الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفكر الرجعي في العراق – القسم الاول

سلام ابراهيم عطوف كبة

2021 / 3 / 17
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


دراسة كتبها ابراهيم كبة عام 1967 – ولاهميتها نعيد نشرها

الفكـر الرجعـي في العـراق (1)
بقلم ابراهيم كبة
التاريخ:5/5/1967
بالرغم من إنني ألقيت دفاعي أمام محكمة الثورة في أوائل عام 1964 ، ألا أنني سجلت جميع خطوطه ونقاطه في الأشهر الأولى التي أعقبت انقلاب شباط عام 1963 في تلك الظروف الإرهابية المعروفة وفي داخل أسوار المواقف المتعددة ، وبمعزل عن الوثائق الرسمية واعتماداً على الذاكرة وحدها.ولذلك أنني أول من يدرك نواقص هذا الدفاع الشكلية والموضوعية . وقد كان بودي إكمال هذه النواقص ، وتعزيزه بالوثائق التي تحفل بها اضبارات الدولة للمرحلة التي يتناولها ، ألا إن فقداني جميع وثائقي في تلك الفترة واستحالة الوصول أليها ثانية في ظروف الحكم العسكري القائم ، حالا دون تحقيق هذه الأمنية . أما الذي دعاني إلى المبادرة لنشر هذا الدفاع رغم نواقصه الواضحة فهو استشراء الفكر الرجعي في العراق الآن، وتزييفه جميع أحداث التاريخ القريب ، وتركيزه خاصة على تزييف أحداث ثورة تموز المجيدة في جميع معطياتها وجوانبها المختلفة ، وانبعاث جميع حملات الكذب والمسخ والافتراء ، التي حاول الدفاع تفنيد المهم منها على الأقل.
إن انبعاث الفكر الرجعي في العراق الآن ، لا يعود لأسباب فكرية خالصة تتصل بتشبثه بحجج جديدة مقنعة تستحق المناقشة ، بل هو يعود في الأساس إلى دوره القديم – الجديد كسلاح من أهم أسلحة الردة المستشرية الآن في البلاد ، والتي بدأت طلائعها في الواقع منذ السنوات الأخيرة للحكم القاسمي ، وبلغت ذروتها في الوقت الحاضر عبر انقلابي شباط وتشرين ، وذلك لاسباب موضوعية كثيرة أهمها تغير المواقع الطبقية بعد تموز، قيادة البرجوازية وبعض مراتب البرجوازية الصغيرة لحركة الردة ، وتطلعها للسيطرة السياسية المطلقة في ظل الاستعمار الجديد واعتمادها على جبهة رجعية واسعة تضم اليمين الرجعي القديم ( الإقطاع ، البرجوازية العقارية الكبيرة ، البرجوازية الكومبرادورية) والوسط الرجعي الجديد ( البرجوازية الوسطى او الوطنية ) وبعض مراتب البرجوازية الصغيرة المتخلفة المتقنعة بالأقنعة القومية .
إن الردة الفكرية الحاضرة ، بقدر ما هي أداة من أدوات المعركة الاجتماعية ، تعكس بنفس الوقت هذه المعركة وتنطوي على نفس منابعها وجذورها الطبقية والاجتماعية .
* * * *
من الواضح أن هناك ثلاثة تيارات تصب في مجرى ( الردة الفكرية) ، ولكنها متداخلة بشكل يصعب أحيانا تمييزها عن بعضها ، وذلك بسبب تداخل الطبقات والمراتب الاجتماعية التي تعبر الردة عن مصالحها وتطلعاتها وتحالفها الطبقي العريض لمناهضة الثورة.
التيار الأول هو تيار الفكر الرجعي القديم ، الممثل للطبقات المتسلطة في النظام الملكي المندثر ، النظام شبه الإقطاعي شبه الاستعماري ، والقائم على تخطيط العودة بالعراق إلى العهد السعيدي الأسود بمؤسساته السياسية والقانونية والاقتصادية والفكرية ، وإلغاء مرحلة ما بعد تموز نهائياً والقضاء على جميع ما يمثلها من الاتجاهات السياسية والفكرية ، واحياء فكرها المتخلف المتحجر ، المتقنع بأقنعة الليبرالية الكلاسيكية في السياسة والاقتصاد وسائر الميادين الأخرى. لقد استطاع قادة هذا الفكر وخاصة من الأساتذة المثقفين المزيفين الوصول الى أعلى المراكز القيادية في الوزارات والأجهزة التخطيطية والجامعة والإصلاح الزراعي ومؤسسات القطاع العام والسلك الدبلوماسي … الخ وهم يمثلون في الوقت الحاضر راس الحربة لحركة الردة والجسر الموصل مباشرة بالاستعمار الجديد .
على أن هذا التيار الرجعي القديم ، يندر أن يطرح اليوم بشكله الفج المتخلف ، بل هو يختلط بتيارين آخرين : الأول هو التيار الوسطي الممثل لفئات الاجتماعية الوسطى وخاصة البرجوازية الوطنية بمراتبها المختلفة ، والتي تنحاز بشكل متسارع نحو مواقع اليمين الرجعي القديم ، بعد أن برزت المسألة الاجتماعية الى سطح الأحداث وبدأت تفجر التناقضات التي كانت كامنة في صلب الحركة الوطنية في المراحل التاريخية السابقة. ان البرجوازية الوطنية ، لظروف تاريخية مختلفة لا محل لشرحها الآن ( اتخاذ الإمبريالية شكل الاستعمار الجديد ، وحدة الثورة العالمية ، انصباب جميع الحركات الثورية في المجرى الرئيسي للثورة الاشتراكية العالمية ، تداخل البرجوازية العراقية بالطبقات الاجتماعية الأخرى وخاصة الإقطاع ، ارتباطها التاريخي والموضوعي العضوي بالإمبريالية ….الخ ) تطرح نفسها الآن ويرشحها الاستعمار الجديد فعلاً لقيادة الثورة المضادة في العراق ، وبذلك اصبح التيار الفكري الوسطي الآن هو السائد فعلاً في حركة الانبعاث الرجعي الفكري . أما التيار الآخر في الردة الفكرية فهو تيار البرجوازية الصغيرة المستترة غالباً بستار الفكر القومي والمتشبثة عبثاً بأسطورة الاحتكار السياسي والمنجرة عملياً ( بالرغم من حسن نية غالبية قواعدها ) الى مواقع الرجعية ، اليمينية والوسطية ، المعادية للديمقراطية والوحدة القومية التقدمية ولجميع التحولات الاجتماعية ، وهذه البرجوازية الصغيرة تعاني من ازدواجية رهيبة بين شعاراتها التقدمية والاشتراكية الشكلية وبين سلوكها الحقيقي المعرقل لأي تطوير فعلي لحركة الثورة إلى أمام ، بسبب إصرارها على القيادة الانفرادية ومعاداتها الهستيرية للديمقراطية والاشتراكية العلمية .
ان وحدة (تداخل) هذه التيارات الثلاثة في الفكر الرجعي رغم تمايزها ، حددت لنا منهجنا في هذه المقدمة : سوف لا نستعرض هذه التيارات بشكل منفصل ، بل سنكتفي بالتطرق الى الموضوعات الرئيسية التي يتناولها هذا الفكر الرجعي ، ونركز على الأفكار الأساسية التي يتخذها (خاصة بشكلها الوسطي السائد) والأهداف السياسية الرجعية التي يستهدفها ، ثم نستعرض بعض نماذجه البارزة . إن هذه المقدمة لا تتسع طبعاً لدراسة تفصيلية للفكر الرجعي في العراق ، والتي نأمل أن نستطيع إكمالها ونشرها عن قريب ، ولذلك سوف نكتفي باستعراض الأفكار الأساسية دون الإشارة الى مضامينها التفصيلية في مئات المصادر التي راجعناها من مؤلفات ومقالات ودراسات نظرية ، الى تصريحات ووثائق رسمية إلى برامج ومناهج سياسية للمنظمات المختلفة ، إلى الصحافة العلنية والسرية .. الخ مرجئين ذلك الى الدراسة التفصيلية المزمع نشرها عن قريب . على إن تحديد الجذر الاجتماعي لهذا الفكر الرجعي في الصراع الطبقي في العراق وحركة تناقضات المجتمع العراقي ، لا تعني انفصال هذا الفكر عن الفكر الرجعي العربي والغربي ، بل على العكس فأن قادة هذا الفكر في العراق يغترفون مباشرة من المؤلفات العربية والغربية ، دون إشارة صريحة في غالب الأحيان ، والظاهرة الطاغية على إنتاجهم هي التقليد والسطحية وعدم الاستيعاب .
* * * *
إن الموضوعات التي يتناولها الفكر الرجعي في العراق تشمل جميع الموضوعات المتصلة بالصراع الطبقي من قريب او بعيد – تشمل الماضي والحاضر والمستقبل ، الوضع الداخلي والعربي والدولي ، المسائل النظرية والتطبيقية على السواء . إن حملة المسخ والتشويه التي يمارسها هذا الفكر الرجعي تتناول ثلاث مجموعات كبرى من القضايا الأساسية . فعلى الصعيد التاريخي، يتناول المسخ مجموع تاريخ العراق الحديث . انه يتناول على سبيل المثال المحرك الحقيقي لهذا التاريخ وهو كفاح الشعب العراقي بقواه الوطنية الأساسية حسب ظروف تطور التناقض الطبقي في المجتمع ، ويستبدل به محركات وهمية ، من قبيل التناقض بين الاتجاه الشعوبي والاتجاه القومي(1) ، يشوه فيها الماضي الثوري لجميع القوى المذكورة ( جماعة الأهالي ، الحزب الوطني ، الأحزاب الديمقراطية بعيد الحرب العالمية الثانية ، الحركة الديمقراطية الكردية ، وخاصة الشيوعيين ) ويضع مقابلها القوى السياسية التساومية (الاخائيين مثلاً) او الفئات الانقلابية المعادية للديمقراطية . ومن هذه الزاوية التحريفية تقيم جميع أحداث العراق السياسية (وزارات الاخائيين ، انقلاب بكر صدقي ، حركة 1941 الوطنية ، حركة الموصل ، انقلاب شباط وتشرين … الخ )، ويدافع صراحة او ضمناً عن سياسات العهد الملكي في جميع الميادين ، ويركز على التفسيرات الطائفية او الشوفينية لهذا التاريخ . على إن مركز الثقل في جملة التشويه الرجعية على الصعيد التاريخي يتركز حول ثورة تموز المجيدة وكل ما يتصل بها من مفاهيم وأحداث . فمن ناحية أهداف الثورة ، أما أن يجردها الفكر الرجعي من أية أهداف مرسومة ، او ينسب أليها أهدافا وهمية ( كإقامة النظام الاشتراكي فوراً او الالتحاق بالعربية المتحدة فوراً ) مهملا أهدافها الحقيقية ، كالتحرر السياسي والاقتصادي ، وتحقيق الديمقراطية ، ووضع الأسس المادية للتحول الاجتماعي ، كما عبرت عنها وثائق الثورة وبيانات جبهة الاتحاد الوطني . ومن ناحية عوامل الثورة ، تهمل العوامل الحقيقية ( كفاح الشعب العراقي ، الجبهة الوطنية ، وحدة الثورة العربية والعالمية ) وتحصر بعوامل وهمية او ثانوية او جزئية او خارجية صرفة ( القوى القومية وحدها ، المد العربي ، المخطط الشيوعي الدولي ، التناقضات بين الاستعماريين ، دور الجيش وفصله عن الخلفية السياسية والاجتماعية …. الخ ). ومن ناحية طبيعة الثورة ، إما إن تجرد من طبيعتها الثورية وتفهم كحركة عسكرية انقلابية ، او حتى من طبيعتها الوطنية وتنسب إلى مخططات الاستعمار البريطاني او (الشيوعي )مثلاً ، او تمسخ هذه الطبيعة وتحمل محتويات اعتباطية مفتعلة . كذلك يتناول الفكر الرجعي في هذا الإطار التموزي تشويه طبيعة الحكم القاسمي فينظر أولا على انه وحدة متجانسة دون تقدير المرحلتين المتناقضتين اللتين مر بهما الحكم المذكور (2) ، ويقيم ثانياً وفق مقاييس تبريرية رجعية واضحة البطلان ، أما على أساس انه حلف ثنائي (3) من قاسم والشيوعيين ، او حلف ثلاثي (4) شعوبي من قاسم والشيوعيين والحزب الوطني الديمقراطي ، او حلف رباعي (5) شعوبي من هذه العناصر الثلاثة مضافاً إليها عنصر الأكراد ، او حتى على أساس انه حلف شعوبي _ استعماري يضم جميع هذه القوى والعناصر في تحالفها المزعوم مع الاستعمارين الشرقي والغربي على السواء (6) . أما جوهر الحكم القاسمي (الديمقراطي في المرحلة الأولى ، والدكتاتوري الفردي في المرحلة الثانية ) فيحاول الفكر الرجعي عبثاً طيه في غياهب النسيان . ومن الطبيعي أن يركز هذا الفكر حملته التشويهية على جميع الجوانب الإيجابية من الحكم القاسمي وإنجازاته الكبرى في جميع الحقول خلال المرحلة الأولى (ممارسة الحريات الديمقراطية ، شعار الاتحاد الفدرالي ، سياسة التحرر والسلم ، جيش المقاومة الشعبية ، الإصلاح الزراعي، القطاع العام ، الاتفاقات مع الدول الاشتراكية ، السياسة النفطية الوطنية ، سياسة الاستيراد الموجه …)، ويعتبر هذه الإنجازات جوهر الانحراف القاسمي باعتبارها إنجازات شيوعية او شعوبية ( معادية للعروبة ) او تكرس التبعية الأجنبية (لموسكو طبعاً) او إنها خاطئة من الوجهة العلمية (7) .. الخ ، بينما تبذل كل المحولات لطمس الجوهر الحقيقي للانحراف القاسمي في سنواته الأخيرة المتمثل في الدكتاتورية الفردية ومعاداة الديمقراطية وتمزيق الوحدة الوطنية واطلاق العنان لليمين البرجوازي والقوى الوسطية والبيروقراطية المتفسخة ، والمساومة المكشوفة مع الطبقات الرجعية واصحاب المصالح المركزة والفئات الانتهازية ، وهو الأمر الذي لم يؤد فقط الى تجميد الثورة بل تمكين قوى الردة من تنفيذ مخططها لإسقاط الحكم القاسمي لا لتطوير جوانبه الإيجابية والعودة لمنطلقات تموز الأصلية ، بل للإجهاز على الجوانب المذكورة في عملية واضحة لتصفية جميع إنجازات الثورة والعودة بالعراق لعهد ما قبل تموز . إن انقلابي شباط وتشرين ، كما أثبتت الأحداث ، كانا (تتويجاً ) للانحراف القاسمي في جوهره الدكتاتوري الفردي المعادي للديمقراطية ، مع تطوير هذا الانحراف خطوات واسعة للأمام ، وتحويله إلى السياسة الرسمية للدولة . ان الشعارات السائدة اليوم في تصريحات المسؤولين ( الأفكار الوافدة ، مضار الحزبية ، ابتعاد النقابات المهنية عن السياسة ، الطابع اللاطبقي للاتحاد الاشتراكي ، اتهام المعارضة بالتبعية والعمالة ، صيحة التجمع القومي المعادي للديمقراطية والشيوعية ، الاشتراكية المستمدة من روح الإسلام ، مبدأ العمل الكامن في دمائنا ، محاربة التأميم بحجة ظروف العراق الخاصة ، الدعوة للحزب الواحد بحجة صهر الشعب في بودقة واحدة ، إدانة الإضراب بحجة شراكة العمال في المعامل ، التقشف الاقتصادي ….الخ) هي نفس الشعارات القاسمية التي ازدهرت في فترة الأنحراف ،بعد ان خلعت ثوبها (الديمقراطي) لتتخايل بثوبها ( القومي التقدمي الوحدوي ) الجديد.ان القاسمية ليست ظاهرة فردية متصلة بشخص تاريخي معين ، بل ظاهرة سياسية تتبع من ملابسات الصراع الطبقي في المجتمع ،ومن هنا أهمية تحليل الظاهرة القاسمية والتذكير بها على الدوام ،خلاف ما تظن بعض القوى السياسية الثورية.أما عن أسباب الأنحراف وتوزيع المسوؤليات،فتتجاهل هذه التيارات الفكرية الرجعية بالطبع العوامل والمسوؤليات الحقيقية (القوى المناهضة للثورة ..خارجيةوعربيةوداخلية)،وتركيز المسوؤليات او تحصرها بالقوى الشيوعية والديمقراطية وحدها(الشيوعيون،أنصار السلام ،الشعوبيون،الشيوعية الدولية،الأكراد…الخ)،ولا تمل من القاء تهمها البالية في محاولة اجرامية لتأجيج الأحقاد بين القوى الثورية وتعطيل أية جهود لأستعادة وحدتها وفعاليتها السياسية (المد الأحمر ، المغول والتتر ،الحبال الحمراء ،أعمدة الكهرباء…الخ)(8).
أما على الصعيد العربي ،فيحاول الفكر الرجعي طمس الصورة الحقيقية للصراع الطبقي على هذا الصعيد ، واخفاء التناقض الأساسي بين الثورة العربية من جهة ، وبين الاستعمار العالمي بركيزتيه الأساسيتين..الصهيونية والرجعية العربية من جهة ثانية ، وفصل الارتباط العضوي بين قوى الثورة المضادة على الصعيد الداخلي والعربي والدولي،ورفع شعارات تضليلية مزيفة لأخفاء هذه الصورة (وحدة الصف العربي ،وحدة الدول العربية ضد الصهيونية ،مؤتمرات القمة العربية …)ثم الى جانب ذلك مسخ جميع المفاهيم الأساسية في القومية العربية ، لتبرير القيادة الأنفرادية اللاديمقراطية للثورة العربية ( نظرية وحدة المركز القيادي ،فصل القومية عن الديمقراطية ،وضع القومية كبديل عن الأممية ،الخلط في مسألة الوحدة بين المحتوى والأشكال ، إنكار الواقع الطبقي لمفاهيم الوحدة ، إنكار الظروف القطرية المختلفة ودورها في صياغة أشكال ومضامين الوحدة ، الخلط بين مفهوم الوحدة ومفاهيم سياسية واجتماعية أخرى مختلفة نوعيا من قبيل الأمة والحقيقة القومية والحركات الثورية المختلفة…).
واما على الصعيد الدولي فتتركز حملات الفكر الرجعي بشكل جنوني لعزل الثورة ( في العراق والبلاد العربية الأخرى ) عن أطرها وأبعادها الدولية ،وذلك بتشويه صورة الوضع الدولي في سماته الأساسية الراهنة (الاستعمار الجديد،وحدة الثورة العالمية بتياراتها الثلاثة ،دور المعسكر الاشتراكي ،التناقض الأساسي بين الإمبريالية والاشتراكية في العصر الراهن…)وتركيز العداء ضد الدول الاشتراكية (المخطط الشيوعي ، الاستعمار الشرقي ، سرقة الثورة الروسية ، الصين والغطاء الذهبي...)وضد النظرية العلمية للثورة ( الماركسية اللينينية ) ، والترويج لجميع نظريات ومفاهيم الاستعمار الجديد ( الحياد الآيديولوجي ،لا شرقية ولا غربية ، الأفكار الوافدة ).
ان حملات المسخ والتشويه لابسط المفاهيم الماركسية تصل لحد الأبتذال (مفاهيم الثورة والأشتراكية والكفاح الطبقي ودكتاتورية الطبقة العاملة والثورة البورجوازية …الخ).كما تقدم بدائل اشتراكيـة كاريكاتوريـة عن الاشتراكيـة العلميـة ، تقيمها على أسس محض تنظيميـة (التأميم)(9) او تكنولوجيـة( التنمية )(10)او شوفينية (خصائص العنصر ) او سلبية (أسلوب التنمية اللاراسمالية ) او أخلاقية (العدالة) أو دينية (الأيمان بالروح) او نفسانية (الضمير والإرادة) او إصلاحية لا ثورية (ترميم نظم الاستغلال) او حتى رجعية معادية للثورة . وكل ذلك يجري باسم (الاشتراكيـة البناءة) (11) او (الاشتراكيـة الرشيدة ) (12) او ( الاشتراكيـة الواقعية) (13)او الاشتراكيـة (المستمدة من روح الإسلام) (14) . كما يجري في هذا الإطار أيضا تشويه مفهوم (الديمقراطية) وذلك بتجريده من محتواه الطبقي ، والترويج لأفكار الطبقات البرجوازية والبرجوازية الصغيرة في هذا المجال ( الديمقراطيـة الليبراليـة ، الحزب الواحد و الحزب القائد ، المنظمة السياسية اللاحزبية ، الحركة العربية الواحدة ، الجبهات السياسية الاحتكارية ..الخ ).
ومن هذا الاستعراض السريع لطبيعة المواضيع التي يركز عليها الفكر الرجعي الراهن في العراق يتضح بجلاء الدور السياسي الرجعي الذي يقوم به الفكر المذكور ، كانعكاس وأداة للثورة المضادة ، وكجزء من الصراع الطبقي الكبير المشتد حول الموقف من الثورة الاجتماعية . إن الهدف المركزي الذي يوجه الفكر الرجعي ضرباته أليه هو وحدة القوى الثورية وذلك بتأجيج الأحقاد والضغائن بينها وتضخيم الخلافات الثانوية وطمس نقاط الالتقاء ضد الرجعية والاستعمار . والتكنيك الرئيسي الذي يستخدمه هو تكنيك (اللاديمقراطية ) ، بالترويج لنظم الحكم الفردية والمؤسسات السياسية القائمة على المبدأ الأبوي ، مبدأ الوصاية على الجماهير الشعبية ، وفلسفة وتبرير الاحتكار السياسي والقيادة الانفرادية . والشعار الرئيسي الذي ما زال يستخدمه للتغطية والتضليل هو شعار ( معاداة الشيوعية ) مع توسيع هذا المفهوم ليشمل جميع المؤمنين بالديمقراطية وسيادة الشعب الحقوق القومية والاشتراكية العلمية .
* * * *
قلنا سابقاً بان الفكر الرجعي الجديد ، بتياراته ومنابعه المختلفة ، يقوده الفكر الوسطي في المرحلة الراهنة ، مرحلة الحلف الطبقي العريض المناهض للثورة بقيادة البرجوازية في عصر الاستعمار الجديد والانتقال الى الاشتراكية على النطاق العالمي . ان (جوهر) الفكر الوسطي هو طمس الفروق النوعية بين السياسات التحررية والسياسات الرجعية ، وتغليف السياسات الأخيرة بأغلفة تقدمية او علمية او موضوعية او شعبية مزعومة ، واستثمار السلبيات الجانبية في ثورة تموز لافراغ هذه الثورة العظيمة من نواتها الثورية واعطائها محتوى رجعياً وفرض قيادات وسطية (برجوازية أساسا ) جديدة عليها – وكل ذلك يجري باسم الاعتدال والطريق الوسط والتوازن بين القوى ، والوحدة الوطنية ، وتجمع التموزيين (15) وضرورة الاستقرار وسيادة القانون ، والتآلف الوطني (16) والأخوة الحقيقية بين جميع العراقيين ، وتجاوز مرحلة الطفولة السياسية ، وتحكيم العلم والخبرة والموضوعية والحياد والنضوج والتعقل … الخ . ان هذا الخط العام للقوى الوسطية ينعكس في مواقفها من جميع القضايا الداخلية والخارجية ، السياسية والاقتصادية والفكرية .. واكتفي الآن بذكر (عينات ) من هذه الأفكار والنظريات الوسطية ، مقتبسة من آخر (أعمالها ) في الحقول المختلفة .
ففي حقل السياسة النفطية مثلاً ، نجد حملة مبدئية على فكرة التأميم ، ونسبته إلى مؤامرات تخريبية او استعمارية او شيوعية ، ومهاجمته بحجج اقتصادية ( خنق الاقتصاد الوطني ) وقانونية ( مخالفته للقانون الدولي العام ) وعقائدية ( إجراء شيوعي) – واقتراح حلول تساوميـه مع الشركات النفطية ( كمبدأ المشاركة الوطنية الأجنبية في الامتيازات ) ، والدفاع عن المادة الثالثة من القانون رقم 80 بالرغم من استغلالها بتخريب هذا القانون ، والترويج لمفهوم ( نزع الطابع الاستغلالي للامتيازات بالتدريج ) وتحسين شروطها بالاتفاق بدل إدانتها المبدئية ، واستنتاج نتائج سياسة خاطئة من تحليل المسألة النفطية ( تجمع وطني بدل اتحاد تقدمي) (17) ، والتركيز على الجانب الكمي للقطاع النفطي (زيادة عوائد الحكومة ) بدل الجانب النوعي ( دوره في التبعية الاقتصادية ) ، هذا فضلا عن التشكيك في قدرة الدول المنتجة على الاستثمار الحكومي المباشر ، وتجريد المسألة النفطية من جوهرها السياسي الاستغلالي الإمبريالي ، وترديد حجج الشركات التقليدية ( استحالة سياسة عربية موحدة للنفط ، استحالة التسويق المستقل ، ارتفاع سعر النفط العراقي وارتفاع أرباح العراق بالنسبة للدول المنتجة الأخرى ، عدم الخروج على سياسة الأوبك ، استحالة الخروج من الطوق الاحتكاري ، استحالة التعاون مع المعسكر الاشتراكي …الخ) ، وكل ذلك لتبرير تصديق اتفاقية 1965 الخيانية ، وتعطيل القانون رقم 80 وتجميد شركة النفط الوطنية وتحويلها لأداة بيد الشركات نفسها ، واعادة الحقول المنتزعة الرئيسية إلى الشركات ، وتعميق الآثار المدمرة للتبعية الاقتصادية . إن هذه الآراء قد تطرح بصورة ذكية مقنعة ، او تطرح أحيانا بصورة فجة مكشوفة ، كما هي الحال في التقرير الذي أعدته شركة النفط الوطنية عن دورها في تطوير نفط العراق (18) ، او في تعليقات بعض كبار المسؤولين الحكوميين في القطاع النفطي (19) . ومن الواضح إن هذه الآراء التساومية تجد كل التشجيع من الحكومة التي سارت فعلاً على تجميد القانون رقم 80 وتجميد شركة النفط الوطنية والتمهيد لامرار اتفاقيات 1965 ، والإصرار على حصر السياسة النفطية ( باتفاقيات مشاركة ) مع الشركات الاحتكارية واعادة اكبر مقدار ممكن من الأراضي المنتزعة للشركات باسم تطبيق المادة الثالثة (20) .
وفي حقل الإصلاح الزراعي نجد الحملة مركزة على شجب فكرة القانون من حيث الأساس وتحميله مسؤولية تدمير الجهاز الإنتاجي في البلاد ، والزعم بأن الغرض من تشريعه كان محاربة القوميين الوحدويين لا الإقطاع ، وانه مشوب بالأفكار الماركسية (21) والمساس بحق الملكية المقدس ، وتركيز الحملة بوجه خاص على القطاع العام في الزراعة (المزارع الحكومية الكبرى) ومسخ دورها الإنتاجي الكبير الى دور المزارع النموذجية لتحسين البذور (22) ،وعلى التعاونيات الجماعية والتنظيمات الجماهيرية الفلاحية الضرورية لنجاح الإصلاح ، مع صرف الأنظار عن الجوهر الطبقي للإصلاح ( تغيير علائق الإنتاج ) والتركيز على جوانبه التكنولوجية ( تنمية قوى الإنتاج ) وتحويله عن دوره الثوري كمحرك وقاعدة للثورة الاجتماعية ، إلى مجمد وقاعدة للثورة المضادة ( برجزة الإقطاع ، تنمية أغنياء الريف ، تسليم مصائر الفلاحين بأيدي الأجهزة البيروقراطية الرجعية ، الحيلولة دون الحلف الطبقي العمالي – الفلاحي )، واخيراً اقتراح الحلول المعروفة للاستعمار الجديد في القطاع الزراعي ، وتسليم التنمية الزراعية للشركات الاستثمارية الأجنبية (23).
الهوامش
1. خلدون الحصري : ( مقدمة في تاريخ العراق الحديث ) – دراسات عربية – نيسان /1967.
2. أدرك بعض الكتاب الأجانب التعارض بين المرحلتين:مرحلة الصعود الثوري،ومرحلة الانتكاسة.وقد اطلق احدهم على المرحلـة الأولى(المرحلة الكاسترويـة)،وعلى الثانية(المرحلة المكسيكيـة)،وجعل اعفائي من الحكم(16 شباط 960)الحد الفاصل بين المرحلتين.راجع كتاب بيير روسي(عراق الانتفاضات،باريس / 1962،بالفرنسية) .
3. خلدون الحصري : (ثورة 14 تموز وحقيقة الشيوعيين في العراق /1963) .
4. هاشم علي محسن : ( تطور الحركة النقابية في العراق – الجزء الثاني / 1966) .
5. عبد الكريم احمد : (أضواء على تجربة الوحدة /1962).
6. محمود الدرة : ( ثورة الموصل بعد سبع سنوات –دراسات عربية – نيسان /1967).
7. يفسر بعض الجامعيين العراقيين النكسة الاقتصادية في المرحلة الثانية بأسباب تابعة وليست أصلية ، مع إهمال السبب الأصلي وهو دور الرجعية وقوى الردة ، مع إعطاء أوصاف تضليلية لبعض اوجه السياسة الاقتصادية للمرحلة الأولى ، كوصف سياسة الاستيراد الموجه بالسياسـة التقشفية ، بدون تركيز الانظار على التركيب الحسي للسياسة المذكورة ( مواد إنتاج ، مواد استهلاك جماهيري ، مواد استهلاك ترفي …الخ ) وتبرير الردة الاقتصادية المتمثلة بإطلاق سياسة الاستيراد في المرحلة الثانية . انظر مثلا مقالة محمد علي الاطرقجي ( التوسع الاقتصادي لصناعة النفط في العراق ، مجلة الاقتصادي ، آب /1966 ، القسم الإنكليزي ، الفقرة الثالثة من النتائج) . وكذلك مقالة جان ارنست ( توزيع حجم الاستثمار على سنوات الخطـة – الاقتصادي ، مايس/ 1965).
8. راجع الوثائق الواردة في كراس محمود الدرة (آراء في مشاكل عراقية / 1967).
9. راجع رأي منعم السيد علي : الاشتراكية هي مجرد ( تأميم وسائل الإنتاج ) ، ورأي كاظم عبد الحميد : إنها ( ملكية الدولة لوسائل الإنتاج الاحتكارية ) – مجلة الصناعي ، آذار / 1964 .
10. من هذا الرأي،عبد العال الصكبان،في مقالـه:(العلاقـة بين الاشتراكيـة والتنمية الاقتصاديـة/مجلة الاقتصادي،آب/ 1966)،حيث يؤكد على المضمون الاقتصادي للاشتراكيـة والمضمون التكنولوجي للتنميـة،دون التركيز على الجوهر الطبقي(سيطرة الطبقات المنتجـة،تعديل البنى التحتيـة والفوقيـة جميعا ..الخ).
11. هذا هو تعبير عبد الحسين العطية الذي يدعو لفكرة المشاريع المختلطـة،واعادة المؤسسات المؤممـة الى(القطاع المختلط) – راجع صحيفة(صوت العرب – 17/4/1967).
12. شعار عبد الرحمن البزاز،الذي لا يحتاج الى اي تعليق.
13. تعبير خالد الشاوي الذي يدعوا الى هذا النوع من الاشتراكية(الذي لا يرمي الى نزع وسائل الانتاج من يد اصحابها كما تفعل الاشتراكية الماركسية بل يكتفي بالدعوة لتحقيق العدالة الاجتماعية). راجع مجلة الاقتصادي،آذار/1964.
14. تعبير احمد الدجيلي الذي يرفض جميع الاشتراكيـات(التي لا تضرب بجذورها في اعماق مجتمعنا العربي)،ويرفع نفس الشعار،الصحافي الطائفي صدر الدين شرف الدين في مقاله(الاشتراكية والاسلام،صحيفة الأمل الاسبوعية 5/5/1967).
15. رفعت جريدة (البلد ، 3/4/1967) هذا الشعار باعتباره نقطة البدء في تصحيح الأوضاع السياسية بينما أثبتت أحداث ما بعد تموز إن السبب الأساسي للانحراف هو انفجار الصراع الطبقي بين (التموزيين) أنفسهم بسبب تناقض مواقفهم من الثورة الاجتماعية .
16. ترفع غالبية القوى الوسطية ، عربية وكردية بما فيها القوى الديمقراطية التقليدية ، هذا الشعار وأشباهه في دعوة لتجميع قوى الوسط وفرض (التعاون)صراحة او ضمنا مع الحكم العسكري القائم في العراق على اساس( اقتراب اهدافها من أهدافه ومبادئه).
17. راجع عبد اللطيف الشواف : ( حول قضية النفط في العراق /1967).
18. انظر (ابحاث ووقائع مؤتمر الاقتصاديين العرب الأول /1965).
19. وخاصة تصريحات غانم العقيلي وعبد الله اسماعيل (المنار،19/1/1967) في الدفاع المكشوف عن سياسة الشركات أثناء تأزم المسألة النفطية،وكذلك تصريحات عبد العزيز الوتاري،المسؤول الأول عن مشروع اتفاقية 1965( صحيفة العرب،1/4/1967).
20. راجع مقال (شركة النفط الوطنية) في صحيفة (الاشتراكي، نيسان/1967).
21. هذا هو رأي خالد الشاوي،احد وزراء الحكم الحالي،في مجلة(الصناعي،آذار/1964).
22. راجع تقرير(ابو ربيع)عن هذه المزارع والجو العدائي المحيط بها،في صحيفة(الثورة العربية، 17/4/1967).
23. راجع دفاعا مكشوفا عن هذا الرأي في دراسة خالد تحسين علي : ( سبل الإنتاج الزراعـي ، صحيفـة المنار ، 5/2/1967)،حيث يؤكد على ضرورة ( إعطاء ضمانات للمستثمرين الأجانب بإزالة الارتباكات التي نتجت عن تطبيق قانون الإصلاح الزراعي ، وضمان الأمن وسيطرة القانون ).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. Read the Socialist issue 1271 - TUSC sixth biggest party in


.. إحباط كبير جداً من جانب اليمين المتطرف في -إسرائيل-، والجمهو




.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة كولومبيا


.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي




.. تصريح الأمين العام عقب الاجتماع السابع للجنة المركزية لحزب ا