الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رقصة داليا

فاتن نور

2021 / 3 / 16
الادب والفن


عالقة بأذيال عباءتها، كنت أرتجف من هول المشهد. ضغطت أمي بأصبعيّ الإبهام والسبابة، على جانبيّ فم أخي الصغير ممسكة بذقنه.
تأهّب الرجل السمين وزمّ عباءته، تحسّس الشيء الأسود فوق رأسه. انتصب بجلستة، كانت عضلات وجهه نشطة بشكل لافت، تتحرك بقسوة وتواتر. بدا لي وكأنه يلمّ شتات طعام بات في فمه ونتن. انحنى فجأة ومطّ رأسه إلى الأمام بطريقة جعلته يشبه زرافة، أو هكذا تصورته. قرأ شيئاً ما في سرّه بعجالة، أو تظاهر بأنه يقرأ، أو ربما خيّل لي. ثم بصق ملء الفم المفتوح بالقوة في حجر أمي. مال وجه أخي في الحال إلى زرقة مخيفة، لازمته والصراخ طوال طريق العودة.
في البيت، بقيت أرتعش من برد لا يشبه البرد، وأنا أتأمل رقصة أمي الطوطمية، كانت فرحة بمنجزها السحري وحسن تصرفها، راضية عن الرجل، الإله السمين الذي رعى ابنها بحفنة مجزية من لعابه اللزج.
وحتى هذا اليوم، أرتعش من برد لا يشبه البرد، وتتعثر ملامحي بفرح باهت، عندما أمرّ بصبية صغار، يتصارعون ويمرحون في الأنهر المرهقة بمخلفات البشر. في ظني إنهم يحاولون جهدهم، الاغتسال من بصاق قديم.

....

أوقدت أمي بضع شموع، وضعتها مع باقة ورد متواضعة قرب فتحة الميزاب.
قالت لجارتها الجديدة التي بانت عليها علائم الحيرة: اليوم ذكرى رحيله الرابعة، تلك الفاجعة المؤلمة مازالت تقضّ مضجعي. سأظل أبكي أهوالها كل عام.
لا تجهدي نفسك وتجعلي من موته فاجعة لك، ردّت الجارة باكتراث، نحن نموت كل يوم بأبشع الطرق.
أنت في بالك فاجعة موت لم تشهدي أحداثها.. أجابت أمي وهي تمسّد الميزاب بلوعة أم رؤوم.. أنا ضجرة وأتألم، في بالي فاجعة أحياء. وفاجعة حياة.
لقد شهدت فصل الخاتمة، الجزء الأكثر بشاعة ومرارة. فصولها الأخرى نقلتها لي ابنتي داليا.. وأشارت نحو دكة خرسانية وسط الرصيف، حيث كنت أجلس، على حافتها، وهذه عادتي كل عام، أن اتخذها مرصداً لمراقبة مشهد احتفاء أمي السنوي، وسماع روايتها المتكررّة..
كانت داليا قد تلقت هي الأخرى ضربات طائشة بالعصي على مؤخرتها، لاصطفافها معه ضدهم. وبصق أحدهم في وجهها متصديّاً لتوسلاتها ببطولة. كانت وحيدة أمام حشد ثائر للعب بأي شيء، أي شيء. ولم تتمكن من منعهم.

مسحت أمي دمعة حاولت الفرار بطرف كمّها الأيمن، وامرتني أن أفزّ عن الدكة وأجلب قطعة كارتون تضعها كمصد جهة الريح، كي تبقي على الشموع متقدّة.
عفارم حبيبي دالي.. هذا ما تقوله لي عادةً عندما أسرع لها بما تريد.
ثم عادت واستغرقت في الحديث لجارتها التي أبدت بعض التعاطف والاهتمام.

تصوري، حشد من الأطفال انهالوا عليه بالعصي، فقؤوا عينه وحاولوا مع الثانية، تدافعوا بمرح لحشر قصبة مسننّة الأطراف في مؤخرته، أذاقوه ألواناً من العذاب لا يدري أسبابها. تمتعوا بكل ما فعلوه، تضاحكوا وسكروا فرحين. النسوة، أمهات الحشد، كن يثرثرنّ على عتبات بيوتهنّ، ويتأففنّ من هرج الأطفال، ومواء القط المستغيث.
عندما دخل بيتي هرباً من الغاب، كان قد بلغ به الفزع أقصاه بعد أن قطعوا ذيله بتوحش. صعد السلم بمظهر يشي بخوار تام ولكن بطاقة خرافية، ربما أستمدها من رغبته الملحة في الخلاص. اشتدّ رعبه وهو يقف على آخر سلّمة لا يدري السبيل إلى خلاص، كانت نظرته المأساوية، كشتيمة ممزوجة بعتاب مشوّش، وأنا أحاول جهدي التقرّب منه لإنقاذه، ثم انطلق فجأة كالصاروخ، لم يتردّد بدخول فوهة الميزاب الواقع في الطرف الآخر من السطح.
ما معنى أن يفضل الانتحار حشراً في ميزاب على مواجهة العالم والصبر على أناسه؟ أخذتها العبرة وهي تطرح السؤال بعفوية، لكنها ختمت غير آبهة بجواب.
..فضل في يومه الملحمي التعيس، أن لا يستدير ويرى بعينه المدماة، وجه آخر وحش حاول الاقتراب منه. إنه شهيد الميزاب بجدارة، الشهيد الأعزل بالمطلق.

آخر مرة سمعت فيها هذه الرواية من أمي، كانت يوم رحيلها. بدت لي وكأنها عازمة على وضع ملف القط على طاولة الإله الذي تعبد، والذي ظل مجهول الهوية بالنسبة لي حتى بعد رحيلها. فكرت كثيراً وقتذاك، في التسلّل إلى طاولة الإله الذي لا أعرف، أسحب من بين الأكداس المهملة لملفات الأهوال والفواجع؛ ملف القط الأعزل وأضعه في الواجهة، على قمة الكدس الأكبر.
كنت أتنمّل وأنا أتخيل شكل ذلك الإله الذي يستفتح ريق يومه العظيم بقط يستغيث.
رحيل أمي رسّخ في بالي فكرة أن الطيبين لا يتغيرون طوال سنوات طيبتهم، ويتذكرون بشاعات كثيرة على أسرّة الاحتضار، ولكن ليس البشاعات التي اقترفوها. كما رسّخ توبيخ أبي المستمر لها بسبب "حسن تصرفاتها" أن الهجر الطويل الذي يتعايش معه الطيبون بعد توبيخ الطيبات، هو نوع من السذاجة المتبادلة.
ظلت في رأسي تطنّ لعقود، فكرة أن فعل الشر قد يكون حسن تصرف لفاعله، وفعل الخير قد لا يكون حسن تصرف لفاعله. وعائدات كل فعل على الآخر ليس بالضرورة أن تكون من صنف الفعل. ثمة شرور تنجب الكثير من الخير. والخير قد ينجب الكثير من الشرور. فالشر والخير نسبيان، وكثرما يتبادلان المواقع في وعي الناس.

وحتى هذا اليوم، عندما أمرّ بمرويات آلهة، بطقوس أمرت بها آلهة، بفروض أوجبتها آلهة، عندما أمسّ أي شيء مسّته ريح إله تمسّ الحيوان أو تؤذيه، تتحرك عضلات وجهي بقسوة وتواتر، أجمع بكرم قلّ نظيره، شتات لعابي، وأتحسّس شيئاً ما أسود على رأس أبي، العالقة صورته بمسمار كبير نابت في رأسي، وأبصق ملء فم المرويّة، الرواية أو الطقس. وملء أفواه الآلهة، وملء أفواه حاشياتهم، وأرقص رقصة شفاء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة


.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي




.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة