الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دفاعاً عن نهج الاستنارة والتنوير

مصعب قاسم عزاوي
طبيب و كاتب

(Mousab Kassem Azzawi)

2021 / 3 / 16
التربية والتعليم والبحث العلمي


مقدمة كتاب: نهج البحث العلمي
أصول ومرتكزات الاجتهاد البحثي الرصين في أي حقل معرفي
تعريب: فريق الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع في لندن
الطبعة الأولى-2021


قد تكون الطامة الكبرى في ميدان التعليم العالي عربياً هي تحول الجامعات والمعاهد العليا من مراكز دورها الأول البحث العلمي والاجتهاد علمياً لاكتشاف كل ما هو ضروري لترقية مجتمعاتها ومستوى حيوات المواطنين فيها، لتكون عبارة عن مدارس ثانوية كبرى بحسب توصيف المفكر المعلم الراحل طيب تيزيني، هدفها الأساس تعليم تلقيني لغرض النجاح في الامتحان والحصول على شهادة للتعليق على الحائط والتباهي بها، ونسيان كل الجهود والمعارف التي تطلبتها عملية الحصول عن تلك الشهادة؛ وهو ما يتمظهر بشكل مؤلم في شيوع ممارسات لا يقوم بها أشخاص متنورون في الأحوال الاعتيادية بين الفئات التي يعتقد أن العلوم التي تحصلت عليها في الجامعات والمعاهد العليا العربية كفيلة برفعها للترفع عن تلك السلوكات النكوصية في سلم التطور الحضاري والتاريخي. وأكثر تلك السلوكات وضوحاً حالة التقاطب المرعبة بين الكثير من مكونات المجتمعات العربية لأسباب واهية مصطنعة ليس لها علاقة حقيقية بمستوى البؤس الاجتماعي والاقتصادي، و التصحر السياسي الذي يعاني منه جل الناطقين بلسان الضاد؛ وهو ما يعبر عن نفسه بشكل تراجيدي في حالة الاقتتال والاحتقان الأهلي بين مكونات الكثير من المجتمعات العربية الذي يقوده في الكثير من الأحيان ليس الجاهلون الذي لم تتح لهم ظروف الإفقار والتهميش فرصة الحظيان بمستوى عالٍ من التعليم، وإنما المتعلمون المؤهلون بشهادات عليا، و الذين لما يستبطن جُلُّهُم أياً من العلوم التي حظوا بفرصة الاطلاع المعرفي عليها لتصبح منهجاً وأسلوباً في مقاربة حيواتهم وعلائقها بشكل علمي منهجي سببي منطقي يتسق مع الفكر العلمي القائم على التمحيص والتدقيق والتفكر والاستناد على المعرفة المحكمة، وليس ما تمليه الأهواء والرؤى الشخصانية التي قد تكون تخيلات هرائية لا سند علمياً لها في كثير من الأحيان.

وهو الحال المزري الذي يغلي كالجمر تحت الرماد في غير موضع عربي، إن لم يكن قد أفصح عن وجهه القبيح سلفاً، بشكل مهول يحول الكثير من الأجيال المتعلمة إلى وقود للغلواء، والتشنج والتمترس الفكري، والجمود العقائدي بكل أشكاله وتلاوينه اللاهوتية والإيدلوجية، والتي تحول كل شخص إلى قابيل الذي ينتظر قتل أخيه هابيل مع وقف التنفيذ إلى حين الفرصة السانحة للانقضاض عليه وتهشيمه وأكل كبده وقلبه تشفياً وتشمتاً.

