الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


معالي الباشا في حيّنا … ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2021 / 3 / 15
الادب والفن


لم يكن حيّنا مجرد حي عادي ، لكنه بقعة من الارض تلاطمت فيها كل الدماء ، والاعراق ، والمصائر ، فبيننا من هو هندي وارمني وفارسي وتركماني وكردي … … ، ومن كل الديانات والطوائف ، يتقاسمون الحي كرغيف الخبز ، دون أي احساس بالغربة .. تضيق بهم احياناً جدران البيوت الخانقة ، فيقضون جُلَّ وقتهم في الشوارع او امام البيوت .. يدخنون او يتجاذبون أطراف الحديث او يلعبون الطاولة .. يتشاركون جميعاً نفس الحلم .. في حياة كريمة ، ويهربون من نفس المخاوف .. مخاوف الجوع والفقر الجاثمَين على قلوب الأكثرية منهم ، رغم كل ذلك كنا نعيش بتوافق لا بأس به تحسدنا عليه بقية الاحياء المجاورة !
تناهى الى اسماعنا مؤخراً خبرٌ غريب لم يُعرف مصدره ولا من هو قائله ، ولم يَسمع به اهل الحي من قبل ، قالوا بأن معالي الباشا المعروف بقسوته ، وتعاليه سيقوم بتفتيش دروب الحي الضيقة .. زقاق زقاق ، وإن صادف ووجد قذارة او أي نوع من الازبال أمام أي بيت فسيهدمه على رؤوس ساكنيه ، ويطرد اهله الى خارج الحي .. ظللنا مجمدين وحائرين ، وكل واحد منا يحدق في وجه الآخر ببلاهة ، تسائلتْ الناس بقلوب واجفة عن موعد هذه الزيارة الموعودة ، لكن الامر تُرك مفتوحاً دون تحديد موعد محدد لها !
لم يصدق البعض هذا الخبر ، واعتبروه اشاعة القصد منها دفع الناس الى تنظيف ازقتهم التي باتت تئن من تراكم النفايات ، والمخلفات البشرية في زمن عجيب كانت فيه الحمامات ترف ما بعده ترف ، لانهم ببساطة لم يشاهدوا هذا الباشا أصلاً في حياتهم ، ولم يسبق له ان زار الحي ، وربما لا يدري بأن هناك بشراً يعيشون في تلك البقعة البائسة ، والمنسية من الارض !
رغم ان الصيف كان يودع أيامه الاخيرة ، الا ان الريح كانت جنوبية حارة خانقة ، واكواخنا الطينية المتهالكة تبدو وكأنها تزداد التصاقاً لتستمد من التصاقها الحميم هذا قدراً من الطمأنينة والامان .. ينفر الناس المساكين ، بعد ان افاقوا من صدمة الخبر الاولى ، وهضموه في عسر شديد .. يزحفون بلا صوت كالديدان تقودهم غريزة الخوف ، والطاعة العمياء التي جبلوا عليها منذ الصغر ، فهبت عليهم فجأةً عاصفة من النشاط المحموم وسط حالة من الترقب والقلق !
تراكضت النسوة كدجاجات مفزوعة ، يفرضن سيطرتهن على تفاصيل المكان ، فأخذت كل واحدة تكنس امام منزلها ، وتزيل القاذورات المتراكمة في سباق محموم مع الزمن ، يشاركهن الرجال ، والاطفال في نقل القمامة دون أن يأبه أحد منهم بالحاح الذباب النهم والمزعج ، ولا بحرارة الشمس الحارقة ، وهي تحمم أجسادهم الهزيلة بالعرق اللزج ، فهم على أي حال أبناءها ، وألفوا جحيمها ، وبطشها !
كان الوقت عصراً ، والشمس قد هدأت ، وخفت حرارتها اللاهبة ، وفي لحظة نادرة ذابت فيها قشرة الهدوء التي تغلف الحي .. دبت حركة مفاجئة في غير اوانها ، وتعالت اصوات من هنا وهناك ، حتى سمعتُ أحدهم يصيح في ذعر : الباشا الباشا ! التفتنا الى حيث يشير .. ولدهشتنا رأيناه يقف منتصباً في مدخل الحي الضيق ، كأنه صدمة غير متوقعة ، بوجهه الرائق بحسن التغذية ، وكرشه المتهدل ، وقامته الفارعة .. محتمياً بظل شجرة صفصاف عجوز ، ومحاطاً بثلة من حرسه ، وقد باعد بين ساقيه قليلاً ، واضعاً يده لتستريح فوق خاصرته .. محدقاً بعينين جاحظتين كعيني ضفدع ، وشفتين مزمومتين ، منفوش كديك رومي ، وكأنه يملك المكان واهله ، واضح من تعابير وجهه العَبوس ، ونظراته الصارمة بأنه لا يبدو ودوداً او متسامحاً .. يتأمل ما حوله دون إبتسامة ، وبشئ من الاشمئزاز والتعالي ، ويخيم على وجهه وجوم صامت .. رجلٌ يفرض سطوته على الجميع .. حتى بقيتْ ملامحه القاسية مطبوعة في اعماقي دون ان اشعر !
يحدق الناس فيه بنظرات فارغة ، وافواه فاغرة ، ووجوه متعبة ، متوارية خلف غلاف من الاهمال والتعاسة ، محاولين قراءة ملامحه الشمعية الصعبة ، والخالية من اي تعبير .. كان من الواضح ان هناك شعوراً بالخوف يعم الجميع .. لم يكن أحد يتصور ان الخبر الذي كنا نعتقد أنه كان مجرد اشاعة يتجسد أمامنا كحقيقة واقعة !
يهرع المختار لاستقباله ، وابتسامة الترحيب معلقة بشفتيه ، يصحبه نفر من وجهاء الحي ، يتلبسهم خوف طفولي ، وهم يرددون كلمات الضيافة والترحيب ، وبعض من كلمات التملق التي لا ضرورة لها .. لم يبالي ، بقي واقفاً لم يهتز ، ولم يتزحزح إنجاً واحداً من مكانه .. بانتظار نتيجة الكشف التي سيقوم بها رجاله !
يتجمع الناس امام بيوتهم يتابعون ما يجري ، وهم معقودي اللسان من هول المفاجأة .. عيونهم زائغة ، لا صوت ولا حركة ، وسط هاله من التوجس والتوقع ، فلا احد يدري على من سيقع عقاب الطرد من الحي الذي هدد به الباشا وتوعد .. يتطلع جمع من الاطفال الحفاة بلامبالاة ، وهم يتثائبون ، ويدعكون عيونهم ، ويحاولون ترتيب أسمالهم المهلهلة ، احسستُ أني أكاد أختنق من وطأة الصمت الذي لم يمزقه الا نباح الكلاب الضالة ، واستغاثة العصافير ، ووجيب القلوب الواهنة !
يعطي الباشا تعليماته الى الضابط المسؤول الذي يومئ برأسه طائعاً ، ويؤدي التحية بحركة آلية متقنة ، ثم يشير الى بقية الافراد ليتبعوه ، ينتشرون في احشاء الحي كالجراد .. يتقافزون من زقاق الى زقاق .. تتابعهم نظرات الاهالي الحائرة .. الذين أُخذوا على حين غرة ، وبعد جولة سريعة في دروب الحي ، وتلافيفه العنكبوتية يعود الجميع ، ويتوقف الضابط امام الباشا محبوس الأنفاس ، ثم يشد قامته ويضم قدميه ، ويرفع يده بالتحية ، ويهمس بكلمات لم نسمعها .. يحرّك الباشا رأسه بالموافقة .. يدير وجهه ، ويتراجع إلى الوراء ، ثم يستدير ، ويصعد في سيارته .. يتحرك الموكب منسحباً بصمت وبحياد ، ينفخ الجميع انفاسهم في ارتياح ، وتعود الحياة الى ايقاعها الطبيعي من جديد ، ولهاثها الذي لا يهدء ، ولا ينتهي أبداً !!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا