الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كما رواه شاهد عيان: الباب السابع

دلور ميقري

2021 / 3 / 19
الادب والفن


1
سقوط المطر في شهر أيلول/ سبتمبر، كان شيئاً مألوفاً في الشام. في نهار أحد أيام ذلك الشهر، كنتُ في مكاني المعتاد بالمقهى حينَ تجهّم وجهُ السماء بالسحب الرمادية، وما لبثت الأمطار أن بدأت تصب مع أصوات قصف الرعد ولمعان البرق. لحُسن الحظ، أنني عدتُ إلى داري في الوقت المناسب؛ وإلا ربما كنتُ من ضحايا الفيضان، الذي أعقبَ طوفان نهر بردى بفروعه العديدة. بقيتُ محبوساً في البيت مع خادمي لثلاثة أيام، كنا نغتذي خلالها بخزين المؤن. في اليوم الرابع، وكانت الشمسُ قد أشرقت، أرسلتُ خادمي كي يتقصّى ما جرى في المدينة وأيضاً لشراء الخبز. رجع بعد بضع ساعات، خاوي الوفاض بسبب استمرار إغلاق الأفران. لكنه أتى بأخبار طازجة عما جرى في الأيام الثلاثة الأخيرة، ومنها أن خان الدالاتية جرفه الفيضان وغرّقَ العديد ممن كانوا فيه.
كَوليزار، استغلت فرصة الفوضى، المعقّبة الطوفان، فأتت إلى داري برفقة وصيفتها. كان قد مضى نحو الشهر منذ آخر مرة، التقينا فيها؛ وكان برحَ فيّ الجوى في غضون ذلك، حدّ التفكير بتنحية الحذر جانباً والهروع إلى منزلها. سُعدت بمرأى بطنها، المتكّور بالحمل، وبادرتُ أولاً لمداعبته عندما اختلينا في حجرة النوم. قالت لي، أنها تتوقّع مجيء طفلنا في بداية العام القادم. ثم أضافت باسمةً: " يبدو صبياً، ما لو أخذنا ركلاته في عين الاعتبار "
" وأتمنى أن يأتي صورة منكِ، ليسَ في الجمال حَسْب، بل أيضاً بالذكاء وقوة الشخصية "، قلتها بحرارة. ثم استدركتُ، بسؤالٍ كان على لساني مذ وقت عودة رجلها من الحج: " كيفَ استقبل زوجك خبرَ حملك، وهل لحظتِ أيّ شك اعتوره؟ "
" لم يشك بشيء، وإنما عبّرَ عن فرحته "، ردت بالقول. ثم أضفت مسحة من الحزن على صوتها، لما أضافت دونَ أن تنظر بعينيّ: " وهذا حزّ في قلبي، فحمّلني وزرَ عذاب الضمير. كأنما القدَرُ أراد أن أعيدَ سيرة أمي، وربما أدفعُ مثلها ثمنَ خطيئتي بالموت مبكراً "
" أنا لي رأي آخر، وهوَ أنك كنتِ ضحية مذ أن رأيتِ نورَ الحياة. ولا يُمكن اعتبار علاقتنا خيانةً زوجية، بالنسبة لك، كون رجلك استحوذ عليك أساساً بطريقة غير شرعية "، قلت لها فيما أجمع وجهها بكفيّ وأنظر في عينيها. آبت إلى الابتسام، وقد أراحتها كلماتي برغم أنها سمعتها مني أكثر من مرة فيما مضى. بعد ذلك جئنا على سيرة الأوضاع العامة، وكنتُ أعرف أنّ رجلها يُفضي إليها ببعض الأسرار كونه يثق فيها ويرغب أيضاً بأخذ آرائها الحصيفة والحكيمة. قالت رداً على سؤال، بشأن مطامع الجزّار: " يلوح أنّ ولاية أوزون باشا، آيلة إلى الأفول، ولعلنا نشهد مزيداً من الاضطرابات في الفترة المقبلة ".

في بداية شهر شباط/ فبراير، وضعت كَوليزار مولوداً، أُعطيَ اسم " أحمد "، وكانت الأمور في المدينة ما تفتأ هادئة. كنتُ أتحيّن الفرصَ لرؤية الطفل، لما شبّ حريق هائل في دمشق التهم عدداً من الأسواق والقيساريات والأماكن السكنية. لم تسجّل إصابات بشرية، لكن الخسائر المادية كانت فادحة. قيل أنّ ما سلم من الحريق ضبطه الوالي، هذا غير ما نهبته العساكر والمرتزقة. على ذلك، اشتدت النقمة على الباشا بين الأهالي وكانوا يدعون عليه بصوتٍ عال في الأماكن العامة. ثم هجم الطاعون بحلول الربيع، وكانت الاستعدادات جارية على قدم وساق لسير المحمل الشريف. إلا أن الوباء انحصر في الريف، ولم ينتقل إلى مدينة دمشق.
ثم إذا بالقبجي يحضر من الأستانة عن طريق بيروت، حاملاً معه فرمان السلطان بنيابة الجزّار على دمشق مع جعله أميراً للحج. قبل مسير هذا الأخير على رأس المحمل الشريف، عيَّنَ متسلّماً من قبله على المدينة، يُدعى " كُرد طه "؛ وهذا كان آمرَ قوات اللاوند في عكا، ومشهوراً ببطشه ووحشيته. أول أعمال المتسلّم، أنه قبضَ على خمسة عشرة آغا من أعيان الشام وقادة عسكرها، وذلك بأمر معلّمه. من بين المعتقلين، الذين وضعوا في سجن السرايا، كان رجلُ كَوليزار. في وقتٍ لاحق من ذلك الأسبوع، لما التقيتُ معها خفيةً كمألوف العادة، أخبرتني أن المتسلّمَ كان مرؤوساً لزوجها في أثناء وجودهما في حامية مدينة عكا، ولم تكن علاقتهما حسنة.
" الويلُ لدمشق، التي غدت الآنَ بين ناريّ المتسلّم والجزّار "، قالت ذلك وهيَ تهز رأسها على عادة نساء المشرق حينَ يتحدثنَ عن مصيبة أو كارثة. لم تمكث مطولاً لديّ، كونها تتوقّع بين لحظة وأخرى أن يداهموا دارها ضمن حملتهم لمصادرة أملاك رجلها المعتقل. سألتها قبل أن تمضي عن طفلنا، فأجابت بسرعة: " إنه على خير ما يرام، وستشبع من رؤيته مستقبلاً ".
في مساء اليوم نفسه، حضرَ الأصدقاءُ في موعد واحد تقريباً، وبحَسَب اتفاق سابق معي. في الفترة الأخيرة، أضحيتُ مصدرَ الأخبار بالنسبة لهم. الوحيدُ، العليم بالمصدر الحق لتلك الأخبار ( وأعني عشيقتي )، كان السيّد خليل. وإنه هوَ من عقّبَ أولاً على موضوع الاعتقالات الأخيرة، بالقول: " أفراد المرتزقة لن يهتموا بالاطاحة بكُرد اسماعيل، طالما أن سيطرتهم وحظوتهم ستتعززان مع انضمام رفاقهم الذين في عكا إليهم عن طريق المتسلّم الجديد ".
كنتُ أود بدَوري التعليق على كلامه، عندما عاد خادمي من الخارج، ليهتف بنبرة جزعة: " جثث الآغاوات، الذين اعتقلوا في الآونة الأخيرة، تُعرض الآن على باب السرايا، وواضحٌ أنهم قتلوا خنقاً. لقد عُرف منهم زعيمُ هذا الحي، وقد مررتُ حَذاء داره وكان عويل النسوة يشق الآفاق ".

2
كان خبراً مروِّعاً، باغتَ الجميعُ بحيث انعقدت ألسنتهم وباتوا عاجزين عن التعليق. كنتُ أول من خرجَ عن الصمت، لأقول للأصدقاء: " على علمي، أنها المرة الأولى، يتم فيها إعدامُ هذا العدد الكبير من وجهاء دمشق وحتى دونَ أن يُعرف ما هيَ جنايتهم؟ "
" لقد بدأ عهدُ الرعب، يا صديقي، طالما أنّ الجزّار راغبٌ بمعاقبة المدينة على خلفية إعراضها إلى الدولة بشأن عزله قبل نحو خمس سنين عندما كان والياً. هذه الموجة من الإعدامات، سيتبعها على الأرجح موجات أخرى علاوة على الابتزاز والسلب والنهب؛ وكلها من خصال هذا البشناقيّ، المتوحّش "، عقّبَ السيّد خليل على تساؤلي.
ليغفر لي الربّ، لو اعترفتُ هنا، أنني في داخلي شعرتُ بالغبطة لخبر موت كُرد اسماعيل. هذا، مع أنني لم أنافق عندما عبّرتُ عن الدهشة والحزن لمقتل عدد كبير من أعيان المدينة. إلا أن غبطتي الداخلية ما أسرع أن اضمحلّت، بما كنتُ أتوقعه عن إجبار نساء المعدومين على الإقرار تحت التعذيب بمخابئ الذهب والمجوهرات والأموال. مع أنّ كَوليزار غادرت منزلي مذ بعض الوقت، فإنني قررتُ في نفسي أن أمضي إليها عند منتصف الليل: كان في ذهني تكرار ذلك العرض، وهوَ أن أهرّبها إلى بيروت بمساعدة القنصل ومن ثم تدبير أوراق مزيّفة تسمح لها بالإبحار إلى البندقية. عدا عن خشيتي على الحبيبة، طغت عليّ فكرةُ الاعتراف بابننا ومن ثم تربيته تحت سقفي وفي رعايتي.
لحظ السيّد خليل سهومي، ولعله تكهّن أيضاً بما يشغل فكري كونه يعلم بعلاقتي بأرملة آمر اللاوند. غبَّ ذهاب الصديقين جان وغابي في ساعة مبكرة من المساء، احتياطاً وحذراً، بقيَ صديقي المسلم بعضَ الوقت لديّ. بادرت عندئذٍ بنفسي لإزاحة الهواجس عن كاهلي، بالقول متسائلاً: " أيمكن أن تمرر قواتُ اللاوند ببساطة مسألةَ إعدام آمرها، كون المتسلّم ينتمي أيضاً إلى سلاحها عدا عن الرابطة القومية؟ "
" على مرجوح التأويل، أن الأمرَ لا يعدو عن استبدال آمر بمن يخلفه. وها قد مضت عدة ساعات على رمي جثة كُرد إسماعيل على باب السرايا، بلا أدنى ردة فعل من قبل رجاله "
" كذلك المستغرب، أنّ الإنكشارية بدَورها لم يصدر من ناحيتها شيئاً عقبَ إعدام أولئك الأعيان؛ وجلّهم، على علمي، يحسبون عليها بشكل أو بآخر؟ "
" الانكشارية، ربما ما زالت سكرى بنبأ عزل بطال باشا، عدوها اللدود والقديم. عادةً، فإنها بحسَب تقاليدها تزجي حمايتها على مَن يلتجئ إليها من الأعيان أو غيرهم. الجزّار، المعرّف بالمكر والدهاء، استبقَ الأمرَ بأن بادر إلى الأمر بالقبض على أولئك الأعيان دونَ إطهار نيّته في قتلهم "
" ولكن، ماذا يستفيد من قتل هذا العدد من الأعيان بضربة واحدة؟ إن مسألة رغبته بالانتقام، ليست مقنعة تماماً "
" كما أقترحتُ قبل قليل، بأنه يود تدشين عهد الرعب بهذه الوجبة من كبار الأعيان "، ردّ بالقول. لم أعُد أرغب بمواصلة النقاش، وكنتُ أتململ تحرّقاً للقاء الحبيبة ورؤية ابني. ضربَ الضيفُ يديه على ركبتيه ( وهذه عادة دمشقية أيضاً )، إيذاناً برغبته في المغادرة. ثم ما لبثَ أن ودّعني، متمنياً لي ليلة طيبة: " حاذر من الخروج ليلاً في الأيام المقبلة، ريثما يتوضح الوضعُ "، قالها عند الباب. عقبَ ذهابه، أطللتُ على الخادم، لأجده غارقاً في النوم. عدتُ إلى حجرة النوم، فأخرجتُ كتاباً ورحتُ أقرأ فيه لحين اقتراب ساعة منتصف الليل. لم أشأ ايقاظ خادمي، معوّلاً على نومه العميق: " الشبح "، سيطغى على سيرته منذ هذا اليوم سيرةُ الرجل المرعب، الذي دُعيَ ب " الجزّار " لكثرة ضحاياه وجلّهم من الأبرياء ـ كذلك فكّرتُ.
لم أهمل تماماً نصيحةَ صديقي المسلم، فقررتُ أن أعود أدراجي إلى الدار ما لو لحظتُ حركة غير مألوفة على الدرب. ما وجدته في خلال سيري لم يكن هدوءاً، بقدر ما هوَ حالة من الصمت المجلل منازل الحي بنوع من الحِداد. لم يُقدّر لي معرفة زعيم القيمرية في حياته، لكنني عرفتُ أنه رجلٌ مسنّ عركَ التجارب والمحن في خلال العقود الثلاثة الأخيرة. حينَ تجاوزتُ دورَ الحي، بخروجي من الأسوار، تنفّستُ بعمق مع ولوجي الدرب المكتنف بالأشجار وكان جلّها ما فتأ متعرّ من الأوراق برغم حلول الربيع. في هذا الوقت من العام، تنزل أحياناً درجات الحرارة في دمشق ليلاً إلى الصفر، فتتساقط الثلوجُ لبضعة أيام في المرتفعات. لكنّ مخزونَ الغيم، فكّرتُ، نفد معظمه في الخريف وتسببَ بالفيضان الكبير.
مثلما تعوّدتُ عندما أرى نور نافذتها يشعُ، فإنني بادرتُ برمي حجر باتجاهها. كالعادة أيضاً، قبعتُ ونصفي تحت القنطرة بينما رأسي مرفوعٌ للأعلى. مرت دقيقة ثم أخرى، وما لبث داخلي أن بكّتني كون المنزل في حِداد على مقتل سيّده. في لحظةٍ، هممتُ فيها بترك المكان، لاحَ شبحُ الحبيبة في عليّتها. فاتجهتُ رأساً إلى باب منزلها، فانتظرتها هنالك. فُتحَ لي البابُ على الأثر، مع همسة من كَوليزار: " امضِ إلى حجرتي، فأنتَ تعرف الطريقَ ".

3
عدتّ للحلول في معبد معشوقتي، المُحرَّم. فغم أنفي عطرُها الياسمينيّ، أنا من تعلّقت بثيابه رائحةُ الموت، المستديمة في داره. وكنتُ قد زرعتُ في الحديقة أزهارَ الخزامى، لكي يطغى عبقها على تلك الرائحة المقيتة. لعلني لم أذكر بعدُ، أن كَوليزار في أثناء قصّها عليّ ما قرأته في أوراق السيّد البرزنجي، فاجأتني بمعلومة عن وجود قبر آخر في الحديقة، يعود إلى حاجب والدتها الحقيقية؛ السلطانة بيهان. دعيّ النبوّة، هوَ من استدرج الحاجبَ إلى داره ومن ثم قتله، وذلك جزاء ما أقترفه من جرائم بقيَ دافعها مجهولاً. لقد دُفنَ الرجلُ سرّاً، وبقيَ مصيرُه مجهولاً بدَوره. لعل تلك الأوراق تجد طريقها للنشر مستقبلاً، فنحصل على قصة مؤثرة تكمّل أوراقَ سيرتي هذه!
قالت لي كَوليزار، بنبرة العتب: " ألم يكن في وسعك التجمّل بالصبر، ريثما تنجلي الأمور عقبَ مقتل رجلي؟ ". كنتُ ما أفتأ أحدق فيها بتولّه، وكأنني أراها لأول مرة. كانت في ثوب النوم، المتفجّرة منه فتنة أطرافها العارية. ومن الظلم تشبيهها بالتحفة، المنتصبة في حجرةٍ ملبّسة الجدران بالمخمل ذي اللون الأزرق الفاتح، تغشاه خطوط ذهبية وفضية. لأنها تشبه، حقاً، " المادونا "، كما رسمت في لوحات فناني عصر النهضة الطليان. هذا دون أن نغفل حقيقة، أن الدماء الإيطالية تجري في عروقها من ناحية أمها ـ ككاتب هذه السيرة سواءً بسواء.
رداً على عتابها، دافعتُ عن نفسي بالقول: " هاجسٌ مقلق، بلبل كياني طوال هذا اليوم؛ وهوَ احتمال تعرضك للاعتقال والتعذيب على العادة المتبعة، عندما يحل غضب أولي الأمر على رجلٍ بمقام زوجك الراحل ". سكتّ للحظات، ثم سألتها عن ابننا، فقالت أنه ينام في حجرة المربية. عدتُ إلى الموضوع الأول، مذكّراً إياها بعرضي السابق في الفرار معاً من الشرق برمته والاستقرار في البندقية. همدت على كرسيّ، مرصّع بالصدف، مشيرةً إليّ أيضاً بالجلوس على كرسيّ بمقابلها. ما لبثت أن شعرت بالبرد، فألقت على كتفيها قطعة فراء ربما كان بالأصل ذيلَ ثعلب أو جلدَ سمّور. اتخذت هذه المرة لهجةً توحي بالاطمئنان، عندما ردت عليّ: " كُرد طه، حقاً كان منافساً لرجلي الراحل، لكنه لن يُشين سمعته عند قوات اللاوند بحجز حريم قائدهم وإقرارهن بالتعذيب وسلبهن مدخراتهن. أنا أعرفه جيداً، وهو يكن لي احتراماً كبيراً، مثلما أن علاقة ود ربطتني بأم أولاده "
" لكنه لن يستطيع عصيانَ الجزّار، لو كان هذا قد أمرَ مسبقاً بمصادرة أموال وممتلكات الوجهاء المعدومين. أليسَ صحيحاً؟ "
" الجزّار نفسه، يُحاذر إستفزازَ اللاوند، كونهم القوة الأساسية المعتمد عليها هنا وفي عكا "، قالت ذلك ثم استدركت: " ونسيتُ أن أذكر، بأن ثلاثة من أولاد زوجي هم في مراكز مرموقة ضمن قوات اللاوند فضلاً عن عدد من أقاربهم ".
لم يكن في نيّتي مسبقاً قضاء الليلة معها، وعلى ذلك نهضتُ قائلاً: " هذا يكفي لبث الطمأنينة في نفسي، وعليّ الآنَ أن أذهب ". قامت وتقدمت إليّ، فعانقتني طابعة قبلة طويلة على شفتيّ: " أشكرك على اهتمامك بسلامتي.. وعلى عرضك المُغري! "، قالت الجملة الأخيرة على سبيل الدعابة وهيَ تطلقُ ضحكةً قصيرة.

الأيام التالية، صدَّقت على وجهة نظر حبيبتي وبيّنت ما تحظى به من معرفة بالأحوال السياسية في البلد. هذه الهبة المعرفية، المشفوعة بالثقافة الواسعة، تسنّى لي مع مرور الأيام أن أكتشفها فيها. ذلك أننا لم نعُد نسرقُ لحظاتٍ من الزمن، فقط لاشباع الرغبات الجسدية ـ كما كان مألوف عادتنا في السابق ـ بل صار لدينا متّسعٌ من الوقت كي نقضيه بالنقاش والجدل في أمور فلسفية وفكرية وأدبية. في الأثناء، تسنّى لي عدة مرات رؤية ابني، وكانت ملامحه أوروبية إلى حدّ كبير برغم شعره الأسود. صار روحٌ من كياني يرفرف حولي في دمشق، فضلاً عن والدته الحبيبة.
لم نتخلّ عن الحذر، واحتياطاً كنا نكتفي باللقاء مرتين في الأسبوع، وغالباً لديها في حجرة نومها. لكي يُضفى نوعٌ من الجو الطبيعيّ على لقاءاتنا، كانت كَوليزار تسمح لوصيفتها بالحضور أحياناً. كوني أعدّ مؤلّفاً عن المدينة، أحتجتُ لمعلوماتِ امرأة مثل " جيهان " هذه، التي تكبر سيدّتها بنحو عقد من الأعوام ولديها خبرة طويلة في عالم الحريم. إلى ذلك، كانت قرينة سيّدتها بالذكاء والفطنة مع شيء من الدهاء. بملاحظتي لجمالها المميّز، استفهمتُ منها ذات مرةٍ ما لو كانت روميّة الأصل. فتدخلت كَوليزار، للاجابة باسمةً: " بل هيَ من ملّة الشراكسة، المتفوقة نساؤها بالجمال على نساء الروم "
" هل هم من البلقان أيضاً، حال البشناق والأرناؤوط؟ "
" لا، إنهم من جبال القوقاز في جنوب دولة المسكوب "، قالتها مستخدمةً تعبيراً عثمانياً شائعاً عن الدولة الروسية. لحظتُ أنّ مسّاً من الغيرة لمسَ ملامحَ الحبيبة، لما عدتُ وتمعّنت بوصيفتها، التي كانت ما تني محتفظة بفتنة مبهرة برغم سنواتها الأربعين. لكنّ كَوليزار، فضلاً عن لطفها، كانت تمتلك عقلاً كبيراً يجعلها تتغلب على مشاعر الغيرة، المتحكّمة غالباً بالنساء الشرقيات.
قلتُ لجيهان، مغيّراً سبيلَ الحديث: " أنتِ عرفتِ الجزّار عن قرب، وذلك في خلال خدمتك بقصره في عكا. أرغبُ بمعرفة شيء عن سيرته، لو سمحتِ؟ ".

4
" أحمد "ـ الذي سيُعرف لاحقاً بلقب الجزّار ـ كان مثالاً ساطعاً لأولئك النصارى الروم، المنتسبين إلى نظام " الدوشيرمة " العثمانيّ. إنه نظام ظالم، يقضي بانتزاع ولدٍ من كل عائلة نصرانية من رعايا الدولة لكي يضموه لسلك الجيش أو الوظيفة وذلك بعدما يدخل دينهم. نطقُ الشهادتين والختان، هما المدخل إلى الدين الجديد. الثكنة الانكشارية، تعد مدرسة أولئك الأولاد؛ وفي خضم القسوة والمعاناة تتلاشى نهائياً ذكريات حياتهم السابقة، ليتحولوا بدَورهم إلى محاربين مفتقدين للمشاعر الانسانية وبعضهم من الممكن أن يغدو آمراً ومن ثم يتدرج في المناصب وقد يرتقي إلى وظيفة الوزير أو حتى الصدر الأعظم.
لكن المنشأ الأول لأحمد، تشوبه العتمة، سوى المعروف عنه أنه استُقدم طفلاً من البشناق. ويقال، أنه عقبَ تلقيه المبادئ الأساسية للتعليم العسكريّ، دخل في خدمة أحد أعضاء ديوان الباب العالي. هذا الأخير، لحظ ما يتمتع به حارسه من دهاء وجسارة وقساوة ومطامح، فلفتَ إليه نظرَ زملائه في الديوان. لقد فكّروا به، لما أتى خبرٌ من مصر بأن المماليك يعدّون أنفسهم للعصيان والاستقلال عن الدولة. عند ذلك، دُعيَ أحمد إلى الديوان وتم إبلاغه بالمهمة المطلوبة منه. حينَ وصل بحراً إلى الاسكندرية، كان في استقباله أحد آمري الانكشارية والذي مضى معه في الحال إلى القاهرة. بقيَ لدى الآمر فترة من الوقت، لحين أن تعرّف عليه هنالك أحدُ أمراء المماليك فأعجب بشخصيته القوية وطلبه لخدمته. ثم جاءت الفرصة للشاب البشناقيّ في أحد الأيام، عندما أولم سيّده لعدد من الأمراء المماليك في داره. عندئذٍ بادر الشاب لوضع مخدر في كؤوس الخمر، ولما سرى مفعوله بالحاضرين بدأ بذبحهم الواحد تلو الآخر بما فيهم سيّده المضيف. بعدما انتشر خبرُ المذبحة، أحتفت الإنكشارية بمنفّذها، الذي حاز منذئذٍ على لقب " الجزّار ". لكنه لم يحظَ على الأثر بمنصب يكافئ خدمته للدولة، ما جعله يركب البحر مجدداً ويتجه هذه المرة إلى بيروت ونفسه تطفح بالمرارة.
حال مصر، كان أمراء جبل لبنان يسعون للاستقلال عن الباب العالي، وكان آخرهم " فخر الدين الكبير " في نهاية القرن السابع عشر، الذي تعاون مع البندقية وسيطر على مناطق واسعة قبل أن تتفرّغ له الدولة وتهزمه ثم تأسره. في هذا الشأن، قيل أنّ قدوم الجزّار إلى بيروت كان بعلم الباب العالي، وكما ثبتَ فيما بعد من تحركاته. في ذلك الوقت، كان الأمير يوسف الشهابي ( جئنا على ذكره فيما مضى ) أقوى حاكم في لبنان وله العديد من المنافسين والخصوم. إذ بسبب التنوّع الأثني في ذلك البلد، الأشبه بالفردوس، كان لكل طائفة زعيماً أو أكثر، وكان الباب العالي يسعى دوماً للوقيعة بينهم كي لا تتفق كلمتهم على الاستقلال.
دير القمر، كانت مركز إمارة ابن شهاب، وهناك حط الشابُ البشناقيّ الطموح. أخذ منذ وصوله بالتردد على مقهى " الميدان "، القريب من قصر الأمير، إلى أن لفتَ نظرَ هذا الأخير. سأل عنه، فقيل له أنه رجلٌ مغامر، داهية وشجاع، قدم حديثاً من مصر. فطلب الأمير من كاخيته [ أي نائبه ] أن يستقدم الشاب، لكي يفهم منه سبب وجوده في دير القمر. وهذا ما كان، حيث امتلأ الكاخية إعجاباً بالغريب وزكّاه من ثم عند سيّده. على الأثر، أمر الأميرُ بمنح الشاب كسوة وجواداً وضمه إلى بطانته. الجزّار، كان الآنَ بصدد مغامرته الثانية، وكان يأمل منها أن تصل به إلى المرتبة، التي يطمح بها بعدما خُذل في الأولى.
كان على الجزّار أن يثبت كفاءته على أرض الواقع وليسَ فقط بحُسن الكلام والشخصية المؤثرة. لذلك انتهزَ الخلافَ بين سيّده ووالي صيدا، كي يكون على رأس حملة لتأديب هذا الأخير. وقد حقق انتصاراً متوهّجاً، جعل الأميرُ يقرّبه إليه بصورة متزايدة. فما لبثَ أن منح الجزّارَ لقب الآغا، ثم جعله حاكماً على بيروت. هذه المدينة، كان لها أهمية لناحية كون مرفأها صلة الوصل بين الأستانة والولاية السورية مثلما أن البريد السلطاني يمر عبرها. أراد الجزّار أن تكون بيروت منطلقاً لتحقيق طموحاته الكبرى، لكنها كانت مدينة سيئة التحصين. على ذلك، حسّن للأمير فكرةَ ترميم سور المدينة إلى أن حصل على المال اللازم لذلك. لكنه جنّد عدداً كبيراً من الأهالي في العمل سخرةً، ووضع أكثر المال في جيبه. بسبب ما أظهره من قسوة، تم ترميم السور بفترة قصيرة.
إلى أن كان يوماً، حضر فيه قبجيّ مع البريد السلطاني، فاستقبله الجزّار بإكرام زائد كي يحصل على إعجابه وثقته. نتج عن ذلك، أنّ القبجي عند عودته إلى الأستانة قد فاتح الصدر الأعظم بموضوع الجزّار وأهميته للدولة في إحكام سيطرتها على الولاية السورية وبالأخص جبل لبنان. فصدرَ فرمانُ السلطان، بمنح الجزّار رتبة الباشوية وجعله والٍ على صيدا. هذه الولاية الهامة، ستضمن للجزّار ضمَّ نصف سورية، وبذلك أضحى الأمير يوسف هوَ مَن يخضع لأمر خادمه السابق. لم يكتفِ هذا الأخير بذلك، وإنما عمد أيضاً إلى سلخ بيروت عن إمارة جبل لبنان ووضعها تحت سلطته المباشرة. الخطوة التالية، الحاسمة، كانت السعي إلى ضم عكا والقضاء على مشايخ آل العُمر، الذين توارثوا حكمها منذ زمن المماليك.

5
الشيخ ضاهر العُمر، الذي مرّ ذكره معنا، كان من قوّة النفوذ أن أعطاه الباب العالي حق عزل والي صيدا متى شاء. هذا، فكّر فيه الجزّار الداهية وحاول افتكاك نفسه من مصير العزل وذلك بالقضاء على صاحب الأمر ذاته. من ناحيتها، فالدولة لم تنسَ للشيخ تعاونه مع الأمير المملوكي المصري، علي بك الكبير، لكنها لم تستطع عزله بسبب منعة أسوار عكا. سببٌ آخر، لرغبة الدولة بالقضاء على الشيخ، أن عينها كانت على ثروته المتراكمة جيلاً وراء جيل. وعلى الأغلب، أن الجزّار عرضَ على الدولة خطته للاستيلاء على عكا بشرط أن تُضَم إلى ولايته. لكنه ابتدأ أولاً بمحاولة إقصاء الأمير يوسف عن الحكم، فرد هذا بمحاصرة بيروت ومن ثم عمد إلى التحالف مع الشيخ ضاهر العُمر. في غضون ذلك، حضر مركب فرنسي كبير محملاً ببضائع باسم تجار بيروت، فما كان من الجزّار إلا وضع يده عليه. لم يكتف بذلك، وإنما عمد أيضاً إلى حرق منازل آل شهاب في المدينة وقطع أشجارهم، كما وحوّل كنائس النصارى إلى اسطبلات لخيله، علاوة على قتل الأنفس لمجرد الانتقام.
أسقط في يد الجزّار، عندما قدم أربعون مركباً حربياً روسياً، بطلب من الشيخ ضاهر العُمر وحليفه الأمير يوسف. سرعان ما بدأت مدافع الروس بصب حممها على أسوار بيروت وحصونها. مثلما تبيّن فيما بعد، أن قائد الأسطول وُعِدَ بمبلغ مجز من الذهب يدفع له لو سقطت بيروت؛ لكنه اشترط عليهم وضع ابن الشيخ كرهينة لديه لحين دفع المبلغ. في الأثناء، أرسلت الدولة ثلاثة باشوات لفك الحصار عن المدينة ومؤازرة الجزّار. فاضطر الأمير لطلب النجدة من حليفه، بعدما خذلته زعامات الدروز والمتاولة. لما سمع الباشوات بقدوم الشيخ على رأس جيش كبير، دب الذعر فيهم وولوا الأدبار مع جندهم باتجاه دمشق، تاركين معسكرهم ومعداتهم من مدافع وذخائر. الجزّار بدَوره، لما علم بما حل بعسكر الشام، تولاه القنوط وما لبث أن طلب تسليم نفسه عن طريق قبطان الروس. سيقَ فيما بعد إلى عكا، وهناك أكرمَ الشيخُ وفادته وطمأنه على حياته. وسيدفع ضاهر العُمر ثمنَ عفوه غالياً ـ كما حصل مع " باخاب "، ملك إسرائيل، الذي أطلق ملكَ الآراميين بعدما أسره وجنى بذلك على نفسه؛ فخاطبه أحدُ الأنبياء: " لأنك سرّحتَ رجلاً مستحق القتل، فلتكن نفسك بدلاً من نفسه ".
فرصة أخرى، استغلها الجزّار خيرَ استغلال، للعودة إلى ولايته، التي انتزعت منه عقبَ هزيمته المهينة. والي مصر، المدعو بأبي الذهب، زحف بأمر الدولة إلى فلسطين بهدف القضاء على الشيخ ضاهر العُمر. في طريقه إلى مدينة يافا، انضم إليه الجزّار مع فرقة من المرتزقة، غالبيتهم من الكرد والمغاربة. حاصر المدينةَ فترةً طويلة، ولما اقتحمها أعمل السيفَ بعسكرها وأهاليها على حد سواء إن كانوا من المسلمين أو النصارى. كذلك عمد أبو الذهب إلى تخريب دير مار إلياس، ودنّس ايقوناته بحوافر خيله. بعد أيام، وفي ليلة عيد العنصرة، ظهر له النبي إلياس ليلاً وراح يقبض على عنقه. وكان القائدُ المصري يصيح: " أبعدوا هذا الشبح عني، أبعدوا هذا الشيخ عني! "، وقد بقيَ يتلوى وينتفض إلى أن صعدت روحه. ما أوجب على عساكره، في اليوم التالي، العودة إلى القاهرة.
في هذه المرة، لم يستسلم الجزّار لليأس. فسافر إلى الأستانة، وهناك أرتمى تحت أقدام أولي الأمر، طالباً منهم أن يأمروه بقيادة أسطول يقتحم به أسوار عكا. ثم أعاد التذكير بثروة الشيخ ضاهر العُمر الأسطورية، وأنها ستكون من نصيب خزينة الباب العالي لو تم القضاء عليه. فقررت الدولة إرسال العمارة البحرية، وكانت بقيادة القبودان " حسن باشا "، الذي اصطحب معه الجزّار. هذا الأخير، كان قد استبقَ ذلك بإرسال مجموعة من المرتزقة إلى عكا، للدخول في خدمة واليها ومن ثم خيانته عندما يتلقون الاشارة المطلوبة. لما انتصبت العمارة البحرية قدّام أسوار عكا، أرسل قائدها رسولاً إلى الشيخ يعرض عليه المساومة بدفع مبلغ ستمائة ألف غرش لخزينة الدولة. كاد الشيخ أن يوافق، وقال لحاشيته: " سندفع المبلغ، ثم نحصّله فيما بعد بفرض ضرائب جديدة على الشعب ". لكن نائبه النصرانيّ، ويُدعى " المعلّم إبراهيم "، أعترضَ بالقول: " مسكين هذا الشعب، المغلوب على أمره بين الحصار والضرائب. وعندي أن ترفض العرضَ، لأنهم لو دفعت لطلبوا ضعف المبلغ وهكذا إلى تفلس خزينتك وينفض عنك رجالك. وأسوار عكا متينة، عجزت عمارات الفرنجة عن اقتحامها ". وقد أقتنع الشيخ برأي المعلم إبراهيم، وأعطى الأمر بالجاهزية لصد العدو.
في أثناء المفاوضات، كان أفراد الأسطول قد انتشروا كالنمل حول الأسوار وأخذوا بحفر الأنفاق لوضع الألغام تحتها ومن ثم تدميرها في الوقت المناسب. بمجرد أن رفض الشيخ العرضَ، تم تفجير عدة أنفاق وتهاوى جانب من السور. وإذا باولئك المرتزقة، المجندين من لدُن الجزّار، يتركون مواقعهم ويفرون باتجاه العدو، ما أضعف معنويات بقية العسكر المحاصَر في المدينة. آخرون من صنيعة الجزّار، قاموا بتعطيل المدافع المنصوبة على الأسوار، وكان بمقدورها تدمير الأسطول وهيَ في أماكنها الحصينة. عند ذلك، قرر الشيخُ الخروج من عكا باتجاه مضارب البدو، لكن أحد المرتزقة المغاربة عاجله أمام بوابة السور بطلقة أردته.
أطلق القبودان يدَ رجاله في نهب المدينة، فيما كان يعمد هوَ لمصادرة أملاك الشيخ القتيل. يُقال، أن المال المصادر بلغ قرابة المائة ألف كيس؛ وهيَ ثروة هائلة، تعادل خراج ولاية سورية بأسرها. تم على الأثر اصطحاب أسرة الشيخ وأولاده إلى الأستانة، ليوضعوا هناك تحت الاقامة الجبرية. المعلّم ابراهيم، المسجون بدَوره، سمع ذات يوم أنّ السلطانَ مهمومٌ كون امرأته عليلة بمرض غامض عجز أطباء القصر عن تحديده. فعرَضَ أن يعالجها، ومن ثم وصف لها دواءً ساعد في شفائها. أطلق سراحه عند ذلك، وسُمح له بالعودة إلى بلاده. لكنه بقيَ في الأستانة، يحاول افتكاك أسر أولاد سيّده الراحل. إلى أن دعاه حسن باشا ذات يوم لوليمة على ظهر عمارته، وبعدئذٍ أمرَ بشنقه.

6
الجزّار، جعلَ عكا مركز ولايته، وقام على ترميم أسوارها من ناحية البحر والبر. بتلك الطريقة، كان قد ضمنَ حصناً منيعاً يلوذ به ما لو كشفَ بشكل سافر عن مطامحه؛ المتحددة بإعلان استقلاله عن الدولة وسلطنته. في سبيل هذه الغاية، جلبَ المزيد من رجال البشناق، موطنه الأول. كذلك أعتمد على الأكراد، المجندين بقوات اللاوند، التي رأسها كُرد اسماعيل ومن ثم كُرد طه بعد انتقال الأول إلى دمشق. بهذه القوات، تدخّل في حرب أهلية أججها بنفسه، بين آل شهاب النصارى وآل صعب المتاولة، فأعمل السيف بهؤلاء الأخيرين وسبى نساءهم. لم يكن هذا حباً بسيّده السابق، الأمير يوسف، وإنما لكي يكسر إرادة اللبنانيين ويمنع إتحادهم. في إحدى المرات، سيق عشرات الرجال من المتاولة، تم أسرهم في المعارك، وهناك في عكا وُضِعَ كلٌّ منهم على الخازوق إلى أن لفظ أنفاسه بعد ساعات من العذاب الممض. هذه الطريقة الوحشية في العقاب، جعلت العبادَ يخضعون للجزّار.
الأمير يوسف، المقصوص الأجنحة، ما لبثَ أن جاء دَوره كي يخضع لخادمه السابق. عقبَ انتزاع بيروت والشوف من يده، طُلب منه أن يتخلى عن الخرّوب والتفاح وجزين. استبد الوهم بالأمير، بحيث كان يعتقد أن جواسيس الجزّار يحيطون به في مقره بدير القمر. في أحد الأيام، غادر مقره عند هبوط الليل مصطحباً معه أسرته وحاشيته مع ما قدر على حمله من أموال. بقيَ لأشهر عديدة يتنقل بين قرى الجبل، يُطارده الوهمُ، إلى أن استسلم تماماً لليأس. عند ذلك، فكّرَ بنقل الإمارة إلى نسيبه، الشاب " بشير "، وكان أصلاً قد انتزع الحكم من أبي هذا الأخير. ثم طلبَ منه السفرَ إلى عكا، لمقابلة الجزّار كي يحصل على موافقته. الجزّار الداهية، أدرك عندما التقى النسيبَ الشاب ما وراء هذه اللعبة؛ وهيَ أن يضمن الأميرُ يوسف العيشَ بقية حياته بسلام وأمان. لذا وافق على تعيين بشير أميراً على جبل لبنان، لكن بشرط أن يحارب عمّه فيقتله أو يأسره.
الأمير يوسف، وقد انتابه الهلع من جديد بعدما سمع بتوجه الحملة ضده، بقيَ حائراً لا يدري ما يفعله. هوَ المنبوذ والمطارد، لعله حينئذٍ استعاد أيام سطوته وجبروته، حينَ كان حاكماً مستبداً لم يتورع عن قتل أحد أشقائه وتسميل عينيّ شقيق آخر، ناهيك عما كان يفعله بالرعية من مظالم وإفقار وإذلال. ربما ندم أيضاً على إشعاله الحروبَ العبثية مع جيرانه، حكّام الأقاليم اللبنانية، التي لم يستفد منها سوى الجزّار الخبيث. إلى هذا الأخير، قرّ رأيه أن يلتجئ، متوسلاً العفو بمحاولة جعله يرد الجميل بمثله. وقد أظهر خادمُه السابق الحفاوةَ بمقدمه، وأمّنه على حياته ثم عيّن له داراً فخمة في عكا لإقامته.
لكن بعد أيام قليلة، إذا بالجند يحضرون إلى الدار، ليوثقوا الأمير بالأغلال ومن ثم يأخذونه إلى السجن مع حاشيته. كان من عادة الجزّار اقرار المعتقلين عما يخفونه من مال بوسائل التعذيب، وهذا ما جرى للأمير وحاشيته. هنا، عرضَ الأميرُ على الجزّار أن يتنازل له عن كل ما يملك لو أعاده إلى الحكم. لاقى العرضُ رضا الرجل الجشع، ليتوصل عبرَهُ إلى ابتزاز الحاكم الجديد للجبل. لما وصلت رسالةُ الجزّار للأمير بشير، بادر إلى الرد عليها بأنه سيدفع ضعفَ الضرائب المستحقة على الجبل نظير بقائه في الحكم. هكذا أبقى الجزّارُ الأميرَ يوسف وجماعته في السجن، غبَّ حصوله على المال المطلوب. ثم ما عتمَ أن أتهمهم بالتآمر مع أعيان مدينة صفد، وكانت المدينة في تلك الأيام قد ثارت ضده بهدف رفع مظالمه عنها. في صباحٍ شتويّ حزين، علّق الأميرُ السجين على المشنقة مع عدد من أتباعه، لتطوى هذه الصفحة من تاريخ جبل لبنان ولتفتح صفحة الأمير بشير.

إذ كان الجزّارُ على قدر بالغ من الجشع، بحيث لا يترك المقبوض عليه إلا بعد أن يفقره تماماً ويجعله متسوّلاً، ففي المقابل، كان كريماً وسخياً لأبعد الحدود مع الدجالين ممن يبيعونه الأوهام بزعم معرفتهم للغة النجوم والأبراج وكشف الغيب. أحدهم، حصل منه على مبلغ جسيم من الذهب، لقاء كتابٍ ادعّى أنه موضوع منذ ما يزيد عن الثلثمائة عام وفيه بشارة عن ظهور المهدي المنتظر في حدود منتصف القرن الثالث عشر للهجرة؛ أي نهاية القرن الثامن عشر الميلاديّ. هذه الحكاية، قصّتها عليّ كَوليزار وكانت قد سمعتها من زوجها الراحل حينَ كان قبل بضعة أعوام بصُحبة الجزّار في رحلة الحج.
كان الجزّار عامئذٍ قد عُهد إليه إمارة الحج، وسار بالمحمل الشريف من بلاد الشام إلى أرض الحجاز. ثمة وفي خلال طوافه بالحرم المكيّ، لحظَ تجمهرَ مئات الحجّاج حول رجلٍ ضئيل القامة، قاتم السحنة. فلما سأل عنه، فإنهم قالوا أنه " الشيخ جعفر "، قطب الطريقة النقشبندية وأصله من الهند. أقتربَ من مكان الاجتماع، فسمع الرجلُ يتكلم العربية بطريقة بليغة وأخّاذة. في اليوم التالي، أرسل في طلب الشيخ كي يحضر إلى خيمته؛ وكانت منصوبة على طرف الحرم بكل بذخ وكأنها رواقٌ من قصر. لما حضرَ الرجلُ، بادر الجزّارُ إلى الترحيب به في إكرام زائد دونَ أن يكشف عن شخصيته. سأله من ثم عن بلاده وأحوالها وملكها إلى أن وصل إلى الاستفهام عن علوم الطريقة وأصولها.
قال الجزّار للشيخ: " هل تؤمنون بقصة المهدي المنتظر، وأنه سيظهر من مكة في القرن الثالث عشر للهجرة كي يملأ الأرضَ عدلاً؟ ". لما أفصحَ له الشيخ عن رأيه، بأنّ الحديث الشريف عن المهدي المنتظر ضعيفٌ، فإن الجزّار بادرَ إلى إحضار كتابٍ حائل اللون وفتحه على صفحة معينة. كان فبها جدولٌ، يضم حروف المعجم، وقد سُوّد عددٌ منها ليظهر هذا الاسم الطويل: " أحمد بن عبد الله الجزّار المهدي المنتظر ". أدرك الشيخُ عندئذٍ حقيقة شخصية المضيف، لكنه لم يرغب بمحاباته. بعدما تأمل في تلك الصفحة، قال له: " إن أحدهم قد تصنّع بالأحرف المطلوبة، وليسَ ذلك من أصل الكتاب ". لاحَ الاستياءُ على سحنة الجزّأر، لكنه كتم ما في نفسه.
في اليوم التالي، حضر مرسالُ الجزّار، يحمل إليه حقاً مغلّفاً بالأطلس وفيه عددٌ من الجواهر. وقد قبل الشيخُ الهدية الثمينة، وعرف أنها مكافأة على صدقه. في غضون ذلك، عُلم أنّ الجزّار " بلصَ " من صاحب الروضة المشرّفة مائة ألف غرش ثم قتله؛ وهذا ما فعله أيضاً بشيخ الحرم في المدينة المنوّرة. كذلك كان قد اصطحبَ معه سبعةَ موظفين من كتّاب ديوانه بعكا، شكّ بعدم أمانتهم، فتقرّبَ لله بقتلهم وصلبهم في مكة!

7
الآن، أزيلت عقبة أساسية من طريقي وذلك بموت كُرد اسماعيل. لكن ثمة عقبة أخرى، تحول دونَ اقتراني بكَوليزار؛ وهيَ اختلاف عقيدتينا. سبقَ لها أن ذكّرتني بهذا العائق، حينَ عرضتُ عليها فكرةَ الهرب معاً إلى بيروت ومن ثم ركوب البحر إلى البندقية. في حقيقة الحال، أنّ التصنّع بديانتي لم يكن مشكلة كبيرة بالنسبة لي؛ أنا مَن أعتنق الفكرة الفلسفية عن الأديان، وهيَ أنها جميعاً نشأت نتيجة خوف الإنسان من الموت. كي أثبت للحبيبة استعدادي للتحول عن المسيحية، قررتُ صومَ رمضان للعام التالي على التوالي وبطريقتي الخاصّة نفسها، التي تجعلني أكتفي ببعض كسر الخبز صباحاً مع شرب الماء. لكنني كنتُ أضطر للكذب، بالقول لها أنني مقيمٌ على صيام المسلمين. وكانت هيَ تبدي فرحتها، كل مرةٍ تستفهم مني عن حالتي في خلال شهر الصوم. من ناحية أخرى، علينا كان تجنّب أيّ اتصال جسديّ في رمضان إلا بعد غروب الشمس؛ وهذا التوقيت كان ملائماً لعلاقتي مع الحبيبة!
في الأثناء، كان الطقسُ قد مال إلى التحسّن مع حلول الربيع. المحمل الشريف، ما لبثَ أن أنطلق في ميعاده وعلى رأسه الجزّار، المسيطر على جلّ أراضي سورية من حمص شمالاً إلى العريش جنوباً. لم ينجل الكابوسُ عن كاهل الدمشقيين بمسير الرجل إلى أرض الحجاز، ذلك أنّ ظله المرعب بقيَ يجثم على أنفاسهم من خلال شخص المتسلّم؛ كُرد طه. هذا الطاغية، كانت أعماله المشينة، المتواترة، محورَ حديث الأصدقاء في كل مرةٍ أجتمعنا فيها. بسبب إرهابه، أبطل الدمشقيون عادةً جميلة، تتمثل بالسهر في خارج المنزل في ليالي رمضان، يقضون خصوصاً في المقاهي الوقتَ لحين حلول ساعة السحور. نهاراً أيضاً، قلّت حركةُ السوق بشكل ملحوظ لانتشار أفراد اللاوند، الذين كانوا لا يتورعون عن مسك أيّ شخص عابر، تلوح على هيئته الوجاهة، وتلفيق تهمة له كي يتم سجنه ومن ثم ابتزاز أسرته بمقابل إطلاق سراحه.
فئة من السكان، تُدعى باللهجة المحلية " عوانيّة "، اتسموا بالشخصية المهزوزة وانعدام الضمير، طفوا على السطح في هذه الأيام الحالكة، وكانوا عوناً لأفراد المرتزقة في تعقّب الخلق وكشف أسرارهم. أكثر من مرة، تناهى إليّ خبرُ القبض على بعض وكلاء القناصل الأوروبيين بتهمة التجسس. هذا، سبّبَ لي قلقاً شديداً بما أنني بنفسي من مواطني أحد أولئك القناصل. كذلك، بالطبع، دهمني نفسُ الشعور بخصوص أصدقائي؛ ما جعلنا نلتقي في فترات متباعدة، متجنبين السهر لساعة متأخرة من الليل. وغالباً صرنا نلتقي عند جان أو غابي، لتجنيبهما مغبّة الخروج ليلاً.

في أحد أيام شهر حزيران/ يونيو، اتفقتُ والسيّد خليل على السير معاً إلى منزل جان، فاستأجرنا عربةً مشدودة بالخيل كي توصلنا للحي المسيحيّ. عادةً عند حلول العتمة والوقت على شيء من الحرارة المرتفعة، تجدُ دمشقَ مثل لؤلؤة تشع بالنور والبهجة. لكنها تبدّت لعينيّ في خلال الطريق كئيبة، يلفها العتمة، برغم مسيرنا في أشهر الأسواق وأكثرها عراقة؛ وهوَ المسمّى " الطريق المستقيم "، المتجّذر في القِدَم حتى أنه معروفٌ في التواريخ الرومانية والبيزنطية.
عندما دخلنا صالةَ الضيوف، كان صديقنا الآخر، غابي، موجوداً هنالك فيما المائدة حافلة بأطباق المازة مع دورق النبيذ ودمجانة العرَق. تعانقنا بحرارة، كأنما مضى حولٌ على افتراقنا، وحاولنا إضفاءَ جوّ من المرح على اللقاء. في تلك الآونة، كان جميعُ الأصدقاء قد علموا بأمر عشقي لأرملة آمر اللاوند، بينما في السابق أقتصر ذلك على صديقنا المسلم. كلّ منهم، شاء أن يُدلي بدلوه فيما يجب عليّ القيام به من أجل إيجاد حلّ للمأزق، المتمثّل باختلاف الديانة. لكن أياً منهم، لم يلمّح لإمكانية تصنّعي بعقيدتي، بما فيهم السيّد خليل.
وإنه صديقنا المسلم، من بادرَ الآنَ للكلام في موضوع آخر: " يلوحُ أننا سنُرفع قريباً إلى القلعة، بوصفنا وكلاء للقنصل الفرنسيّ ". هذا التعبير الدمشقيّ، كان يعني الإعتقال. إذ اشتهرت القلعة بزنزاناتها الرهيبة، المشكّلة من سراديبٍ تحت الأرض تُدعى أيضاً ب " الجب " بسبب عمقها وعدم وجود منفذ للنور فيها. القلعة، كانت قبلاً شبه محرّمة على الباشا، لكن مع ولاية الجزّار المرعب تغيّر الحال وانكمشت الانكشارية على نفسها.
علّقَ المضيفُ في شيء من الحماسة، وكان قد سبقَ وامتلأ رأسه بالشراب قبل وصولنا: " لِمَ لا ننتقل جميعاً إلى بيروت لفترة من الزمن، علّ الأمور تتغيّر مع مضي الأيام؟ ". ثم أردفَ: " القنصل سيساعدنا هناك على استمرار أعمالنا، فيما صديقنا إلياس يتابع إهتمامه بأمور الكتابة ". ثم عاد واستدرك، متوجّهاً إليّ بالكلام: " أو تلحقنا فيما بعد مع امرأتك، لو شاءت هيَ مرافقتك؟ ". مثلما سبقت إليه الإشارة، أنها لم تكن المرة الأولى تصبحُ علاقتي مع كَوليزار محور نقاش الأصدقاء. على ذلك، عقّبتُ بالقول متكلّفاً الابتسام: " إنه اقتراحٌ معقول وواقعيّ، لكن يجب أولاً أخذ رأي القنصل. أليسَ صحيحاً؟ "
" نعم، في وسعنا استخدام بريدنا لمراسلته كي نختصر الوقتَ "، تدخّل غابي في النقاش. أتجهت الأنظارُ هذه المرة إلى صديقنا المسلم، الذي ما لبثَ أن تنحنح ليقول: " ربما لأول مرة في تاريخ الولاية السورية تحت حكم آل عثمان، يتسلّط على الخلق والٍ على هذا القدر من الشراسة وانعدام الضمير بحيث لا يوفر أحداً؛ كبيراً كان أو صغيراً، وجيهاً أو فقيراً، مسلماً أو نصرانياً أو يهودياً. لم يعُد أحد يأمن على حياته ولا على عرضه ولا على رزقه. لو أمكننا فعلاً اجتياز هذه المرحلة، بالبقاء مؤقتاً في بيروت، لكانت هذه فكرة رائعة ولا ريب. لكن، كيف نضمنُ ألا يمتد عهدُ هذا الباغي لخمسة أو عشرة أعوام؟ ".
لم يملك أحدٌ جواباً، سوى الصمت المفعم بانعدام الأمل. مع ذلك، لم تنفضّ السهرة إلا بعدما اتفقنا على مكاتبة القنصل وأخذ رأيه في انتقالنا إلى بيروت، علاوة على سؤاله عن الأوضاع هناك بشكل عام.

8
جوابُ القنصل، لن يصل أبداً. في المقابل، نمّ إلينا خبرُ انتشار الطاعون في رقعة واسعة تمتد من حمص إلى صيدا. هذا أدى إلى الأمر بإغلاق أبواب بيروت، كيلا تنتقل العدوى إلى المدينة. دمشق، التي بقيت بمنأى عن الوباء، أضحت تعاني من غلاء فاحش: ثمن كيل الحنطة الشامي 27 غرشاً، كيل الذرة 18 غرشاً، ورطل الأرز بستين فضة؛ وقس على ذلك بقية المواد الغذائية الضرورية.
لكن خزين المؤونة لديّ كان وافراً، يكفيني لثلاثة أشهر على الأقل. مع أنّ قلقي بقيَ محصوراً في سلامتي الشخصية، طالما أنّ جو الارهاب كان مسيطراً على المدينة ويحصد يومياً عشرات الأرواح غير الذين يرفعون إلى القلعة أو مَن يغرّمون بدفع أتاوات تجعلهم ينضمون إلى جيش المتسولين بعدما يُجبروا على بيع محلاتهم وحتى منازلهم. فاستبدّ فيّ هاجسُ الحفاظ على مالي ومجوهراتي، بعيداً عن يد أولئك الأشرار، العاملين تحت إمرة الطاغية. بعد طول تفكير، عمدتُ إلى حفر جانب من قبر دعيّ النبوّة، يكفي لإيداع صندوق المال والمجوهرات فيه، ثم أعدتُ التربة إلى سابق حالها: قدّرتُ أنّ أحداً لن يجرؤ على التنقيب في القبر، فتحلّ عليه لعنة الرجل المبارك ـ كما زُعم أنه حصل لمالك المنزل السابق، الذي أصيبَ بالشلل المؤقت لأنه أراد تسوية القبر بالأرض؛ وهي قصة قديمة، شاعت في دمشق بأسرها.
الغريب، فكّرتُ وقتئذٍ، أنّ قدَر دمشق كان مطابقاً تقريباً لقدَر باريس، لناحية جو الارهاب. ففي هذه الأخيرة، برز المتطرفون، المعرفون ب " اليعاقبة "، وهيمنوا على السلطة، فشرعوا فوراً بالتنكيل بمن يخالفهم الرأي بما فيهم رفاق الثورة من الاتجاهات الأخرى. ترافق ذلك مع مصادرة ممتلكات الكنيسة، وطرد الرهبان من الأديرة، وذبح من رفضوا الأوامر. كذلك أرتفعت الأصوات ضد مبدأ إعادة الملكية بشكل دستوريّ، مطالبة بالنظام الجمهوريّ؛ ويعني استحواذ الجماهير على الحكم عن طريق ممثليهم في الجمعية الوطنية: هذا كله، تسنّى لي الاطلاع عليه من خلال الصحف الفرنسية، التي كان يرسلها القنصلُ إلى وكلائه، وذلك قبل حصار بيروت.
هنالك في سهرات الأصدقاء، كنا نناقش هذا المنحى التاريخيّ الجديد، مع مقارنته أيضاً بالوضع المستجد في الولاية السورية. المدهش، أنّ الوحيد بيننا المتحمّس لتلك الاجراءات الراديكالية، لم يكن سوى صديقنا المسلم. ولقد أعرب ذات مرة عن أمله بتأسيس نادٍ سياسيّ، يلم شمل الشبان السوريين المثقفين، على اختلاف منابتهم، بهدف التأثير على مجمل الشعب وتنويره بحقوقه المسلوبة تحت حكم آل عثمان.
في يوم آخر، لما قرأنا عن سعي ثوار باريس لتأسيس جيش جديد، فإن السيّد خليل هتفَ: " ستنتشر أفكارُ الثورة الفرنسية في أوروبا بحد السيف، ولن تلبث أن تغمر الشرق كما تفعل موجة هائلة على أثر زلزلة في عمق البحر. لكن علينا ألا نظل مكتوفي اليدين بانتظار من يُحررنا، بل يجب على الأقل أن يكون الشعب هنا على درجة معينة من الوعي لتقبل الوضع الجديد. مرات عدّة، ثار فيها العامّة في الشام ضد الولاة، لكن الوضع كان يعود لحاله كون الثوار وصلوا إلى طريق مسدود بسبب جهلهم أفكار الحرية والعدالة والمساواة ".
علّقتُ عندئذٍ على كلامه، أنا من أكتوى بنار الثورة: " جميلٌ ما قلته، لكن الواقع في الشرق أكثر قتامة على ما يبدو لي. فالأمّية، منتشرة بين الغالبية الساحقة من الناس، وهم بذلك يعطون سمعهم لرجال الدين كون حديث هؤلاء بسيطاً لا معقّداً كحديث فلاسفة التنوير والحرية. في البدء، يجب أن يظهر في الشرق دعاةُ التنوير من فئة رجال الدين، لأنهم الأقدر على مخاطبة الجمهور من الفلاسفة. الدعاة، مهمتهم الأولى هيَ الحض على نشر التعليم وإشراك المرأة في الحياة العامة ونبذ الخرافات وتبديد الأوهام. في بيئة الجهل، محال أن تلقى أيّ دعوة للتحرر أذناً صاغية "
" لكنك أهملت العامل الخارجيّ، يا صديقي "، خاطبني السيّد خليل ثم أوضح بالقول: " أعني إمكانية هزيمة الباب العالي في معركة حاسمة، بحيث يجبر على التنازل عن أملاكه في المشرق وشمال أفريقيا. فكيف إذاً لو تم ذلك على يد ثوار باريس، الذين لأول مرة في تاريخ البشرية يعلنون أن قيم الحرية والعدالة والمساواة هيَ لجميع سكان المعمورة دون استثناء؟ "
" لننتظر ولنرَ ما يتفتق عنه الوضعُ في باريس نفسها، كون الشد والجذب هنالك على درجة كبيرة من السرعة ومن غير المعلوم تحديداً، لمن تكون الغلبة بين مختلف الاتجاهات السياسية. وبرأيي، أن سيطرة جماعة متطرفة على مقادير الثورة، كاليعاقبة، سيؤدي إلى حال من الفوضى والافقار والارهاب بحيث تترحم الجماهيرُ على عهد الملكية المستبدة "، خلصتُ إلى هذا الرأي وكنتُ قد فكّرتُ فيه ملياً من قبل من خلال قراءتي للصحف وتحليلات محرريها وبعضهم من مشاهير الفكر والسياسة.

9
ذات صباح من شهر آب/ أغسطس، كنتُ قد أرسلتُ خادمي إلى السوق لشراء بعض الحاجيات. عقبَ ذهابه بنحو ساعة، طرق أحدهم على الباب. كان من الممكن التفكير عندئذٍ بالحبيبة، لولا أن اليد الطارقة كانت على شيء من اللجاجة والفظاظة. نهضتُ لفتح الباب، لأجد آمراً متجهّم الوجه مع أربعة جنود. دونَ أن يوجه إليّ كلمة، طلبَ من أحدهم أن يضع القيود في يديّ. طلبتُ منه أن أقفل باب البيت على الأقل، لكنه أجاب مومئاً إلى مرافقيه: " سيبقى اثنان منهم في البيت، لكي يفتشوا عن دليل يدينك بالتجسس لحساب الفرنجة! ". فكّرتُ أنه لا جدوى من مناقشة هذا الآمر الفظ، بالأخص لأنني أدركتُ سلفاً ما وراء اعتقالي. استباقاً لذلك، كنتُ قد وضعت مبلغاً من الغروش في الخزانة كي أصرّ في الوقت المناسب أن هذا كل ما بقيَ معي من مال بعد نحو عامين من إقامتي في الشام.
نظراً لضيق الزقاق، كانت عربتهم المشدودة بالخيل تنتظر في مدخله على الدرب. أصعدوني من ثم إليها، وسارت بنا مع الآمر ومرافقَيه إلى أن بلغنا السرايا. هذا البناء الأشبه بالقصر، كان ينتصب في روضةٍ فاتنة ضاجّة بتغريد الطيور، وبحَذائها يسير النهر، القليل المياه في فصل الجفاف هذا. هنالك في السرايا، أرتقيتُ الدرجَ مع الجند إلى الدور الثاني. ثم أوقفوني بصرامة عند باب حجرة، ودخل الآمرُ ليعلن عن وصولي. على الأثر، رأيتني في حجرةٍ فارهة، سقفها وجدرانها آيات في فنون الزخرفة والنقش. لكن بصري ثبت أولاً على رجل يجلس وراء طاولة فخمة، وخلفه نافذة أنزل عليها ستارة سميكة. الجو، كان لمّا يسخن بعدُ بحرارة الصيف المتأخّر. عقبَ إشارة من الرجل، أحنى الآمرُ رأسه ثم غادر الحجرة بعدما ألقى عليّ نظرة سريعة.
" إلياس ديبوربون؛ أليسَ هذا اسمك؟ وأنت مواطنٌ فرنسيّ؟ "، بادر الرجلُ ذو القيافة المهيبة لسؤالي بصوت خشن. كان في مثل سنّي تقريباً، ذا سحنة حادة القسمات، ينبعث من عينيه شررٌ من النذير والوعيد. شعره وشاربه ولحيته الخفيفة، صبغوا بالحناء كي يبدو أكثر شباباً أمام الحريم. كنتُ واثقاً أنني في حضرة المتسلّم، كُرد طه، الذي غدا أيضاً قائد قوات اللاوند عقبَ إعدام رجل كَوليزار. هذا الطاغية، كما مر معنا، كانت ترتعد فرائصُ الكثير من الدمشقيين لمجرد ذكر اسمه. وكانوا يتهامسون في المدينة، أنه على عقيدة الإيزيديين ( عبدة الشيطان )؛ وهؤلاء فرقة غنوصية، يتكلم أفرادها الكردية ويعيش معظمهم في شمالي الجزيرة السفلى وشرقيها وبعضهم في الجبال غربي حلب.
لما صدّقت على قول المتسلّم، بقيَ لحظة يتفرّس فيّ قبل أن يستفهم عن سبب وجودي في دمشق دونَ علم السلطات. أجبت بالقول: " لديّ تصريحٌ بالاقامة، باعتباري ضيف الباب العالي، حصلتُ عليه من الديوان في الأستانة. التصريح، موجود لديّ في المنزل "
" وماذا تملك غيره في المنزل؟ "، خاطبني هذه المرة وعيناه تشتعلان بالجشع والطمع. فهمتُ بالطبع ما يعنيه، لكنني آثرت تجاهله عندما أجبت ببساطة: " أشياء قليلة في واقع الحال، من مفروشات وحوائج "
" أسألك عن المال، يا رجل؟ "
" إنه مبلغ تافه، يكفي أودي. لقد تركتُ كل ما أملك في فرنسا، وبالكاد نجوتُ بجلدي من الثوار "
" سنعرف حقيقة ما تدّعيه، عندما يفرغ الجندُ من تفتيش منزلك "، أكّد باصرار وصلافة هدفَ جلبه إياي. كان جلياً أنه يرمي ابتزازي، ولم يكن مستعداً لسماع أشياء أخرى. عدتُ أقول له بنبرة بريئة: " أقسم لك، يا سيّدي، أنني قرضت بعضَ المال من القنصل الفرنسيّ في تخت السلطنة ولم يبقَ معي سوى القليل منه "
" وكيف اشتريت إذاً المنزلَ، لو كان مالك قليلاً؟ "، قاطعني مغتاظاً. تمالكت زمام نفسي وأنا أرد بالقول: " كان المنزلُ مهجوراً، لما قيل عن لعنةٍ حلّت فيه بسبب وجود ضريح وليّ مبارك في حديقته. على ذلك، بيع لي المنزل بسعر زهيد "
" ألم يظهر لك شبحُ الوليّ، مرةً من المرات؟ "، تساءل بنبرة ساخرة. أجبته بجدية كي أخفف من غلوائه: " شعرت حقاً بوجود شبحه من علامات معينة، لكنه ظهر جلياً لخادمي كما أقسم لي في حينه ". قبل أن يعلّق على كلامي، طرق بابُ الحجرة وما لبث أحدهم أن دخل. كان أحد الجنديين، الذين تركهما آمرهما كي يفتشوا منزلي. رأيته يحمل صرة المال بيده، فسلمها من ثم للمتسلّم قائلاً: " هذا كل ما وجدناه في المنزل ". ثم استدرك فيما يلقي عليّ نظرة مختلسة: " لكننا حين خفرنا في موضعٍ بالحديقة، ظهرت جثة رجلٍ لم يبق منها سوى الجلد والعظام "
" هل نقبتم في ضريح النبي كيكي؟ "، سأله المتسلّم وقد اتسعت عيناه. رد العنصر بالقول: " لا، كانت الجثة مدفونة في أرض الحديقة بجانب الضريح، كما لو أن أحداً أخفاها بعناية ". هنا، ركّز المتسلّم نظره فيّ قبل أن يسألني عما أعرفه عن الجثة. عند ذلك أنكرتُ معرفتي بالأمر، متكلّفاً الدهشة. بقيَ الرجلُ يتفرّس فيّ، ثم ما عتم أن قال لي متوعّداً: " إنهم مؤخراً يستعملون المقصلة لديكم في فرنسا، ويقال أن شفرتها من الحدّة والصلابة أن تطيح برأس المحكوم بالاعدام في لحظة واحدة. لكننا نستعملُ الخازوق، لكي يتعذّب المحكوم ساعاتٍ طويلة قبل أن يلفظ أنفاسه ". عقبَ ذلك فتح الصرة، ليلقي عليها نظرة ازدراء. ثم طلبَ من العنصر أن يفتشني، ولم يكن معي إلا الساعة المربوطة بسلسلة ذهبية وهيَ أيضاً من ذات المعدن. استولى المتسلّم على الساعة بطريقةٍ تذكّر بالضبع، كما واحتفظ بالصرة، ثم ما عتمَ أن أمرَ العنصر أن يرافقني إلى الخارج.
كنتُ أعتقد أنني في سبيلي لإحدى الزنزانات في السرايا، لكنني عندما وجدتني أمام باب المبنى قدّرتُ أنهم يرسلونني إلى القلعة. إذا بالعسكريّ المرافق ينتزع من يديّ القيود، ليقول لي مبتسماً: " أنتَ الوحيدُ، فيما أعلم، مَن قُدّر له الخروج سالماً من مقابلة كُرد طه! ". ثم سألني قبل أن يعود أدراجه، ما لو كنتُ أعرف طريقي إلى منزلي.

10
منذ ذلك الحين، أضحيتُ ضجراً وملولاً وموسوساً، أنتظرُ بفارغ الصبر فتحَ أبواب بيروت كي ألتجئ إليها لفترة تطول أو تقصر. أن أنجو بجلدي عقبَ اعتقالي ومقابلة الطاغية، جعلني أوقنُ أنني ما فتأت في خطر مستطير ومعرّض لنفس التجربة؛ لكن ليس لمآلها ونتيجتها بالضرورة. الأصدقاء، ما لبثوا بدَورهم أن علموا بما جرى معي وآثروا أن تكون لقاءاتنا في أوقات متباعدة.
علاقتي أيضاً مع الحبيبة، كانت على نفس المنوال، بحيث أعتدت على فراقها لبضعة أسابيع. في أوقات فراغي، وهيَ كثيرة، صرتُ أكتب لها أشعاراً غزلية وأرسلها إليها مع خادمي. هذا الأخير، كان قد غدا معروفاً من لدُن خدم منزلها بأنه عتّال في السوق يترزق من نقل البضائع إلى الدور لقاء أجرة زهيدة. ذات مرة، ردّت عليّ كَوليزار كتابةً، لتتساءل ما لو كنتُ في شوق لرؤية ابننا على الأقل. خجلت عندئذٍ من خوفي وحذري، فمضيت إليها مساء ذلك اليوم وكان الجو قد مال إلى شيء من البرودة مع حلول الخريف. سرتُ عبرَ الأزقة المظلمة، والبيوت المتلاصقة، كأنني أسمع النبض الواجف لساكنيها. إلى أن بلغتُ مقر سكنها، وكان أيضاً غارقاً بالعتمة. شعورٌ بالمشاكسة تغلب عليّ، فدفعني إلى تصرف طائش وكأنني أتحدى السلطة والأعراف وكل ما يقف عائقاً بيني وبين الحبيبة: طرقتُ بنفسي على باب دارها، بينما رأسي مرفوع باتجاه نافذة عليّتها وكانت مضاءة في هذا الوقت المبكر.
" تعال وأدخل بسرعة، أيها الأخرق! "، قالت لي عندما فتحت الباب ورأتني. كانت في معطف خفيف، له قبعة، وهوَ رداء من أزياء المغاربة نساءً ورجالاً. عندما أضحينا وحدنا في حجرتها، أجابت رداً على سؤالي: " كنتُ في صحن الدار على سبيل المصادفة، لما سمعتُ الطرق على الباب؛ وهاجسٌ أنبأني أنه أنتَ "
" أتيتُ في هذا الوقت، لكي أحظى برؤية أبننا وهو يقظ "
" ستراه حالاً "، ردّت على جملتي المرتبكة باسمةً. لكن لاحَ أنها سعيدة بقدومي، برغم ما أظهرتُه من قلة تبصّر وحذر. خرجت من الحجرة، ثم عادت بلمحة ومعها الطفل. كانت ملامحه قد تحددت، ووزنه قد ازداد، وشعرت أنه أضحى أكثر شبهاً بي. احتضنته وقبلته، وكانت يده الدقيقة تمر على لحيتي الخفيفة وهوَ يبتسم في خجل. بعد ذلك، حملته أمه لتضعه على بطنه في منتصف السرير بين الوسائد الكبيرة. كنتُ وإياها نجلس على كرسيين متقابلين، وقد بادرتني بالسؤال عن أحوالي.
قلت لها وأنا أتملى في هيئتها المبهرة، متخذاً نبرة غامضة: " منذ استقراري في دمشق، رأيتني في صراع مع الأشباح داخل وخارج الدار ". ثم أستدركتُ بسرعة: " هذا عدا حالة من التقمّص، كان من حسناتها أنها عرّفتني بكِ "
" لكنك خرجتَ منتصراً، في نهاية المطاف "
" بلى، إلى حد ما. لكن لن يهدأ لي بال، إلا عندما نعيش تحت سقف واحد وبأمان "، قلتها مشدداً على المفردة الأخيرة. ابتسمت هيَ مجدداً، فمضيتُ متدفقاً في الكلام كما لو كنتُ عاشقاً في عُمر المراهقة: " أرغبُ أن أفتح عيني في الصباح على صورتك، وأن تكون آخر شيء أراه قبل نومي. بل أرغب بالسكنى في أحلامك، كيلا ينقطع تواصلنا حتى في خلال النوم "
علقت بالقول، متنهدة بصوت مسموع: " لا أظنك تشك لحظة في عواطفي تجاهك، لو رأيتُ في علاقتنا محض جنون وحماقة. ذلك أن العائق الأساس، سيبقى ولا يمكننا تجاوزه "
" أدركُ أنك تعنين اختلاف ديانتينا، أليسَ صحيحاً؟ لكنني سأمضي بك إلى البندقية، وهناك يحتفظ كل منا بديانته أمام خالقه "
" وماذا عن ابننا؛ هل يُختن ويُعمّد في آنٍ معاً؟ "
" هل خُتن، حقاً؟ "، تساءلتُ في دهشة لكن بدون كدر. ابتسمت في شيء من الغيظ، ثم ردت بالقول: " أرأيتَ كيفَ أعتورك شعورٌ سلبيّ، وأنت تطرح سؤالك؟ "
" أبداً، حتى السيّد المسيح خُتن في صغره ثم عُمّد وهوَ شابٌ "
" اطمئن إذاً من هذه الناحية، لأنني أردته أن يختن صغيراً كي يتحمّل الألم دونَ وعي "
" ألم يحصل له نوعٌ من المضاعفات على أثر الختان؟ "
" أبداً، ولقد برأ جرحه في خلال أسبوع واحد "
" الشكر لله "
" نعم، الشكر لله "، رددت ثم عادت إلى التنهد. بقيتُ مضطرباً؛ مثلما أن وجود الطفل أربكني وجعلني غير قادر على دعوتها لممارسة الحب.

11
لاحَ أنّ مغامرتي الغرامية تسير باتجاهٍ خاتمة سعيدة، عندما جدّ حدثٌ مُكرب؛ ولو أنه متوقّعٌ. إذ حضر الجزّار من الحج، وأول دخوله دمشق أمر بالقبض على نحو عشرين من أعيانها كي يشنقوا على الفور ومن ثم يصار إلى مصادرة أموالهم وأملاكهم. توجه عند ذلك المفتي إلى السرايا، لكي يتشفع لدى الباشا في أولئك الأعيان. قيل أنه أبدى هنالك استعداده لضمان دفع ما يُطلب من فدية على المعتقلين، لكن الجزّار أجابه: " عليك أولاً دفع ديتك، لأنك معتقل أيضاً! ". لعلها كانت المرة الأولى في تاريخ الشام، يستهتر فيها الحاكمُ بأبرز مقام ديني في المدينة.
لكن الجزّار لم يمكث سوى أياماً قليلة في السرايا، وما لبثَ أن خرجَ مع جنده إلى فلسطين لإخضاع أحد المتمردين في تلك النواحي. فمر على الإمارة اللبنانية بهدف حشد المزيد من المقاتلين، لكنه أفهم هناك من قبل حاكمها ألا قدرة لديه على المطلوب، كون الطاعون أفنى الكثير من رجاله. محنقاً، بادر الجزّارُ إلى إرسال خبر لإبني عم الحاكم، ضامناً لهما الإمارة لو دفعا له مئتي كيس. كذلك عمد إلى التضييق على تجارة الأمير بشير، بإعادة الأمر بإغلاق أبواب مدينة بيروت؛ ما تسبب بموجة جديدة من الغلاء، كوت المواطنين. إلا أنّ الجزّار وقع في شر أعماله، لما هُزم لاحقاً أمام المتمردين في نواحي نابلس وفنيَ معظم جيشه وأركن هوَ للفرار باتجاه عكا.
كنتُ كباقي المواطنين الدمشقيين، أعيشُ في هذا الجو من الرعب والارهاب، شاعراً أن مصيري متواشجٌ مع مصائرهم. بينما كنتُ أنتظر انتهاءَ حصار بيروت، لكي أنفذ ما عزمتُ عليه من اللجوء إليها، رأيتني محاصراً في منزلي لا أكاد أخرج منه سوى في أوقات متباعدة لرؤية كَوليزار أو لزيارة الأصدقاء. في هذه الحالة، كان من الممكن أن أهدأ بالانكباب على الكتابة والقراءة، لكن عينيّ كانتا تجريان على السطور وذهني في عالم آخر؛ عالم الوهم والوسوسة والمصير المجهول.

لقد وجدني على هذه الكآبة، السيّدُ خليل، حينَ مرّ عليّ في مساء أحد الأيام. إتفاقاً، أنني كنتُ وقتئذٍ أحاول كتابة قصيدة غزلية؛ وقد استعصت عليّ المعاني على غير مألوف العادة. أطلعته على الأبيات الأولى للقصيدة، قائلاً: " في هذا الجو من القلق، أراني غير قادر على الكتابة بشكل أفضل ". تأمّل قليلاً في الورقة، ثم علّقَ بالقول: " لا عليك، حاول إكمال مشروع كتابك عن إنطباعاتك في الشرق. لكنني أعتقد أنك ستكتب الشعر بشكل أفضل، لو استعملت الفرنسية بدلاً عن العربية "
" المشكلة، أن حبيبتي لا تعرف الفرنسية "
" إذاً أكتب لنفسك، وكما لو تتخيل أنها تقرأ ذلك الشعر. وبهذه الحالة، لن تحرم أصدقاءك من الاستمتاع بما تكتبه إليها، ويكون هذا لسان حالهم لو شاء أحدهم التعبير عما في قلبه لحبيبته. وإلا فلِمَ الشاعرُ يطبع ديوانه، لو كانت قصائده منذورة للحبيبة حَسْب؟ ". لم أعقّب بشيء، ما جعل الضيف ينتقل لموضوع آخر. قال بنبرة حزينة: " المفتي، توفي أمس في محبسه بجب القلعة. ولأول مرة منذ عهد بعيد، يتجرأ الأهالي على لعن الباشا بصوت عال في الأسواق والدروب. أحسبُ أن البابَ العالي لن يسكت على هذه المظلمة الجديدة، وسيحاسب الظالمَ عليها عاجلاً أو آجلاً "
" لو صح ما تتوقعه، فإنّ هذا يعني أن المفتي في كفّة وبقية الضحايا في الكفّة الأخرى؛ بحَسَب تقييم أولي الأمر. هذا يدل على قوة نفوذ رجال الدين، وكم سيكون دورهم حاسماً لو أنهم تحلوا بالفكر النيّر وبالشجاعة على نشره بين أوساط الشعب ".

بعد أيام قليلة، فوجئتُ بالأصدقاء الثلاثة يحضرون معاً وكان الوقت ليلاً. هجموا عليّ بالعناق، وعلى ألسنتهم بشارة خلاص الشام من الطاغية وأعوانه. بعدما أخذوا أماكنهم في الرواق، بادر السيّد خليل إلى التوضيح: " لقد حضر قبجيّ من طرف الباب العالي، بكف يد الجزّار عن ولاية الشام وإحالتها لعبد الله باشا العظم "
" لقد تنبأت أنتَ بذلك، يا عزيزي، حينَ عقّبتَ على مسألة موت المفتي في المعتقل "، قلتُ له وقلبي ينتفض من الفرح. تركتهم يعلقون على الحدث، لأتجه إلى المطبخ كي أحضّر أطباق المازة. رأيت خادمي قد سبقني، وقد بادر على الفور لسؤالي عما لو كان حقاً ما التقطته أذنه بأنّ الجزّار عُزل. لما صدّقتُ على الخبر، رفع يديه إلى الأعلى: " ألف شكر لك، يا رب، أنك أنقذت الشام من ذلك المأفون السكّير ". وكان يُشاع في الشام، أنّ الجزّار أدمنَ الخمرَ كي يتمكن من سلوى ذكريات ضحاياه؛ وبعضهم كانوا يقضون ذبحاً أو خنقاً في حضرته.
على سبيل المداعبة، طلبتُ من خادمي أن يأخذ دمجانة العرَق إلى مجلس الأصدقاء، قائلاً: " أرجو ألا تكون دعوتك مُجابة، لو أنك تقصد كل من يتعاطى السّكر! ". فتناول عابساً الدمجانة، فمضى بها وهوَ يدمدمُ بعبارة غير مفهومة.

* الكتاب الثالث من العمل الروائيّ، " الأولى والآخرة "..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. من الكويت بروفسور بالهندسة الكيميائية والبيئية يقف لأول مرة


.. الفنان صابر الرباعي في لقاء سابق أحلم بتقديم حفلة في كل بلد




.. الفنانة السودانية هند الطاهر في ضيافة برنامج كافيه شو


.. صباح العربية | على الهواء.. الفنان يزن رزق يرسم صورة باستخدا




.. صباح العربية | من العالم العربي إلى هوليوود.. كوميديا عربية