ولأن عصر الاستنارة وفكر التنوير لما يتأصل في العالم الغربي إلا من خلال اجتهاد العلماء والباحثين الذين قضى الكثير منهم نحبه بجرم الهرطقة أو الحرمان من الكتابة والتأليف والبحث العلمي كما كان الحال في سيرة المنورين الأوائل ككوبرنيكوس وغاليليو من بعده، ولأن اجتهاد المنورين العرب الأوائل من قبيل عبد الرحمن الكواكبي، و شبلي الشميل، و فرح أنطون، و نجيب عازوري، و بطرس البستاني، و رفاعة الطهطاوي، وغيرهم الكثير من سلسلة المجتهدين في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين لم يتح لها التكامل بسبب التآمر الاستعماري للقوتين الإمبرياليتين الكبريتين آنذاك فرنسا و بريطانيا ، وخداعهما للعرب بعد وعد تلك الأخيرة لهم بكيان عربي كبير جامع لكل جغرافيا العالم العربي الذي كان رازحاً تحت الاستعمار الإقطاعي للسلطنة العثمانية وشركائها من البايات والدايات والولاة والمتصرفين والخديويات، وهو ما وأد في المهد أي احتمالات لتوَطُّن و تأصل أفكار أولئك المنورين في المجتمعات العربية التي دفعت عنوة إبان مرحلة الاستعمار الإمبريالي المباشر والانتداب للنكوص إلى كل أشكال الاحتراب الداخلي بين مكونات المجتمعات العربية الفسيفسائية التي اعتادت وتآلفت على نهج من العيش المشترك خلال قرون طويلة بأشكال متعددة، و هو ما تركها مُشْرَعَة لخبث و كيد المستعمرين السياسي المتمركز أبداً حول إيقاظ مكونات التفارقات الداخلية فيما بينها، لضمان افتراق تلك المكونات وعدم احتمال توحدها لمواجهة السادة المستعمرين والمطالبة بحق شعوبها في تحقيق مصيرها، وفق نهج بربري اتبعه المستعمرون حيثما حلوا في بقاع الأرضين قائم دوماً على مبدأ «فرق تسد». وهو السم الذي استمرأه العرب مرغمين ولم يكن من خيار لهم لرفضه سوى الارتكان إلى أشكال مختلفة من المقاومة العسكرية أدت بشكل مباشر أو غيره إلى تسيد العسكر في مرحلة ما بعد الاستقلال، وهم الذين كان لابد من بقائهم في سدة الحكم عقب نكبة فلسطين علّهم يستطيعون استعادة ما خسروه فيها، وهو الهدف الذي لم يستطيع أي من أولئك العسكر تحقيقه عبر تنمية مجتمعاتهم بشكل طبيعي يمكنها من الدفاع عن نفسها بقدرات أهلها ومجتمعها البشرية والسياسية والاقتصادية والعلمية كما يفعل الأقوياء، ولم يفلحوا إلا بتخليق مجتمعات ليست سوى «دول أمنية» بامتياز لا صوت يعلو فيها فوق صوت «القائد الملهم» ومن لف لفه من المرتزقة والانتهازيين من العسس و البصاصين والجلادين، حتى لو كان صوت أنين المفقرين المعذبين، وأحلام البسطاء في تحسين مستوى حيواتهم البائسة عبر تعليم أبنائهم، وهو الحلم الذي لما يتحقق بعد على امتداد الخارطة العربية لتحول الجسم التعليمي العربي في أحسن الأحوال إلى استنساخ مسخي عن نموذج تعليم الكتاتيب التلقيني القائم عن الحفظ والاستذكار والترديد الببغائي والذاكرة القصيرة المدى، والتعلم لأجل اجتياز الامتحان، ونسيان كل ما تم تعلمه التلميذ أو الطالب بعد انقضاء وقت ذلك الاختبار. وللأسف كان نتاج تلك الحالة المأساوية تنكس التعليم العالي عربياً وخواء أي نتاج له من أي قدرة على تلبية احتياجات المجتمعات العربية الملحة، والتي أصبح الكثير منها مجتمعات يعاني الكل فيها من اكتئاب جمعي مقنع أو ظاهر، وإحساس عميق بانغلاق الآفاق وعدمية الجد والاجتهاد بأي شكل كان، وهو ما تمظهر إحصائياً بالنسبة المهولة من أبناء العرب العاطلين عن العمل من حملة الشهادات العليا، وبحقيقة أن عدد الساعات الأكبر الذي يقضيه أبناء مجتمع ما على وسائل التواصل الاجتماعي الشيطانية الخبيثة اللئيمة بكل ما تعني الكلمات من معان ومدلولات، باستغلال نقاط ضعف البشر التي تقودهم للإدمان على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي الأفعوانية، وبالاستناد إلى تقنيات الذكاء الصنعي في توجيه سلوك البشر التي أصبحت تفوق قدرات البشر نفسهم، يتأتى من مجتمع عربي بعينه، يتفوق أبناؤه أيضاً في أنهم أكثر المجتمعات تدخيناً في العالم، وهو شكل آخر من الإدمان لا يختلف كثيراً عن ذلك القائم في حالة الإدمان على وسائل التواصل الاجتماعي.

ولذلك قد يبدو أن محاولة تلمس وتكشف أصول البحث العلمي والتفكير المنهجي والمنطقي حاجة ملحة في عالمنا العربي المعاصر ليس فقط لاستعادة معنى البحث العلمي المتهالك في الجامعات العربية، والذي تحول إلى محض جهد للقصقصة من شبكة الإنترنت أو النقل الحرفي من هنا وهناك أو حتى الترجمة عن لغة أخرى، دون التفكر والتحليل النقدي لمنطوق ما يتم إنتاجه، وإنما محاولة لأجل إعادة تسليح العقل بقدراته النقدية والمنطقية والعرفانية التي تناساها أو لم يعد يشعر بها لضمورها فيه جراء عدم استخدامها.

نهج البحث العلمي وأصول ومرتكزات الاجتهاد البحثي الرصين في أي حقل معرفي مشروع بحثي مصغر تم إعداده بتعاون مجموعة من المجتهدين المؤمنين بضرورة أن تكون المعرفة والعلم حقين أساسيين من حقوق الإنسان بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى قد تعيق ذلك سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو لغوية.

ولقد تم إعداد ذلك المشروع البحثي أساساً باللغة الإنجليزية لعدم توافر مصادر ومراجع نوعية في موضوع أصول البحث العلمي باللغة العربية. والشكر موصول لإدارة دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع على تفضلها بالقيام بتعريب مشروع أصول البحث العلمي لتقديمه للقارئ العربي الشغوف باستعادة مناعته الفكرية وتكشف قدرات عقله الفائقة على إحكام المنطق والتحليل العلمي المنهجي ليس في ميدان البحث العلمي وحده وإنما في كل أحياز حياته، علّ العقل والتعقل يصبحان سيدي الأحكام في الوعي العربي في أقرب الآجال إذ أن تأخره يحتمل خطر تلاشيه وجودياً مع تبخر المجتمعات الحاملة له وأفولها التاريخي مشغولة في الانتصار لقابيل على هابيل أو لداحس على الغبراء أو غيرها من الأشكال والتلاوين المأساوية على الطريقة العربية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الإنفاق العسكري العالمي يصل لأعلى مستوياته! | الأخبار


.. لاكروا: هكذا عززت الأنظمة العسكرية رقابتها على المعلومة في م




.. ألفارو غونزاليس يعبر عن انبهاره بالأمان بعد استعادته لمحفظته


.. إجراءات إسرائيلية استعدادا لاجتياح رفح رغم التحذيرات




.. توسيع العقوبات الأوروبية على إيران