجريب ليقدّم لنا خطابًا بصَريًا مختلفًا كما لمسناه في فيلم "الرحلة" الذي يجمع بين السخرية، والتهكّم، والكوميديا السوداء حتى من دون الاستعانة باللغة.

العودة إلى فِكتوريا

تقتصر هذه الدراسة النقدية على فيلمين قصيرين لجعفر مراد وهما "العودة إلى فِكتوريا" 2016 وفيلم "خلف المرآة" 2017. يتمحور فيلم "العودة إلى فِكتوريا" على النظرة النمطية الشوهاء التي كرّسها الغرب عن العرب والمسلمين عمومًا إلى درجة أنهم نجحوا في خلق ما يمكن تسميته بـ "الإسلاموفوبيا" والخشية من المسلمين المتدينين على وجه التحديد بحيث جعلوا من رجل الدين قنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر في أي مكان عام مكتظٍ بالسُكّان!
لم يلجأ مُراد في هذا الفيلم إلى العنف، والقتل، والدماء وإنما قدّم فكرة بسيطة، مسالمة جسّد فيها صورة المسلم المقيم في المملكة المتحدة بوصفه إنسانًا قلقًا، خائفًا، ومذعورًا من التُهم الجاهزة التي يمكن أن توجّه إليه في أي لحظة. ولو تتبعنا جيدًا القصة السردية للفيلم الدرامي لوجدناها ذكية بمكان بحيث توحي للمتلقي وكأنّ هذين الشابين "محمود وسلام" اللذين يتجهان لمحطة فكتوريا ينويان القيام بأعمال إرهابية خاصة وأنّ كل واحد منهما يحمل حقيبة ظهر ثقيلة بعض الشيء. ومما يعزّز هذا الشك "أنّ الحكومة البريطانية قد أعلنت حالة الإنذار القصوى، وأنّ القلق والتوتر والوجوم قد خيّم على شوارع المملكة برمتها". وأنّ "هذه الحملة الإرهابية الشرسة التي ضربت لندن لم يحدث لها مثيل من قبل". وفي الوقت ذاته كان إمام المسجد يخطب بين المصلين، وسيارات الإسعاف تمرق في الشوارع، بينما كان سلام يقرأ القرآن مباشرة، ومحمود يستمع لأخيه الأكبر أحمد وهو يتلو خمس آيات من "سورة التوبة" التي يحضُّ فيها اللهُ النبيَّ على مقاتلة الكفّار:"يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ". لقد نجح مراد في خلق حالة من الذعر الحقيقي الذي انتاب الشخصيات الرئيسة وانتقل لا شعوريًا إلى المتلقّين الذين ظلوا متوترين يترقبون حدوث الانفجار في أي لحظة. المراسِلة العربية التي أطلت علينا في أول الفيلم عادت من جديد لتؤكد بأن "العاصمة البريطانية لا تزال تحت صدمة الاعتداءات الإرهابية التي حوّلت مدينة الضباب إلى مدينة يسيطر عليها الخوف والترقّب". وثمة مراسل بريطاني يشير إلى أنّ الحكومة البريطانية قد أخذت التهديدات على محمل الجدّ، وأنّ غالبية الشركات قد أرسلت بضائعها وأقفلت أبوابها مبكرًا. يتصاعد هذا التوتر في نبرة المراسلة ذاتها لتسرد علينا خبرًا عاجلاً يقول:"تمكنت الحكومة البريطانية من القبض على بعض المُشتبه بهم، كما تمكّن البعض الآخر من الفرار خارج البلاد". يصل "محمود" إلى محطة فكتوريا لكنه ينهار بسبب نوبة قلبية فيما تفيد معلومات الشرطة "بأنه كان تحت المراقبة لعدة أشهر للاشتباه في تورطه بعمليات إرهابية لها علاقة بالعمليات الحالية". ولكن المفاجأة الصادمة تتوضّح رويدًا رويدا حينما تفتش الشرطة حقيبته وتجد فيها ناظورين لمشاهدة القطارات التي تقترب من بعيد، وحاوية صغيرة لحفظ الساندويتشات، وكتاب The Trains We Loved لديفيد سانت جون توماس وباتريك وايتهاوس، وشريط حبوب Amlodipine الذي يستعمل لمنع حدوث النوبة القلبية. وإذا كان محمود "غالب جواد" ضحية للنظرة النمطية الخاطئة التي شكّلها المجتمع الغربي عنه فإن صديقه الآخر سلام " ميغيل ألفس" الذي رأيناه قلقًا ومتوترًا هو الآخر وأن زوجته سارة "شيرين جالهي" التي سقطت في دائرة الانفعال وأخذت تلاحقه في كل مكان قد اكتشفته جالسًا في المحطة ذاتها وهو يقرأ في كتاب "القطارات التي أحببناها" عندها تأخذ نفسًا عميقًا وهي ترسم إشارة الصليب على صدرها شاكرة الله على سلامة زوجها، الإنسان المتديّن الذي لم يعرف إليه التعصب سبيلا، فهو مسلم يذهب إلى المسجد، وزوجته مسيحية تقصد الكنيسة كلما عنّ لها ذلك.

خلف المرآة

يناقش مراد في فيلم "خلف المرآة" قضية حسّاسة وهي عذرية المرأة الشرقية من خلال شخصية "أمينة" التي عشقت حبيبها الأول عصام الذي غادرها وأخذ معه سعادتها الحقيقية ومشاعرها المرهفة، والأهم من ذلك كله فقد غشاها في لحظة وجدٍ وهُيام وتركها بين جالية إسلامية لا ترحم المرأة المجرّدة من عذريتها. وحينما ارتبطت بشخص آخر وجدته حاملاً لكل تناقضات ورواسب الرجل الشرقي رغم أنه يعيش في بيئة غربية متحضرة الأمر الذي يدفعها إلى إجراء عملية ترقيع لغشاء بكارتها على يد طبيب ماهر. وفي الزيجة الثالثة تنجح في إثبات عذريتها حيث نرى الزوج فرحًا بالمنشفة البيضاء التي لطختها دماء البكارة المُفترضة. كانت أمينة تبكي على الفراش حبيبها الأول بينما كان الزوج المغفل يعتقد أنها تبكي من ألم الجماع الحميمي الأول. عندها تكرر سؤالها الممضّ ثلاث مرات:"هل هذا ما كنتُ أريده؟"، وكأنها تجلد نفسها أمام المرآة التي تحمل صورة الحبيب الأول وانعكاساته التي ترفض مغادرة البصر والبصيرة.
ما يميّز هذا الفيلم النفسي الذي يطرح سؤال العذرية ويناقشه بجرأة نادرة تضع على المحك الشخصية العربية بما تحمله من مواقف متناقضة لا ينقصها الزيف والكذب والإدعاء.
أنجز جعفر مراد 16 فيلمًا قصيرًا، إضافة إلى فيلمه الروائي الطويل الأول "فطور إنجليزي". وقد مثّل العراق في 182 مهرجانًا، ونال 52 جائزة وتكريمًا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا