الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من علوم الإمام أبي العزائم | الطريق إلى الله | 23

عدنان إبراهيم

2021 / 3 / 19
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


ثالثاً: الإحسان
المحسن:
لما كان المحسن هو مَنْ أحْسَنَ العمل والحال (1) والقول، وكانت الأعمال إما قلبية أو بدنية، ولا يتحقق الإحسان إلا إذا تحقق الإنسان بإحسان عمل القلوب. ولما كانت أعمال القلوب لا تكون إلا عن العلم والمعرفة، لأنها عبارة عن اليقين والخشية والرهبة والخوف والحب والْوَلَهِ والتألهُ والرضا والصبر والتوكل والتفويض والإنابة والتسليم والإسلام لله، والإخلاص والصدق، والتوجه والمراقبة والمشاهدة، والحضور والقرب والوصول، والتحقق بالْمَعِيَّةِ والْعِنْدِيَّة، وغير ذلك من المقامات التي يرتقي إليها الإنسان في سيره وسلوكه، والدرجات التي يرفعه الله إليها في وصوله وقربه كما قال الله تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) وكما قال تعالى: (هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ) وقال تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) وقال تعالى: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) وكما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (الإحْسَانُ أن تَعْبُدَ الله كَأنكَ تَراهُ فإنْ لَمْ تكُنْ تَراهُ فَإنَّهُ يَرَاكَ) .إذا تقرر هذا يظهر لنا أن محبة الله تعالى ثابتة للمحسن، وأن إحسان الله تعالى والمزيد عليه من الله تعالى ثابت للمحسن، وأن المحسن يعبد الله حاضر القلب بيقين حق حتى كأنه يرى الله تعالى (2)، وهو مقام كُمَّل المحسنين. وأقل منه أن يعبد الله متيقنا أن الله سبحانه وتعالى يراه فيحسن عمله لتحققه أن الحق ناظر إليه، وهو بداية المحسنين، وتلك المشاهد العلية والمقامات الموهوبة بفضل الله تعالى، قد سبق الإلماع إلى ما يمكن كشفه بالعبارة في كتاب: (شراب الأرواح ). ولكني في هذا أذكر ما ينبغي أن يكون عليه السالك من مشاهد الإحسان.

ما ينبغي أن يكون عليه السالك من مشاهد الإحسان
1- أن يعمل الأعمال الموافقة للأحكام الشرعية:
يجب عليه أن يعمل جميع الأعمال الواجبة عليه، متحريا موافقتها للأحكام الشرعية، بحيث لا يعمل عملا إلا بعد علم شروطه وفرائضه وسننه ومبطلاته، سواء كان هذا العمل عبادات أو معاملات، وهذا هو الإحسان في العمل، فإذا قصر بطل عمله أو نقص، قال الله تعالى: (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا).
2- أن يحسن نيته في العمل:
يتحرى أن يحسن نيته في العمل، وأن يلاحظ النية من بداية العمل إلى نهايته (3) حتى لا تحصل له غفلة.
3- أن يجتهد في إخلاص العمل لوجه الله:
يجتهد في إخلاص العمل لوجه الله حتى لا يشوبه رياء مفسد، أو غرض آخر مبطل للعمل بأن يعمل كمن يعبد الله على حرف.
4- أن يستحضر مقام من يعمل العمل له سبحانه:
أن يستحضر مقام من يعمل العمل له سبحانه عظمة وغنى وعزة، ويستحضر نفسه عالما بقدرها من الذلة والمهانة والاضطرار "لتحصل المواجهة والأنس". (4)
5- أن يعتقد أن العمل بتوفيق الله ومعونته:
يستحضر أن العمل بتوفيق الله ومعونته وبأمر الله ولله، فيشتغل بالموفق الآمر المعين على العمل حال العمل وبعده، لينسى عمله بذكر ربه. (5)
6- أن يقصد بالعمل القيام بحقوق العبودة:
يقصد بالعمل القيام بحقوق العبودة لسيده الآمر له، رَغْبَةً في نوال رضوانه وفضله.
وكل هذه خصال المحسن، ومراتب رقيه، ومبادئ عروجه. وهناك أسرار عزت عن أن تفي بها العبارة (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا).

رابعاً: الإيقان
الموقن:
هو من كوشف من أسرار الغيوب والآيات، وغريب تصريف القدرة، وبديع أسرار الحكمة، بما جعل قلبه مطمئناً لا تحوم حواليه الشكوك، ولا تهجس فيه الرِيَب، لأنه تجمل بسراج يُزْهِر وهو النور الذي يجعله الله تعالى في القلب (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ).
فاليقين مزيد من الله تعالى للعبد، به تسكن النفس إلى مبدعها، ويفر الموقن بكمال يقينه إلى الولي الوكيل الحسيب، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وقال سيدنا إبراهيم عليه السلام: (إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ).

من أمثلة أعمال اليقين:
انظر بعين بصيرتك في هذا المقام العلي، كيف بلغ بأهله من الأنبياء والصديقين والشهداء مبلغا من المقامات سجد العقل على أعتابها حسيرا.
هذا الخليل عليه الصلاة والسلام ألْقِىَ في النار ثابت القلب مطمئنه، ساكن النفس إلى ربه، وهذا مقام في اليقين. و أرقى من هذا المقام أن جبريل عليه السلام أدركه في هذا الوقت الحرج وعرض عليه أن يفعل ما يأمره به بقوله: ألك حاجة؟ (6) فكان اليقين الحق ماحيا لما سوى التوحيد من قلب الخليل. و الإخلاص الكامل، سالبا كل حظ وهوى في غير ذات الله. و الصدق الحقيقي، مبعدا كل ثقة وأمل وتوكل واعتماد على غير ذات الله. ومُثُلُ اليقين في سِيَرِ الرسل عليهم الصلاة والسلام لا تحصى.
انظر في الصِّدِّيقِيَّة تَرَ مبدأها حادثة هابيل وقابيل، كيف بلغ اليقين بهابيل مبلغا جعله يرضى بقتل نفسه من غير أن يحرك يده، لأنه مشاهد - حق يقين - عظمة عظيم وجلال جليل ومقام عليّ كبير فقال: (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ).
وانظر إلى يوسف الصديق كيف قال: (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) وكيف قال لإخوته (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).
ثم تأمل في حادثة سحرة فرعون كيف امتلأت قلوبهم يقينا بانبلاج الآية حتى قالوا لفرعون: (لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى).
ثم اعْتَبِرْ بغرائب المواهب التي منَّ الله تعالى بها على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لعلك تعجب إذا قيل لك: إن سيدنا عليًّا بن أبي طالب نام على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الهجرة ليُقتل، وإن سيدنا أبا بكر الصديق وضع عقبه على الجحر الذي رأى فيه الحية ورسول الله نائم على فخذه في الغار. وأمثال تلك الحوادث كثير لا يحصى من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، ليس هذا المختصر محلاًّ لبسطها. (7)
فكأن اليقين شهود أسرار الآيات، وسر القدرة الساري في الكائنات، ونور الحكمة المنبلج للبصائر في كل الموجودات.
وليس اليقين مما يدّعيه المدعي لأن دلائله حسية تدهش العقول وتحير الألباب، حتى أن العاقل لا يعرف لها سبباً عند شهود رضا العبد وصبره، وحسن توكله وتفويضه وتحمله عظائم الأمور. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
فالمريد الذي تفرحه الدنيا إن أقبلت، وتحزنه إن أدبرت، ويخشى أن يعمل الخير خوفا على زوال الدنيا، ربما فعل المعصية لجلبها، ويجهل ويقنط عند الفتن، ليس من أهل اليقين ولو ادّعى أنه منهم.
وفيما تقدم من أمثلة أعمال أهل اليقين بيان لمشاهد ومشارب أهل اليقين، أسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل الإحسان واليقين، وأن يهب لنا مواهب إحسانه، وموارد أهل محبته، وأن يمن علينا سبحانه وتعالى بالعفو والعافية والمغفرة والوسعة والخير إنه مجيب الدعاء.

الزاهد والعابد والعارف:
الزاهد هو من أعرض عن متاع الدنيا وطيباتها لمقصد. والعابد هو المواظب على العبادات بجميع أنواعها لمقصد. والعارف هو المقبل بفكره وقواه النفسية على قدس الجبروت، مستديماً لشروق نور الحق لسره بعد تركه للمُلك، وإشرافه على الملكوت، ومواجهة نفسه بالعزة. (8)
العابد إذا كان غير عارف تكون عبادته معاملة خاصة، يعملها في الدنيا لأجرة يأخذها في الآخرة هي الثواب والنعيم.
الزاهد إذا كان غير عارف فزهده معاملة خاصة، لأنه يشتري بمتاع الدنيا متاع الآخرة.
العارف زهده تنزيه سرِّه عما يشغله عن الحق، وتحقير لكل شيء غير الحق. العبادة عند العارف رياضة خاصة لتزكية النفس وتطهيرها وصقل القوى المتوهمة والمتخيلة لتصفو النفس من الرعونات، وتطهر من لقسها، وتميل عن جانب الغرور إلى جانب الحق، وبذلك تصير مسالمة للنفس الملكية والقدسية، فلا تحصل منازعة للسر عند مواجهته للنور الساطع عليه من جناب الحق سبحانه.
فمقصد الزاهد غير العارف متاع الآخرة.. ومقصد العابد غير العارف نعيم الآخرة مقابل عبادته. ولا مقصد للعارف إلا الحق الأول لا لشيء غيره، ولا يُؤْثِر شيئا في عرفانه، وتعبده له فقط ولأنه مستحق للعبادة، ولأنها نسبة شريفة إليه، لا لرغبة أو رهبة، وإن كانتا فيكون المرغوب فيه والموهوب عنه هو الداعي وفيه المطلوب، ويكون الحق ليس هو الغاية بل الواسطة إلى شيء غيره، وهذا الغير يكون هو الغاية والمقصد، ويكون الحق عند هذا العامل وسيلة (وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ). أسأل الله تعالى أن يزكي أنفسنا، وأن يجعلنا من المقربين المحبوبين، وأن يمن علينا بجماله وإحسانه إنه مجيب الدعاء، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.




مذكرة المرشدين والمسترشدين
الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم
الطريقة العزمية بمصر والعالم الإسلامي

________________________
(1) الحال هو الحالة المزاجية، فيكون خالياً من الغضب ولا يستدعيه، لا هو ولا العُجب والشهوة والكبر وكل ما يخرجه عن حالة الإعتدال والسلام.
(2) رؤيته سبحانه تكون في النفس بعين البصيرة، فيراه رباً مُمِدّاً له بكل شيء مادي أو معنوي، بداية من السمع والبصر وسائر الحواس بل بداية من الحياة نفسها لأنها تجلي لاسم (الحي) ثم العناية به والقيام على أموره (القيوم) وإمداده بالإرادات والأفكار والمشاعر والأحاسيس التي يطلبها ويبتغيها بحاله لا بمقاله.
(3) هذا معناه أن كمال العبادة تكون بالحضور القلبي، ولا عبرة بعمل الجسد إلا من حيث أنه يفتح الباب لنية الإخلاص والخشوع والتذلل والتعبد والإفتقار وإظهار الحاجة وسائر أعمال العبد التي يحب أن يراها الرب من عبده، كما يحب العبد أن يرى العناية والكفاية والعطاء والتنزل والعطف والرأفة وجبر الخاطر من ربه.
(4) لو لم يفهم العبد أن هناك مواجهة أو حالة (مقابلة وجهاً لوجه) بينه وبين ربه، ينتج عنها معاملة قلبية مستمرة، وأن الله يرد عليه من خلال العطايا الروحية عطاء ومنعاً ومن خلال الناس من حوله، لأن ربه ليس منفصلاً عنه ولا عنهم، بل هو سر ساري فيهم، ظاهر فيه وفيهم وأقرب إليه وإليهممن حبل الوريد كما أخبر عن نفسه، إن لم يفهم هذا ومرت حياته دون فهم لربه وإلهه وعُمق كيانه، فمتى سيفهمه؟ ومتى سيعامله وتنضج علاقته به؟
(5) وهذا لأن العبد عدم أو تراب، وكل ما زاد على ذلك فو نور رب العالمين من معاني الأسماء والصفات التي تجلت في نفسه التي تحرك وتدير جسده. فالعامل في الحقيقة لا الزاهر هو الله، قال تعالى: (والله خلقكم وما تعملون) ومن شهد هذا المشهد دائماً رفعه الله لأعلى عليين، لصدقه.
(6) قال له الخليل: (أما إليك فلا وأما إلى الله فنعم) لأن الأنبياء والرسل لا ينظرون إلى المظاهر وإنما عينهم على الظاهر نفسه بشكل مباشر، لعلمهم أنه المحرك للكل، لأن الكل ليسوا إلا مظاهره، فمن نظر إلى المظهر ونسي الله: حجب نفسه عن الله وتعرض للمخاطر، وأما الذي يشهد الله حاضراً معه على الدوام فهذا في الحصن الحصين لا يخاف من شيء ولا يحزن على شيء.
(7) لمعرفة جانب من جوانب اليقين عند الصحابة، مع التمتع بالأسلوب الأدبي الراقي والكلمة المعبرة، يمكنك أخي القارئ الرجوع لكتاب (رجال حول الرسول) خالد محمد خالد، أو كتاب (صور من حياة الصحابة) عبد الرحمن الباشا.
(8) من العسير على مثلي شرح معنى الملك والملكوت بدقة، ولذلك رجعت إلى كتاب الإمام أبي العزائم (اصطلاحات الصوفية) فوجدته يقول: (الملكوت نور مجرد من المادة، والملك مجرد من النور، والإنسان فيه المادة والنور، وزاد على ذلك فى الإنسان نفخة القدس، ولم تكن فى عالم من العوالم إلا فى الإنسان) اهـ والنور هو الروح التي هي محل تجلي معاني الصفات، وبهذا يكون قد اتضح المعنى بجلاء، وأخبرك أخي القارئ أن هذه العلوم من العسير تحصيلها اليوم في زمننا هذا، لندرة أهلها من أهل العلم لا سيما من يفهمها بجلاء كالإمام أبي العزائم، حتى إن وُجد فلن يفهم تلك الحقائق كما يفهمها الإمام الوارث، لأن الوُسعة الروحية وصفاء جوهر النفس مختلف. وأنت إن وفقك لله لأن تنها من هذا العلم من خلال إمام عصرك، فلا شك أن هذه نعمة من أكمل نعم الله.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح


.. مباشر من المسجد النبوى.. اللهم حقق امانينا في هذه الساعة




.. عادل نعمان:الأسئلة الدينية بالعصر الحالي محرجة وثاقبة ويجب ا


.. كل يوم - الكاتب عادل نعمان: مش عاوزين إجابة تليفزيونية على س




.. كل يوم - د. أحمد كريمة: انتحال صفة الإفتاء من قبل السلفيين و