الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دور الشدياق في تطوير اللغة العربية

سليمان جبران

2021 / 3 / 16
الادب والفن


سليمان جبران: دور الشدياق في تطوير اللغة العربية
من كتاب "على هامش التجديد والتقييد في اللغة العربية المعاصرة" ص. 45 – 59.

في هذه الأيام، ونحن نقف غير مرّة حائرين في البحث عن البدائل العربية لكثير من المصطلحات والتراكيب الأجنبية، حريّ بنا أنْ نتذكّر الجهود الجبّارة للروّاد الأوائل في بعث اللغة العربية وتجديدها، وأنْ نتعلّم منها أيضاً، وهو الأهمّ. واجه هؤلاء الروّاد الحضارة الوافدة أفراداً، دونما مؤسّسات أو معاهد للبحث أو مجامع لغوية، إلا أنّهم استطاعوا، بالمواهب الفذّة والتضحيات الخارقة والعقول المنفتحة، أنْ ينتقلوا بلغتنا العربيّة من العصور الوسطى إلى الحياة العصريّة الحديثة، وفي دفعة واحدة الى حدّ ما.
مِن أبرز هؤلاء الروّاد، دونما شكّ، المصريّ رفاعة رافع الطهطاوي (1801-1873)، واللبنانيّ أحمد فارس الشدياق (1801-1887). ولعلّ في ولادتهما في السنة ذاتها، واتّصالهما بالغرب في السنة ذاتها أيضاً، 1826، دلالة رمزيّة واضحة على التوازي والتشابه في دوريهما في النهضة الفكريّة الأدبيّة في الشرق الأوسط الحديث.
لا نغالي إذا قلنا إنّ الشدياق، وهو موضوع مقالتنا هذه، كان مجْمعاً على قدمين: كان الشدياق متنوّع النشاطات والاهتمامات، مجلّياً فيها جميعا، ولئنْ حاول بعضهم التعميم، بشكل أو بآخر، على هذه العبقريّة الفذّة، فإنّ كثيراً من النقّاد والباحثين، فيما بعد الحرب العالمية الثانية خاصّة، عادوا إلى هذا التراث الضخم، ونوّهوا بجهود "جبّار القرن التاسع عشر"، مشيرين إلى دوره الكبير في تجديد لغتنا العربيّة، وإسهامه في استحداث مصطلحات كثيرة في "لغتنا الشريفة"، تجري اليوم بيسر على أقلام الكتّاب وألسنة المتحدثين.
وُلد الشدياق في الحدث قرب بيروت سنة 1801 لعائلة مارونيّة عريقة، وعاش في لبنان حتى 1826 في ظروف قاسية، فقدتْ فيها أسرته الوالد يوسف شدياق، ومالها ومكانتها السياسيّة والاجتماعيَة، وذلك في عهد الأمير بشير الشهابي الذي حكم لبنان فترة طويلة (1789-1840)، تابعاً لأحمد باشا الجزار والي عكّا، فأشاع في بلده الظلم والاضطهاد، ونكّل بكلّ معارض ومخالف.
في سنة 1826 غادر الشدياق لبنان هربًا من بطش السلطة الدينية، بعد اتّصاله بالمبشرين الإنجيليين واعتناقه مذهبهم، ليبدأ رحلة طويلة عريضة في بلاد الله الواسعة، زار خلالها مصر ومالطا وإنجلترا وفرنسا وتونس، ثم الآستانة أخيراً (1859-1887) حيث توفي. بذلك تكون رحلة الشدياق خارج لبنان قد امتدّت إحدى وستين سنة قضى حوالى نصفها في الدول الأوروبية والنصف الثاني في عاصمة بني عثمان، حيث أصدر الجوائب المعروفة، ولم يرجع إلى وطنه إلاّ في زيارة قصيرة سنة 1840، وبعد وفاته سنة 1887 ليوارى رفاقه في الحازمية بالحدث على طريق بيروت – دمشق.
في حياته الطويلة الغنيّة مارس الشدياق أعمالاً كثيرة ومتنوّعة. فقد عمل في تعليم اللغة العربية لدى المبشرين البروتستانت، في مصر وفي مالطة، وعمل في الصحافة فترة طويلة وغزيرة: فهو أول من كتب بالعربية في الوقائع المصرية، وعمل في جريدة الرائد التونسية، وأخيراً في الجوائب التي أصدرها في القسطنطينية سنة 1861، وظلّ يحرّرها ويكتب فيها ويترجم لها حتّى سنة 1884 عندما توقّفت عن الصدور نهائيًا. كذلك أنشأ الشدياق دار نشر خاصة بالجوائب أصدرت كتبا كلاسيكية كثيرة حقّق معظمها بنفسه، وأصدرت بعض كتبه أيضاً. عمل الشدياق أخيرا في الترجمة، ويذكر عماد الصلح عشرة كتب ترجمها الشدياق، من بينها الكتاب المقدس الذي شارك الدكتور لي في ترجمته في كمبريدج، بالإضافة طبعا إلى المقالات الكثيرة والأخبار التي ترجمها ونشرها في الصحف التي عمل فيها، وخاصة الجوائب.
من هنا كانت عوامل ثقافة الشدياق كثيرة متنوّعة، بحيث استطاعت، مجتمعة، تشكيل هذه الشخصية الفذّة. من هذه العوامل ذكاء حادّ وحافظة متوقّدة، بحيث يروى أنه حفظ قاموس الفيروزبادي، من ناحية، وميل غزيزيّ منذ الصغر الى اللغة العربية، من ناحية أخرى: "كان للفارياق ارتياح غريزي من صغره لقراءة الكلام الفصيح، وإمعان النظر فيه، ولالتقاط الألفاظ الغريبة التي كان يجدها في الكتب، فإنّ أباه قد أحرز كتبا عديدة في فنون مختلفة".
اطّلع الشدياق أيضاً على الأدب الكلاسيكي اطّلاعاً واسعاً. قرأ في أوّل حياته كلّ الكتب التي وقعتْ عليها يده في مكتبة أبيه، ثم أغنى ثقافته الكلاسيكية خلال إقامته الثانية في مصر (1828-1834)، حيث تلقّى العلم على أشهر أعلام اللغة والأدب هناك، كما قرأ بنفسه الكثير الكثير من الكتب الكلاسيكية شعرا ونثرا. ومن يطالع مؤلّفات الشدياق يعجب لهذه المعلومات الموسوعيّة في القرآن الكريم والحديث، والشعر والنثر والأخبار على حدّ سواء.
بالإضافة إلى هذه الخلفية الكلاسيكيّة الرصينة، عرف الشدياق اللغتين الإنجليزية والفرنسية، وترجم عنهما أيضا، كما ألفّ كتابين مدرسيّين في تعليم هاتين اللغتين أيضاّ! يضاف الى ذلك ترجمة النصوص الدينية والعلمية والفكرية والسياسية، واختلاطه بالشعوب الأخرى، ومعرفته الدقيقة لأحوالها السياسية والمعاشيّة والثقافية، بحيث يبدو لقارئه عملاقا مطّلعا على مجالات الفكر والثقافة جميعها، ملمّا بتفاصيلها ودقائقها.
أشرنا آنفا إلى ولوع الشدياق "الغريزي بالكلام الفصيح والألفاظ الغريبة"، فكيف كان موقفه من العربية وحالتها في تلك الأيام؟ أحبّ الشدياق العربية حبّاً أقرب الى العشق، ولا عجب في ذلك، فالعربية لغته ولغة شعبه، وهي أيضاً لغة التراث الكلاسيكي الضخم الذي طالعه فأُعجب به غاية الإعجاب، حتّى اعتبرناه من مقوّمات ثقافته الأساسية. كما أعجب أيضاً بقدرة العربية في الدولة الإسلامية على التجدّد والتطوّر واستيعاب الحضارات الراقية، بعد أنْ كانت في الجاهلية لغة بدو يعيشون في الصحراء بعيداً عن الحضارات: "فإن يكنِ المتقدّمون قد اشتغلوا بهذه اللغة الشريفة فإني قد عشقتُها عشقا، وكلفتُ بها حقّا، حتى صرتُ لها رقّا [...] وكان يزيد شوقي إلى جمالها استعظامي لكمالها، حين كنتُ أفكّر أنّها كانتْ لغة قوم كانوا عن العلوم بمعزل على ما أوجبه العهد الأول، وأنّ لغات من فاقهم في الفنون والصنائع هي دونها بمراحل شواسع".
بل إن حبّه للعربية جعله يلوم علماء اللغة والمفكّرين القدماء، لانصرافهم إلى "لغات العجم" الفارسية والسريانية واليونانية وغيرها، واستعارتهم منها بعض ألفاظها ومصطلحاتها، بدلا من استحداث ألفاظ عربيّة تقوم هذا المقام:" بيد أنّ العرب، والحقّ يقال، لم يقدّروها حقّ قدرها، ولا عرفوا أنّها الفاضلة وغيرها المفضول. ألا ترى أنّهم عدلوا عنها إلى لغات العجم، فاتّخذوا من هذه ألفاظا، وهي في لغتهم أفصح وأحكم وأعذب منطقا وأبـهى رونقا.
رغم هذا الحبّ العظيم للعربية، لم ينكر الشدياق تقصير هذه اللغة في عصره عن استيعاب الحضارة الجديدة، وفي الترجمات الكثيرة التي قام بها عانى الشدياق كثيراً من افتقار العربية إلى ألفاظ ومصطلحات بديلة لما كان يجده في النصّ الأجنبي الذي يترجمه، وقد عبّر عن تلك المعاناة بأبيات شعرية فيها كثير من الصحّة والدقّة:
ومن فاته التعريبُ لم يدرِ ما العنا
ولم يَصْلَ نارَ الحرب إلاّ المحاربُ
أرى ألفَ معنى ما له من مجانس
لدينا، وألْفاً ما له ما يناسبُ
وألفا من الألفاظ دونَ مرادفٍ
وفصلا مكان الوصل، والوصلُ واجبُ
وأسلوبَ إيجاز إذ الحالُ تقتضي
أساليبَ إطنابٍ لتوعى المطالبُ
وعكسُ الذي قد مرّ أكثرُ، فاتّئدْ
ألا أيّهذا اللائمي والمعاتبُ
فيا ليتَ قومي يعلمون بأَنّني
على نَكَدِ التعريب جَدّيَ ذاهبُ

فحبّه للعربية لم يمنعه من رؤية تقصيرها في مجال المصطلحات الحضارية في عهده. هو يعرف طبعاً أنّ الذنب ليس ذنب اللغة العربية، بل ذنب الناطقين بها الذين لم يعملوا على تطويرها باستحداث هذه المصطلحات، ولكنّه وهو "من لم يفته التعريب" شعر بافتقار العربية إلى الألفاظ الحضارية في اللغات الأوروبية، وأشار الى ذلك صراحة: "لا شكّ في أنّ مفردات العربية غير تامّة، بالنظر إلى ما استحدث بعد العرب من الفنون والصنائع ممّا لم يخطر ببال الأوّلين. وهو غير شيْن على العربية، إذ لا يُحتمل أنّ واضع اللغة يضع أسماء لمسمّيات غير موجودة. وإنما الشين علينا الآن في أنْ نستعير هذه الأسماء من اللغات الأجنبية مع قدرتنا على صوغها من لغتنا".
هذا التقصير في اللغة العربية جعله يدعو إلى إنشاء جمعيّة علمية أو لغوية، أو "ممّا يُعرف عندهم بلفظة أكاديمي"، ترعى اللغة العربية وتضبط تطوّرها وتساعدها على التطوّر باستحداث الألفاظ الجديدة: "وكان بودّي لو تنتظم جماعة من الأدباء لاختراع ألفاظ تسدّ مسدّ الألفاظ العلمية والاصطلاحية التي نجدها في كتب الإفرنج نحو التلغراف والغاز وما أشبه". وإذا كان رأى الشين علينا الآن، فإنّه يلوم القدماء أيضا في العصور الوسطى لأنّهم تبنّوا الألفاظ الأجنبية ولم ينشئوا مثل المعهد المذكور لاستحداث ألفاظ عربية بدلاً من الألفاظ الأعجمية: "لم يقدّروا لغتهم فعدلوا عنها إلى اللغات الأجنبية دون سبب موجب. فلو نشأ في القرن الأول من الإسلام جمعيّة أدبية، كما ترى في ممالك أوروبا ممّا يُعرف عندهم بلفظة أكاديمي، لما دخلتْ ألفاظ العجم في لغتنا. ولقائل أنْ يقول إنّ دخول ألفاظ العجمية في العربية غير منكَر، وكلّ لغة من اللغات فلا بدّ منْ أنْ يكون فيها دخيل، فاللغة هي بمنزلة المتكلّمين بها، فلا يمكن لأمّة أنْ تعيش وحدها من دون أنْ تختلط بأخرى، وهذا هو أصل التمدّن. والجواب أنّ هذا الدخيل إنّما يُغضى عنه إذا لم يوجد في أصل اللغة ما يرادفه، أو لم يمكن صوغ مثله، فأمّا مع وجود هذا الإمكان فالإغضاء عنه بخس لحقّ اللغة".
هكذا نرى الشدياق يفضّل صياغة لفظ عربي بدلاً من اقتباس الأجنبي، ولكنّه لا يعارض تبنّي الأجنبي إذا لم يكنْ من ذلك بدّ. وهو يرى أنّ قدرة العربية على الاشتقاق لا توجد في لغات العجم جميعها، وهي ميزة تعين رجال اللغة والأدباء على استحداث الألفاظ الكثيرة من الأصل الواحد: "والمزية الثانية [بالإضافة إلى تناسق الألفاظ في العربية] اشتقاق عدّة ألفاظ من أصل واحد [...] فهذه المزيّة لا توجد في لغات العجم مطردة. وقسْ على هذا سائر المحاسن الغزيزية التي اختصّت بها هذه اللغة الأصيلة دون جميع اللغات. ومع هذا فإنّ الناس هنا يرغبون عنها الى اللغات المشوّهة بالتلفيق والترقيع والتجديع والتقطيع".
بالإضافة إلى ميزة الاشتقاق في اللغة العربية، أشار الشدياق الى طريقة أخرى تعين على استحداث ألفاظ تسدّ مسدّ الألفاظ الأعجمية وهي طريقة النحت، أو صياغة كلمة من كلمتين (كما صاغ هو اسم "الفارياق" من اسمه: فارس شدياق!) فقال في ذلك: "وهناك وجه آخر في العربية لصوغ ألفاظ تسدّ مسدّ الألفاظ العجمية التي اضطررنا اليها، وهو باب النحت. وكيفما كان فإنّ النحت طريقة حسنة تكثر بها موارد اللغة وتتّسع أساليبها، ولها نظير في اللغة اليونانية وسائر اللغات الإفرنجية، وهي التي كثّرت مواد لغاتهم وأحوجتنا إلى الأخذ منها. فقولنا الجغرافيا والفلسفة والجومتريا والجيولوجيا كلّها ألفاظ يونانية منحوتة أو مركّبة".
في هذا الشأن يفضّل الشدياق أيضا النحت على كلمتين مجتمعتين بالإضافة أو النعت. لأنّ الألفاظ من هذا النوع تأتي "مستطيلة"، في رأيه، ثمّ إنها كما لا يخفى تُحدث إرباكاً وإشكالاً إذا أردنا تصريفها والنسب اليها. يقول الشدياق في ذلك: "ويا ليت أهل زمننا يتّخذون منه [النحت] أسماء ناصّة على ما حدث من الأشياء مما لم يرَهُ أسلافهم، إذًا لأغناهم عن التعريب وكفاهم اختلاف التسمية، ولم يكونوا جاؤوا أمرا فريّا. فإنّ أسلافنا هم الذين نهجوا لنا هذا المنهاج، فإذا قفوناهم نحن وأكثرنا منه فلا تثريب علينا. فأما إذا جعلنا لها أسماء من باب الإضافة أو النعت، كما يقولون مثلاً سفينة النار وميزان الهواء والنظارة المكبّرة، فإنها تأتي مستطيلة، ونحن الآن في زمن يقضي بالتخلّق، ويحضّ على الترقّي والتحلّق، ويأمر بالشارة، وينهى عن الاستعارة، فعلينا أنْ نفيد ونستفيد، وننتفع بكلّ من الحديث والعهيد".
كذلك تنبّه الشدياق إلى فضل الفعل الرباعي في صياغة الألفاظ الجديدة لدلالات جديدة. وإذا كانت اللغة الكلاسيكية لم تعمد الى الرباعي إلّا في حالات قليلة لاستحداث ألفاظ جديدة. مثل بسمل وحوقل، فإن اللغة المعاصرة مضطرة إلى الإستفادة من الرباعي في هذا المجال، ولذا نراه يتكاثر شيئاً فشيئاً لتلبية حاجات العصر إلى الألفاظ الجديدة. وأقصد بالرباعي هنا ما استخدمنا فيه حرف الزيادة في صياغة جديدة أيضا كما لو كان حرفاً أصلياً في الفعل، مثل: تمركز، تمحور، وما صغناه من اسم الذات على وزن الرباعي، مثل: تعملق، تفرنج، تأمرك. يقول الشدياق في فضل الرباعي: "وعندي أنّ الفعل الرباعي أكثر الأفعال مطاوعة لتوسيع اللغة، وشاهدي ما روي من أنّه قُدّم إلى عليّ كرّم الله وجهه شيء من الحلواء، فسأل عنه فقالوا للنيروز، وهو أوّل يوم من السنة، معرّب نوروز، فقال نيرزونا كلّ يوم، وفي المهرجان مهرجونا كلّ يوم".
بالإضافة إلى آرائه اللغوية المبثوثة في كتبه كلّها، بمناسبة حينا وبغير مناسبة أحيانا، حاول الشدياق تأليف الكتب اللغوية الخالصة أيضا. وهو في كتبه اللغوية وملاحظاته الكثيرة المتفرقة لم يكتفِ بإيراد المواد اللغوية العامّة، بل حاول تشكيل نظرية لغوية، تأثرتْ طبعا بمن سبقوه، وتقوم على مبدأين أساسيين: أنّ اللغة محاكاة في نشوئها وتطوّرها، وأنّ أصل اللغة ثنائي، ثم زيدت عليه الحروف، وأنّ لكلّ حرف أيضا دلالة محدّدة بشكل أو بآخر. ولعلّ اهتمامه بالرباعي وفضله في توسيع اللغة هو نتيجة طبيعية لنظريّضته المذكورة.
لكنّ حبّ الشدياق للغة العربية، والتغنّي بجمالها، والإلمام بمواطن قدرتها، لم تمنع هذا النهضوي العظيم منْ رؤية "محاسن" اللغات الأعجمية أيضا، والإشارة إلى بعض تراكيبها السائغة، كما في الإضافة مثلاً التي يرى أنها في اللغات الأوروبية خير منها في العربية. إذا كنّا أحيانا حائرين لافتقار اللغة العربية إلى كلمة تربط المضاف بالمضاف إليه (بعض النصوص الحديثة والقواميس تورد كلمة "خاصة") فقد تنبه الشدياق إلى هذه الميزة في اللغات الأوروبية، مشيراً الى الإشكال الناجم عن هذا النقص في الترجمة وغير الترجمة: "أما الإضافة فإنها في لغات العجم أوضح وأسهل، إذ يجعلون بين المضاف والمضاف إليه حرفاً فاصلاً، فإذا أريد نعت المضاف أو المضاف إليه تبين منه. وذلك كقولنا يوم الله العظيم، فإنّ العظيم يحتمل أنْ يكون نعتا للمضاف أو المضاف إليه، وفي لغات العجم لا يحتمل ذلك. ولهذا ترى أبناء العرب الآن يستعملون لفظة بين المضاف والمضاف إليه، فأهل مصر يقولون بتاع، وأهل الشام يقولون متاع، وأهل الحجاز يقولون حق أو حقه". ونضيف هنا أنّ هذا الإشكال يتفاقم حين نعمد إلى إضافة هذه التراكيب في العربية إلى غيرها دون كلمة فاصلة، أكثر منه عند نعتها. فكيف نقول كتاب التاريخ "بتاعك/تبعك" في اللغة الفصحى؟ هذا النقص تلافتْه اللغات المحكيّة كما ذكر الشدياق في المقتبس السابق، ولا نظنّ لهجة محكيّة إلا وابتكرتْ بديلاً لهذه الكلمة، ولغتنا الحديثة مطالبة بابتكار مثل هذه الكلمة أو استعارة كلمة إحدى اللهجات وتفصيحها!
أشار الشدياق أيضاً الى "اقتضاب" حرف العطف في اللغات الأوروبية حين تتوالى المعطوفات الكثيرة، ويبدو أنّه استحسن ذلك، وإنْ لم يذكر الأمر بصراحة: "يوردون [الإفرنج] جملة بعد جملة اقتضابا من دون حرف عاطف اعتمادا على نقطة فاصلة بين الجمل [...] إذا عطفوا ألفاظاً كثيرة لم يستعملوا حرف العطف إلا مع آخر لفظة، نحو زارني زيد وعمرو وخالد وبكر، فبين الأول والثاني والثالث يضعون علامة، وقبل الأخير يضعون حرف العطف".
بـهذه الرؤية الثاقبة، والاطّلاع الواسع على العربية والإنجليزية والفرنسية، وبالعمل الجادّ المثابر في الكتابة الأدبيّة والصحافية، وفي الترجمة خاصّة، استطاع الشدياق أنْ يقوم بدور عظيم في تحديث العربية وتطويرها. ورغم حبّه للغة العربية حتى "العشق"، لم يأنف من تناول بعض الألفاظ من اللغة المحكية أيضاً، فهو استخدم: برنيطة، واشتق منها المبرنط، فوطة، فرد (مسدّس)، شهرية (الراتب الشهري)، اللبلبة (الحمص المقلي)، الناموسية، الشيت، الصدريّة، السلطة، الشوربة، القورمة (اللحم المقلي)، الحرامي، الخنفشاري (السخيف)، النيشان، النشان (الهدف). وهناك ألفاظ عرّبـها بشكلها الأجنبي أو أجرى فيها بعض التغيير مثل: كرنيفال، بنك – بنوك/بنكات، البولفار، بانورامة، تراجيدي، بروتوكول، الكرنتينة، المتنكلزون، جرنال...
ثم هناك ابتكارات كثيرة استطاع أنْ يشتقّها من العربية، فشاعت على الأقلام والألسن، ولا يعرف كثيرون فضله في ذلك: الباخرة (وكان استخدم قبل ذلك: مركب النار، سفينة النار، سفينة البخار، السفينة الباخرة)، الاشتراكية (واستخدم أيضاً: طريقة الاشتراك، مذهب الاشتراك، أهل الاشتراك، حزب الاشتراك)، الطابع، المنطاد (ومعناه الأصلي الغيمة)، التآلف (هارموني)، ممثّل/تمثيل، مجلس مشورة/شورى، جامعة، معرض، متحف، إعلان، منتدى (club)، جريدة/صحيفة، حافلة، إعلان، إعلام (الإعلان الصحفي)، محترف (مكان للبيع)، ملاكمة، مسايفة، معمل، مصنع، مستشفى، ضريبة الإيراد (الدخل)، تذكرة المرور/الجواز (passport)، حوالات (كمبيالات)، حبس مؤبد، الفحم الحجري، الأسهام (الأسهم المالية)، رأس المال، النفق، أسطورة، حكاية/قصة (story)، مقام/محطة/موقف (station)... وغيرها كثير!
الى جانب هذا الفيض من المصطلحات التي ابتكرها الشدياق من أصل عربي، فلاقتْ قبولا وشاعتْ على الأقلام والألسنة، هناك بالطبع مصطلحات ابتكرها لكنّها لم تلاقِ التوفيق، لسبب أو لآخر: الحصر (الأحكام العرفية)، قمر العسل (honeymoon)، اليد القصيرة (short hand)، التصوير السخري (الكاريكاتير)، قلب البلد (center)، ملهى (theatre)، وجوه الحوانيت (الواجهات) العواجل (العربات)، المناصع (المراحيض العامة)...
ثمّ إنّ للشدياق، أخيراً، فضلا في "بعث" مئات بل آلاف الألفاظ الكلاسيكية التي لم تستعمل قبله في اللغة المعاصرة. ومن يقرأ كتابه "الساق على الساق" يلاحظ "أنـهار" المفردات التي تملأ صفحات عديدة من الكتاب، مع تفسيرها حين تكون مصنّفة (أسماء ملابس، مجوهرات... ألخ) ودون تفسير حين تكون مترادفه، بمعنى واحد أو متقارب، ويعرف دور وقدرة ها الرائد العظيم في بعث اللغة العربية وتجديدها، بحيث اعتبره مارون عبود "رجل النهضة الأدبية الحديثة الأول"!
أودّ ختاما الإشارة إلى أننا اليوم، في العالم العربي الواسع، لا نستطيع ولا يجب اعتماد جهود الأفراد، فتتحوّل لغتنا إلى "لغات" تفرّق بيننا وحقّها أنْ توحّد. كما أنّ إقامة مّجْمع للغة العربية في كلّ عاصمة عربية لا يكاد يُجدي شيئا أيضا. فما أحوج الشعوب العربية اليوم إلى مَجْمع للغة العربية واحد يضمّ الأعضاء من البلاد العربية كلّها، تابع للجامعة العربية مثلا، والمجامع الأخرى كلّها فروع له، يُصدر قراراته فيعمّمها على كلّ البلاد العربية والمؤسّسات، لنقول ونكتب اللفظة المستحدثة ذاتها في العراق وسورية ومصر والمغرب، وبذلك تقرّبنا اللغة إلى بعض، فنوتحّد في اللغة على الأقلّ، إذا كنّا لا نستطيع التوحّد في السياسة!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان هاني شاكر في لقاء سابق لا يعجبني الكلام الهابط في الم


.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي




.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع


.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي




.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل