الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قوة العدم أو عندما تصبح العدمية مع سيوران ضربًا من ضروب فهم العالم ذاته

شادي كسحو

2021 / 3 / 15
مقابلات و حوارات


يخيم على العالم المعاصر جو من الكآبة والسوداوية التي تجعلنا نشعر لوهلة أن عالمنا بات جحيمًا لا يطاق فمنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية بويلاتها وأهوالها والفكر العالمي مأخوذ بفكرة العدم ولا يتوقف عن إنجاب أطروحات عدمية تضع يدها على كل أشكال الخراب والعبث التي صار إليها وجود الإنسان المعاصر ولأن الفلسفة والأدب هي أكثر الحقول حساسية لروح العصر كان من الطبيعي أن يولد رامبو وجان جينيه وإميل سيوران. في هذه المساحة الحوارية المركّزة تستضيف بوابة دار الهلال الفيلسوف السوري الشاب شادي كسحو للحديث عن فيلسوف العدم الروماني/ الفرنسي (1911-1995) إميل سيوران الذي مثل بكتاباته العدمية والتشاؤمية ذروة ما وصلت إليه النزعة العدمية في الفكر الغربي.
في هذا الحوار سيكون صاحب أعمال: الموجز في التعفن، ومثالب الولادة، واعترافات ولعنات، بكل حمولاتها العدمية والخوائية تحت مبضع السؤال والحوار. حوار فلسفي من العيار الثقيل بحثًا عن تدفقات لم يعتدها الذهن العربي من قبل.
س: يمكن للمرء أن يندهش من المكانة التي يحظى بها سيوران عند القرّاء راهنًا. ما الذي يجعل سيوران جذابًا يا ترى؟ وبشكل أكثر وضوحًا: ما الذي تفكر فيه حول سيوران وكيف تفسر كل هذا الذيوع والانتشار الذي يحظى بهما هذا الفيلسوف شديد الخصوصية؟
ج: قراءة سيوران عملية معقدة، إنه مزاجي، قلق، متقلب، وذو لغة جارحة. إنه ينشد الخلاص الذاتي، ولا يهتم إلا بالخلاص والنجاة بالمعنى العرفاني للكلمة، وهذا الذهن الجحيمي الخالي من الأحكام المسبقة لا يتكلم ليقنع أو ليبرهن، وإنما يصبو نحو تجويف وتجريف كل المطلقات والحقائق والمتعاليات التي تعارف عليها البشر. أعتقد أنه لا ينبغي نسيان هذا أبدًا. ليس ثمة ما يُعرف أو يُبحث أو يُوجد عند سيوران. هذا كلام ميديائي بلا قيمة. ثمة بالأحرى ما يُكتشف عند سيوران، لكن هذا الكشف والاكتشاف ليس سهل المنال لأن الطريق نحوه لا يبنى على معطيات استدلالية، وإنما على خبرات وتجارب وجودية صعبة ومعقدة. إن العقل المنهجي والتحليلي بأدواته البلاستيكية وسرعته الإثباتية ووثوقيته الزائفة لن يرى في سيوران أكثر من عجوز عدمي بلا طائل. السخرية الكلبية ضد الرزانة السقراطية. الكتابة الشذرية المفككة ضد الكتابة الخطية التقنية. الضجر والأرق والقلق ضد الدهشة والتأمل والتمعن. الكاوس والعدم والكسل ضد الكينونة والصيرورة والأنا. ثمة ما يشي بانقلابات جذرية صاخبة جدًا تراود سيوران وتدفعه للكتابة.. هذا العالم لا يستحق أن نعرفه هكذا هتف سيوران في باريس عندما كان محاطا بصموئيل بيكيت وألبير كامو وهنري ميشو. كل كاتب يفرز مجموعة من النصوص والشذرات التي تسكنك ولا تغادرك أبدًا، لكنها عند سيوران لا تعد ولا تحصى.
س: قلت بخصوص سيوران أنك تركز دائمًا على الطمائر والخبايا الفلسفية والمساحات الملعونة في نصوص الفلاسفة، وهنا يراودني سؤال شخصي: كيف يمكن أن نفهم عدمية سيوران وتشاؤميته بعيدًا عن التسطيح الذي تُتهم به مثل هذه النزعات العدمية والعبثية عادةً.
ج: عندما كان سيوران يكتب "من على ذرى اليأس" قيل إنه أعلن وقتها أنه لو لم يكتب هذا الكتاب لانتحر. كم هو عميق هذا الصدق وهذا التصريح الذي لم يكن حتى سيوران ليعرف صداه. دعني أقول: إننا عندما بدأنا ندرك قدرنا العدمي والمأساوي، بدأنا ندرك ما عناه. هذه سمة قلما تجدها عند أي فيلسوف آخر. لقد استطاع سيوران أن يطابق بين مصيره الشخصي وبين مصير البشرية برمتها. لك أن تتخيل معي ماذا يعني أن يحول فيلسوف قلقه وأرقه وعدمه الشخصي إلى عدم كوني وأرق إنساني. لقد وضعنا سيوران أمام خيارين: إما أن نفعل مثله ونصطف إلى جانبه وننتحب على بشرية فقدت كل معنى، أو أن نمارس تدمير الحضارة الزائفة بأيدينا نحن. يقول سيوران في إحدى توهجاته: تأتي لحظة فإذا بالسلب يفقد توهجه وبريقه ويملك نفس مصير الإيجاب. الكل في النهاية إلى الانطفاء. ويقول أيضًا: كل شيء انتقالي. بين التكوين والقيامة تسود الخديعة. أعود هنا إلى سؤالك. ليست العدمية في عمومها ولا عدمية سيوران بشكل خاص، شيئًا يبعث على الاستسلام والموت واللامبالاة. لا أستطيع التفكير في شيء أكثر وضاعة واستهتار من هذا التأويل المبتذل للعدمية. على النقيض من تأويلات منحطة كهذه فإن عدمية سيوران تشحذ نوعًا من رؤية الحياة أو حسًا بالغ الرهافة بمعنى العالم. وحين أقول: معنى العالم، فأنا أقصد العالم بكل طبقاته المرئية وغير المرئية. العالم بما هو مكان جميل وفسيح، والعالم بما هو مكان منحط وضيق. العالم بما هو حركة وصيرورة، والعالم بما هو تفكك وتفسخ واندثار. سأقول لك بكلمة واحدة: مع سيوران تصبح العدمية ضربًا من ضروب فهم العالم ذاته. يكذب ولا يعرف شيئًا من يعتقد أن عدمية سيوران مظلمة وفاغنرية. لا أبدًا. بل على العكس، يشكل العدم في كل نصوص سيوران طريقًا مضمونًا نحو الوجود، طريق نحو شيء يجب أن نرنو إليه دون أي حاجة للإيمان به. هنا تكمن عظمة سيوران برأيي، فالعدم يحررنا من أوهام الكينونة ويكشف زيفها وقصورها وكأنه يقول: إن العدم وليس الوجود هو من يحملنا على العيش.
س: على مقربة شديدة من العدم كنت قد أفردت نصًا جميلًا عن الكاوس ( الفوضى أو الخواء) السيوراني تحت عنوان (الهجرة إلى الخواء). هذا مفهوم صعب ومعقد وذو أرومة علمية وفيزيائية، وسؤالي هو كيف استطاع سيوران، أو بالأحرى: كيف استطاع تأويلك الفلسفي لسيوران أن ينّشط هذا المفهوم الصعب في فلسفة قائمة على الغضب والتمرد والتدمير النهلستي الصاخب؟
ج: هذا سؤال مذهل بالفعل..
أعتقد أن قوة سيوران تكمن في أنه مرر خطًا فاصلًا ليس بين الفكر والعالم، ولا بين الذات والعالم، بل هناك في منطقة حساسة جدًا تكاد لا تُرى بين الوجود والعدم. إن سيوران سيقوم بـ تعميد مفهوم الكاوس chaos في الفلسفة المعاصرة من جديد. من أجل ذلك علينا أن نفهم إلحاح سيوران الدائم على هذه النقطة كـ دعوة إلى تغيير قبلة الفلسفة برمتها. أن نكف عن اعتبار الوجود هو قبلتنا الوحيدة. على الفلسفة أن تغير موضوعها باستدعاء مكبوتاتها واسترجاع موضوعاتها الحارة والنشيطة. ما زالت الفلسفة تلتزم الصمت أمام تلك الغزارة الانطولوجية القابعة فيما وراء الزمن. أمام ذاك الفضاء المهجور. لن تتحرر الفلسفة من هذا الحقد الانطولوجي الذي بنت عليه تاريخها بدون التخلص من مخلفات الذات الواعية. وحدها فلسفة غاضبة ومضادة كهذه يمكن أن تستعيد بهجة الفلسفة وحيويتها. هكذا فـ الكاوس عند سيوران ليس مجرد موقف عدمي، بل موقف انطولوجي في غاية الخطورة. إنه إمكانية انطولوجية عميقة قائمة على امتحان قدرة الفلسفة على التضحية بمكتسباتها الرسمية وتفكيك نفسها من الداخل. إن الكاوس الذي يقيم سيوران كل تشقيقاته فوقه، هو ضرب من الشجاعة النهلستية. شجاعة الانتماء إلى ظلمات أو أنوار عالم لم يوجد، أو لم ينتبه إليه أحد. عالم منزوع الوعي ومسلوب الإرادة وغير ملوث بالصيرورة. كيان غير خاضع لحماية الأنا وسلطانها. بل كل ما فيه ينم عن رغبة بتدمير انطولوجي للأنا بوصفها قبلة خبيثة للوجود.
ما يراهن عليه سيوران - على الرغم من كل القراءات الخفيفة التي تسربت إلى نصوصه - هو تحرير مفهوم الكاوس من النسيان أو بالأحرى، من الجحود الجذري الذي لحق به. إن النسيان الفعلي الذي قامت به الفلسفة ليس نسيان الكينونة، بل نسيان ما قبل الكينونة. في كل مكان يلهج الفلاسفة بذكر الوجود والتذكير به. لكم يبدو مخيباً للآمال أن كل تاريخ الفلسفة منذ طاليس إلى هيدغر لم يبحث إلا عن الوجود والحقيقة. في حين أنك لن تجد في كل تاريخ الفلسفة نصاً عن الكاوس سوى بضع صفحات بالكاد. الكاوس.. يالها من خسارة أن تكون هذه الكلمة قد اختفت تحت أقلام الفلاسفة الكبار. قضى البروفسورهيدغر كل حياته بحثًا عن كلمات جديدة لكي يذكرنا بالوجود. المؤسف أن هذا الكرم الفلسفي الطريف جاء ليذكرنا بما صار من الضروري نسيانه.
س: قبل أن نبدأ بالحوار كنت تردد على مسامعي أن الغضب أصبح مع سيوران إحدى إكسيرات الفلسفة والتفكير في العالم. أود الرجوع إلى هذا الحدس الفريد لأتساءل: هل يمكن كتابة نص فلسفي غاضب؟ وهل يمكن للغضب أن يغدو إكسيرًا فلسفيًا؟
ج: دعني قبل أن أجيب عن هذا السؤال أن أؤكد لك أن الفلاسفة الكبار لا يكتشفون المفاهيم، بل يخلقونها. وبالنسبة لسيوران فإن الغضب سيصبح فنًا فلسفيًا لا أحد سبقه إليه. يقول في إحدى شذراته: أنا غاضب إزاء كل شيء وحتى لو نصبوني ربًا سأقدم استقالتي. الغضب السيوراني ياله من باعث فلسفي غريب ومستفز ومتعرج. سيستبدل سيوران برودة الدهشة بحرارة الغضب، وسيستعيض بمرارة الأرق عن أرستقراطية القلق. لكن التفكير على أساس الغضب ليس سهلًا على الإطلاق. الغضب هو فن نزع المسافة بين الذات والعالم. إنه فن الأحداث الخالصة والحدوس الخالصة. إنه تدريبات مضنية وشاقة في جعل الكينونة تنبثق وتلمع فوق سطح الذات قبل أي اعتقال تقني لها. على النقيض الكامل من حب الحكمة - ياله من تعريف مبتذل للفلسفة - وعلى النقيض من الدهشة، وعلى النقيض من القلق يعمل الغضب على فَردَنة الوجود. إنه يفكك كل ألعاب الفلسفة التقليدية. فهو يفكك التأمل لجهة التأثير المباشر، ويفكك المقدمات لصالح الارتسامات، ويفكك التعالي لصالح الانقذاف المباشر في خبرة العالم. ليس سوى سيوران ونيتشه وحفنة نادرة جدًا من الفلاسفة فكروا بهذه الطريقة. أن يغدو المعنى انتشارًا لحظيًا للعالم فوق صفيح الذات. إن الغضب السيوراني بكلمة واحدة هو مفهوم فلسفي هائل. إنه مسألة سرعة.
س: لا أعرف في الحقيقة كيف يمكن اختتام حوار بهذا الألق بأسئلة مباشرة، ولكن يبقى من الضروري أن نتساءل عن الأثر السيوراني في العالم العربي وكيف تنظر إلى طرق التفاعل الفلسفي معه. هل يمكن لكاتب مثل سيوران أن ينقذنا وهو المتهم الأول بالعبث واللاعقلانية؟
ج: قد تبدو إجابتي قاسية نوعًا ما، لكنني أعتقد أننا في العالم العربي قمنا ومنذ زمن طويل بتدريب الفكر على اللا فلسفة. استميحك عذرًا على قسوة كلامي لكن استقبال الفكر العربي لغالبية الفلاسفة هو شيء فظيع بالفعل. دعني أذكر لك بعض التسميات التي أطلقها الفكر العربي على سيوران. الملحد التوحيدي. شاعر اليأس. كاتب العبث. حارس العزلة. لن أدخل هنا في أي تعليق فلسفي على سخافات كهذه، لكنني مضطر للقول: إن هناك دائمًا انتربول مؤسساتي أو أب، أو big brother يعمل دومًا على إخماد وإغماد كل محاولة فلسفية مهما كان نوعها. بارقة الأمل الوحيدة التي تبعث على التفاؤل هي أن بعض الفلاسفة - سيوران من ضمنهم - يمارسون تأثيرهم، لا على الصعيد الرسمي والمؤسساتي، بل في سوق الفكر السوداء على وسائل التواصل الاجتماعي بين قبائل افتراضية شجاعة وما بعد حداثية.
حتى على مستوى الفكر الغربي فإن سيوران لم ينجُ من الاستهتار والتسيب. خذ على سبيل المثال ماكتبته السيدة الكندية نانسي هيوستن وما كتبه الأستاذ الألماني بيتر سلوتردايك. بل إن الكاتب التشيكي ميلان كونديرا يروي في كتابه "لقاء" أنه سأل مرة أحد ألمع المثقفين في فرنسا عن سيوران فأجابه بتهكم: سيوران؟ إنه مجرد متأنق وغندور عديم القيمة. حتى كونديرا المحسوب على اليسار لم يتحمل مطرقة سيوران ولم يبذل أي جهد لتفنيد هذه المقولة المنحطة. هي ذي بعض من أشكال استقبال سيوران شرقًا وغربًا. لكنني لست مستغربًا على الإطلاق، فأنا أفهم أن من لم يعتد على مثل هذا التفكير الجحيمي والوسواسي ستنفلق رأسه إلى شطرين. إن سيوران يلوي أفكارنا أو يتركنا نموت من الحقد والغيظ مثل الإله لوكي.


حوار مع مؤسسة دار الهلال
أجرى الحوار الأستاذ محمد الحمامصي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تحقيق مستقل يبرئ الأنروا، وإسرائيل تتمسك باتهامها


.. بتكلفة تصل إلى 70 ألف يورو .. الاتحاد الفرنسي لتنمية الإبل ي




.. مقتل شخص في قصف إسرائيلي استهدف سيارة جنوبي لبنان


.. اجتماع لوكسمبورغ يقرر توسيع العقوبات الأوروبية على إيران| #م




.. استخراج طفلة من رحم فلسطينية قتلت بغارة في غزة