الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-العامية- و-الفصحى- مرّة أخرى!

سليمان جبران

2021 / 3 / 15
الادب والفن


سليمان جبران: "العامية" و"الفصحى" مرّة أخرى!
من كتاب "على هامش التجديد والتقييد في اللغة العربيّة المعاصرة"، حيفا 2009، ص. 61 – 77.

نبدأ بالتسمية. فقد درجنا منذ سنوات طويلة، بغير حقّ، على تسمية لغتنا التي نتحدّث بـها في البيت والشارع والمكتب، والمنابر الرسمية أحيانا، لغة عامّية. ليس من السهل معرفة أول من "ابتكر" هذه التسمية، فنحمّله وزرها، لكنْ من الواضح أنّـها تسمية غير موضوعيّة، تسمية ظالمة.
في هذا السياق لا بدّ لي من اعتراف شخصي أيضاً: كنتُ طوال الوقت أشعر بالضيق في استخدام هذه التسمية، لما فيها من التعالي على هذه اللغة التي نتحدّث بـها جميعنا؛ الصغار والكبار، الأميّون والمثقّفون، العامّة والخاصّة. إلا أنّني كنتُ أواصل استخدامها في أحاديثي ومقالاتي باعتبارها "خطأ مشهورا" لم يعترض عليه أحد من الأدباء والباحثين، فلماذا أخرج أنا بالذات على "إجماع الأمّة" حاملا السلّم بالعرض؟ إلى أنْ قرأتُ قبل سنوات مقالة للأستاذ خليل كلفت في قضايا فكرية أشعرتني بتقاعسي المزمن، وشجّعتني على نبذ هذه التسمية دون تردّد: "هكذا نجد الباحثين الذين يريدون إنصاف ما يسمّى بالعامّية يسمّونـها بـهذا الاسم، كما نجد شعراء ما يسمّى بالعاميّة المصريّة يُعلنون باعتزاز أنّـهم يكتبون شعرهم بالعاميّة المصريّة. ومن البديهي أنّ هؤلاء الباحثين والشعراء يرفضون كلّ مغزى ازدرائي تنطوي عليه تسمية العامّية ويستخدمونـها بكلّ التحدّي لأيّ نظرة استعلاء على هذه اللغة. لكنّهم لا يدركون فيما يبدو أنّ التسمية خاطئة تماما ولا تنطوي على أيّ معنى شريف، شعبي أو جماهيري، بقدر ما تنطوي على معنى الاستعلاء والاحتقار والازدراء من جانب أنصار ما يسمّى بالفصحى عبر القرون". باختصار: العامّية تعني لغة العامّة، لغة سواد الناس، بل ربّما لغة "سوقية" أيضا. كأنّـما "الخاصة" يتحدّثون بلغة أخرى أنقى وأرقى! لهذا السبب أقلعتُ مؤخّرا عن هذه التسمية، بل يجب علينا جميعا، في رأيي، رفض هذه التسمية الظالمة وهجرها.بعض الباحثين يسمّيها اللفة الدارجة أيضا، أي اللغة الشائعة أو المنتشرة، من الفعل درج بمعنى مشى أو سار. وهي تسمية محايدة، لا تحمل دلالة قيمية، إلا أنّـها غير دقيقة طبعا. لذا نرى أنّ اللغة المحكيّة هي التسمية الصحيحة، لأنّنا جميعا نحكيها؛ نستخدمها لغة اتّصال وحيدة بيننا، وهي أيضا تسمية موضوعيّة تماما، لا تحمل إيحاءات سلبيّة أو إيجابيّة.
من ناحية أخرى نسمّي لغة وسائل الاتّصال، الصفحات الأولى في الصحف ونشرات الأخبار بوجه خاصّ، ولغة الأدب غالبا، اللغة الفصحى. هذه أيضا تسمية غير دقيقة. إذا كانت الفصحى مؤنث الأفصح، بمعنى أفصح ما يمكن، والفصاحة تعني "البيان، وسلامة الألفاظ من الإبـهام وسوء التأليف"، فهل يجوز لنا إطلاق هذه التسمية على لغة الصحافيين والمذيعين والخطباء، رغم ما فيها من ركاكة واضحة وأخطاء فاضحة في أحيان كثيرة؟ أليس في هذه التسمية مجافاة للدقّة وكثير من "المحاباة" أيضا؟ إذا كنّا نسمّي اللغة الكلاسيكية لغة فصحى فهذه اللغة لا هي فصحى ولا فصيحة طبعا. وبعضهم يسميها اللغة المكتوبة، رغم أنّ المحكيّة تُكتب أيضا، بالعلامات ذاتـها عادة، وفي هذه الأيّام تصدر فيها كتب كثيرة متنوّعة.
ليست هذه اللغة فصحى، ولا فصيحة، ولا مكتوبة. إنها لغة يحاول كتّابها والناطقون بـها أن يرسلوها وفق معايير النحو والصرف وأحكام الأسلوب المتّبعة، فيوفّقون حينا ويفشلون حينا. أحرى بنا إذن، توخّيا للدقّة، أن نسمّيها لغة معيارية (standard)، كما نجدها فعلا عند بعض الباحثين في الدراسات اللغويّة. هذه هي التسمية الموضوعيّة الدقيقة، بعيدا عن التعميم أو المحاباة. لدينا إذن لغة محكيّة ولغة معياريّة، ولا حاجة في المسمّى الواحد إلى أسماء عديدة!
إلا أنّ ظُلم المحكيّة لا يقتصر على التسمية فقط. فكلّ من يقرأ المقالات والكتب التي تعرض لهذه القضيّة اللغويّة يلحظ بوضوح تحامل كثيرين من "الغيورين" على اللغة المحكية. كأنـما هي بدعة استعمارية ألقى بها الغرب لتفريق صفوف العرب الموحّدين [!] والنيل من قوّتهم وصمودهم. يقول الأستاذ عبد الله خلخال مثلا: "الدعوة إلى العامّية دعوة استعماريّة لغويّة قديمة، عَرفتْ في أواخر القرن الماضي وبدايات القرن العشرين أوج صراعها الضاري في العالم العربي من المحيط إلى الخليج، بين دعاة العاميّة ومن ورائهم الاستعمار الأوروبي، وبخاصّة الفرنسي والإنجليزي، وهم في حالة قوّة ووضعيّة هجوم، وحماة العربيّة الممسكين [المتمسّكين بـها؟] وبتراثها العلمي والأدبي مهما كان الأمر وبوسائلهم المحدودة."
الدعوة إلى اللغة المحكيّة إذن هي دعوة استعماريّة، لا أكثر ولا أقلّ! إذا قام الباحثون الغربيّون بدراسة اللهجة المصريّة، مثلا، فدراساتـهم هذه أيضا لم تكنْ لوجه الله، ولا لوجه العلم طبعا. هذه الدراسات ليستْ إلا وجها من وجوه المؤامرة الكبرى على العربيّة الفصحى، وانتصارا للمحكيّة المصريّة؛ "السلاح" الاستعماري الخبيث ضدّ العربيّة والعرب: "وقد أرشدني البحث في دراساتهم [الأجانب] للهجة المصريّة وما بذلوه من جهود لضبطها وتدعيمها والدفاع عنها إلى السبب الحقيقي في اهتمامهم بدراسة اللهجات العربيّة المحليّة. فهذا الاهتمام لم يكنْ من أجل البحث العلمي كما يزعمون، ولا من أجل حاجتهم إلى معرفة لهجات البلاد العربيّة التي تقتضي مصالحهم أن يعيشوا فيها ويتعاملوا مع أهلها، وإنـما من أجل القضاء على العربيّة الفصحى وإحلال العامية محلّها". ونحن إذ نقرأ رأي الدكتورة نفوسة سعيد هذا، يحقّ لنا أن نسألها عن "السبب الحقيقي" الذي يمكن أن يرشدها إليه البحث، في دراسات كثيرين من اللغويين والأدباء العرب، في الماضي وفي هذه الأيام، للهجات العربيّة في جميع الأقطار العربيّة، من المحيط إلى الخليج: هل يخدمون هم أيضا بدراساتهم هذه غايات استعماريّة خفيّة؟ وما "السبب الحقيقي" أيضا في دعوة الأستاذ ساطع الحصري، أشهر دعاة القومية العربية، إلى دراسة "اللغات العاميّة" في مختلف البلاد العربيّة، لا في مصر فحسب: "يجب علينا أنْ ندرس اللغات العاميّة واللهجات المحليّة، المنتشرة في مختلف البلاد العربيّة، ما هي أنواعها؟ وما هي خصائص كلّ نوع منها، من حيث الكلمات والتعابير [...] يجب علينا أنْ نتتبّع التطورات التاريخيّة أيضا: من المعلوم أنّ اللغة كائن حيّ، يتطوّر على الدوام بتطوّر المجتمع، وينمو تبعا لنموّ الأفكار وتنوّع الحاجات".
دراسة التراث الشعبي المصري، في رأي "الغيورين"، هي أيضا بُعد آخر من هذه "المؤامرة" الاستعماريّة. ليس هذا الفولكلور الشعبي، من قصص وأشعار وأغان وأمثال وطرائف، في رأيهم، تراثا وطنيّا مصريّا، وعاملا من عوامل تشكيل الوجدان المصري والشعب المصري. ودراسته ما هي إلا حيلة استعماريّة أخرى لتعزيز المحكيّة بابتكار أدب لها أيضا، لم يتورّعوا عن تسجيل هذا التراث الشعبي بابتكار أدب لها أيضا، وإذ لم يجدوا آثارا كافية في المحكيّة لم يتورّعوا عن تسجيل هذا التراث الشعبيّ "من أفواه العامّة" إمعانا في مؤامرتهم المذكورة: "لمـّا قام الأجانب بنشر دعوتهم إلى اتّخاذ العاميّة لغة أدبيّة لم يجدوا أدبا لهذه اللغة يمكن الاعتماد عليه في دراسة العاميّة وقد اعترفوا هم أنفسهم بذلك. وأشاروا إلى الآثار العاميّة القليلة التي عثروا عليها والتي لم تفِ بحاجتهم [...] لذلك قام بعضهم بتسجيل ونشر أدب العامّة من أزجال ومواويل وقصص من نوع الأحدوثة الذي يعرف عند العامّة (بالحدوتة). وكان أكثره ممّا التقطوه من أفواه العامّة في مختلف أنحاء القطر المصري". هل نفهم مِن هذا الكلام أنّ جميع الكتاّب والباحثين المصريّين، الذين بذلوا جلّ جهدهم وعمرهم في دراسة الأدب الشعبي المصري ونشره، وهم كثيرون، شركاء أيضا في هذه "المؤامرة" الاستعمارية على العربيّة والعرب؟ هل دراسة وتحليل وطباعة الأدب الشعبي، المكتوب بالمحكيّة حينا وبلغة وسطى حينا، تشكّل خطرا على العروبة والعربيّة؟ وهل الأصوات القائلة بصعوبة العربيّة نحوا وصرفا، المنادية بضرورة تيسيرها على المتعلّم والقارئ والكاتب، هي دعوات "انهزاميّة مشكّكة" فعلا، كما يفيدنا الأستاذ محمد عيد: "ينبغي أن تُطرد من حياتنا تماما تلك الدعوات الانـهزامية التي ترتفع بين الحين والحين لتشكّك في لغتنا وترميها بالتحجّر والجمود، وتصف نحوها بالصعوبة والتعقيد".
الجدل في قضية "الفصحى والعامية" جدل حادّ وطويل، لهذه حماتـها ولتلك أنصارها، وكلّ فريق يطرح مواقفه وتقييماته. إلا أنّ هذا الأسلوب في النقاش بعيد عن الموضوعيّة والإقناع. حتى في القضايا السياسيّة لم يعدْ هذا الأسلوب "الشعبوي" مقبولا. من حقّ كلّ كاتب أنْ يُبدي رأيه في هذه القضيّة التربويّة الثقافيّة بأسلوب علمي موضوعي، سواء ناصر اللغة المعياريّة أو المحكيّة. لكنْ لا يجوز، في هذه المسألة الهامّة، استعارة مفردات ومفاهيم "الخطاب" السياسي الشعبوي دونما دراسة المسألة ذاتـها بكلّ أبعادها. لسنا من يحسن الظنّ في نوايا الاستعمار والصهيونية، لكنْ يصعب علينا، مثلا، الاقتناع بأنّ "إضعاف اللغة العربية" هو هدف من أهداف الصهيونيّة في الشرق الأوسط، كما بذهب الدكتور أحمد درويش، الناقد المصري المعروف: "هل يمكن أنْ نتصوّر أن فلسفة كالفلسفة الصهيونيّة، تجعل من أرض اللغة العربية منطلقها الواسع لتحقيق كلّ أحلامها العنصريّة، وتمهّد لذلك بإضعاف كلّ العناصر المناوئة لتحقيق الحلم، هل نتصوّرها غافلة عن إضعاف اللغة ومن خلالها إضعاف الشخصية العربية بوسائل يظهر بعضها، ويغيب عنّا أكثرها؟!".
ينعكس ظلم المحكية أيضا في اعتبارها، من قبل كتّاب كثيرين، وليدة "انحراف" عن اللغة الكلاسيكيّة. كأنمـا الناس جميعا كانوا يتداولون اللغة الفصحى، لكنْ بمرور الزمن واختلاط العرب بالشعوب الأخرى، فسدت الألسنة، فنشأت تبعا لذلك اللغة المحكية مزيجا من عربيّة رديئة ولهجات محليّة غير عربيّة. تلك فرضيّة غير صحيحة، أو غير دقيقة على الأقلّ. فاللغة المحكية، في رأي كثيرين من الدارسين، كانت متداولة في القبائل العربية قبل الفصحى؛ لغة قريش التي أخذت تنتشر وتهيمن تدريجيّا في الحقبة الأخيرة من الجاهلية، تبعا لمكانة مكة الاقتصادية والدينية، وانتصرت أخيرا بظهور الإسلام ونزول القرآن الكريم فيها دون غيرها: "هذه العامية أقدم من الفصحى عهدا، وأعرق منها إلى العروبة نسبا، وفي مقدورنا لو أتيحت لنا كتابة العامية أن نقول بأننا نكتب العربية لا مراء. لقد عاشت خصائص تلك العامية في العصور العربية الأولى، إذ كانت لهجات لمختلف القبائل والعشائر، جرتْ عليها طبائع النشوء والارتقاء، ومرّت بـها أطوار تنازع البقاء".
ليست المحكية أيضا "انحرافا" عن اللغة الكلاسيكية، كما يتوهّم البعض، لقيام بعض أوجه الشبه بين اللغتين، وهي أوجه تكاد تقتصر على المادّة المعجمية المشتركة بينهما. حتّى المادّة المعجمية المشتركة هذه تختلف في لغتنا المحكية عنها في المعيارية صرفا وأصواتا في أغلب الأحيان. لذا علينا، إذا توخّينا الإنصاف، اعتبار المحكية منظومة لغوية مستقلّة، لا هي تابعة، ولا هي خروج أو "انحراف" عن اللغة المعيارية: "إنّ الفروق اللغوية بين العامية والفصحى التي ينظر إليها الناس أنّـها فروق طفيفة جزئية، أو انحراف بسيط عن الفصحى، هي من وجهة نظر علم اللغة فروق أساسية جوهرية تبرّر اعتبار العامية لغة قائمة بذاتـها، سواء أكان ذلك في النظام الصوتي أم التركيبـي أم الصرفي أم النحوي أم في المفردات والتوليد والاقتباس والقياس".
حتى إذا أخذنا، جدلا، بالرأي القائل إنّ المحكية تطوّرت عن الفصحى، فهذا التطوّر ليس بالانـحطاط ولا بالفساد. إنه تطوّر نـحو السهولة والطواعية والمرونة، بحيث يمكّن من تداول اللغة بيسر ورشاقة. هل سقوط حركة الآخر في اللغات المحكية كلّها، عدا ألفاظا قليلة اتّخذت لها شكلا ثابتا، وتخفيف الصوامت الثقيلة في النطق، وتقديم الفاعل على الفعل، والاستفهام دون حرف استفهام إلى غير ذلك، هل هذه التغييرات انـحطاط وفساد فعلا، أم هي تيسيرات ضرورية فرضها انتقال اللغة من السياقات الرسميّة إلى لغة يوميّة حيّة تحكمها الرشاقة والتلقائيّة؟ لا انحـطاط في المحكية ولا سموّ وشرف في المعيارية، لا هذه واطئة ولا تلك عالية. كلتاهما منظومتان لغويّتان مستقلّتان، تتّفقان في بعض النواحي وتختلفان في غيرها: "اللغة ظاهرة من ظواهر الحياة، وقانون من قوانين المجتمع. وظواهر الحياة تتبدّل وتتشكّل طوعا لتصاريف الزمن، وقوانين المجتمع تتجدّد وتتطوّر وفقا لما تقضي به ضرورات الاجتماع".
بخلاف المزاعم السابقة ضدّ اللغة المحكية، يذكر بعض الباحثين "عيبين" في هذه اللغة لا بدّ من مناقشتهما في أناة وموضوعية. الأديب الرصين محمود تيمور، مثلا، يرى أنّ اللغة المحكية "لا ضابط لها ولا نظام، فإنـها لهمجية غير مهذّبة، وليس لها من أصول مستقرّة قطّ". والرأي ذاته، بشكل أو بآخر، تذكره الدكتورة نفوسة سعيد أيضا: "لغة الأدب أو الفصحى هي اللغة التي تستخدم في تدوين الشعر والنثر والإنتاج الفكري عامّة. أمّا لغة الحديث أو العامّية فهي اللغة التي تستخدم في الشؤون العادية ويجري بـها الحديث اليومي. والأولى تخضع لقوانين تضبطها وتحكم عبارتـها، والثانية لا تخضع لمثل هذه القوانين لأنّـها تلقائية متغيّرة تبعا لتغيّر الأجيال وتغيّر الظروف المحيطة بـهم". حيال هذه "التهمة" لا بدّ أوّلا من السؤال: ألا تتغيّر "الفصحى" أيضا بتغيّر "الأجيال والظروف المحيطة بـهم"، بين عصر وعصر، بل بين مجتمع وآخر في العصر ذاته أحيانا؟ هل "الفصحى" التي نتداولها اليوم هي الفصحى الكلاسيكية نحوا ومعجما؟ صحيح أن قواعد اللغة لم تعرف أيّ تغيير أو تيسير، وذلك ما يُحسب عليها لا لها، إلا أن اللغة الحديثة تطوّرت نحوا ومعجما بما يخالف القواعد الكلاسيكية في أحيان كثيرة، بحيث يمكن القول إن هذه اللغة في حاجة إلى نحو جديد يحكم كلّ المباني اللغوية الحديثة. أمّا أنّ المحافظين لا يعترفون بـهذه الأبنية الحديثة، ويعتبرونها أخطاء لا بدّ من إصلاحها، فذلك لا يضير اللغة ومستهلكيها، لأن المبدع الحقيقي لا يعود إلى كتب النحو، أو يستفتي "الغيورين"، عندما يكتب قصيدته أو قصّته. إنه يحتكم إلى حسّه اللغوي، وحسّه هذا عادة حسّ حديث، غالبا ما يتأثر بقراءته في لغات أخرى، أو بلغته المحكية الحيّة التي يتداولها معظم ساعات يومه. صحيح أن قواعد المحكية أكثر عرضة للتغيّر، لأنّـها لا تدرّس عادة ولا تقدّس، إلا أنّ كل محكية لها قواعدها وأحكامها، ما في ذلك شكّ. إذا كانت المحكية "لا ضابط لها ولا نظام" فكيف يكتسب الطفل بالسماع، دونما عناء، محكية والديه بضوابطها، ويثير الضحك أحيانا حين يخالف هذه الضوابط صرفا أو نحوا؟ حتى لطفي السيد، وهو ليس رجل لغة، يؤكّد ذلك: "إنّ العوامّ يملكون بالوراثة سرّ اللغة ويصرّفون البيان فيها تصريفا حيّا مألوفا. وإنّ اللغة العامية هي اللغة الحيّة في النفوس، والفصيحة ليس لها أثر في الصور البيانية إلا عند الذين يعرفونـهـا ويقرءونـها فصيحة كلّ يوم". كلّ محكية لها قواعدها وأحكامها طبعا، والجامعات ومكتباتـها تحفل، في أيّامنا هذه، بالدراسات التي تتناول المحكيات المختلفة، نحوا وصرفا ومعجما، بعضها في العربية وبعضها الآخر، ما العمل؟ في اللغات الأوروبية!
يعاب على المحكية، أخيرا، انّـها غير قادرة على التعبير عن القضايا الفلسفية والفكرية والثقافية، فهي مجالات تكاد تقتصر على اللغة المعيارية، لا تنافسها المحكية فيها على أقلام الكتّاب وصفحات المطبوعات: "إنّ العامية لم تستطع إلى الآن أن تتسامى إلى آفاق الفكر العليا، فإنها لم تزدْ بعد على أن تكون وسيلة للتعبير الساذج والأحاسيس البدائية". هذه واقعة لا سبيل إلى إنكارها طبعا، لكن يجب أن نسأل أيضا: لماذا لا تستطيع اللغة المحكية أن تقوم أداة تعبير في المجالات المذكورة دون غيرها؟ السبب بسيط: أن جميع الأدباء والباحثين لم يستخدموا المحكية في هذه المجالات! هل يمكن أن يعاب على إنسان جهله السباحة إذا كان لم ينزل إلى الماء منذ ولادته؟ لا داعي إلى العجب إذن إذا كانت المحكية "عاجزة، بحكم عدم الممارسة، وبحكم وقف النموّ المفروض عليها، عن أن تكون لغة الفكر والفلسفة والأدب". لو اعتمدنا المحكية في تناول الميادين السابقة لكانت هذه اللغة تطوّرت اصطلاحا ومعجما وصياغة، وزاحمت اللغة المعيارية في الميادين المذكورة كلّها، بل فاقتها أيضا طواعية ومرونة: "غير أنّنا لا ينبغي أن نتجاهل الخطر الماثل في لياقة اللغة العامية وصلاحيتها كأداة للتعبير الأدبي، فهو إن كان اليوم من ذلك محدودا، فقد يكون غدا أقوى، وقد تصبح أقدر على الأداء الأدبي السامي من الفصحى إذا فتن الشباب المثقّف بالإنتاج الفكري باللغة العامية وعملت أجيال منهم على الارتفاع بـها إلى المستوى الأدبي الذي يجعلها لغة فكر وتعبير صحيح. وليس يجدينا أنْ نقاوم عوامل الحياة بالعنف والقسر لأنّ الطبيعة تأبى كلّ عنف، وهي أقوى من كلّ قوّة".
هذه هي المواقف المغالية لأعداء اللغة المحكية: رفض هذه اللغة جملة وتفصيلا، كأنما هي مرض أو خطر يتهدّد ثقافتنا ووجودنا، متناسين أنّ المحكية هي لغتنا الطبيعية السائغة في معظم مجالات الحياة، شاءوا أو أبوا. بل يعمدون أيضا إلى "اتّـهام كلّ من يحاول التعرّض لقضيّة اللغة بتهم من المروق والانحلال والعداوة للغة ذاتـها". النظرة المتأنية في مواقف هؤلاء الغلاة من اللغة المحكية تبيّن بوضوح أنّ هذه المواقف هي، في الواقع، دفاع عن "الفصحى" أكثر منها عداء للمحكيّة. الحياة تتغيّر وتتبدّل بين عصر وعصر، بل بين سنة وسنة في هذه الأيام، والغلاة يقفون "حماة" على حدود "الفصحى"، يحاولون الحؤول دون أي تغيير أو تجديد فيها. وإذا حدث شيء من ذلك، ولا بدّ أن يحدث لأنّ الحياة أقوى منهم ومن قيودهم، رفعوا أصواتهم محتجّين، معتبرين هذا التجديد خروجا على اللغة وإفسادا لها. وهل يمكن أنْ يرضى بدراسة المحكية ورعايتها، أو بالتغيير والتجديد في "الفصحى" مَن يعتبر هذه اللغة "أمّ اللغات وأصلها الأصيل، وكلّ اللغات الآرامية والسامية والحامية كان أصلها لهجات عربية تولّدت عنها وتطوّرت فيما بعد بحسب البيئات والحاجيّات، ثمّ تعمّقت كلغات مستقلّة على مرّ العصور".
لا بدّ هنا من القول صراحة إنّ هذا التعصّب المغالي للغة "الفصحى" والعداء الظالم للمحكية ناشئان عن عاملين اثنين خارجين عن اللغة ذاتـها: الأوّل هو العامل الديني متمثّلا في نزول القرآن في هذه اللغة، والثاني هو العامل القومي، في العصر الحديث، متمثّلا في اعتبار "الفصحى" من مقوّمات الوحدة بين الشعوب العربية على اختلاف أقطارها ولهجتها. ما إن يدعو أديب إلى الاستفادة من اللغة المحكية، أو إلى التجديد في "الفصحى" نحوا ومعجما حتّى يلجأ المحافظون إلى هذين العاملين في تبرير جمودهم، وإلى اتّـهام الإصلاحيين والمجدّدين، في أحيان كثيرة، بالإساءة إلى الدين والقومية: "فارتباط الفصحى بالقرآن منذ فجر الإسلام، ثمّ ارتباطها بالقوميّة العربية في العصر الحديث، جعل رؤية واقع اللغة، ودراسة هذا الواقع كما هو – وخاصّة المسائل الخلافيّة كمسألة الفصحى والعاميّة – جعل كلّ ذلك من أشقّ الأمور على الباحث العربي المسلم".
في هذا السياق، لا بدّ من طرح السؤال المباشر دونما خوف أو حرج: هل نزول القرآن الكريم في اللغة الفصحى من شأنه أن يسبغ على هذه اللغة قداسة القرآن الكريم ذاتـها، وهل يجب على الأدباء وعلماء اللغة إغلاق باب "الاجتهاد" هنا أيضا، ليحولوا دون كلّ إصلاح أو تجديد تمليهما الحياة المعاصرة؟ ليست اللغة الفصحى، في رأينا، لغة "توقيفية" أولا، ولا هي لغة مقدّسة ثانيا، فيُحظر كلّ تطوير أو تغيير أو تجديد فيها، كما لو كان ذلك كفرا أو مروقا! بل إنّ هذا الموقف المتعصّب ذاته هو ما يسيء، في اعتقادنا، إلى هذه اللغة ويقيّد حركتها، لتظلّ متخلّفة عن كلّ اللغات المعاصرة الراقية: "يظهر أنّ باب الاجتهاد أُغلق في اللغة كما أغلق في التشريع، فقد صار من المقرّر بيننا الآن أنّ اللغة العربية وسعت كلّ شيء. لكي يكون هذا الاعتقاد صحيحا يجب أنْ نفرض أنّ هذه اللغة هي نتيجة معجزة كاملة من يوم وجودها في العالم، وهذا يناقضه أنّ جميع اللغات خاضعة لقوانين التحوّل والرقيّ العامّ، وتابعة في أطوارها لسير الإنسانية، فهي إذن مظهر من مظاهر غريزتها الطبيعية التي لا تزال تنتج وتبدع كما فعلت في الماضي". ما يقوله الرجل التنويري قاسم أمين بأسلوب "تقليدي" في أواخر القرن التاسع عشر، يردّده أنيس فريحة أيضا، بأسلوب عالم الألسنيات الحديثة، وبعبارة صريحة لا لبس فيها ولا مواربة: " لقد أثبت علم اللغة الحديث أنّ اللغة ظاهرة اجتماعية يتميّز بها كلّ مجتمع إنساني. وهي ظاهرة إنسانية لا علاقة لها بالآلهة، ولم تهبط من علٍ، بل نشأت من أسفل، وتطوّرت بتطوّر الإنسان ذاته، ونمت بنموّ حضارته. وليس هناك من مبرّر للمفاضلة بين لغة وأخرى[...] لكلّ لغة عبقريّتها ومقدرتها على التعبير عن حياة المجتمع. وليست القضيّة قضيّة لغة بل قضيّة حضارة أرقى من حضارة وحياة أغنى من حياة".
إذا كانت الفصحى "مقدّسة"، في نظر الغلاة المذكورين، فمن الطبيعي أن يعارضوا كلّ تغيير فيها، صغيرا كان أو كبيرا، كما أسلفنا، باعتبارها لغة مثلى لا تعرف عيبا، ولا تعاني إشكالا أو تقصيرا، حتى في عصرنا هذا الحافل بالتغييرات الكبرى في الفلسفات والمعارف والمفاهيم: "وقد أثبتت [اللغة العربية] في العصر الحديث قدرتها على الترجمة والتعريب، ولم تكنْ إشكالات المعاصرة إلا وهما شجّعه المستعمر وغذّاه التابعون وأعداء الأمّة العربية. بل إنّ هذا الوهم سياسي وليس لغويا على الرغم من أنّه يدور حول ثلاثة أمور معرفية وتاريخية ولغوية".
هل يمكن لامرئ الزعم أنّ "اللغة العربية بخير" إلا إذا كان منقطعا عن ثقافات العصر ومعارفه؟! وهل كلّ الأصوات التي تشير إلى عجز هذه اللغة وفقرها في مواجهة الحضارات والثقافات الوافدة، وتنادي بتطويرها وتحديثها، هي أصوات سياسية واهمة يشجعّها الاستعمار بالذات؟ هل ساطع الحصري، رائد القومية العربية، مثلا يكتب ويعمل بتشجيع من الاستعمار وأعداء الأمّة العربية أيضا: "لا شك أنّـها [اللغة العربية] إن أمستِ اليوم عاجزة وفقيرة – بعد أنْ كانت بالأمس غنيّة وقديرة – فما ذلك إلا لأنّ المتكلّمين بها قد انقطعوا عن مزاولة العلوم منذ قرون، ولأنـّهم حبسوا أذهانـهم في دائرة ضيّقة من الأدبياّت والشرعيّات، منصرفين إلها عن كلّ ما سواها. وكأنّي باللغة العربية قد ظلّت داخل هذه "الشرنقة المعنوية" جامدة خامدة، لا تتحوّل ولا تتكيّف، ولا تنمو ولا تتطوّر".
ليست اللغة "الفصحى" اليوم بخير، كما يزعم هؤلاء الغلاة. وإذا كان الحصري رأى عجزها وفقرها قبل عشرات السنين، فلا شكّ أنّ حالتها اليوم، حيال الثورة التكنولوجية والمعلوماتية الكاسحة، قد ازدادت عجزا وفقرا. بسبب هؤلاء السادة، من محافظين وغلاة ومتعصّبين، تعاني لغتنا اليوم أزمة مزدوجة حادّة، وتجاهل المرض لا يؤدي إلا إلى تفاقمه وإلى تهديد حياة المريض.
البعد الأول من الأزمة هو فقر هذه اللغة في المصطلح، لا في مجال التكنولوجيا والاختراع فقط، كما يظنّ كثيرون، بل في جميع مجالات المعارف الإنسانية. الذنب في هذا الفقر الصارخ هو ذنبنا نحن طبعا، الناطقين بهذه اللغة: لا نشتقّ ولا نستحدث بدائل عربيّة لهذه المصطلحات الأجنبية، ولا نرضى أيضا بتعريب هذه المصطلحات مكابرة وغرورا: "فالمجتمع العربي، بسبب تخلّفه الحاضر، مضطّر إلى الاستعانة المتواصلة بالمنتجات الفكرية والعلمية والعملية الأجنبية، وهذه الحصيلة الدافقة يوميا من الخارج في جميع مجالات الحياة دون استثناء تجلب معها مصطلحات ومفردات وأساليب في التعبير، لا تنتظر الإذن من المجامع والمؤسسات اللغوية والتربوية، فتحدث خللا وإرباكا لغويا بطرق متفاوتة حسب وضع كلّ بلد عربي وحسب قوّة السيطرة اللغوية الأجنبية (بين إنجليزية وفرنسية) التي تفرضها عوامل تاريخية وسياسية واجتماعية". لا أظننّا في حاجة إلى الاسترسال في شرح هذا البعد من الأزمة. فكلّ مثقّف، وكلّ صحافي، وكلّ أديب، وكلّ مترجم بوجه خاصّ، يعانون يوميّا من هذا النقص المحبط في المصطلح، ويستغيثون وما من مغيث!
البعد الثاني، ولعلّه الأهـمّ أيضا، هو هذه القطيعة المذهلة بين أبناء العربية، الأجيال الشابّة بوجه خاصّ، واللغة "الفصحى" – لغة آبائهم وأجدادهم، لغة قوميتهم وتاريخهم وتراثهم. سألت أحد تلاميذ الثانوية من أقاربي مرّة لماذا غاب في أحد الأيام عن المدرسة، فأجابني دون تردّد أو تفكير: هذا يوم غير مهمّ، نتعلّم فيه درسين في العربية!! وإذا كان بعضنا يظنّ أنّ الوضع المؤلم يقتصر على أبنائنا هنا فحسب، فليستمع إلى الأستاذ فريحة، وقد لمس بنفسه النفور من العربية بين الصغار في بيته هو أيضا: "إن درس العربية درس صعب جافّ بعيد كلّ البعد عن تفكيرهم [الصغار]. فلا الكتاب يستهويهم، ولا الحرف العربي يلين لهم، ولا قواعد الصرف والنحو التجريدية في متناول إدراكهم، ولا الذين وضعوا البرنامج نزلوا من الابراج إلى مستوى الأطفال، ولا المعلّم حرّ التصرّف في تعليمه إذ إنّه مقيّد بإدارة المدرسة وإدارة المدرسة حريصة على تطبيق منهاج الوزارة، والوزارة تدرس الأمر!". لا يحسبنّ أحد أنّ المشكلة هي مشكلة الصغار دون غيرهم. لقد سمعت بأذني كثيرين من المعلمين والمثقّفين و"الشعراء" أيضا، يقرءون ولا يعرفون كيف يجب أن يقرءوا. بل سمعت، ذات مناسبة، واحدا من "المقعّرين" بالذات يحاول القراءة بـ"الشكل التامّ" فلا يكاد يفهم ما يقرأ، لأنّه كان يلهث وراء الضمّة والفتحة والكسرة ناسيا أين تبدأ الجملة وأين تنتهي! لا تظنّوها مبالغة، فإنّ "كثيرا من أبناء هذه اللغة يواجهون قصورا ظاهرا في السيطرة عليها والتفكير بـها، وتحويلها من مجرّد معرفة مفروضة أو واجبة إلى معرفة محبوبة، يتمّ السعي إليها والتمتّع بها، فينفضّون عنها في كثير من الأحيان يأسا أو زهدا، وينصرفون إلى أدوات أخرى يبرزون من خلالها طاقاتهم التفكيرية التي هي ضرورية للحياة، فضلا عن التقدّم والرقيّ، ويستقرّ في أذهانـهم ما لا بدّ أن يورث للأجيال التالية من صعوبة اللغة وانعزالها عن التفكير الحيّ". إذا كان بعضنا يتّهم "شباب اليوم" بهذا الضعف الواضح في إجادة العربية، كتابة وقراءة، فقد أشار الأستاذ الأديب محمود تيمور إلى هذا العيب لدى "عامّة المثقّفين" قبل عشرات السنين أيضا، وبنفس الأسلوب تقريبا: "لا خلاف على أنّ قراءة الكلام غير المضبوط قراءة صحيحة، أمر يتعذّر على المثقّفين عامّة. بل إنّ المختصّين في اللغة، الواقفين حياتهم على دراستها، لا يستطيعون ذلك إلا باطّراد اليقظة، ومتابعة الملاحظة، وإنّ أحدا منهم إذا حرص على ألا يخطئ، لا يتسنّى له ذلك إلا بمزيد من التأنّي، وإرهاف الذاكرة، وإجهاد الأعصاب".
يصعب القول إنّ كلّ من لا يجيدون اللغة "الفصحى" يعانون جهلا أو غباء، خصوصا إذا كان بعضهم يجيد لغة أجنبية أو أكثر. لا مناص من الإقرار بأنّ اللغة "الفصحى" لغة صعبة معقّدة، غريبة عن الإنسان العربي المعاصر في نحوها وصرفها وقاموسها وصياغاتها. السبب الأوّل في صعوبتها أنّها ليست لغة طبيعية حيّة نتداولها في البيت والسوق والشارع، والانتقال إليها يعيق طبعا: "ونحن نعتقد أنّ انتقال العربي من لغة سيّالة مرنة غير معربة، من لغة لا تحتاج إلى عناء ولا بذل مجهود، إلى لغة غريبة عن حياته اليومية، صعبة معقدة تخضع لقوالب معيّنة، أمر يعوق الفكر، لأنّ اللغة طريق الفكر. وعوضا عن أن ينصبّ الجهد الفكري في المعنى ينصرف إلى الشكل الذي يظهر فيه المعنى. والمعنى أصل والشكل فرع، أو ذاك جوهر وهذا عرض. هذه مشكلة ازدواج اللغة بالنسبة إلى الفكر". إذا كانت هذه حال الكبار منا، بعد أن تعرّفوا "الفصحى" ودرسوها سنوات طويلة، فكيف بالطفل المسكين ينتقل فجأة من بيئة لغوية حميمة طيّعة، ألفها وألفته سنوات، إلى مجاهل "الفصحى" الباردة، الغريبة عن لسانه وعقله وقلبه؟ إلا أنّ المجال يضيق هنا عن الخوض في الآثار السلبية الناشئة عن الازدواجية اللغوية، وتؤكّدها الأبحاث التربوية نظرية وتطبيقا، في التحصيل العلمي لأطفالنا في المدارس.
السبب الثاني في صعوبة اللغة المعيارية أنّ هذه اللغة لم تعرف إصلاحا أو تغييرا أو تيسيرا، لا في نحوها، ولا في صرفها، ولا في كتابتها. أصوات كثيرة ارتفعت منادية بإصلاح اللغة، خلال المئة سنة الماضية، ومقترحات عينية طُرحت، ونقاشات طويلة دارت، إلا أنّ شيئا لم يحدث. وها نحن اليوم ما زلنا نكتب ونقرأ محكومين بقواعد وأحكام أنتجوها قبل أكثر من ألف سنة! وإذا حدث شيء من تغيير أو تطوير في اللغة فإنّـما يحدث رغم القواعد والأحكام المذكورة، ويُعتبر في نظر "المؤولين" خروجا على اللغة، أو شذوذا، أو "أخطاء ألفناها". نتباهى بهذه اللغة، وننظم في الفخر بها الأشعار، إلا أنّنا نحاول جاهدين تقييدها وتجميدها: "إنّ اللغة العربية غير مخدومة لغويا وعلميا وتربويا وإعلاميا، وإنّها تحتاج إلى جهود علمية – عملية حتّى تنتقل من عبء نفسي عند مستخدميها إلى بهجة ويسر ودافع إيجابي. ولا نعرف أناسا في الدنيا يستخدمون لغتهم بمثل ما يصاحب استخدام اللغة العربية لدى أبنائها من تـهيّب وتـحفّز وتردّد وتوتّر نفسي ورهق".
هذه هي أوضاع اللغة العربية اليوم: لغة معيارية مقيّدة، لا تتغيّر ولا تتبدّل، صعبة على العقل والقلب، وهي مع ذلك كلّه اللغة الرسمية المفروضة بسلطة المؤسّسات المهيمنة. ولغة محكيّة حيّة متطوّرة، تحتلّ العقل والقلب، لكنّها مع ذلك كلّه لغة غير رسميّة، غير معترف بـها، بل مزدراة أحيانا. إلا أنّ الحياة ترفض الجمود والقيود، واللغة المحكيّة، لغة الحياة، تصرّ على رفض التمييز والاضطهاد أيضا. ما أشبه اللغة "الفصحى"، وأنصار "الفصحى"، بالحاكم الظالم يأبى مسايرة الحياة، رافضا أيّ إصلاح أو تغيير، فلا تجد الحياة أخيرا من حلّ إلا بتغييره هو! نحن لا نتمنّى سقوط اللغة المعيارية، ونعرف مخاطر ذلك، إلا أنّ "حماة" هذه اللغة يسيرون بـها غير واعين في هذه الطريق بالذات! فنحن اليوم نشهد اللغة المحكية "تحتكر احتكارا فعليا في مجال الحياة اليومية وامتداداتـها المباشرة في الثقافة والآداب والفنون الشعبية. كما أنّـها تنافس "الفصحى" في كافّة مجالات احتكارها منافسة تتباين قوّتها من مجال إلى آخر. ولا يعني هذا بحال من الأحوال أنّ "العامية" قد أحرزت قصب السبق وصارت اللغة السائدة. فالحقيقة أنّ الإيديولوجية السائدة لا تزال تحكم على "العامية" بوضع اللغة المضطهدة، وضع لغة من الدرجة الثانية، تتسلّل من النافذة ولا تدخل من الباب".
إذا أردنا الدّقة فالمحكية اليوم، في أحيان كثيرة، تدخل من الباب أيضا. وستظلّ تزحف على مواقع "الفصحى"، ما في ذلك شكّ، إذا ظلّت هذه مقيّدة مجمّدة، يحول "حماتـها" دون أيّ تغيير أو تطوير. المحكية اليوم تكاد تحتكر المسرح، وتطغى تماما على الأفلام والمسلسلات. حتّى المسلسلات الأجنبية التي لم تترجم في الماضي إلا في اللغة المعيارية، أخذوا يدبلجونها مؤخّرا في اللغة المحكية، المسلسلات التركية مثلا، فلاقت رواجا مدهشا. والمحكية تغلب أيضا على وسائل الاتّصال، إذا استثنينا نشرات الأخبار. بل إنّ إحدى الفضائيات الخاصّة، في مصر بالذات، لا في لبنان، تبثّ حتى نشرة الأخبار بالمحكية المصرية، وهو ما يسبب ارتفاع الضغط لدى السيد سليمان عبد الشكور الذي ربّى الأجيال "على إتقان قواعد الصرف والنحو والتفنّن في مخارج الألفاظ". المحكية دخلت أيضا عالم الشعر، وفي كلّ يوم تُكتب وتُنشر أشعار، ومجموعات شعرية، ناهيك عن الأزجال والأغاني، في المحكية، في مصر ولبنان أساسا، فتلقى قبولا وذيوعا. أما المحكية في الإنترنت والبلوجات والتعقيبات فعالم قائم بذاته، لا تعرف المحكية فيه قيودا ولا حدودا. حتى الروايات أخذ بعضها يصدر في المحكية، وتلك "انتفاضة" حقيقية تطلقها المحكية ويصعب تقدير نتائجها وأبعادها. الأوضاع اللغوية في العالم العربي متأزمة متفجّرة، وإذا واصلنا تقييد وتجميد "الفصحى"، كما هو دأبنا حتى اليوم، فلا أحد يمكنه استشراف العواقب! لا أجد خاتـمة لهذه المقالة خيرا من عبارة للمفكّر المعروف محمود أمين العالم، يوجز فيها إشكالية الازدواجية اللغوية بشجاعة وصدق: "ما تزال قضيّة العلاقة بين اللغة الفصحى واللغات العامية أو الشعبية قضيّة ملتبسة معقّدة تفتقد الجسارة العلمية والقومية لتناولها وحسمها".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا