الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نزاع مسلح … ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2021 / 3 / 18
الادب والفن


قبل ان يرتدي الناس قناع الكراهية الذي مزق المجتمعات ، واعطب القيم ، وأحرق الاخضر واليابس ، كنا نعيش بسلام نادر وحقيقي ، ولا نعرف الحروب ولا مآسيها ، ولم نرى الاسلحة ، ولا نعرف استعمالها ، عدا تلك المسدسات الصغيرة الصدئة ، والمنزوعة الانياب والمخالب ، التي يحملها شرطة المرور ، والتي لا تخيف ذبابة ، فالشرطي في ذلك الزمان لا يملك الا العصا الغليظة ، وقوة القانون .. وهيبته !
حتى كانت تلك الليلة الاستثناء ، والفريدة في أحداثها ، وفي كل تفاصيلها ، عندما سمعنا ، وبشكل مفاجئ صوت اطلاق رصاص وصراخ من مكان قريب .. في البداية ، لم نصدق ما سمعته آذاننا التي لم تألف مثل هذه الأصوات .. حتى ازدادت وتيرة الاطلاقات وتتابعها ، وبدافع الفضول المرضي انطلقنا ، كغربان مفزوعة ، غير مقدرين للعواقب ، وبدءنا في العدو نحو مكان الحادث !
رأينا المكان ، وهو غارق في ظلام لا يمزقه الا ضوء مصباح مهموم من عمود كهرباء يتيم .. كأنه بصيص ذبالة تحتضر .. اخذنا وضع الانبطاح .. كان المنظر مخيفاً ، والمكان في حالة من الهياج والسُعار ، والرصاص يتطاير كالرذاذ .. من فوق الاسطح ، وبين الأزقة ، ومن خلال النوافذ ، والخطر يقترب من رقاب الكل ، ولا يستثني أحداً حتى الفضوليين من المتفرجين امثالنا !
كانت لحظة كالحلم ، رأينا فيها رؤوف ، وهو شاب طيب كنا نعرفه ، مطروحاً على الارض وهو ينزف ، ويئن من الألم ، ووجهه ممتقع ، وبيده مسدس صغير .. يبدو انه قد اصيب في ساقه ، وربما في مكان آخر ايضاً .. تراجع الكل مذعورين عندما سمعوا صوت صفارة سيارة الشرطة ، وهي تعوي كذئب جائع .. قام عناصرها على الفور بتطويق المكان ، وتسليط كشافاتهم على البيوت ، فتوضحت أمامنا تفاصيل المكان .. ثم تحول الصراخ الى غمغمات ، وبكاء خافت .. يحدق رؤوف مرعوباً ، وكأنه يشاهد ملَك الموت ، في وجه شرطي ضخم ، وهو يربض فوقه .. ويصيح به :
انهض يا كلب .. ثم سحب المسدس من يده بعنف واشمئزاز !
توقف اطلاق النار ، بمجرد ما وطأة أقدام رجال الشرطة المكان ، وسيطرتهم على الموقف ، وهجع كل شئ فجأةً ، ثم خيم صمت بارد الا من عويل النساء المكبوت ، واصوات الكلاب المفزوعة الذي يرتفع في هستيرية .. من النباح المتواصل .. !
أخذ رجال الشرطة يركلون ، ويضربون بالعصا كل من يقف في طريقهم دون تمييز ، حتى نالنا منهم نصيب وافر نستحقه .. تقدم الضابط منا ، وبريق غريب يشع من عينيه ، وكأن غرائزه البوليسية قد استُنفرت ، وسلط على وجوهنا مصباحاً صغيراً .. يتأملنا في نظرة هي خليط من الشفقة والازدراء ، بدونا كأننا أطفال مشاغبين قد تم ضبطهم متلبسين في عمل شائن ، تسري رعدة في مفاصلي ، بللت فمي الجاف بلساني ، وتمتمت مع نفسي : هل ساقني قدري الى هنا ؟ صاح بنا من بين اسنانه : أغبياء .. الا تخافون على انفسكم ، ثم تمتم بصوت خافت : مجانين اولاد مجانين ! ثم يستدير وينصرف مبتعداً ، كان لأنفعال الضابط ما يبرره ، فالأصابات كانت كبيرة قياساً بمعركة صغيرة من هذا النوع ، وأردنا نحن بغبائنا ، واندفاعنا الصبياني زيادتها !
رأينا احد المتورطين .. وقد أصبح فريسة سهلة للركل والرفس والسباب من قبل رجال الشرطة بعد ان فقد قوته ، وعنجهيته .. استطاع البعض ان يفلتوا ، ويفروا مستفيدين من ستر الظلام ، ولكن الى حين ! اقتحمت الشرطة بعد ذلك البيوت المتورطة في الحادث ، وخلعت الابواب العصية على الفتح ، وشدد الضابط عليهم الامر .. بأن يسوقوا الجميع الى مركز الشرطة .. تُفتح البيوت المحافظة ، والمستورة ارحامها ، وتُنتهك حرماتها ، وكانت فضيحة ظل الناس يتكلمون عنها الى وقت طويل ، وساقوهم جميعاً رجال ، ونساء منحني الرؤوس الى سيارة الشرطة ، ونُقل المصابون منهم الى المستشفى !
ثم ، غرق المكان في السكون ، وانتهت لحظات الجنون ، تلمسنا طريقنا ، انا وصديقي ، وبعض الفتية نحو فجوة صغيرة في الطوق الامني غير مغطاة جيداً ، فمرقنا بهدوء وحذر تحت ستر الظلام ، وهربنا كعصافير فزعة .. حيث تنتظرنا امهاتنا بالصراخ ، ولطم الخدود ، وهن فزعات من الخوف ، والهلع علينا ! اتذكر شهقة امي بالبكاء ، فور وصولي إلى البيت ، ينخلع قلبي ، وانا اشاهدها في ذلك الحال ، أتكوم منهاراً في أحد الاركان وسط برودة الصمت ، وقد تملكتني روح رخوة منهزمة ، حزيناً على نفسي هذه المرة .. !
لم يعرف احد على وجه الدقة الصاعق الذي اشعل الفتيل المتفجر بين الجيران .. تكثر التفسيرات ، ويرتفع سقف التوقعات كل يوم ، ولا يستبعد الكثيرون وجود إمرأة في الموضوع ، بل يجزم البعض ، ويؤكدون ذلك !
أصيب رؤوف بعرج دائم في ساقه اليمنى ، حتى أصبح الناس يلقبونه برؤوف الاعرج ، وأمرأة بذراعها ، وشاب بكتفه ، واصابات وحماقات اخرى كانت أكثر من ان أستطيع تذكرها كلها ، والقي القبض على كل الفارين ، وبقيت هذه الحادثة .. لحظةً فارقة ، وعلامةً بارزة نؤرخ فيها الاحداث قبلها وبعدها ، فيكفي ان نقول قبل أو بعد معركة بيت رؤوف بسنة أو سنتين ليعرف المستمع التأريخ بالضبط !
بقينا محجوزين في بيوتنا لأسبوع كامل بسبب همومنا ، وتوتر الاجواء من حولنا ، وخشيةً من استدعائنا من قبل الشرطة كشهود على تفاصيل الحادث ، لم يحصل ذلك لحسن الحظ لان القرائن كما يبدو كانت كافية .. لم نسمع بعد ذلك حتى وقت مغادرتنا الحي نهائياً .. اطلاق رصاصة واحدة !!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا