الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العرب والغرب .. النقطة الزائدة

حسن مدن

2021 / 3 / 18
الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني


يلفت أنظارنا هذا التقارب الشديد في اللفظ بين مفردتي: العرب والغرب. ويشكو الكثير من الكتاب أن خطأ مطبعياً طفيفاً جداً يحول المعنى ويقلبه رأساً على عقب، حين تخرج كلمة العرب في مقالاتهم منشورة وقد أصبحت الغرب والعكس صحيح. وقد وقعت على تفسير قدمه العلامة الراحل هادي العلوي في كتابه "المرئي واللامرئي في الأدب والسياسة" في مقالة حملت عنوان: "العرب والغرب"، فيها يشير إلى هذا التقارب اللفظي بين المفردتين، فليس بينهما إلا النقطة، وهو "تقارب شكلي واتفاقي" – كما يصفه، ويشرح ذلك موضحاً أن العرب من العربة وهي الصحراء في الساميات الأقدم والغرب من عرب الأرامية، بسكون الراء، فجعلتها العربية بحرف الغين، وهو حرف أضافته إلى اللغات السامية.
ثم أن هادي العلوي يستطرد شارحاً ومُوظفاً في ذلك عدته الموسوعية من المعارف، فيقول أنه من الصدف النحسة (برأيه) أن الخط العربي تطور عن الخط السرياني – النبطي ذي الحروف المتقاربة المتشابهة، ولم يتطور عن المربعات الأرامية التي تكتب بها العبرية وهي أقل التباساً، وأدى تشابه رسم الحروف إلى تمييزها بالنقاط التي تحتاج إلى تدقيق وعناية حتى لا تطير في الكتابة أو الطباعة، وتمنى العلوي على صديق لغوي له، وضع أبجدية جديدة، لو أنه استكملها بمعالجة مشكلة التنقيط بحيث تكون النقطة ملتصقة بالحرف لا معلقة فوقه أو متدلية تحته، ولهذا السبب فإن الباحث يفضل النسبة إلى الغرب في صيغة "غربوي" أو "غرباوي" حتى لا تختلط بالعربي.
وأذكر أني قرأت مرة، لا أعرف أين، أن كلمة الغريب وكذلك الغروب في العربية مشتقة من مفردة الغرب، وأن الفكرة قائمة من الاعتقاد أن الشمس حين تغرب، فإنها تذهب إلى دار أخرى غريبة، وحين أراد العرب تمييز أنفسهم عن العوالم الأخرى، قالوا عنها غرباً. ولكن قائلي هذا الرأي لم يعضدوه بما يبرهن على صحته على نحو ما يفعل هادي العلوي.
جدل هادي العلوي مع الغرب ليس جدلاً لغوياً، إنه أبعد ما يكون عن ذلك، فهو يرى أن عداوة الغرب والعرب تجري في عداوة الغرب لهذه المنطقة من آسيا الغربية وشمال أفريقيا، بوصفها النقيض أو الغريم الجغرافي والحضاري لأوروبا، وقد ورث العرب عداوة الغرب للفينيقيين وحربه عليهم في شمال أفريقيا، ثم عداوته لتدمير الأرامية وحروبه على ملكتها الحسناء الحازمة المثقفة زنوبيا.
ولم تكن كلمة الغرب تعجب إدوارد سعيد ، فهو يرى ان هناك خطراَ في إستخدامها، والأرجح ان موقفه هذا آتٍ من رفضه للتعميم، لأن مقولة الغرب هكذا على اطلاقها تضع كل ما في العالم الغربي في سلة واحدة، وتحجب التناقضات داخله، فالغرب شأنه في ذلك شأن المجتمعات والتجمعات والكتل والظواهر الأخرى التي تحمل في طياتها أوجه تناقض وحتى صراع بين مكوناتها.
الكلمة التي يفضلها إدوارد سعيد بديلاً عن كلمة الغرب هي مفردة: "أطلسي"، وهو ربما إستوحاها من مصطلح طومسيون: "العالم الاطلسي"، وهو بذا يريد التفريق بين الدلالة الجغرافية للغرب من حيث هو مكان، وبين الدلالة الايديولوجية لهذا الغرب الذي يريد الماسكون بالأمور فيه تحويله إلى قوة آمرة ناهية، مُوجِهة لمَن هم خارجه، على جري ما فعلته الامبراطوريات الاستعمارية الكلاسيكية التي تآكلت كالفرنسية والبريطانية أو ما تفعله الولايات المتحدة اليوم.
في اللغة العربية فان "الغرب" – هو كيان جغرافي. فهذه اللفظة لا تدل على موقع أو مكانٍ بعينه، سوى أنه المكان الذي تغرب فيه الشمس، ولأن الأرض تدور فإنه يتبدل معها. بيد أن ثمة من يرى أن الغرب، لغةً، هو عند العرب مكان الظلمات والمجهول، فحيث تغيب الشمس تنتظرك الظلمات.
والغرب، إلى ذلك، هو أرض الأجنبي، ومنه اشتقت صفة الغريب. ويقال إن تسمية أحد الطيور بالغراب مشتق، لغة، من هذه اللفظة، ويحمل دلالتها لأن هذا الطير يحمل سوء الطالع ويبعث على التشاؤم.
وللانصاف علينا ملاحظة أن بواعث من اشتغلوا على مقولة الإستشراق من مفكرينا العرب مثل أنور عبدالملك وعبدالله العروي وادوارد سعيد نفسه لم تكن بواعث عدائية او انتقامية من هذا الغرب ومستشرقيه، بقدر ما إنطلقت من الرغبة في إعمال الفهم النقدي، بالنظر الى الحضارة الإنسانية نظرة كلية، منطلقها التكافؤ، ورفض صور الاستعلاء أو الازدراء على حد سواء.
ولو أننا أقمنا مقارنة بين الطريقة التي تعاطى عبرها رواد فكر النهضة العرب والمسلمين مع الغرب، وبين الطريقة التي تتعاطى بها بعض التيارات والاتجاهات في عالمنا العربي اليوم والداعية لرفض الغرب كلية، لأدركنا الفارق الكبير يسن الموقفين. فالاصلاحيون من مفكري الإسلام في القرن التاسع عشر حاوروا الغرب، ودعوا إلى اقتباس ما رأوه صالحا من تنظيماته، وكان تحديث مجتمعاتهم قضية كبرى بالنسبة لهم لا تقل أبدا عن دعوتهم للتمسك ب"الهوية العربية الإسلامية"، فيما تذهب بعض اتجاهات اليوم لمعادة الغرب وحضارته في المطلق، ونظرا للحضور الطاغي لهذا الغرب في حياتنا جميعا، بما في ذلك في حياة الداعين إلى نبذه بصفته شرا مستطيرا ، فان الدعوة لالغاءه تظل عند حدود الخيال أو الرغبة المستحيلة غير الممكنة، فضلا عما توقعه من تناقض في خطاب وفي سلوك أصحابها غير القادرين على التحرر، حتى لو أرادوا، من هيمنة هذا الغرب على نمط الحياة السائدة في بلداننا في الكثير من أوجهها.
علي اومليل، المفكر المغربي المعروف، لا يتحدث عن هذه الأصولية المحافظة التي ترفض الغرب في المطلق وحدها، وإنما يتحدث عن أصولية أخرى، ليبرالية الطابع هذه المرة، التي تلتقي من حيث أرادت أم لم ترد في جوهر الموقف مع الأمر أعلاه في نفيها لفكرة الحوار، الحوار الثقافي والحضاري، فمن يعرفون اليوم ب "الليبراليين الجدد" ومن يمثلونهم في العالم العربي يرون أن الحداثة أمران لا ثالث لهما: اقتصاد السوق والديمقراطية الليبرالية، وإنهما قد بنيتا على قيم ومبادئ ثقافية لا توجد في غير ثقافة الغرب: قيم الفردانية والحرية وسيادة القانون والمساواة أمامه والنظام التمثيلي القائم على الاقتراع الفردي الحر وفصل السلطات والحريات الشخصية والعامة .
وبالتالي فلا حوار ممكنا مع ثقافة أخرى لا تأخذ بحرفية هذه الأفكار، ألا أن المعضلة الكبرى ليست هنا، وإنما في رفض هذه الليبرالية الجديدة لفكرة التضامن وازدراءها لمفهوم العدالة الاجتماعية، التي تبدو بالنسبة لهم موروثا فقد شرعيته لأنها تنتسب إلى عصر الإيديولوجيات والقيم المثالية التي لم يعد لها مكان في عالم اليوم القائم على اقتصاد السوق، وعلى حرية المبادرة الفردية التي يعرف الأذكياء والنشطون استغلالها، فيما لا يحسن سواهم ذلك فيكون جزاؤهم البؤس والفاقة والحرمان.
هؤلاء الليبراليون الجدد ينسون أو يتناسون أن فرص الانطلاق ليست متكافئة بين الشمال والجنوب ، بين الدول الغنية والدول الفقيرة ،ذلك أن فرص الطفل في سويسرا أو السويد مثلا ، ليست هي نفسها فرص الطفل في الكونغو أو بنغلاديش، على سبيل المثال أيضا .
فكرة العدالة الاجتماعية ، كما يقيم اومليل عن صواب ، ضرورة ليس من زاوية البر والإحسان وحدهما ، وإنما لأنها ضرورة سياسية في عالم اليوم الذي بلغ مستوى غير مسبوق من التمايزات والتفاوتات بين الأفراد ، داخل كل مجتمع وبين الدول بعضها بعضا على الصعيد العالمي.
للمعضلة وجهها الآخر، فالغرب ذاته، من حيث هو منظومة للتحكم والسيطرة، سيستمر في تسويق خصومته الموروثة للشرق، من خلال نظرية صراع الحضارات، وهو أمر يدعو للدهشة، إذ في الوقت الذي كنا ننتقد فيه دعاة الانعزال في الثقافة العربية الذين يدعون الى رفض الآخر ورفض الغرب، كان المرء يتوقع من الغرب "الليبرالي"، كما يفترض فيه، أن يقاوم مثل هذه المفاهيم، ولكن الفكرة تأتي من الغرب، لتلتقي مع الأسف مع نظيرتها هنا: تطرف في ثقافتنا يقابل تطرفاً آخر داخل الغرب.
ويبدو وجيها السؤال: مع مَن يقف الغرب في العالم العربي؟ هل مع القوى الوطنية العصرية التي تريد محاكاة نموذجه الديمقراطي وتناضل من أجل قيام المجتمع المدني، أم أنه يقف فقط مع مصالحه، وبالتالي لا يتردد في التعامل مع التيارات الأصولية ضداً على الحركات الليبرالية الديمقراطية اذا هو رأى أن مصالحه غداً انما يمكن ضمانها بترتيب العلاقات من الآن مع تلك التيارات؟
هذا سؤال اليوم ولا شك في خضم التحولات الجارية في بلداننا العربية، ولكن السؤال بالصيغة والعبارات الواردة أعلاه، بشيء طفيف من التحوير، طرحه الراحل محمد عابد الجابري في ورقةٍ بعنوان: "المجتمع المدني : تساؤلات وآفاق"، عُقدت في العام 1996 بتنظيمٍ من معهد الدراسات عبر الاقليمية للشرق الاوسط وشمال افريقيا وآسيا الوسطى بجامعة برينستون الأمريكية حول موضوع المجتمع المدني في البلدان المغاربية.
لم يكن الجابري وحده من توقف عند هذه الملاحظة النابهة، فمثله فعل الكثير من المفكرين والباحثون والساسة العرب، أما الجواب فيمكن توقعه من الصيغة التي طرح بها الجابري هذا السؤال، فمن واقع تجارب عربية نجد أن الغرب لم يقم بما يستحق الذكر في مجال تشجيع القوى الوطنية ذات النزوع الحداثي لبناء هياكل قادرة على تحقيق متطلبات التطوير السياسي للمجتمعات في اتجاه بناء دول مدنية تستوفي شروط البناء الديمقراطي، بل أنه وضع في مقدمة أولوياته مناصبة العداء لهذه التجارب بغية خنقها، ومنعها من أن ترسخ جذورها، ولا ينطبق هذا على موقف الغرب من التجربة الناصرية على سبيل المثال وحدها، وإنما أيضاً من تجربة التحديث التي قادها محمد علي باشا، والتي كان يمكن أن ترسي قواعد للتطور في اتجاه بناء دولة عصرية قوية، يمكن لتأثيراتها أن تعم على المحيط العربي كله.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تونس وإيطاليا توقعان 3 اتفاقيات للدعم المالي والتعليم والبحث


.. #إندونيسيا تطلق أعلى مستوى من الإنذار بسبب ثوران بركان -روان




.. الجزيرة ترصد آثار الدمار التي خلفها الاحتلال بعد انسحابه من


.. وسائل إعلام إسرائيلية تناقش صفقة التبادل والرد الإسرائيلي عل




.. شبكات تنشط في أوروبا كالأخطبوط تروّج للرواية الروسية